المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412294
يتصفح الموقع حاليا : 305

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629125405637.jpg

الاستطاعة وعلاقتها بالعلل الطبيعية

مما لا شك فيه أن مبحث العلية من المباحث الرئيسية فى الفكر الفلسفى وفى الفكر القائم على الرسالات السماوية جميعا ، ولذلك فقد أدلى مفكرو الإسلام بدلوهم فى هذا المبحث الهام والذى يمثل أساسا متينا فى اعتقاد كل مسلم ، ومما يجدر ذكره أن الصوفية الأوائل لم يبحثوا فى جلساتهم أو مأثوراتهم وأقوالهم وكتبهم موضوعا لمجرد المعرفة النظرية البحتة ، بل المعرفة عندهم مبعثها دائما العمل والسلوك ، ومؤدية دائما إلى عمل وسلوك ولذلك نجد أن النتاج الصوفى حيال الفكر الفلسفى لا يكون مباحث ونظريات صورية بحتة لكل موضوع بحيث يكون كل واحد مستقلا عن الآخر ، بل هى جميعا حصيلة موقف وجدانى نشأ عنده من خلال الترقى فى سلم الإيمان بالله .

     ولذلك فإننا نجد مبحث العلية عندهم متجليا ظاهرا فى فهمهم للتوكل ، حيث يمكننا تلمس مفهومهم للأسبـاب الطبيعية ومدى فاعليتها وعلاقتها بالإنســـان مـن ناحية أو بالفاعلية الإلهية والربوبية  من ناحيــة أخرى .

   وإذا كان متكلمو الإسلام قـد وقفوا من مبحث العلية مواقف متباينة فمنهم من نادى بالوجوب الضرورى للمعلول عن العلة واقترانهما فى الوجود والعدم بالضرورة ، فأثبتوا استطاعة ذاتية للعلة ينتج بها المعلول  ومنهم من قال بعكس ذلك فأنكـر أن تكون العلاقة بين العلة والمعلول قائمة على هذا الوجوب الضـرورى والاقتـران الحتمى بينهمـا وجـودا وعـدما ، حتى لا يكون هنـاك استقلال للطبيعـة فــى فعلها عـن الفـاعلية الإلهيـة فتتعـدد الفـاعليـات فى الوجود وتكون قدرة الله محكومة بالعلل والمعلولات (1) .

     إذا كان هذا هو الشأن فإن الصوفية الأوائل التزموا النهج الإسلامى فى هذه القضية ، فقالوا أولا بوجود علل ومعلولات وأسباب ومسببات تؤدى فعلها فى الكون والوجود بسبب ما أودع الله فيها من قوى وتأثير لا ينبع من ذاتها بل بإرادة الله فيها .

    ويفرد المكى بابا لبيان ذلك تحت عنوان :  ( ذكر الأسباب والأواسط لمعانى الحكمة ونفى أنها تحكم وتجعل لثبوت الحكـم والقـدرة ) (2) .

     ويبين فيه أن الله عز وجل أظهر أشياء بوصف قدرته وأجرى أشياء من معانى حكمته ، فلا يسقط المتوكل ما أثبت من حكمته لأجـل ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر فى تفصيل ذلك الأمــر ، الفصل فى الملل والنحل لابن حزم الأندلسى حـ3 ص 14 وما بعدها .

2- قوت القلوب حـ 2 ص 10 .

ما شهد هو من قدرته ، حيث أن الله تعالى حكيم فالحكمة صفته ولا يثبت المتوكل الأشياء حاكمة نافعة ضارة فيشرك فى  توحيده ، من قبل أن الله تعالى قادر والقدرة صفته وأنه حاكم جاعل ضار نافع لا شريك له فى أسمائه ولا ظهير له فى أحكامه .

 ويستدل على ذلك بقوله تعالى : { إن الحكم إلا لله } (1) .

 وقوله : { ولايشـرك فى حكمه أحدا } (2) .

     ويذكر المكى أن الأسباب أواسط حق وصدق ، إنما جعلهـا الله لأن الأسماء متعلقــة بهـا والأحكـام عائدة عليهـا بالثواب والعقاب ، فلم يصلح ألا تذك رفتعود الأحكام على الحاكـم تعالى عن هذا ، من أجل ذلك كانت الأشياء وفــق هذا النظام ، وهذا سبب إظهار المكان من الموات والحيوان (3) .

    فسخر الله المخلوقات وفق ثوابت وسنن ونواميس كونية تترابط فيها الأسباب وتلتقى العلل والمعلولات بحيث تسمح بقبول فعل الإنسان  وتأثيره فيها لتحقيق علة الابتلاء ، والصوفية يعتبرون ترابط العلل والمعلولات وتسخيـر الكائنات للإنسان من موجبات الشكر ويستدل ـــــــــــــــــــــــ

1- يوسف / 40 .

2- الكهف / 26 .

3- السابق حـ 2ص 13 .

التسترى بقوله تعالى :

  { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ....إلى قوله تعالى ....و سخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمـره ألا له الخلــق والأمـر تبارك الله رب العالـمين } (1) .

     على أن تسخيـر الصنعـة لنا مما بين السماء والأرض مـن أمهات النعم التى تستـوجب شكر خالقها (2)  .

    ورأوا أن الله سبحانه وتعالى هو الذى يحكمها ويدبر أمرها لانفراده بالخلق والتدبير ، من أجل ذلك رفضوا حتمية الترابط بين العلة والمعلول على وجه الإطلاق ، وإن أثبتوا ضرورة ما بينهما من خلال خضوعها وقوامها بمشيئة الله عز وجل ، كما آمنوا بقدرته تعالى على الفعل بهذه الحتمية وعلى الفعل بدونها ، فإن كانت ثمة حتمية بين العلـة والمعلـول فهـى بقـدرة اللـه وربوبيته .

    ولكنهم حرموا توجه القلب إلى هذه الأسباب لأن الله حاكم عليها وعلى حتميتها ، فالعلة لا تملك حتمية صدور معلولها عنها ، إذ ليس لها ــــــــــــــــــــــــ

1- النحل / 5 : 12.   

2- السابق حـ 2 ص 15 .

فاعليـة مستقلة ومن ثم ينبغى على المتوكل أن يستوى فى اعتقاده وجود السبب أو عدمه وأن يكون مطمئنا عند العدم إطمئنانه عند السبب وألا يشغله ذلك كله عن الله لعلمه أن الله من وراء الأفعال وهو الذى يهيئ الأسباب (1) .

    ويذكر المكى أن الله احتجب على العموم بالأسباب فهم يرونها فى اطراد العلل والمعلولات وحجب الأسباب بنفسه عن الخصوص فهم يرونه ولا يرونها (2) .

* مقومات التوكل وعلاقـة ذلك بالأسبــاب :

     ويمكن للباحث أن يحدد مقومات التوكل عند أوائل الصوفية      من خلال فهمهم للفاعلية الإلهية وعلاقتها بالأسباب والعلل فى        الركائز الآتية :

[1] - توجيه القلب إلى الله على الدوام سواء كان الرزق بأسباب أو بغير أسباب كما تقدم وهذا نابع عندهم من قوله تعالى :     { ومـن يتق الله يجعل الله مخـرجا ويرزقــه مـن حيـث لا يحتســب  } (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 2 ص 204 .

2- التعرف ص  15 .

3- سورة الطلاق / 2 ، 3 وانظر قوت القلوب حـ 2 ص  10 .  

[2] - توجه الجوارح إلى الأسباب لما جعله الله من العلل والمعلولات المترابطة وقيام التكاليف وعود الثواب والعقاب .

     وهذا الأمر يوضحه الحكيم الترمذى فى أن لله قد أثبت الأرزاق فى اللوح على المقدار الذى يريد وعلى كيفية ما يريد فى الوقت الذى يريد  والنفس تشتهى شيئا ربما يوافق ذلك المثبت فى اللوح وربما يخالف ، فلو لم تكن هذه الأسباب لكانت النفس تغلى فى شهوتها لا تقدر أن ترى ذلك التقدير حسنا ، فكان فى ذلك فساد قلوبهم فجعلت الأسباب لصرف وجوههم عن ذلك المثبت إلى وجوه المطالب والمكاسب فيرجعوا باللائمة على أنفسهم فى ذلك .

     والمثال الذى ضربه لتوضيح توجيه الجوارح إلى الأسباب ، هو ملك الموت كان يقبض الأرواح عيانا فسبوه فشكا إلى الله (1) فوضعت ــــــــــــــــــــــــ

1- ثبت أن ملك الموت أتى عيانا فى صورة آدمى ، لحديث أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام ، فلما جاءه صكه ، ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال : أرسلتنى إلى عبد لا يريد الموت ، فرد الله عليه عينه وقال : ارجع فقل له يضع يـده على متن ثور ، فله بكل ما غطت به يده  بكل شعـرة سنة ، قال : أى رب ! ثم ماذا ؟  قال : ثم الموت : قال : فالآن ، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر ) متفق عليه ، أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز ، باب من أحب الدفـن فى الأرض المقدسـة أونحوها برقم (1339) وأخرجه مسلم فى كتاب الفضائل باب من فضائل موسى برقم (1533) .

العلل والأسقام .

     فالأسبـاب بمنـزلة الأمراض والـرزق بمنزلة الموت وبدء كليهما من عند الله (1) من أجل ذلك ربطت الجوارح بالأسباب ووجهت الجوارح إليها مع تقديرها أزلا .

[3] - ضرورة التسليم والرضا التام بقضاء الله وقدره وهذا المقـوم الأخير قد يكون مدعاة للبعض برمى أوائل الصوفية بتهمة الجبرية ونفى أى دور للاستطاعة والفاعلية الإنسانيـة فى الفعل ، ولكن ليس لهذا الظن نصيب من الصحة لأنه وليد نظرة سطحية عاجلة   خاصة إذا ذكر هذا المقوم الثالث مجردا عما سبق وكثيرا ما يحدث هذا ، حيث كان شيوخ الصوفية يعمدون إلى إلقاء مأثوراتهم وكلماتهم فى مناسبات خاصة وردا على أسئلة معينة فتتناقلها الأجيال عنهم متبورة عن علتها وظروفها وعن سائر أقوال المشايخ الأخرى مما يحدث لبسا حول معانيها .

        ومن ذلك ما ذكره الترمذى فى بيان الرد على من قال : إن بعض المقبلين على أمر الدين تركوا الطلب وقالوا : قد ضمن الله الرزق حيث جاء عـن رسوله : ( إن الرزق ليطلـب العبد كمــا

ــــــــــــــــــــــــ

1- آداب المريدين وبيان الكسب للحكيم الترمذى ص 168 ، 169.

 

يطلبه أجله ) (1) .

     فقال : إن كانوا قعدوا ينبغى لهم أن يقوموا وأن يطلبوا تحرزا من الطمع وفساد القلب فلا يضيع حق الزوجة والولد برغم أن أرزاقهم على الله ، فهـذا تارك للسبيل والسنة لقوله تعالى : { وعلى المولود له رزقهـن وكسوتهـن } (2) .

     ثم بين موقف الذين سلموا لقضاء الله وقدره مع الرضا بما قسمه لهم ، فأخذوا بالأسباب وما تركوها ولكن همهم كان فى طاعة الله والإنشغال به عما سواه فقال :

   ( وأما الذين أقعدوا فقوم كان سبيلهم منذ تابوا الاجتهاد         فى حفظ الحدود مع الله فى طلب المكاسب ، وركبوا صعاب    ــــــــــــــــــــــــ

1- الحديث رواه الطبرانى عن الحسن بن على بصيغة : ( أيها الناس إنى والله ما أمركم إلا بما أمركم الله به ، ولا أنهاكم إلا عما نهاكم الله عنه ، فأحملوا فى الطلب فوالذى نفس أبى القاسم بيده إن أحدكم ليطلبه رزقه كما يطلبه أجله فإن تعسـر عليكم شئ منه فاطلبوه بطاعة الله عــز وجل ) انظر كشف الخفا ومزيل الإلباس فيما اشتهر على ألسنة الناس حـ 1 ص66 ورواه ابن عدى فى الكامـل عن أبى الدرداء بصيغة ( إن الرزق ليطلب العبد أكـثر ممـا يطلبه أجله ) وحسنه ، انظر حـ 1 ص 67  .

 2- البقرة / 233 .

    الأمور ودققوا النظر ، فتورعوا عن كثير مـن الحلال                 مخافة الشبهة ، فلم يزل الله لهــم معينا ومؤيــدا فى ذلك ) (1) .

  ومن ذلك أيضا قول ابن مسروق (2) : ( التوكل الاستسلام لجريان القضاء والأحكام ) (3) فالنظرة المجردة لهذا القول توحى بالجبرية .

    وإذا علمنا أن الاستسلام لقضاء الله وقدره لا يكون إلا لنتيجة الفعل ولا يأتى فى المقدمة أى فى مرحلة الأخذ بالأسباب ، فإن هذا القول يكون تعبيرا عن المرحلة الأخيرة من التوكل بعد ظهور نتيجة الفعل .

     فلا يجب أن يفهم من هذا القول إلغاء الجانب الاختيارى من فعل الإنسان أو تعطيل الأسباب لعدم جدواها أمام الربوبية والفاعلية   الإلهيــة وذلك لاختــلاف حــال الفاعــل فى أول الفعـل عن حاله بعد حدوث النتيجة المرجوة منه أوعدم حدوثها .

ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر آداب المريدين وبيان الكســب ص 173 ، 174  .

2- هو أبو العباس أحمد بن محمد بن مسروق من أهل طوس بخراسان ، سكن بغداد ومات بها وله صحبه مع الحارث المحاسبى وهو من قدماء مشايخ القوم وجلتهم توفى سنة 299 هـ انظر مرآة الجنان حـ 2 ص 231 ، شذرات الذهب حـ 2 ص 227  ميزان الاعتدال  حـ 1 ص 71‏ ، تاريخ بغداد حـ 5 ص 100 ، حلية الأولياء حـ10 ص 213 ، طبقات الشعرانى حـ 1 ص 109 ، طبقـات الصوفية ص 237 .

3- الرسالة القشيرية حـ 1 ص421 .

     ودعوة أوائل الصوفية الاستسلام لقضاء الله وأحكامه خاص بالجانب الجبرى فى الفعل المتمثل فى النتيجة النهائية له ، وليس فى الجانب الاختيارى ، وذلك مفهومهم لوجوب الإيمان بالقدر خيره وشره كما نص عليه النبى صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ) (1) .

     وهذا التوضيح هام جدا لفهم الموقف النفسى حيال القضاء والقدر حيث ينقسم هذا الموقف عندهم إلى ثلاث درجات :

      ( التوكل ثم التسليم ثم التفويض فالمتوكل يسكن إلى       وعده ، وصاحـــب التسليـم يكتفى بعلمه ، وصاحب التفويض يرضى بحكمه ) (2) .

   وحيث أن التوكل أخذ بالأسباب وسكون القلب إلى وعد الله وليس إلى الأسباب ، فإن مبدأ الفعل أخذ بالأسباب مع الاعتماد على تقدير

ـــــــــــــــــــــــ

1- أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان ، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم (8) وأخرجه أبو داود فى كتاب السنة ، باب القدر برقم  (4695) والترمذى فى كتاب الإيمان باب ما جاء فى وصف جبريل للنبى الإسلام والإيمان برقم (2610) والنسائى فى كتاب الإيمان حـ 8 ص 97 وابن ماجه فى المقدمة ، باب فى الإيمان برقم (63)  وأخرجـه أحمـد فـى المسند حـ 1 ص 52 ، 53 .

2- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 422 .

 الله وفاعليته وحده ، ووسطه تسليم أمره إلى الله ليقينه أنه الأعلم والأقدر ، وفى النهاية الرضا بحكم الله وقدره ، ومن ثم يكون المقصود من استخدام أصل الإيمان بالقدر خيره وشره فى النهاية وليس فى البداية   فيكون ذلك مدعاة للشكر إذا كان خيرا ، معينا على الصبر إذا كان الأمر غير ذلك .

   وهذه الدرجات الثلاث هى مراحل التوكل عند أبى تراب النخشى :

وأولها : طرح البدن فى العبودية وهذا تعبير عن تعامل الجوارح والاستطاعة البشرية مع الأسباب وهو يرى فى استسلام الإنسان لسنة الله فى الطبيعة أو المادة تحقيقا لعبودية البدن والجوارح .

الثانية : تعلق القلب بالربوبية أى إفراد الله بالفاعلية وتقدير الأمور .

الثالثة : الطمأنينة إلى الكفاية فإن أعطى شكر وإن منع صبر         وذلك هو الرضا والاستسلام لحكم الله (1) .

   ويعبر بشر الحافى عن المقوم الثالث بقوله : ( يقــول أحدهم توكلت على الله وهــو يكذب على الله ، لـو توكــل على الله لرضى بما يفعـل الله تعــالى به ) (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة حـ 1 ص 418.

2- السابق حـ 1 ص 417.   

   ولذلك يشترط أوائل الصوفية موافقة الكسب للشريعة حتى يصبح العمل توكلا على الله ، لأن من يلزم نفسه الرضا بأمر الله الكونى لا يخالف بعمله أمره التشريعى ولو خالف أمره التشريعى أولى به ألا يرضى بأمره الكونى ، فمن سلك سبيلا محرما لا يكون متوكلا عند أوائل الصوفية .

     سئل ذو النون المصرى عن التوكل ؟

فقال : خلع الأرباب وقطع الأسبــاب .

فقال السائل : زدنى ؟

فقال : إلقاء النفس فى العبودية وإخراجها مـن الـربوبية (1) .

   وهو يقصد بخلع الأرباب عدم توجه القلب واعتماده على الأسباب المخلوقة كفواعل مستقلة تتحكم فى رزقه ، ويقصــد بإخراج النفس مــن الربوبية أى ربوبية ذاتها على غيرها .

     ويعنى ذلك الكبر والاغتراز بالنفس وادعاء القدرة الشاملة والاستطاعة الكاملة مع تناسى قدرة الله وفاعليته ، ويكاد يجمع أوائل الصوفية من خلال مروياتهم على أن الاعتماد على الأسباب وسكون القلب إليها شرك خفى ، يقول المكى : ( الشرك الخفى هـو الاعتـماد ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 418 .

على الأسـباب ) (1) .

     وإذا أدركنا أن أوائل الصوفية أثبتوا الأسباب وأنها تؤدى فعلها فى الكون بقدرة الله سبحانه وتعالى وبسبب ما أودع فيها من قوى وتأثير لا ينبع من ذاتها بل بإرادة الله فيها ، كل ذلك من خلال مفهومهم للتوكل ، والذى يعد مفهوما راقيا من الناحية الإسلامية ، فإنهم أيضا قالوا : لا يعنى اطراد الأسباب بترابط العلل والمعلولات فى عالم الواقع حدوث شئ ما أو فعل ما خارج عن قدرة الله وفاعليته ، مما يعطى مجالا واسعا لإثبات المعجزات والكرامات وخوارق العادات فى الاعتقـاد الصوفى لأوائل الصوفية .

     فأثبتوا إمكانية حدوث معلولات بدون عللها المعلومـة ، وفى ذلك يذكر الكلاباذى موقفا لمريم ابنة عمران إذ وجدت الطعام معلولا    دون علة ظاهرة ، وردهــا ذلك لطلاقــة المشيئة الإلهيــة فى الرزق بأسبـاب أو بغير أسباب .         

   يقول تعالى : { كلما دخل عليها ذكريا المحراب وجد عندها    رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هــو مـن عنــد الله إن الله يرزق من يشاء بغــير حساب  } (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- قوت القلوب حـ 4 ص 13 .

2- آل عمران / 37 .

   وكذلك ما كان من شأن عيسى عليه السلام حيث شاء الله أن يخالف بميلاده السنة الجارية بمشيئته فى خلق الإنسان من أب وأم فلما بشرت به أمه :

      { قالت ربى أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } (1) .

    فبين الله هنا أنه لا يحتاج إلى إيجاد العلة لإيجاد المعلول وإنما هو إذا أراد شيئا توجهت إليه مشيئته مباشرة فأبدعه بقوله له : كن ، فيكون سواء كان ذلك الشئ مقترنا بعلته أو مجـردا عنها (2) .

    والصوفية الأوائل كما أثبتوا حدوث معلولات بلا عللها المعلومة  كذلك أثبتوا أيضا إمكانية حدوث العلة مع تخلف المعلول .

   فمن ذلك عندهم على سبيل المثال لا الحصر ما حدث لإبراهيم عليه السلام حين وضعوه فى النار ، إذ يقول تعالى فى شأنه :

    { قالــوا حرقــوه وانصـــروا آلهتـكم إن كنتــم فاعلــين ، قلنـا يا نار كونى بردا وسلاما على إبراهيم ، وأرادوا به كيـدا فجعلناهم الأسفلــين } (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- آل عمران / 47  .

2- التعرف لمذهب أهل التصوف ص 88 والرسالة حـ 2 ص 667 بتصرف .

3- الأنبياء / 68 ، 70 .

    فالنار حسب السنة الطبيعية فى اطراد العلل والمعلولات علة   للإحراق وعلى الرغم من ذلك فقد شاء الله أن يتخلف المعلول مع حدوث العلة (1) .

     يقول الكلاباذى : ( وأجمعوا على إثبات كرامات الأولياء ، وإن كانت تدخل فى باب المعجزات كالمشى على الماء وكلام البهائم وطـى الأرض وظهـور الشئ فى غير موضعه ووقته وقد جاءت بها الأخبار وصحت الروايات ونطق بها التنزيل ) (2) .

    ثم ضرب أمثلة كثيرة لا حصر لها فى ذكر معلولات بغير عللها أوعلل تخلفت عنها نتائجها ، ومن ثم يمكن أن ننتهى إلى القول بأن الصوفية يرون أن الإيمان بالله خالقا لكل شئ وفاعلا لكل شئ ، يجعل المعجزات والكرامات أمرا عاديا عند المؤمنين ، فالمؤمن يرى فى العالم الطبيعى حوله وفى القوانين التى تحكم أجزاءه وتحكمه ككل آية عظيمة من آيات الله ودلالة بالغة على القدرة المطلقة ، فإذا حدثت معجزة مخالفة للسنن أمام المؤمن ، فإن ذلك لا يثير عجبه أو دهشته بقدر ما يثير فيه دلالتة على الشعور بعظمة الله تعالى ، ويرى فيه دلالة على القدرة المطلقة كما يرى فى الأمور التـى تحـدث حسب سنن الله الجارية .

ــــــــــــــــــــــــ

1- التعرف ص 88 .

2- السابق ص 89 .       

قال تعالى : { إن فى خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب ، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } (1) .

    وفى كلا الحالين تكون النتيجة أنه يزداد أيمانا ويقينا .

   يقول القشيرى فى هذا المعنى : سألت أحمدا الطابرانى السرخسى فقلت له  : هل ظهر لك شئ من الكرامات ؟

فقال : وأى خطر للكرامات ؟ إنما المقصود منه زيادة اليقين فى التوحيد (2) فمن لا يشهد غير الله خالقا فى الكون فسواء أبصر فعلا معتادا أو ناقضا للعادة ، فالأمر سواء عند أهل اليقين لأن الخالق فى الأمرين واحد .

   ولذا فإن الأثر المترتب على فهم هذه النظرة الإسلامية  هو الغاية عندهم من هذا اليقين كما قال سهل بن عبد الله :  ( أكبر الكرامات أن تبدل خلقا مذموما من أخلاقك ) (3) .

وكذلك يقول أبو يزيد البسطامى لمن قال له : فلان يمشى فى ليلة إلى ــــــــــــــــــــــــ

1- آل عمران /189 ، 190.

2- الرسالة حـ 2 ص 665 .

3- السابق حـ 2 ص 679 .

مكة وفلان يمشى على الماء ويطير فى الهواء .

فقال : الشيطان يمشى فى ساعة من المشرق إلى المغرب فى لعنة الله والطير يطير فى الهواء والسمك يمر على وجه الماء (1) .

    فالأمور عنده سواء وإنما الغاية فى اليقين والطاعة ، ومدى امتثال الإنسان فى عبودية الله سبحانه وتعالى .

   وإن من أثر هذا الفهم الإسلامى العظيم أنه يفتح بابا واسعا عند أهل اليقين فى الاستعانة بالله على قضاء حوائجهم وتوفيقهم إلى عبادته سبحانه وتعالى ، فالنقطة الأساسية التى أراد الصوفية الأوائل أن يوجهوا إليها الأنظار فى آرائهم فى القدر والاستطاعة هى شد الإنسان إلى الله تعالى وإلزامه اللوذ به وضمان عدم استبداد الإنسان وتمرده بالاعتماد على طاقته وقدرته وحدهما دون أن يرشدهما هدى إلهى ويعضدهما تأييد ربانى لا يؤيد إلا الحق ولا يرفع إلا ما أريد به وجهه (2) .

* الاستطاعة وعلاقتها بما سبق :

    ويمكن القول من خلال ما سبق أن الاستطاعة عند أوائل الصوفية تقوم على ركيزتين ليستا فى الحقيقة سوى لازمين من لوازم الغاية من

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 2 ص 679 .

2- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 280 بتصرف .

خلق الإنسان :

الأولــى : ركيزة خارج النفس البشرية وتكمن فى تكييف الكائنات والمخلوقات بالصورة التى تمكن الإنسان فى الأرض ، وفى النواميس التى تسير عليها هذه المخلوقات ، كأسباب خارجية تتدخل فى حياة الإنسان اختبارا وابتلاء (1) .

الثانيــة : ركيزة داخلية وتكمن فى النفس البشرية ذاتها وهى الاستطاعة الذاتية للإنسان على الفعل .

  • أما عن الركيزة الأولى ، فقد سبق فى هذا الفصل أن الله سبحانه وتعالى خلق المخلوقات جميعا خاضعة مسخرة للإنسان كما أقام النواميس الكونية الطبيعية وقوانينها المطردة من خلال عملية الترابط بين الأباب واطراد العلل والمعلولات بحيث تسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها ، وكلما مكنه الله من الأسباب والعلل أظهر له النتائج والمعلولات وذلك من خلال نعمة الله عليه وتسخير الكائنات له كما ذكر سهل بن عبد الله مستدلا بآيات سورة النحل (2) .

   وهذه الأسباب الخارجية إنما هى للابتلاء ، فالإنسان كما طلب منه أن يصارع النفس عند جموحها للميل والانحراف فإنه قد طلب منه ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 282 .

2- انظر ص 272 من هذا الفصل .

كذلك أن يصارع بفكرة وقلبه وسلوكه كل ما يعوق حسن آدائه للعبودية فى هذا العالم الملئ بوسائل الاختبار ، والتى تتشكل فى ضداد كثيرة كالفقر والغنى والصحة والمرض والعلم والجهل وغير ذلك من الأسباب .

  • وأما عـن الركيزة الثانية للاستطاعة البشـرية فهى تقوم أساسا فى النفس من جهة حدوثها مع الفعل أو قبله أو بعده ، فأوائل الصوفية أثبتوا للإنسان استطاعة عامله فاعلة لأعماله وأفعاله ، وقدرة حقيقية لا يمكن إنكارها ولا يؤثر ذلك مطلقا على مدى شمول قدرة الله وإرادته .

    وأما حقيقة الفعل البشرى عند أوائل الصوفية فيمكن إدراكه من خلال ملاحظاتهم وتحليلاتهم النفسية فى إيضاح مذهبهم فى القدر الإلهى والاستطاعة الإنسانية .

   فيقول المكى : ( خلق الله النفس متحركة ثم أمرها بالسكون وهذا هو الابتلاء فإن تداركها بالعصمة سكنت ، وهذا خصوص وإن تركها تحركت بطبعها وجبلتها وهذا هو الخذلان ) (1) .

    لقد نظر المكى إلى النفس على أنها مصدر للحركات والسكنات فى  ــــــــــــــــــــــــ

1- قوت القلوب حـ 2 ص 11 .

الإنسان وهى فى ابتلاء مستمر بينهما ، فإن سكنت إلى تدبير الله كانت العصمة والتوفيق وإلا فالإضلال والخذلان ، فالأمور النفسية التى تحدث فى الذات الإنسانية والناشئة من مجموع الخواطر والاختيارات الداخلية ، تتحدد الأفعال بناء عليها فى الخارج سواء أكان خيرا أوشرا صلاحا أو فساد حسب النية الداخلية المحركة .

     وقد شبه المكى أفعال الإنسان التى تمت باستطاعته بالحب أو الخرز وشبه إرادة العبد بالخيط الذى ينتظم عليه الحب أو الخرز (1) .

   وهذا التشبيه بالغ الدقة ، وذلك لأنه مما لا شك فيه أن أى فعل ظاهر يقوم به الإنسان ، يتم كما هو معلوم بالضرورة من الواقع بأعضائه الجسدية أو بالأدوات الخارجية التى يستعين بها على إتمامه ، كما أنه من المعلوم أيضا أن أى فعل يحدث عبارة عن عدة أفعال صغيرة ينتهى كل منها فى حقيقتة إلى حركات وسكنات سواء كانت حركات نفسية أو جسدية أو طبيعية .

    هذه الحركات والسكنات تتشكل بالضرورة فى شكل معين بتوقيت معين يفرضهما نوع الفعل المكتسب والغاية منه ، كما أن الفرق بين فعل وآخر وهو اختلاف هذه الحركات والسكنات كما وكيفا زمانا ومكانا .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 2 ص 10 .

    مثال ذلك : لو فرضنا والدا يؤدب ولده ضربا ، وآخر يحتضن ولده شفقة وحنانا ، فإن كلا الفعلين يقعان بين فاعل ومفعول يستخدم كل منهما حركة الأعضاء الخارجية فى البدن مع الإحساس الداخلى فى ذات كل منهما ، بينما تتخلل حركة كل من الفاعلين والمفعولين أيضا سكنات لا تكاد ترى ولا تحس  نتيجة تلاصق الحركات وتدافعها فى الفعل بسرعة ، إلا أنها موجودة قبل نهاية كل حركة وقبل بداية  الحركة التى تليها ، فالفرق بين الفعلين من حيث صورة الفعل الواقعية العادية وبغض النظر عن الإرادة الموجهة للفعل أو الغاية منه ،   ليس سوى اختلاف كل فعل عن الآخر من حيث الحركات وكيفيتها رقة وعنفا  سرعة وبطئا ، وكذلك السكنات المتخللة للحركات وكيفية تباينها فى الفعل .

   ومن ثم فمجموع الحركات والسكنات ليس فى الحقيقة سوى علة لوجود الفعل المراد ونتائجه ، وفى نفس الوقت فإن كل حركة سابقة تصبح علة وسببا للحركة التالية المعلولة ، التى ما تلبث أن تصبح هى الأخرى علة لمعـلولها الذى يليها ، وهكذا حتى تأتى الحركة الأخيرة التى هى معلول وليست علة .

    وعلى ذلك فالفعل البشرى يبدأ من حالة نفسية للفاعل بنية     وإرادة وينتهى بعد تفاعلات بين الحركة والسكون بحالة نفسية لنفس الشخص أو لغيره من الناس  .

 فالفعل البشرى علته الأولى البادءة أو علة بدايته داخلية فى ذات الإنسان ومتمثلة فى إرادة الفعل  ، ونهاية الفعل أو معلوله الأخير أيضا داخلى فى ذات الإنسان ومتمثل فى تحقيق المراد وإشباع الإرادة ، فهو إما ينتهى محققا لذة وسرورا ومتعة ، أو محققا ألما وضررا وبؤسا .

    ومساحة ما بين العلة الأولى والمعلول الأخير من العلل والمعلولات الخارجية فى الفعل البشرى فهى من خلق الله وتوفيقه وإمداده وتيسيره وهذه المساحة هى حبات العقد أو الخرز فى المثل الذى ضربه المكى .

    أما قيام العلة الأولى وامتدادها إلى تحصيل المعلول الأخير فهو الخيط الذى ينظم الحب والخرز فى العقد ، وهذا يطابق المعنى المشار إليه فى قوله سبحانه وتعالى :

    { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى }  (1) .

وكما قال تعالى : { والله خلقكم وما تعملون } (2) .

     فالفعل البشرى الاختيارى ليس سوى مجموعة من العلل والمعلولات تبدأ بعلة أولى وتنتهى بالمعلول الأخير .

ــــــــــــــــــــــــ 

1- الليل / 5 : 10 .

2- الصافات / 96 .

    ويمكن القول أن العلة الأولى للفعل البشرى الاختيارى عند أوائل الصوفية هى تحـرك الإرادة المختارة استجـابة لما يسبقها من دوافع نفسيـة وخواطر داخلية منبعثة من الروح أو النفس أو الملك أو الشيطان لاختيار هذا الفعل دون غيره .

    وعلى ذلك فالفعل المختار نابع من ذات الإنسان وهو المسئول عنه تصديقـا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) (1) .

    وكذلك يمكن القول بأن المعلول الأخير للفعل هو الشئ المختار والمقصد الذى أراد الإنسان تحقيقه واكتسابه ، فالإرادة تتلبس بالفعل وتمتزج به من أوله إلى آخره ، حيث تظل مصاحبة للفعل ومتخللة فيه بين حركاته وسكناته وموجهة لعلله ومعلولاته ، حتى يقع كما أراد الإنسان حدوثه ووقوعه .

     ومن ثم فلا عجب فى تشبيه المكى للإرادة البشرية بالخيط الرفيع الذى ينظم الخرز أوحبات العقد فالاستطاعة أو العلل والمعلولات تصاحب الفعل مصاحبة الخيط للعقد فكما أن فصوص العقد موجودة أصلا ودور الخيط تجميع الفصوص بالكم والكيف والشكل الذى يُنتج فى النهاية شكلا مرغوبا أو مكروها ، كذلك دور الإدارة مع الاستطاعة  البشرية فى إتمام الفعل ، فدورها هو تجميع العلل والمعلولات وترتيبها ـــــــــــــــــــــــ

1- تقدم تخريجه ص267 .

بنسب معينة كما وكيفا ، بحيث يؤدى هذا التجميع المنتظم حسب هذه النسب إلى أفعال مرغوبة ومرادة للفاعل أو مكروهة .

  وأهل اليقين يرون فى قلادة التوحيد التى يجب أن يتحلى بها المريد  أن خيطها هو الالتزام بشرع الله واختياره لهم ، وحباتها أو خرزها هو فعل الله بهم سواء بترابط العلل أو بانفكاكها ، وذلك يكون عندهم بالرضا والتسليم المطلق لله فى كل شئ شرعه لهم تحقيقا لمعنى العبودية   وفى كل فعل قدره عليهم تحقيقا لمعنى الربوبية .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  • الاثنين PM 05:50
    2021-08-16
  • 1216
Powered by: GateGold