المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412572
يتصفح الموقع حاليا : 303

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629125759340.jpg

الحرية فى اصطلاح أوائل الصوفية

انفرد أوائل الصوفية عن غيرهم باصطلاح خاص للحرية ومدلول معين للكلمة يختلف تماما عن اصطلاح المتكلمين ، فالمتكلمون تناولوا فى بحثهم مدى حرية الإرادة الإنسانية وموقعها من المشيئة والإرادة الإلهية ثم الاستطاعة الحادثة وعلاقتها بالقدر الإلهى ، وهذا المصطلح الصوفى وإن كان يحمل فى طياته تكامل المذهب الصوفى فى فهم القدر وعلاقته بالحرية إلا أنه أضاف معنى جديدا للفكر الإسلامى ، فقد ربطوا الحرية بالعبادة بحيث تصبح العبادة هى الوجه الآخر للحرية ، أو بمعنى آخر تصبح الحرية والعبادة وجهين لحقيقة واحدة .

    وهذا الاصطلاح مع كونه من حيث الفكرة يعد سبقا فكريا وإضافة جديدة للتراث الإسلامى ، فإن النصوص الثابتة فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تؤيده ولا تعارضه ، بشرط أن يكون منهج العبودية معبرا عن المنهج الإسلامى الخالص ، كما يمكن القول إن هذا الاصطلاح الصوفى لأوائل الصوفية يصلـح أن يقدم كمفهوم عصرى لدعاة الحرية والمتشدقين بها .

    فالحرية عند الأوائل تضع الإنسان فى موضعه الصحيح الذى يحقق به الغاية من خلقه ويصل من خلاله إلى مرضـاة ربه وذلك يكـون بتحقـيق العبـودية لله كمـا قال سبحانه وتعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (1) .

   يقول أحمد بن خضرويه (2) : ( فى الحرية تمام العبودية وفى تحقيق العبودية تمام الحرية ) (3) . 

    وهذا الاصطلاح الصوفى يؤثر فى موضوع البحث من وجهين :

 [1] - الوجه الأول : تكامل المذهب الصوفى فى فهم الحرية ومقوماتها .

 [2] - الوجه الثانى : إبراز الحرية كسلوك علمى ودستور صوفى يمكن أن ينفـذ فى أرض الواقع .

     * أما عن الوجه الأول فاصطلاح الحرية بمعنى العبودية يحمل فى طياته كل المقومات اللازمة لتحقيق الحرية الإنسانية ، إذ الحرية فى هذا الاصطلاح ليست مسألة نظرية محل دراستها فى الأذهان ، ولكنها ــــــــــــــــــــــــ

1- الذاريات / 56 .

2- أحمد بن خضرويه البلخى كنيته أبو حامد وهو من كبار المشايخ بخرسان ومن قرناء أبى تراب النخشبى وأبى يزيد البسطامى توفى سنة 240 هـ انظر ترجمته التفصيلية فى تاريخ بغداد حـ 4 ص 137 حلية الأولياء حـ 10 ص 42 صفة الصفوة حـ 4 ص 137 الرسالة القشيرية حـ 1 ص 103 .

3- اللمع للسراج الطوسى ص 448 طبقات الصوفية ص 104 .

تطبيق عملى يؤثر على القلب واللسان والجوارح والأركان ، ومن ثم فإنهم بإخراجهم لهذا المصطلح آمنوا بوجود الإرادة الحرة والاختيار الذاتى للإنسان إذ لو كان مجبرا لانتــفى معناه وانعـدم تحقيقه ، وآمنوا بقدرة الإنسان على تنفيذه وآدائه كواجب يسعى المرء بكل سبيل إلى بروزه فى سلوكه وعمله ولو لم تكن لديهم الاستطاعة على تنفيذه لأصبح فكرة عالقة فى الذهن لا حقيقة لها ولما أصبحت الحرية سلوكا ملموسا يتحقق بالعبودية لله .

   كما أنهم أثبتوا بهذا الاصطلاح المقوم الثالث من مقومات الحرية وهو العلم بنوعيه :

  • 1 ــ علم التمييز والإدراك إذ يسقط التكليف عن الأطفال حتى يصلوا إلى سن الرشد والبلـوغ ، كما يسقط أيضا عن النائم والمجنون يقول الكلاباذى : ( لا يعـذب الله بالنار إلا بعد لزوم الحجة على من عاند وكفر ووجبت عليه الأحكام ، ولا تجب الأحكام إلا على العقلاء البالغين ) (1) .
  • 2 ــ وعلم الهداية والإرشاد لطريق العبودية ، والممثل فى العلم بمنهج

ــــــــــــــــــــــــ

1- التعرف على منهج أهل التصوف ص 75 ، 76 وانظر اللمع ص 116 وسيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 351 .

التكليف الذى جاءت به الرسل ، ولو انعدم هذا العلم لاختلفت الضوابط وتصادمت الحريات ، ولما تحققت عبودية الله ، فهذا العلم هو الوسيلة للحرية وهو شرط فى الوصول إليها قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } (1) .

وقال أيضا : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } (2) .

   * أما عن الوجه الآخر للحرية فى الاصطلاح الصوفى لأوائل الصوفية  فهى تتطبيق علمى لقيام الإنسان بدوره فى الحياة والالتزام بعبودية الله كما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    يقول صاحب اللمع : ( الحـرية عند الصوفية ألا يملكك شئ من المكونات ، وغيرها فتكون حرا إذا كنت لله عبـدا فلا يكـون العبـد عبـدا حقـا ويكـون لمـا سـوى اللـه مستـرقـا ) (3) .

    فالحرية إبراز لتوحيد العبادة على وجه الكمال ، أو دعوة لعـدم الخضوع والذل والطاعة لأحد سوى الله ، فهى قائمة على القاعدة الأساسية لدعوة الرسل جميعا فى إفراد الله بالعبودية قال تعالى :

{ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا ــــــــــــــــــــــــ

1- المائدة / 35 .                         

2- الإسراء / 15 .

3- السابق ص 450 .

فاعبدون } (1) .

ويقول أيضا : { ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } (2) .

 والطاغوت هو كل ما عبد من دون الله (3) .

     فالحر فى المفهوم الصوفى لأوائل الصوفية هو المتحرر من عبودية الدنيا وعبودية النفس والشيطان وكـل ما استرقه وصرفه عن عبودية الله   أو هو المتحرر من عبادة الطاغوت كما قال الله تعالى :

    { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } (4) .

      وعلى ذلك فإن الصوفية الأوائل أبعد ما يكون عن الشرك بالله  وصرف شئ من أقوالهـم أو أفعالهم الباطنة والظاهرة لغير الله بعكس ما نرى من أحوال الصوفية فى الواقع المعاصر الذين قيدوا أنفسهم بالخوف والرجاء من ساكنى الأضرحة والقبور فعلقوا دعاءهم بهم وأخضعوا أنفسهم لهم ولم يتحرروا لله كما فعل اللأوائل  ، وقد تقدم موقف ــــــــــــــــــــــــ

1- الأنبياء / 25 .

2- النحل / 36

3- المفردات فى غريب القرآن للراغب الأصفهانى ص 305  .

4- البقرة /  256 .

الأوائل من النظر إلى الأسباب فى الفصل السابق وأن الاعتماد عليها شرك خفى يقع فيه الغافلون لضعف اليقين فى التوكل على الله ، فإذا كان هذا موقفهم من الشرك الأصغر فما بالنا بموقفهم من دعاء الأموات والتوسل بهم وصرف العبادة إليهم كالاستغاثة والنذر والذبح والطواف والركوع والسجود وغير ذلك من ألوان الشرك الأكبر مما يحدث فى مختلف الطرق الصوفية المتتشرة فى البلاد ، وإنما ذكرت ذلك حتى لا يكون البحث بمعزل عن الواقع  وليتجلى الفرق بين معتقد الأوائل ومعتقد الصوفية فى العصر الحاضر .

   فالصوفية الأوائل أنشأوا مصطلح الحرية رغبة فى تأصيل العبادة وإظهارا لدقائق التوحيد ، وفى المقابل التنبيه على دقائق الشرك وخفايا الرياء ، ووجوب التحرر من الضروريات النفسية والطبيعية التى تسترق الإنسان ، قال أبو على الدقاق (1) : ( أنت عبد من أنت فى رقه وأسره ، فإن كنت فى أسر نفسك فأنت عبد نفسك ، وإن كنت فى ــــــــــــــــــــــــ

1- هو أبو على الحسن الدقاق النيسابورى أستاذ القشيرى صاحب الرسالة برع فى العلوم الصوفية وفى الفقه واللغة وتوفى ودفن بنيسابور سنة 410 هـ انظر وفيات الأعيان لابـن خلكان حـ 2 ص 375 ، طبقات الشافعية حـ 3 ص 112  والكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية لعبد الرؤف المناوى حـ 1 ص 225  طبعة القاهرة .

أسر دنياك فأنت عبد دنياك ) (1) .

   لقد أوجب الرسول صلى الله عليه وسلم التخلص من رق معبودات الدنيا ، وبين أن التعلق بها على حساب عبودية الله استرقاق منها للإنسان ، لأنه يوالى فيها ويعادى فيها ، ويجعل رضاه مرتبطا بها وهذه أوصاف تؤثر فى عبوديته لله ، فوجب عليه التحرر منها .

    قال صلى الله عليه وسلم : ( تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم   تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة ، إن أعطى رضى ، وإن      لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك  فلا انتقش ، طوبى   لعبد آخذ بعنان فرسه فى سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه ، إن كان فى الحراسة  كان فى الحراسة ، وإن كان فى الساقة كان      فى الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع له ) (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة حـ 2 ص 430 .

2- أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد ، باب الحراسة فى الغرز وفى سبيل الله برقـم (2886) وأخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة ، باب فضل الضعفاء والخاملين برقم (2622) وابن ماجه فى كتاب الزهد ، باب فى المكثرين برقم (4135) وابن حبان فى كتاب الزكاة ، باب جمع المال من حله وما يتعلق بذلك برقم (3218) وأخرجه البيهقى فى سننه حـ 9 ص 159 وتعس دعاء عليه بالهلاك أى انكب وعثر   والخميصة ثوب خز أو صوف معلم ، والخميلة ثياب لها خمل من أى شئ كان ، وإذا شيك فلا انتقش أى إذا أصابته شوكة فلا أخرجت منه .

    فسماه النبى صلى الله عليه وسلم عبد الدينار وعبد الدرهم ، لأن رضاه لغير الله وسخطه لغير الله فهو عبد لما يهو اه وهو رقيق له  .

    فالرق والعبودية فى الحقيقة تبدأ برق القلب وعبوديته ثم يظهر أثرها فى البدن والجوارح .

     أما ما يحتاجه العبد من طعام وشراب وملبس ومنكح ومسكن فهذا يطلب من الله ويستعين به عليه من خلال أخذه بالأسباب ، فيكون المال عنده يستعمله فى حاجته بمنزلة الدابة التى يركبها وبساطه الذى يجلس عليه من غير أن يستعبده أو يكون هلوعا بقصده فرحا بحصوله  لأن هذه الضروريات لا بد منها ، إذ أن الله أوجد حاجتهم إليها بأمره الكونى فى تركيبهــم وقدرته سبحانه فى إظهار ابتلائهم ، وجعلهــــا مجالا لإظهار فضله على أوليائه وسخطه على أعدائه .

    فما لا يحتاج إليه العبد من أمور الدنيا فلا يعلق قلبه به ، وإذا فعل صار مستعبدا ومقيدا بهذه الأمور لا يبقى خالصا على حقيقة العبودية لله أو على حقيقة التوكل على الله بل فيه شعبة من العبادة لغير الله .

     وهذا هو المستحق لدعاء النبى صلى الله عليه وسلم عليه بالتعاسة والانتكاسة .

   ويرى الجنيد بن محمد أن الحرية آخر مقام للعارف ، وقلما يصل إليه إلا المخلصون الصادقون فقال متمنيا أن يرى عابدا بحق :

            أتمنى على الزمان محالا     :     أن ترى مقلتاى طلعة حر (1) .

   فالحرية يقطع العابد فيها أشواطا من المجاهدة فى التزام الشرع والتعبد بالنوافل وفى كل مرحلة يؤدى فيها شيئا من العبادة ، ينحل عنه قيد من قيود الرق لغير الله حتى يصل بأدائها إلى انفكاك جميع القيود ، كالعبد المكاتب يظل عبدا وإن دفع إلى سيده كل ما كاتب عليه واستثنى درهما واحدا ، فلا بد من دفع الكل حتى يخرج إلى الحرية .

    سئل الجنيد عن لم يبق عليه من الدنيا إلا مقدار مص نواة ، أيكون حرا ؟ فقــال : ( المكاتب عبد ما بقى عليه درهم ) (2) .

   ولا شك أن هذا المفهوم ارتقاء بالذات الإنسانية إلى مرتبة الكمال  فدخول الإنسان فى عبودية الله اختيارا هو السبيل الوحيد للمحافظة على حريته وتحقيق ذاته ، وهذا يتطلب سلوكا يناظر سلوك النبى صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للمسلمين ، ومتابعته فى كل صغيرة       أو كبيرة ، وكلام الجنيد يأتى فى المرحلة النهائية من التدرج فى المقامات الصوفية ، وهذا المقام يدل على أنه على قدر كبير من الحرية لأنه قطع فى الإيمان والعمل أشواطا ومجاهدات ، ينهيها بالتخلص من ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة حـ 2 ص 461 .

2- السابق حـ 2 ص 462 .

قيود الصغائر والشرك الخفى وما شابه ذلك مما يخفى على العامة ولا يخفى عليهم ، قال بشر بن الحارث للسرى السقطى : ( إن الله تعالى خلقك حرا فكن كما خلقك ، لا ترائى أهلك فى الحضر ولا رفقتـك فى السفر ، اعمـل لله ودع عنك الناس ) (1) .

    ويبين فى موضع آخر أن الإخلاص وتطهير السريرة بين العبد وربه  يجعل الإنسان حرا من الأغيار وعبوديتها ، حرا بآداء العبودية لله من جانب آخر ، يقول بشر : ( من أراد أن يذوق طعم الحرية ويستريح من العبودية [ لغير الله ] فليطهر السريرة بينه وبين الله تعالى ) (2) .

* حرية الباطن وحرية الظاهر  :

     ولما كانت الحرية مرتبطة بالعبودية عند أوائل الصوفية ، فإن عبودية الباطن هى حرية الباطن وهى التخلص من كل القيود النفسية والنوازع الداخلية وهـذا الجانب قد نال حظا وفيرا من الدراسة عندهم ، أما عبودية الظاهر فهى مرتبطة بمدى الحرية التى تتحقق فى الباطن ، فهى مبنية عليها لقوله صلى الله عليه وسلم :

    ( ألا إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا ــــــــــــــــــــــــ

1- اللمع ص 450 .     

2- الرسالة القشيرية حـ 2 ص 262 .

 

فسدت فسد الجسد كله إلا وهـى القلب ) (1) .

     وينبغى الإشارة إلى أن حرية الباطن والظاهر عند أوائل الصوفية ما هى إلا محاولة منهم لتحقيق العبودية فى أعمال القلوب والجوارح على المنهج الإسلامى والمفهوم الشرعى ، ولا يقصدون التحلل من الشرع تحت شعار الشريعة لأهل الظاهر والحقيقة لأهل الباطن أو بأى وجه من الوجوه ، ولذا نبه أغلب الصوفية على ضرورة الفهم السليم لمعنى   الظاهر والباطن .

   يقول السراج الطوسى : ( أنكرت طائفة من أهل الظاهر وقالوا : لا نعرف إلا علم الشريعة الظاهرة التى جاء بها الكتاب والسنة     وقالوا : لا معنى لقولكم علم الباطن وعلم التصوف ) (2)  .

    فأجاب بأن علم الشريعة واحد ، والشريعة دعت إلى الأعمال الظاهرة والباطنة ، والعلم مادام فى القلب فهو باطن فيه إلى أن      يجرى ويظهر على اللسان والجواراح فيكون ظاهرا ، فعلــم الشريعة   فيه عبودية ظاهرة متعلقة باللسان والجوارح وعبودية باطنة متعلقة بالقلـب (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر اللمع ص 43 والحديث سبق تخريجه ص 164 .

2- اللمع ص 43  .   

3- السابق ص 43 ، 44  .

    ومن ثم فلا يجوز بحال من الأحوال التحرر من عبودية الله عندهم .

  قال عبد الله بن خفيف : ( والحرية من العبودية باطلة : أى إذا تصور امرؤ أن العبد يجوز له فى حياته أن يتحرر من قيد العبودية وأن تسقط عنه التكاليف الشرعية فهو على باطل ) (1) .

    ثم يبين أنه يجوز له أن يتحرر من رق النفوسية الباطنة فقال :         ( ولكن التحرر جائز من رق النفوسية ، أى يجوز للعبد أن يتحرر   من قيد نفسه وغلها والرق والعبودية لا يسقطان من العبد بحال     ولا يسقط عنه اسم العبودية ) (2) .

وقد أخطأ بعض السالكين فى فهم الحرية والعبودية :

[1] - فمنهم من استهجن معنى الحرية معللا أن الحر إذا عمل عمل لطلب العوض والجزاء فلا تخلو معاملة الأحرار عن طلب الأعواض  والعبد ليس له طلب جزاء ولا عوض ولكن سيده إذا أعطاه أعطاه متفضلا وإن لم يعط لم يستحق عليه شيئا (3) وقد بين السراج الطوسى خطأهم ، لأن اسم الحرية أطلقـه مـن أطلقـه

ــــــــــــــــــــــــ

1- سيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 361  .

2- السابق ص 361 .

3- أصول الملامتيه وغلطات الصوفية لأبى عبد الرحمن السلمى تحقيق د. عبد الفتـاح أحمد الفاوى ص 184 .

لتحقيق العبودية لله على النهج النبوى (1) أما الزهد فى الجنة فليس من زهد الأوائل ، ولذا لم يوفق القشيرى فى قوله :

     ( وأن الذى أشار إليه القوم من الحرية هو ألا يكون العبد تحت رق شئ من المخلوقات لا من أعراض الدنيا ولا من أعراض الآخـرة فيعبده فردا لفرد ) (2) .

     إذ أنه سحب هذا القول على عامة الأوائل من الصوفية وهو مصروف لبعضهم فقط .

[2] - وممن أخطأوا فى فهم الحرية من توهم أن العبد ما دام بينه وبين الله تعبد فهو مسمى باسم العبودية ، فإذا وصل إلى الله صار حرا  وإذا صار حرا سقطت عنه العبودية وأمكنه عند ذلك التحلل من الشرع وإسقــاط التكاليــف (3) .

       يقول الحلاج :

          ( اعلم أن المرء قائم على بساط الشريعة ما لم  يصـل إلـى التوحيــد ، فــإذا وصل إليـه سقطــت مــن عينـه ، وصـــارت

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 185 .

2- الرسالة حـ 2 ص 461 .         

3- اللمع ص 531 .

 

عنده هوسا ) (1) .

   وقد بين السراج الطوسى ضلالهم من قِبل أنهم خفيت عليهم أن العبد لا يكون فى الحقيقة عبدا حتى يكون قلبه حرا من عبودية الأغبار (2) ولذا قال الشبلى : ( الحـرية هى حـرية القلب لا غـير ) (3) .

* حرية الباطن والتحرر من الضرورات النفسية :

     يرى أوائل الصوفية فى الضرورات النفسية التى ركبها الله فيهم بابا  واسعا للمنازلة والمجاهدة وتطهير النفس ، فهو يقاومها ويحاول محاولة ملحة التحرر منها بكسر شهوتى البطن والفرج ، وهذا دليل حازم على رفضه الخضوع لتلك الضروريات .

     قال سهل بن عبد الله : ( لما خلـق الله تعالى الدنيا جعل فى الشبع المعصية والجهل وجعل فى الجـوع العلـم والحكمـة ) (4) .

    فالشبع والجوع من الأمور الضرورية التى تواجه الإنسان بأمر الله وليس لهما وجودا ذاتيا وإن كان لهما قياما وأثرا فى الوجود ، ولكنهما عن إرادة الله وفعله فى ميدان الربوبية ابتلاء للإنسان ، ومن ثم فإن ــــــــــــــــــــــــ

1- أخبار الحلاج نشرة ماسينون ، بول كرواس مكتبة باريس سنة 1936 ص 55 .

2- ا للمع ص 532 .

3- طبقات الصوفية ص 343 .

4- الرسالة حـ 1 ص 373 .                        

الاحتماء أو الحمية كما يسميها أوائل الصوفية وسيلة الإنسان فى مكافحة شهوتى البطن ومخالفة الهوى وسائر الشهوات .

    قال الدقاق : ( إن أهل النار غلبت شهوتهم حميتهم فلذلك افتضحوا ) (1)

   ويذكر السلمى من عيوب النفس أنك لا تحييها حتى تميتها (2) ويقصد بذلك لا تحييها للآخرة حتى تميتها عن الدنيا ، ولا تحى بالله حتى تموت عن الأغيار ، فإذا أمات مذموم الأوصاف فى النفس تحررت النفس من عبودية الأغيار .

    قال يحى بن معاذ (3) : ( من تقرب إلى الجنة بتلف نفسه حفظ الله عليه نفسه ) (4) وذلك أن يمنعها شهوتها ويحملها على مكارهها ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 78 .

2- عيوب النفس لأبى عبد الرحمن السلمى ، تحقيق مجدى فتحى السيد ص 9 طبعة مكتبة الصحابة .

3- هو يحى بن معاذ بن جعفر الرازى يكنى أبا زكريا من الزهاد والعباد سمع من اسحاق بن إبراهيم الرازى ، ومكى بن إبراهيم مات فى نيسابور سنة 258 هـ انظر حلية الأولياء حـ 1 ص 51 ، صفة الصفوة 4 ص 17 الرسالة القشيرية حـ 1 ص91  تذكرة الأولياء حـ 1 ص 298 نفحات الأنس ص 56 وفيات الأعيان حـ 2 ص 396 تاريخ بغداد حـ 14 ص 218 شذرات الذهب حـ 2 ، ص 138 .

4- عيوب النفس ص 9 .

فالنفس لا تألف الحق أبدا .

    ويبين السلمى أن خلاصها من هذه الآفة يكمن فى السهر والجوع والظمأ وركوب مخالفة الطبع والنفس ومنعها عن الشهوات ، فالجوع طعام به يقوى الله أبدان الصديقين (1) .

   ومن ثم فإن الصوفى عندهم يقف من الاشتهاء موقف الرافض محاولا التغلب على الضرورات النفسية بعد أن استجاب لها .

   قيل لبعضهم : ألا تشتهى ؟

   فقال : أشتهى ولكن أحتمى (2) .

   فهو لا ينكر وجود الشهوة والرغبات فى نفسه  ولا يزعم القضاء عليها تماما ولكنه يقف منها موقفا إيجابيا لا سلبيا فيمنع ذاته من أن تستجيب لكل الشهوات إلا بالقدر الذى يرغـم النفس ، حتى وصل البعض منهم فى ذلك إلى محاولة منع النفس من مجرد الاشتهاء .

قال أبو على الدقاق :

قيل لبعضهم : ألا تشتهى ؟

فقـال  : أشتهى ألا أشتهى ؟ (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 9 .            

2- الرسالة حـ 1 ص 378 .                

3- السابق حـ 1 ص 378 .

فهم يعلمون أن الله ابتلاهم بالاشتهاء للابتلاء وأراد منهم التحرر منه .

   يقول القشيرى معلقا على المقولة السابقة  : ( وذلك أكمل فى المجاهدة ، وأتم فى كسب الضروريات ) (1) .

    وهذا موقف شديد الإيجابية ، لأنه لا يحرر الشهوة ذاتها ولكنه يحارب مبدأها ، ولإن كان أوائل الصوفية يرون فى الجوع وترك الشهوة نوعا من الحرية ومقاومة للضرورة النفسية فإنهم أيضا دعوا إلى حث النفس على التواضع والخشوع والقناعة فى مقابل ترك الرياء والكبر والعجب والطمع والعظمة وغير ذلك من الأوصاف المذمومة ، وأفردوا لذلك مساحات كبيرة من كلامهم تذخر بها مصنفاتهم .

     يقول إبرهيم ابن شيبان (2) : ( الشرف فى التواضع والعز فى التقوى والحرية فى القناعة ) (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 379 .

2- هو أبواسحاق إبراهيم بن شعبان القرميسنى عابد زاهد ، له مقامات فى الورع والتقوى وكان شديدا على المدعين متمسكا بالكتاب والسنة لازما للطريقة الصوفية  تـوفى سنة 330 هـ انظر حلية الأولياء ، حـ10 ، ص 361 شذرات الذهب حـ 2 ص 344  الرسالة القشيرية حـ 1 ص 174طبقات الشعرانى حـ 1 ص 132 .

3- الرسالة حـ 1 ص 386 .

   وفى مجمـوع هـذه المعانى يقول : ( من أراد أن يكون حرا من الكون فليخلص فى عبادة ربه فمن تحقق فى عبادة ربه صار حرا     مما سواه ) (1) .

* مخالفة النفس رأس العبادة ومظهر الحرية :

    ويكاد يجمع أوائل الصوفية على أن مخالفة النفس رأس العبادة ومظهر الحرية فالنفس تجرى بطبعها فى ميدان المخالفة والعبد يردها بجهدها عن سوء المطالبة ، فمن أطلق عنانها فهو شريك معها فى فسادها .

   قال تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى } (2) .

    ويصف المحاسبى رغبتها وسوء تصرفها فيقول : ( فإذا غضبت فطلبت منه الحلم امتنعت منه فظهر منها السفه والحقد وسـوء الخلق   ولو طلبت الإخلاص هاجت شهوتها بالرياء ، وعند طلب الرضا تمتنع منه وتهيج للجزع والتسخط ، وعند الزهد والتوكل والصدق جاشت الشهوات فى ضد ذلك كله ) (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- طبقات الصوفية ص 404 .

2- النازعات /40 :41 وانظر الرسالة حـ 1 ص 394  وأعمال القلوب والجوارح ص 64 .

3- الرعاية ص 260 .

     ويرى المحاسبى أن الحذر من نوازعها يكون بمخاصمتها إلى الكتاب والسنة وإقامة الحجة عليها والتفتيش عن عيوبها وقيودها ، وذكر خبثها وكذبها ، فإذا أذعنت بالإقرار والاعتراف بالحق وانقطعت معاذيرها وحججها الكاذبة ، فإن انقادت إلى الحق ، وإلا رفع أمرها وهمها إلى النار وتوهم شدة عذابها ، وأنه واجب عليها فى نزع الموت وكربه وسكراته وغمه وقلقه (1) .

  ويجمع السلمى عيوب النفس وقيودها والسبيل إلى مداواتها والتحرر منها من خلال ما ورد فى الشرع مقرونا بالأدلة فيذكر من عيوبها :

[1] - الفتور فى الطاعة ، وعلاج ذلك بدوام الالتجاء إلى الله وملازمة ذكره وقراءة كتابه .

[2] - عدم الشعور بلذة الطاعة ، ومداواتها فى الإخلاص وملازمة السنة فى الأفعال وتصحيح مبادئ أموره ليصح منتهاها .

[3] - النفس لا تألف الحق ، ومداواتها الخروج منها بالكلية إلى ربها .

[4] - النفس تألف الخواطر الرديئة ، ومداواتها فى الاستعاذة بالله والاستغفار  

[5] - طلب الرياسة بالعلم والتكبر ، ومداواتها فى رؤية منة الله عليه فى أن جعله وعاءا لأحكامه .

ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر السابق ص 263 كتاب التوهم للمحاسبى ص 7  .

[6] - الرضا عند المدح والغضب عند الذم ، ومداواتها فى قوله صلى الله عليه وسلم : ( احثوا فى وجوه المادحين التراب ) (1) .

[7] - الخوض فى أسباب الدنيا بلا ضرورة وعلاجها فى قول النبى صلى الله عليه وسلم :

        ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) (2) .  

    ويستمر السلمى فى عرض آفات النفس والسبل الشرعية فى مداوتها إلى أن يقرر أن إصلاح الظاهر والباطن يمكن فى اتباع سنة النبى صلى الله عليه وسلم فى كل الأفعال والأقوال والأسباب والمقامات   والأحوال ثم قال :   

 (  وإياك ومخالفة السنة ، فيما دق وجل ، واقتدى بسيرة السلف الصالح من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وابدأ فى ذلك بنفسك ــــــــــــــــــــــــ

1- أخرجه أبو داود فى الأدب ، باب كراهية التمادح برقم (4804) والترمذى   فى الزهد ، باب كراهية المدحة والمداحين برقم (2505) وابــن ماجه فى كتاب الأدب ، باب المـدح برقم (2420) وأحمد فى المسند حـ 6 ص 56 وأبو نعيم فى الحلية حـ 6 ص 99 .

2- انظـر عيوب النفــس للسلمى من ص 9 : 19 واحديث أخرجه الترمذى فى الزهد برقم (3419) وابن ماجه فى الفتن ، باب كف اللسان فى الفتنة برقم (2420) والبغوى فى شرح السنه حـ 14 ص 320 .

وأوصيك بايثار طاعة الله والإقبال عليه بالكلية والرجوع فى كل هم ونائبة إليه ) (1) .  

* حرية الظاهر والتحرر من الضروريات الطبيعية :

    وإذا كان جهد أوائل الصوفية ينصب فى المقام الأول على إصلاح الباطن والعمل لتحرير القلب من آفات النفس وعيوبها ، فذلك لكون القلب هو المحرك الفعلى للسان والجوارح ، فإذا انصلح القلب وتحرر الباطن بالعبودية فإن الجسد تابع له فى الحرية ، وقد سبق قول أبى بكر الشبلى : ( الحرية حرية القلب لا غير ) (2) .

     ويذكر المكى فى ترابط القلب مع أعمال اللسان والجوارح أن الإسلام هو ظاهر الإيمان وهو أعمال الجوارح ، فالإيمان فى القلب والإسلام أعلام الإيمان ، والإيمان عقود الإسلام ، فلا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بعقد ، ومثل ذلك مثل العلم الظاهر والباطن أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وأعمال الجوارح ، ويستدل بقوله صلى الله عليه سلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) (3) .

     ويؤكد السلمى على هذه الحقيقة ، وأن الأعمال الظاهرة لا تحصل

ــــــــــــــــــــــــ

1- عيوب النفس ص 14 ص42 .

2- طبقات الصوفية ص 343 .

3- قوت القلوب حـ2 ص 129 والحديث تقدم تخريجه ص 163 .

بها التقوى وإنما تحصل بما يقع فى القلب من عبودية الله وخشيته ومراقبته ، فإذا تم ذلك فإن الأعمال الظاهرة ستكون هى المعبرة عن تقوى القلوب فالاعتبار فى هذا كله بالقلب (1) .

     أما دليله فى ذلك فهو قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ) (2) .     

 وكما جعل الله الضرورات النفسية قى القلب ابتلاء كذلك جعل أعمال الظاهر ، فأعمال الجوارح ضرورة يجب إخضاعها لطاعة الله وعبوديته  فاللسان من ضرورته الكلام وقد يكب الناس فى النار على مناخرهم بسبب ما حصده من الكلام (3) والعاقل هو الذى يتحرر من سوء أفعاله .

   فالإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ثم يحصد يوم القيامة ما زرع ، فمن زرع خيرا من قول أو عمل حصد الكرامة ، ومن زرع ــــــــــــــــــــــــ

1- عيوب النفس ص10 واللمع ص 44 .

2- أخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة ، باب تحريم ظلم المسلم وخذله برقم (121) وأخرجه أحمد فى المسند حـ2 ص285  وابن ماجه فى كتاب الزهد ، باب القناعة برقم (4143) والبغوى فى شرح السنة حـ 14ص141 .    

3- رسالة المسترشدين ص 116 .

 

شرا من قول أو عمل حصد الندامة (1) .

   ويضرب المحاسبى مثلا لعبودية القلب والجوارح وكيفية الترابط بينها  بأن القلب مثل بيت له ستة أبواب والعبد يجب عليه الحذر ألا يدخل عليه من أحد هذه الأبواب شئ فيفسد عليه البيت ، فالقلب هو البيت والأبواب : العينان واللسان والسمع والبصر واليدان والرجلان فمتى انفتح باب من هذه الأبواب بغير علم ضاع البيت (2) .

    وهذه الأمثلة والمحاولات التى يسعى من خلالها أوائل الصوفية لتجسيد العبادة وكيفية إظهارها فى أعمال القلوب والجوارح ، ما هى إلا محاولة للتحرر من الضروريات الداخلية والخارجية فى ذاته ، ويكمن القول إن الحرية التى يبغى أوائل الصوفية تحقيقها تكمن فى استسلام القلب واللسان والجوارح لمنهج العبودية بكل جزئياته ومحتوياته  وأحكامه ومعاملاته التى تنمحى كل ضرورة أو إرادة تخالف منهج العبودية .

    ولقد بلغ ذلك إلى حد أن يبحثوا فى الأحكام التى تتعلق بكل جزئية من الباطن والظاهر فى القلب واللسان والجوارح .

ــــــــــــــــــــــــ

1- جامع العلوم والحكم للحافظ بن رجب الحنبلى ص242طبعة مصطفى البابى الحلبى ص1369 بتصرف .

2- رسالة المسترشدين ص115 .

   ويحاول ابن القيم فى شرحه لمنازل السائرين أن يحصى قواعد العبادة فى أعمال الظاهر والباطن أو المنهج الذى يحدد معنى العبودية لله وكيف يحققه الإنسان على نفسه فيقول :

     ( العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح ، والأحكام التى للعبودية خمسة واجب ومستحب ومباح ومكروه ومحرم ، وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح ) (1) .

* عبوديات القلب واللسان والجوارح :

 

           القلب               اللسان                الجوارح  

 

 

       

 واجب           مستحب            مباح              مكروه              محرم

 

 

[ شكل توضيحى لقواعد العبادة فى تصوير ابن القيم لها ]

 

ــــــــــــــــــــــــ

1- مدارج السالكين حـ 1 ص 109 .

  ولكل قاعدة من هذه الأعمال الظاهرة والباطنة علم وفقه وبيان وفهم وحقيقة ووجد ، ويدل على صحة كل عمل منها من الظاهر والباطن آيات من القرآن وأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم علمه من علمه وجهله من جهله (1) .

 *الغلو فى العبادة وموقف أوائل الصوفية منه :

    وقد نزل كثير من أوائل الصوفية كثيرا من أنواع الأحكام على سبيل الحتم والإلزام ، فجعل المستحب فى منزلة الواجب والمكروه فى منزلة المحرم لا من حيث الرغبة فى تبديل الأحكام والابتداع فى دين الله  ولكن من حيث التشدد فى الوصول إلى الحرية والتحرر من كل ما سوى الله والعمل فى مرضاته على وجه الاضطرار ، وهذا وإن دل على علو الهمة إلا أن المنهج النبوى فى العبادة فيه مجال للتنفيس وانسجام مع الضروريات يؤدى إلى القيام بما عهد به المرء على نفسه .

     يقول الشبلى : ( كنت فى أول بدايتى إذا غلبنى النوم أكتحل بالملح ، فإذا زاد على الأمر أحميت الميل فأكتحل به ) (2) .

    فهو يؤدى قيام الليل على أنه ملزم ، وإن أدرك أن حكمه الاستحباب ، ولكنه كصوفى ينزل المندوب منزلة الواجب .

ــــــــــــــــــــــــ

1- اللمع ص44 وانظر فى تفصيل هذه الأركان عند المحاسبى أعمال القلوب والجوارح ، ورسالة المسترشدين .             2- اللمع ص 204 .

  * الموقف النبوى : ووجه المخالفة يظهر عنده بحديث أنس رضى الله عنه إذ قال : ( دخل النبى صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال : ما هذا الحبل ؟

 قالوا : هذا حبل لزينب إذا فترت تعلقت به .

 فقال النبى صلى الله عيه وسلم : حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد ) (1) .

    ولو أمرها النبى بالاكتحال لكانت المشقة التى يعز على العبد أن يداوم عليها إلا على حساب التقصير فى أمور أخرى سوف تؤدى إليها الضرورة الفطرية فى خلق الإنسان .

 قال إبراهيم بن شيبان للشبلى : كم فى خمس من الإبل ؟ أى مقدار الزكاة فيها .

فقال الشبلى : فى واجب الأمر شاة ، وفيما يلزمنا كلها .

ــــــــــــــــــــــــ

1- أخرجه البخارى فى كتاب التهجد ، باب ما يكره من التشديد فى العبادة برقم (1150 ) ومسلم فى كتاب صلاة المسافرين ، باب أمر من نعس فى صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك برقم (784) وأبو داود فى كتاب الصلاة ، باب النعاس فى الصلاة برقم (1312) وابن ماجه فى كتاب الصلاة ، باب ما جاء فى المصلى إذا نعس برقم (1371) وأحمد فى المسند حـ3 ص101 .

فقال له إبراهيم : ألك فى هذا إمام ؟

قال : نعم أبو بكر الصديق رضى الله عنه حيث خرج من ماله كله  فقال النبى صلى الله عليه وسلم : ما خلفت لعيالك ؟

 فقال : الله ورسوله (1) .

    ولا شك أن الضرورة قد تدعو المسلم إلى التضحية بما يملك فى بعض الأوقات والأزمات كما فعل أبو بكر الصديق رضى الله عنه ولكن التضحية على الدوام وفى أوقات الرحاء بكل ما يملك مخالفة لسنة النبى صلى الله عليه وسلم لما ثبت عنه من حديث سعد بن أبى وقاص حيث قال : ( جاءنى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودنى عام حجة الوداع من وجع اشتد بى .

فقلت : يارسول الله إنى قد بلغ بى الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال  ولا يرثنى إلا إبنة لى ، أفأتصدق بثلثى مالى ؟

قال : لا .

قلت : فالشطر يارسول الله ؟

فقال : لا .

قلت : فالثلث يارسول الله ؟

ـــــــــــــــــــــــــ

1- اللمع ص210 .

قال : الثلث والثلث كثير ـ أو كبير ـ إنك إن تذر ورثتك أغنياء   خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق              نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل فى           فى امــرأتك ) (1) .

فلو كان خروجه من جميع المال فيه صلاح له لأمره النبى بذلك .

    فالسنة فيها مرعاة للضروريات بالقدر الذى يتناسب مع ماهية الإنسان وتركيبه الذاتى ، فالإنسان لايعتاد شيئا إلا ويشعر بالسآمة    من تكراره ومزاولته فهى ضرورة فطرية ترويضها يكون على     الطريقة النبوية .

   وقد جعل الله فطرة الإنسان ميدانا للربوبية ، وجعل المنهج النبوى ميدانا لتحقيق العبودية على ما يستطيعه الإنسان ويطيقه ، ومن ثم كان النبى صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه وهم خير الناس فى خير ــــــــــــــــــــــــ

1- أخرجه البخارى فى كتاب الوصايا ، باب أن يترك ورثته أغنياء برقم (2742) ومسلم فى كتاب الوصية ، باب الوصية بالثلث برقم (1628) والترمذى فى كتاب الوصايا ، باب الوصية بالثلث برقم (2117) والنسائى فى كتاب الوصايا ، باب الوصية بالثلث برقم (3656) وابن ماجه فى كتاب الوصايا ، باب الوصية بالثلث برقم (2708) .             

 

القرون بالموعظة مخافة السآمة (1) .

    وكان يقول لحنظلة بن الربيع رضى الله عنه : ( والذى نفسى بيده   لو تدومون على ما تكونون عندى وفى الذكر لصافحتكم      الملائكة على فرشكم وفى طرقكم ، ولكن ياحنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات ) (2) .

    وقال لعمرو بن العاص : صم وافطر وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقا ، وإن لعينك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا .

فلما قال عمرو : إنى أطيق أفضل من ذلك .

قال : لا أفضل من ذلك .

    وقد صدق عمرو قول النبى فى آخر حياته لأنه لم يقو على ما ــــــــــــــــــ

1- أخرجه البخارى فى كتاب العلم ، باب ما كان النبى صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كى لا ينفروا برقم (68) ومسلم فى كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، باب الاقتصاد فى الموعظة برقم (1696) والترمذى فى كتاب الأدب برقم (73) وأحمد فى المسند حـ1ص377 .

2- أخرجه مسلم فى كتاب التوبة ، باب فضل دوام الذكر والفكر فى أمور الآخرة والمراقبة وجواز ترك ذلك فى بعض الأوقات والاشتغال بالدنيا برقم (2750) والترمذى فى كتاب صفة القيامة برقم (2513) وابن ماجه فى كتاب الزهد ، باب المداومة على العمل برقم (4239) وأحمد فى المسند حـ2 ص305.

كان يطيقه فى شبابه فقال :

   قال النبى صلى الله عليه وسلم : إنك لا تدرى لعلك يطول بك العمر ، ثم قال : فلما كبرت وددت أنى كنت قبلت رخصة نبى الله صلى الله عليه وسلم (1) .

    وقال صلى اله عليه وسلم فى شأن المغالين فى العبادة : ( أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له ، ولكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتى فليس منى ) (2) .

     ومعلوم أن الشمولية فى فهم العبادة وصف لا يلحق إلا من سلك السبيل النبوى فى كل متعلقات الحياة ، وعمل فى نظام الحكام على ــــــــــــــــــــــ

1- أخرجه البخارى فى كتاب الصوم ، باب صوم الدهر برقم (1976) ومسلم فى كتاب الصيام ، باب النهى عن صوم الدهر برقم (1059) وأبو داود فى كتاب الصوم ، باب فى صوم الدهر تطوعا برقم (2427 ) وأحمد فى المسند حـ2 ص201   والنسائى حـ2 ص 22 وابن حبان فى كتاب البر والإحسان ، باب الأمر بإتيان الطاعات على الرفق من غير ترك حظ النفس فيها برقم (352) والبيهقى فى سننه حـ3 ص16 .

2- أخرجه البخارى فى كتاب النكاح ، باب الترغيب فى النكاح برقم (5063) ومسلم فى كتاب النكاح ، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد المؤنة برقم (1401 ) والنسائى فى كتاب النكاح ، باب النهى عن التبتل حـ6 ص60 وأحمد حـ3 ص 241 ، والبيهقى فى سننه حـ7 ص77 .               

مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالتوازن قائم ومنسجم فى كل النواحى المتعلقة بأحكام العبودية ، فإذا بالغ العبد فى آداء جانب سيظهر تقصيره فى جانب آخر دون أن يشعر ، فالطاقة والوسع مجالهما محدود وهما من أمور القدر الذى يحكمنا فى كل وقت .

   ومن ثم فإن بعض أوائل الصوفية لما بالغوا فى تحقيق العبودية وتكلفوا أمور السعة والتخيير على وجه الإلزام ، وأسقطوا النظر إلى الدرجات الحكمية السابقة ، لم تطرد المبالغة ولم تنسحب على مختلف الأحكام فبرز جانب على حساب آخر ، ففى الوقت الذى ظهرت المغالاة فى بعض العبادات كالصلاة والصوم والذكر وبعض النواحى الأخرى لم تظهر همتهم فى تعبيد الدنيا واستخلافها وإعداد القوة لإرهاب العدو والجهاد فى سبيل الله وتنظيم الروابط الأسرية والاجتماعية بل أثروا الرباط والخلوة والسياحة فى البوادى وقام بالأمور الأخرى غيرهم  .

   والقصد من ذكر هذا الكلام التنبيه على ضرورة اتباع السنة فى تحقيق معنى الحرية والالتزام بمنهج العبودية بمختلف أحكامه وأن هذا هو الوضع الأمثل لتحقيق السعادة فى الدارين كما قال سبحانه : { فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } (1) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- طه /123 .

وأن بعض أوائل الصوفية جعل العبودية اضطرارا لاختيار فيه (1) .

 أو كما قال الآخر : ( من ادعى العبودية وله مراد باق فيه فهو كاذب فى دعواه ) (2) .

* العبادة وتعلقها بالقلب واللسان والجوارح حال الغلو  :           

 

                        الأمر                   النهى

 

 

            القلب                     اللسان                     الجوارح

 

ــــــــــــــــــــــــ

1- قائل هذه العبارة هو عبد الله بن محمد بن منازل وكنيته أبو محمد صحب حمدون القصار وأخذ عنه طريقته وأسند الحديث مات بنيسابورسنة 329 هـ انظر طبقات الصوفية ص336 والرسالة القشيرية حـ1 ص163 وشذرات الذهب حـ2 ص330     وانظر فى قوله السابق طبقات الصوفية ص 368 .

2- القائل هو عبد الله محمد بن اسماعيل شيخ إبراهيم الخواص وإبراهيم بن شيبان  عاش مائة وعشرين سنة ومات على جبل الطور بسيناء أسند الحديث وتوفى سنة 299 هـ انظر طبقات الصوفية ص242 حلية الأولياء حـ1 ص335 والبداية والنهاية حـ11 ص117 والمنتظم حـ6 ص113 وانظر فى قوله السابق طبقات الصوفية ص44 ، 245  .

    يقصدون بذلك الالتزام بالأمر والنهى على سبيل الحتم والإلزام سواء كان الأمر على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب والإباحة   وسواء كان النهى على سبيل التحريم أو الكراهة ، وكل ذلك مغالاة  فى حب الله ليس إلا ، ورغبة منهم فى القرب منه والحصول على مرضاته وإن تنكبوا الطريق وأخطأوا فى ذلك .

    وقد نبه السراج الطوسى على أن كل من ترسم برسوم هذه العصابة الصوفية ، أو أشار إلى نفسه بأن له قدما فى هذه القصة ، أو توهم أنه متمسك ببعض آداب هذه الطائفة ، ولم يحكم أساسه على ثلاثة أشياء فهو مخدوع ولو مشى فى الهواء ونطق بالحكمة أو وقع له قبول عند الخاصة أو العامة وهذه الثلاثة أشياء :

  • أولها : اجتناب جميع المحارم كبيرها وصغيرها .
  • والثانى :أداء جميع الفرائض عسيرها ويسيرها .
  • الثالث : ترك الدنيا على أهلها قليلها وكثيرها إلا ما لا بد للمؤمن منها .

      وهو ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أربعة فى الدنيا وليست هى من الدنيا :

    1- كسرة تسد بها جوعتك .

    2- وثوب توارى به عورتك .

    3- وبيت تكن فيه .

    4- وزوجة صالحة تسكن إليها (1) .

   فأما سوى ذلك من الجمع والمنع والإمساك وحب التكاثر والمباهاة فجميع ذلك حجاب قاطع يقطع العبد عن الله (2) .

    فلا يصح الدخول فى السعات إلا لمن قام فى الأسباب بحقوقها لا بحظوظها ، فإذا أذن الله لهم بالإنفاق أنفقوا ، وإذا أذن لهم بالإمساك أمسكوا ، فمن لم يعرف الإذن ولم يكن من أهل الكمال والنهايات غلط عند دخوله فى السعات بالغرور والتأويلات (3) .

   ويشير السراج إلى غلط طائفة تعلقوا بالتقشف والتقلل واعتادوا الدون من اللباس والقليل من القوت ، وظنوا أن كل من رفق بنفسه  أو تناول شيئا من المباحات أو أكل شيئا من الطيبات ، أن ذلك علة وسقوط من المنزلة ، وكل حال غير الحال الذى هم عليه عندهم ذلة  ــــــــــــــــــ

1- الحديث ورد بالمعنى فى مسند أحمد حـ1 ص168 وفى الحلية حـ1 ص388 وأخرجه الخطيب البغدادى فى تاريخ بغداد حـ12 ص 99 والبزار فى مسنده برقم (1412) والحاكم فى المستدرك حـ2 ص162 والطبرانى فى المعجم حـ1 ص329  والهيثمى فى مجمع الزوائد حـ10 ص 289 .

2- اللمع ص516،517 .

3- السابق ص523.

وقد غلطوا فى ذلك ، لأن العلة كائنة فى التقشف والتقلل كما أن العلة كائنة فى الترفع والترفه ) (1) .

 

 

 

 

 

 

 

   

 

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص523 .           

  • الاثنين PM 05:55
    2021-08-16
  • 1833
Powered by: GateGold