المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409030
يتصفح الموقع حاليا : 303

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629121168391.jpg

العلاقة بين المشيئه الإلهية المطلقة والإرادة الإنسانية الحادثة

يثبت الصوفية الأوائل بوضوح وجلاء طلاقة المشيئة الإلهية كما جاء فى قوله تعالى : { قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } (1) إذ يعتبرون ذلك من أهم الأسس فى توحيد الربوبية ودعائمه ، ولذا فإننا نجدهم يؤكدون على أنه لا فاعل فى الكون إلا الله ولا خالق للعالمين سواه ، فالله سبحانه وتعالى هو خالق الخلق بما يتجدد فيه من آحاد أو يحدث فيه من فناء ، وله سبحانه وتعالى المشيئة المطلقة التى تحكم الكون دون قيود أو شئ يحد من انطلاقها أو مثيل له فيها .

    وهو سبحانه وتعالى الموجود الحق وكل ما سواه مستمد وجوده منه وأوائل الصوفية يرون أنه سبحانه وتعالى دليل على وجود غيره من المخلوقات وليس غيره دليلا عليه أو على وجوده ، وإن كانوا لا ينكرون أن مخلوقات الله آيات تشهد لعظمته وقدرته وعلمه ، ولكن المسلم ليس بحاجة إلى المخلوقـات لمعرفة ربه وعظمته ولكنهم عرفوا الله

ــــــــــــــــــــــــ

1- آل عمران / 47 . 

بتوفيقه لهم وعبادتهم إياه .

قيل لذى النون المصرى : بماذا عرفت ربك ؟

قال : ربى أجل من أن يعرف بشئ ولكن عرفت ربى بربى وعرفت ما دون ربى بربى (1) .

    وهم أفردوا الله بالخلق ، والخلق كان معلومة فى علم الله فى الأزل ثم دون الله علمه فى اللوح المحفوظ ثم أظهره بمشيئته إلى الواقع المشهود من خلال قوله : كن فكان ما أراد ، وتم ما سبق به القضاء .

    وقد تقدم أنهم استدلوا بقوله تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كـن فيكون } (2) على إثبات كلمة كن المظهرة لكل المخلوقات والتى أصبحت بعد أن لم تكن عيانا قائمة ومفعولات له سبحانه بالكلمة الأزلية والفعل القديم (3) .

     يقول الحارث المحاسبى : ( هو الأول قبل الأبد والآخر إلى غير أمد المنشئ لما شاء بمشيئته ، لما سبق فى ذلك من علمه واستتر فى خفى غيبة فكان أمره جل ثناؤه :

       { إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون }

ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة القشيرية حـ 2 ص 586 .

2- يس / 82 .

3- قوت القلوب حـ 1 ص 242 .

بمحكم من الصنعة وإتقان من الحكمة ) (1) .

     ويعتبر ذو النون المصـرى طلاقة المشيئة والفاعلية أساس التوحيد فالكل مخلـوق بمشيئة مقدرة ، ومن توهم أن فعل الله محكوم بقوانين أو قوالب أو نماذج أو كيفيات محددة بحيث لا يفعل بغيرها كما قال كثير من المتكلمين والفلاسفة فما وحد الله عندهم .

    فهم ما برحوا يؤكدون فى اعتقادهم أن الله على كل شئ قدير ســواء أراد أن يفعل من خلال سننه أو أراد أن يفعل بكيفية أخرى فلا تمتنع أمام قدرته شئ ، سئل ذو النون المصرى عن التوحيد ؟

   فقال : ( أن تعلم أن قدرة الله تعالى فى الأشياء بلا مزاج وصنعه للأشياء بلا علاج ) (2) !

فالله سبحانه وتعالى هو رب العالمين ، والرب يفعل فى ملكه ما يشاء وينفرد بتصريف ملكه وتدبير أمره يقول ذو النون :

  ( لو شاء لم يتكلم ولم ينقصه ترك الكلام ، ولو شاء تكلم بلا   كلام ، ولو شاء تكلم بلا إلهام ، ولو شاء لقوى أبصار         الناظرين على رؤيته ، وأسكن الكثير فى القليل وأسمع ــــــــــــــــــــــــ

1- الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله للحارث المحاسبى ص31 .

2-الرسالة القشيرية حـ 2 ص 582  .

 

الميت خفى الكلام الذى لا يسمعه الحى السوى ) (1) .

    وإذا تبين لنا أن المشيئة الإلهية عند أوائل الصوفية تعنى أنه لا شئ يحدث فى هذا الكون إلا بأمر الله وقضائه وقدره فإن ثمة سؤال ضرورى بعد ذلك وهو :

     كيف يفسر مشايخ الصوفية العلاقة بين المشيئة الإلهية المطلقة وبين الإراده الإنسانية الحادثة ؟

     أو كيف يثبتون حرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله فى ظل المشيئة الإلهية المطلقة مع عدم التعارض بينهما ؟

    حيث أن الممنوع عقلا قيام إرادتين حرتين فى الوجود تعملان بلا تصادم أو تعارض أو تناف ، فالمشيئة الإلهية المطلقة معناها أن الله يفعل ما يشاء بلا موانع ولا عوائق وبلا حد أو معارضة أو مخالفة مهما صغرت تعوق التنفيذ أو تبطئة أو تغيير من كيفه أو تقلل من كمه أو تزيد ، إنما يأتى الخلق أو الفعل المراد له فى اللحظة التى شاءها الله بالكم والكيف المرادين له سبحانه ، فإذا ما قامت إرادة حرة حادثة لها اختيارها الذاتى وحركتها الحرة ، تبادر للذهن من أول وهلة  أن هذه الإرادة الحادثة تشكل حدا يحد من المشيئة الإلهية فيمنع انطلاقها ؟!

ــــــــــــــــــــــــ

1- علم القلوب ص 89  .

     هذه فحوى المشكلة التى نبحث عن حلها عند مشايخ الصوفية الأوائل .

    وفى هذا الصدد يقول ابن خفيف الشيرازى فى معتقد الصوفية الأوائل : ( ويعتقد أنه تعالى فعال لما يريد ، لا ينسب الظلم إليه وأنه يحكـم فى ملكوته كيف يشاء بلا اعتراض ، ولا مرد لقضائه ، ولا معقـب لحكمه ، ويعتقد أنه تعالى يقرب من يشـاء بغير سبب ، ويبعد من يشاء بغير سبب ، وإرادته فى عباده ما هـم فيه ، وبرضــاه طـاعتهم ، والمعصية بمــراده لا برضاه ) (1) .

    فقد بين فى هذا الاعتقاد أن كل شئ بقضاء الله وقدره ، وأنـه سبحانه تعالى هو الخالق لأفعال العباد ، فهو يخلق  الكافر وأفعاله ويشاؤها ولكن لا يرضاها ولا يحبها فيريدها كونا ولا يرضاها دينا دل على ذلك قوله :

   ( والمعصية بمراده لا برضاه ) واحترز مما ذهب إليه أهل الاعتزال من أن الله شاء الإيمان من الكافر ولكن الكافر شاء الكفر لئـلا يقـال : شاء الكفر من الكافر وعـذبه عليه (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- سيرة الشيخ الكبـــيرعــبد الله  بن خفيــف ص 341 .

2- انظر قـوت القلـوب حـ1 ص 128 حيث يذكر المكى هذا الكلام وينسبه لإمام المعتــزلة عمرو بن عبيد ويرد عليه .              

    فقال : ( ولا ينسب الظلم إليه ) ثم بين طلاقة المشيئة لينفى ما لزم المعتزلة مما هو أسوأ من قولهم السابق ، وهو أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله فقال : ( وأنه يحكم فى ملكوته كيف يشاء بلا اعتراض ولا مرد لقضائه ولا معقب لحكمه ) .

  • وفى ذلك يقول تعالى : { إنا كل شئ خلقنـاه بقدر } (1) حتى لا يخرج خلقه عن مشيئتـة وقـدره
  • وقـال : { فمـن يـرد الله أن يهـديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجــا كأنمــا يصعــد فــى السماء } (2) ليدلل على أن إرادته فى عباده ما هم فيه ، فالإيمان والكفر بمشيئة الله .
  • وقال تعالى : { إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } (3) .
  • وقال تعالى : { واللـــه لا يحــب الفســـاد } (4) ليدلل على أن

ــــــــــــــــــــــــ

1- القمر / 49 .

2- الأنعام / 125.

3- الزمر / 7 .

4- البقرة / 205 .

  المعصية بمراده لا برضاه . 

  • وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ) (1) .

   ومنشأ الضلال من التسوية بين المشيئة والإرادة الكونية من ناحية  وبين المحبة والرضا وإرادته الشرعية من ناحية أخرى ،.

  • فالجبرية قالت : الكون كله بقضاء وقدر فيكون محبوبا له .
  • والقدرية قالت : ليست المعاصى محبوبة لله ولا مرضية له فهى ليست مقدره ولا مقضية بل خارجة عن مشيئته وخلقه .
  • أما أوائل الصوفية فإنهم قالوا : إن إرادة الله وإن كانت صفة من صفات الله الأزلية إلا أنها بين وجهين :

* الوجه الأول : إرادة كونية قدرية ، وهى المشيئة الشاملة لجميع الحوادث ومنها مايحبه وما لا يحبه ، وبها يصدر الأمرالإنشائى التقديرى من الله إلى جميع المخلوقات من السماوات والأرض والجـن والإنس والملائكة وكل ما فى الكون على سبيل الإنشـاء

ــــــــــــــــــــــــ

1- أخرجه أحمد فى المسند حـ 2 ص 108 والطبرانى فى الكبير برقم (11880) وأبو نعيم فى الحلية حـ 8 ص 276 والدارمى فى مسنده برقم (990) وعبد الرزاق فى مصنفه برقم (20569)  والهيثمى فى مجمع الزوائد حـ 3 ص 162 والإحسان فى تقريب صحيح ابن حبان  برقم (354) .

    والمتابعة ، وهذا الأمر نافذ لا محاله فلا يتخلف باعتبار معنى الربوبية الذى ذكره سهل بن عبـد الله (1) والذى ورد فى قوله تعالى عن موسى عليه السلام : { ربنـا الذى أعطى كـل شئ خلقه ثـم هـدى } (2) وعن إبراهيم عليه السلام :

        { فإنهم عدو لى إلا رب العالمين الذى خلقنى فهو يهدين والذى هو يطعمنى ويسقـين وإذا مرضت فهو يشفيـن والـذى يميتنى ثم يحــين } (3) .

 * الوجه الثانى : إرادة شرعية إلهية يصدر بها أمر ابتلائ خاص للإنسان والجان ، قد يلتزمان به وقد يمتنعان عن تنفيذه ، وهذه الإرادة هى المتضمنة للمحبة والرضا وهى التى تستلزم أمر الله ونهيه ، فلا شك أن الفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل وبين إرادته من غيره أن يفعل ، فالأولى متعلقة بفعله والثانية متعلقة بفعل الغير .

ــــــــــــــــــــــــ

1-حيث قال : ( ومعنى رب العالمين سيد الخلق المربى لهم والقائم بأمرهم المصلح المدبر لهم قبل كونهم وكون فعلهم المتصرف بهم ، لسابق علمه فيهم كيف يشاء لما شاء وأراد حكم وقدر من أمر ونهى لا رب لهم غيره ) انظر تفسير التسترى ص 7 .

2- طه / 50 .

3- الشعراء / 77 : 81 .

      سئل سهل بن عبد الله عن قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجـدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافـرين } (1) .

قال السائل : لما أمر إبليس بالسجود لآدم أراد منه ذلك أم لا ؟

فقال سهل : أراده ولم يرده (2) .

   ويشرح أبو طالب المكى كيف فرق سهل بن عبد الله بين الوجهين فى الإرادة فقال : ( يعنى أنه أراده شرعا وإظهارا عليه إيجابا وتكليفا   ولم يرده منه وقوعا ولا كونا ، إذ لا يكون فى ملكه إلا ما أراد الله تعالى ، فلو أراد كونه لكان ولو أراده فعلا لوقـع بقوله تعالى :

 { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون  } (3) فلما لم يكن ، عُلم أنه لم يرده ، فقد كان الأمران معا :

1- إرادته بالتكليف والتعبد .

2- إرادته بأن لا يسجد ، فلم يقدر أن يمتنع من ألا يسجد كما لـم يقدر من أن يمتنع أن يؤمن ) (4) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- البقرة / 34 .

2- قوت القلوب حـ 1 ص 128 .

3- يس / 82 .

4- السابق حـ1 ص 218.

    وثمة فرق آخر دقيق فى كلام أوائل الصوفية ، وهو تفريقهم بين المشيئة والإرادة والأمر فالمشيئة لاتكون إلا كونية فهى من مراتب القدر وسابقه لكل ما هو كائن حتى مشيئة العباد ، قال تعالى : { وما تشـاءون إلا أن يشـاء الله } (1) .

      أما الإرادة والأمر فيحملان الوجهين السابقين :

1- وجه بالمعنى الكونى المساوى للمشيئة .

2- وجه بالمعنى الشرعى الذى يمكن للعباد مخالفته .

    يقول المكى : ( والأمة مجمعة على قول : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكـن ، واجتمعت على قــول : لا حـول ولا قـــوة إلا باللـه  فهذا عام فى كل شئ ليس فى بعض الأشياء دون بعض ) (2) .

    ثم يفرق بين الوجهين فى الإرادة والأمـر فيقول بعد ذكره لسؤال السائل الـذى أجاب عليه سهل بن عبد الله :

   ( وكذلك القول فى كل ما أمر به وأراده ، أنه أراد الأمر الشرعــى ليكونوا مكلفين متعبدين ، ولم يرده ممن لم يكن فيه الامتثال لأنه  سبحانه وتعالى قال : { إنما قولنا لشئ إذا أردنـاه أن نقول لـه كــن

ــــــــــــــــــــــــ

1- الإنسان / 30 .

2- السابق حـ1 ص 218.

فيكون } (1) .

    فأخبر أنه إذا أراد شيئا كونه ، كما أنه إذا كون شيئا فقد أمر بتكوينه وأراده بدلالة كونه ، فلما لم يكن الأمر من العاصين علمنا أنه لم يرده  إذ لوأراده كان فصار كون الشئ دليلا على إرادتـه ) (2) .

    ثم يذكر بعد ذلك العلـة فى كون هذا التقسيم فيقول :

   ( وهذا أصل الابتلاء وإرادة ظهور البلاء ، يأمر الله تعالى بالشئ ويريد كون ضده وقد أراد الأمر به وحسب ، وينهى عـن الشئ ويريد كونه ، وقـد أراد النهـى عنـه فقـط ) (3) .

    ويذكر الترمذى كيف أن الخلق لا يخرجون عن المشيئة لما سئل :

    ما تقدير الله ؟

    قال : إبراز علمه فى عبيده من الغيب بمشيئته ، فقد علم ما يفعل 

           هذا العبد فأبرز علمه  (4) .

     ثم يبين أن الحكمة البالغة هى التى برزت يوم المقادير من قبل خلق ــــــــــــــــــــــــ

1- النحل / 40 .

2- السابق حـ1 ص 218 .

3- السابق حـ1 ص 218 .

4- أدب النفس للحكيم الترمذى ص 94 .

 

السماوات والأرض بخمسين ألف عام ، وإنما كانت  حكمة بالغة لأنها بلغت علم المقادير ، ومنها جرت إلى العباد وإلى الحكمة الظاهرة     التى أدتها الرسل إلى الأمم ، فإن الله سبحانه وتعالى شرع لكل رسول شريعة الأمر والنهى من الحكمة البالغة ، فمن عرف ذلك فقد      عرف الشرائع  .

    وإنما وضعت الشرائع ابتـلاء للعباد ، واستخراجا لما يثبت لهم فى سابق علمه لأن المقادير وقت الابتلاء والعبودية ، فالخلق فى المشيئة والمقادير مأخوذون بالعبودية للزوم الحجة ، فمنهم من وفى ومنهم من أبق ولم ينقض العهد ، ومنهم من أبق ونقض العهد .

    فإذا انتهى وقت الابتلاء والتمحيص عادت الأمور إلى ما كانت عليه فى البدء ، فهى مقادير ابتلاء وهى فى نفس الوقت مقادير تقسيم الحظوظ على العباد .

    وتشمل هذه الحظوظ ما يتعلق بحياة العبد من إيمان وسعى ورزق وأجل وغير ذلك مما وضع فى جبله كل عبد ونشأته ، ولابد أن يظهر ذلك فى واقع الحياة الدنيا وأن يقوده إما إلى الجنة وإما إلى النار  .

    فكل ما يبرز فى عالم الابتلاء وعالم التدبير إنما هو تحقيـق لمشيئة اللـه وما تم لهم يوم المقادير (1) .

ـــــــــــــــــــــــ

1- الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية بتصرف ص 315 ، 316 ، 317 .

   ويورد المكى هذا التفصيل تحت بابين اثنين باب الربوبية        وباب العبودية :

 * فالأمور الكونية والمعانى الحتمية الصارمة كالمشيئة والإرادة الكونية هى باب الربوبية وواجب على العبد الموحد أن يفرد الله بها .

 * والأمور الشرعية والمعانى الاختيارية كالإرادة الشرعية والأمر الشرعى هى باب العبودية وواجب على العبد أن يسلم لله فيها وأن يفرده بالعبودية ولا يخضع لسواه  .

      يقول المكى : ( وهذا التفصيل فى هذه المعانى من الأحكام     هو ظاهر العلم وفرض القدر وفحوى التنزيل والشرع والجبر   للملك الجبار ، يجبر خلقه على ما شاء كما خلقهم لما شاء      ويردهم إلى ما شاء ، كما ينشئهم فيما يشاء فالحكم لله العلى   الكبير الواحد القهار ) (1) .

ثم يبين تعلق ذلك بالربوبية والعبودية فيقول :

 1- يقهر عباده كيف شاء ويجرى عليهم مايشاء وله الحجة البالغة والعزة القاهرة والقدرة النافذة والمشيئة السابقة بوصف الربوبية وبحكم الجبرية  .

ــــــــــــــــــــــــ

1- قوت القلوب ، حـ 1 ص 128 .

2- وعليهم الاستسلام والانقياد والطاعة والاجتــهاد طوعا وكـرها بوصف العبودية وبحق الملكة (1) .

      فمن شأن أهل اليقين أن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذى يخالف تدبيره تعالى واختياره ، بل قد سلموا إليه سبحانه وتعالى التدبير كله ، سواء كان تدبيرا بواقع الربوبية فى الخلق والإيجاد والإمداد والرزق والمنع والعطاء ، أو كان تدبيرا بواقع معنى العبودية فيما أمر ونهى وفرض وحرم ، فلا يزاحم تدبيرهم ولا اختيارهم اختياره   لتيقنهم أنه الملك القاهر القابض على نواصى الخلق المتولى تدبير أمر العالم كله ، وتيقنهم مع ذلك أنه الحكيم فى أفعاله الذى لا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة ، فلم يدخلوا أنفسهم معه فى تدبيره لملكه وتصريفه أمور عباده ولا اعتراضوا عليه أو تسخطوا تدبيره أو تمنوا سواه بل همهم كله فى إقامة حقه عليهم (2) .

     وبدون الفهم الصحيح للعلاقة بين المشيئة الإلهية المطلقة والإرادة الإنسانية الحادثة والتفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الابتلائية والأمر الكونى والأمر الابتلائى سيكون الأمر غامضا متناقضا ، وبالتفريق ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 128 ، 129 .

2- طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم الجوزية ، تحقيق محب الدين الخطيب طبعة المكتبـة السلفية ص 216 بتصرف .

 بينهما جميعا سيكون الأمر واضحا جليا .

  • فالأمر الإلهى والإرادة الكونية والمشيئة المطلقة كل ذلك عندهم يعمل فى الجانب الجبرى من الإنسان وبقية المخلوقات فى الكون .
  • أما الجانب الاختيارى فى الإنسان فإن الإرادة الدينية أو الأمر الإلهى الابتلائى موجه إليه ولا يعنى ذلك أن هناك من يفعل أو هناك ما يحدث فى الكون بدون أمر الله الكونى أو بخلاف ما يريد ، فإن فعل الإنسان المخالف لأمر الله الابتلائى التخييرى موافق لأمره الكونى الذى هو قضاؤه وقدره ، وأمره بجعل الإنسانحرا يفعل ما يختار لابتلائه ، هذا الأمر كونى عام وشامل وسابق على الأمر الابتلائى فى يوم التقدير وعلم التدبير قبل التكوين فى الحكمة الظاهرة (1) .

    وكذلك لا يعنى ذلك عندهم أن الأمر الإلهى متعدد ومتنوع وأن الإرادة الإلهية متعددة ومتنوعة وإنما هذه صفات الله ، فالإرادة واحدة ولكنها إذا صدرت للمخلوقات بكلمة كن المفصلة والمظهرة كما يسميها سهل بن عبد الله (2) فإنها تصبح ابتلائية تخييرية للإنسان وكونيه جبرية لغيره من المخلوقات التى لم تخلق للابتلاء .

    ولذلك فإن المكى قد وفق عندما حصر أعمال العباد فى ثلاثة أنواع ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية ص 316   .

2- انظر ص 131 .               

تبين العلاقة بين المشيئة الإلهية والإرادة الإنسانية :

[1]- الفرض وهو ما أمر به العباد على سبيل الإلزام وفيه تجتمع ثلاثة معان عند استجابة العبد :

 1- المشيئة الشاملة والإرادة الكونية المطلقة .

 2- الإرادة الابتلائية والأمر التشريعى المتضمن للمحبة .

 3- إرادة العبد بالامتثال للشرع واختياره تدبير الله (1) .

   وفى تلك الحالة يتعامل العبد مع أوامر الله التشريعية على أنه أسلم نفسه لله وانسلخ من التدبير والاختيار الذى يخالف تدبير الله واختيـــاره ، فينخــرط فى سلك سائر الكائنات العابدة ، وكأنه يقف معها فى صف واحد يجمعهم وصف العبودية  ، كما قال تعالى فى جمعه للكائنات العابدة مع عبودية الإنسان : { ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس } (2) فجعلهم صفا واحدا فى السجود مع كون المخلوقات خارجة عن الابتلاء والانسان داخل فيه  .

[2]-  النوع الثانى فى حصر أعمال العباد هو النفل وهو ما أمر به ــــــــــــــــــــــــ

1- قوت القلوب حـ 1 ص 127  .

2- الحج / 18 .

العباد لا على سبيل الحتم والإلزام وفيه معنيان :

         1- المشيئة الشاملة والإرادة الكونية المطلقة .

         2- محبة الله له إذ ندب إليه .

    فإذا فعل العبد ما ندب الله إليه فقد وافق المشيئة والمحبة             يقول المكى : ( ونقول : إن النفل لا بأمر الله الإلزامى لأنه لم يوجبه ولم يعاقب على تركه ولكن بمحبة الله ومشيئة جل وعلا ، لأنه سبحانه شرعه وندب إليه ) (1) .

   وكثير من أوائل الصوفية نزلوا المستحبات أو المندوباب منزلة الواجبات بغية التقرب إلى الله وسوف يأتى تفصيل ذلك إن شاء الله .

 [3]- النوع الثالث فى حصر أفعال العباد المعصية وهى مخالفة العبد لإرادة الله التشريعية وفيها يجتمع من المعانى :

    1- المشيئة الشاملة والإرادة الكونية المطلقة .

    2- مخالفة الإرادة الإنسانية الحادثة للأمر الشرعى والإرادة الشرعية .

     يقول المكى : ( إن المعصية لا بأمر الله لأنه لم يشرعها على ألسنة المرسلين ، ولا بمحبة الله لأنه قد كرهها إذ لم يأمر بها ولم يندب إليها ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 127.

ولكن بمشيئة الله جلت عظمته ألا يخرج شئ منها كما لم يخرج شئ من

علمه ، فقد دخل كل شئ فيها كما دخل كل شئ فى العلم ) (1) .

    فالله سبحانه وتعالى أراد بإرادة نافذة وأمر أمرا كونيا سابقا على الأوامر الابتلائية فى الزمن السحيق أن يكون الإنسان حرا وأن يفعل ما يختاره حتى ولو كان معارضا وخارجا عن الأمر الابتلائى ، وكل ذلك لحكمة الابتلاء وهى الغاية القصوى من خلق عالم الشهادة          وعالم الغيب ، فإذا فعل الإنسان أى فعل مخالف لأوامر الله ونواهيه التشريعية ، فإنه يمارس الحرية ويختار ما ينبع من إرادتة وينفذه بأمر الله الكونى الأول الذى أصبح به مختارا ، ويصبح معنى القدر الإلهى بالنسبة للإنسان قدرا من الإنسان العاصى لعصيانه ، أى أن الله قدر منه المعصية ومكنه منها بالأمر الكونى الذى به أصبح حرا .

    ومن ثم يكون معنى الاختيار بالنسبة للإنسان عودة اختيارية من المختار إلى أمر الله الكونى الذى تسير به كل الكائنات المخلوقة لله سبحانه وتعالى  .

    يقول المكى فى إجمال هذا المعنى : ( فالله سبحانه عالم بما أراد وقد ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 127 ولذلك أخرج الله العصاة من أية الحج رقم 18 ولم يجعلهم فى صف الساجدين فقال :  { وكثير حق عليه العذاب  } ثم أدخلهــم فى المشيئة فقال : { ومن يهن الله فماله من مكرم إن الله يفعل ما يشاء  } .

سبق به علمه ، كذلك هو مريد لما علمه أظهرت إرادته سابق علمه  وكشف علم الغيب بظهور إرادته الشهادة ، فهو عالم الغيب والشهادة  فالغيب علمه والشهادة معلومة ، فكيف يخالف المعلوم العلم وهو إجراؤه   والإرادة نفذت العلم فى معلومات الخلق ، وهذا فرض التوحيد ) (1) .

     وبذلك نصل إلى أن أوائل الصوفية وفقوا إلى تقديم الحل المقنع فى التوفيق بين المشيئة الإلهية المطلقة والإرادة الإنسانية الحادثة وأثبتوا افتقارهم إلى تدبير الله لهم ، فلا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا يملكون موتا ولاحياة ولا نشورا فعادوا بفقرهم إلى ربوبيته لعلمهم بفقر المخلوقات بأسرها إلى مشيئته وتدبيره ، وعادوا بفقرهم إلى ألوهيته كما افتقر أنبياؤه ورسوله وعباده الصالحين إليه لعلمهم أن هذا هو الفقر النافع ، فرأوا أعمالهم مستحقه عليهم بمقتضى كونهم مملوكين مستعملين فى أوامر سيدهم ، فأنفسهم مملوكة وإرادتهم لسيدهم وأعمالهم مستحقة بموجب العبودية تحقيقا لقوله سبحانه :{ إيــاك نعبــد وإيـــاك نستعــين  } (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 127 ، 128 .

2- انظر الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله للمحاسبى ص 33 : 39 وانظر مدارج السالكين حـ 2 ص 45 ، وما بعدها ، وطريق الهجرتين ص 11 .

 

 

 

 

 

 

 

 

  • الاثنين PM 04:39
    2021-08-16
  • 1474
Powered by: GateGold