المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409174
يتصفح الموقع حاليا : 374

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629121015219.jpg

موضوع الاختيار البشرى ومجاله

يذكر المكى أن القرآن الكريم حدد مجال اختيار الإرادة الإنسانية وجعله بين طريقين معروضين أمام الإنسان ، أحدهما هو نجد الخير  والثانى هو نجد الشر ، قال تعالى : { وهديناه النجدين } (1) .

    فالنجدان طريقان معروضان خارج الإنسان ، وهما لازمان لصحة الاختيار وتحقيق معنى الحرية من الناحية العقلية ، أحدهما يعبر عنه القرآن بحرث الدنيا والآخر يعبر عنه بحرث الآخرة قال تعالى :

 { من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه ، ومن كـان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله فى الآخرة من نصيب } (2) .

     وإذا كان القرآن قد عبر بلفظ الشراء أو الاستبدال أوالاستحباب والإيثار كما فى قوله تعالى :

     { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهـدى فماربحت تجارتهم  وما كانوا مهتدين } (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- البلد / 10 .

2- الشورى / 20 .

3- البقرة / 16 .

وقوله : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } (1) 

وقوله : { ذلك بأنهـم استحبوا الحياة الدنيـا على الآخرة} (2) .

   فإن هذه الألفاظ تدور حول معنى واحد وهو الاستغناء عن حياة فى سبيل أخرى (3) .

   فالمؤمن يضحى بالدنيا فى سبيل الحصول على الآخرة  والكافر يضحى بالآخرة ويتناساها أو يغفلها استغناء عنها لحصوله على الدنيا  وهذا هو عين الاختيار ومجاله فى القرآن الكريم ولا يعنى هذا الاختيار بهذا المعنى ترك الدنيا وإهمالها والسلبية حيالها وحرصه على الآخرة والإيجابية نحوها فقط ، وإنما يعنى اختيار منهج فى الحياة يؤدى إلى الجنة أو منهج يؤدى إلى فقدها ، أو أنه اختيار بين حريتين ، حرية فى الدنيا يتحرر فيها من الشرع ، أو حرية للآخرة باختياره منهج الله .

   ومن ثم فإن معنى إيثار العبد للدنيا على الآخرة هو أنه فضل أن يكون حرا فى الدنيا متحللا من كل منهج يخالف مراده وهواه فقوله تعالى : { بل تؤثرون الحياة الدنيا والاخرة خير وأبقى  } (4) .

 ـــــــــــــــــــــــ

1- البقرة / 108 .

2- النحل / 107 .

3- انظر قوت القلوب فى تعليق المكى على هذه الآيات حـ 1 ص 248 ،  249 .

4- الأعلى / 16 : 17 .

    يعنى أن هؤلاء القوم المخاطبين إنما رفضوا أن يكونوا عبيدا لله سبحانه وتعالى مقيمين بما كلفهم به فى حياتهم  مؤثرين أن يعيشوا باختيارهم وحريتهم فى الدنيا ، مفرطين فى حريتهم وملكهم الأخروى فى الجنة ، والعكس أيضا فإن المؤمن برفضه للدنيا وحرصه على الآخرة إنما يرفض الحياة الدنيا وفق شهواته ونزواته وأهوائه ، داخلا فى عبوديته لله سبحانه وإن كان دخولا اختيارا وفى ذلك يقول تعالى :

    { ومـا كان لمؤمن ولا مؤمنـة إذا قضى الله ورسوله أمـرا أن يكون لهم الخيرة من أمـرهم } (1) .

   فالمؤمن هوالذى يسلم قيادته ووجهه وإرادته لله ، وذلك وإن كان فقدا للاختيار بمعنى يؤدى إلى تمام العبودية لله ، إلا أنه يحقق تمام الحرية الإنسانية حيث لا حرية حقه للإنسان  إلا على ما أعطاه الله    واسترعاه فيه .

     ومصطلح الحرية عند الصوفية لا يعنى إلا العبودية وتمامها على الوجه الأمثل ولشرح ذلك فصل مستقل إلا أننا نود أن نبين موضوع الاختيار البشرى ومجاله عندهم .

     فالصوفية الأوائل أجمعوا على وجود الجنة والنار وأن لكل منهما ــــــــــــــــــــــــ

1- الأحزاب / 36 .                       

طريق فى الدنيا والإنسان بينهما سيصل إلى سابق علم الله فيه ، يقول الكلاباذى :

     ( وأجمعوا أنه لو عذب جميع من فى السماوات ومن فى       الأرض لم يكن ظالما لهم ولو أدخل جميع الكافرين الجنة لم يكن      ذلك محالا ، لأن الخلق خلقه والأمر أمره ولكنه أخبر أنه ينعم على   المؤمنين أبدا ، ويعذب الكافرين أبدا ، وهو صادق فى قوله      وخبره صدق ، فوجب أن يفعل بهم ذلك  ولا يجـوز غيـره ، لأنه     لا يكذب فى ذلك ، تعالـى الله عن ذلك علوا كبيرا ) (1) .

    ويذكــر الكلابـاذى أن الصوفية حتــى عصره أقروا بتأبيـد الجنة والنار وأنهما مخلوقتان باقيتـان أبد الآبدين ، لا تفنيان ولا تبيــدان   وكذلك أهلوهما ، باقـون فيهمـا خالدون مخلـدون منعمون لا ينفــد نعيمهم ولا ينقطع عذابهم (2) .

    والاختيار البشرى كفعل داخلى ونفسى محض للإنسان هو تحرك الإرادة الحرة لاختيار المواقف الابتلائية ولتوجية النية وتصويب القصد وتحديد العزم نحو فعل دون آخر أو نحو الفعل دون الترك أو العكس  حتى يصل بالمحصول النهائى لجملة الأفعال إما إلى الجنة وإما إلى النار .

ــــــــــــــــــــــــ

1- التعرف ص 67 .

2- السابق ص 73 .

    ويبرز الحكيم الترمذى (1) هذه الفكرة من خلال تردد العبد بين ابتلااءات الله بما منحه الله من اختيار وحرية ليصل فى النهاية إلى ما قضاه الله ، من كونه فى الجنة أو النار ، فيذكر أن الأحوال التى تتناوب العبد إنما هى من تدبير الله ، فيقبلهـا راضيـا بها مبتهجـا لهـا ، ولو كانت مكروهات لنفسه ، لأن تدبير الله له من خلال الشرع أفضل من تدبيره لنفسه ، فيجاهد نفسه مدركا أن هذه الدنيا لم تجعل للمشيئة والاختيار ولا للتجبر والاقتدار ولكن للعبودية والاضطرار ، لأن الدار دار العبيــد أنشئـت للعبـوديـة والآخرة دار الأحرار والملوك ، ومن ثم وافق العبد ربه فى تدبيره وترك حـظ نفسه ، فوضع نفسـه للـه ، وآثره على نفسـه وعلـم يقينـا أن كـل شـئ قد تم وأحكم (2) .

  وذلك أنه لما أبرز ملكه من غيبه إلى عرشه وسمائه وأرضه وملائكته ــــــــــــــــــــــــ

1- هو محمد بن على الملقب بالحكيم الترمذى ويكنى بأبى عبد الله اختلفوا فى تاريخ ميلاده واتفقوا على أنه ولد فى أوائل القـرن الثالث الهجرى بمدينة ترمذ ، له تصانيف كثيرة أشهرها كتابة ختم الأولياء وفيه مخالفات كثيرة فليحذر منها القارئ  قيـل توفى سنة 255 هـ وقيل سنة 285 هـ وقيل 320 هـ  انظر حلية الأولياء حـ10 ص 233 صفة الصفوة حـ 4 ص141طبقات الشعرانى حـ 1 ص 106  طبقات الصوفية ص217 .

2- نوادر الأصول فى معرفة أخبار الرسول للحكيم الترمـذى ، طبعة استانبول سنة 1293 هـ  ص 397  بتصرف  .

 واستوى على عرشه حمد نفسه ، ثم أثنى على نفسه بالأمثال العلى والأسماء الحسنى ، وخلق اللوح والقلم وعدن الجنة بيده ، وحشاها بالإقبال عليها رحمة ولطفا ونزاهة وطيبا وبنظرة واحدة إلى خلقه أدنى وأقصى وأسعد وأشقى وبسط الرزق وأكدى كل ذلك عدل منه سبحانه ، وبإقبال واحد حشا الجنة فصارت بإقباله بهية لا تنقص على طول الأمد موادها ولا ينفذ نعيمها ولا يفنى أهلها وصارت الدنيا بنظرة واحدة محكمة لا يتفاوت تدبيره ولا ينقص ، يدور تدبيره معهم دوران الرحا حتى ينقضى كله وينفذ (1) .

    ويكشف الحكيم الترمذى عن حقيقة الحكماء ويصفهم بأنهم يتدبرون كيفية خلق الآدميين لآداء مهمة العبادة ؟ وتفصيل الخواطر والإرادة ومجال أعمالها وحسن الاختيار بين ما يطرحه الله لهم من ابتلاءات فيقول :

    ( والحكماء عن تدبير الله يتذكرون كيف دبر شأن الآدميين ؟  وكيف ركبهم ؟ ومن أين استخرجهم ؟ وأين وضعهم ؟ وإلى أين دعـاهم ؟ فينشرون منن الله ويشيعون نعمه لديهم ويصفون تركيب أجسادهم ومكامن العدو منها وسلطان الشهوات فيها ، ويمرون بين ـــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 398  بتصرف .

أعمال القلوب وأعمال النفوس وجذع العدو ، فإن للنفس وسواسا يدق فى جنبه وسواس العدو ، ويصفون شأن الدارين  وانقســام هــذه الدار على الدار الآخرة ، ويصفــون الإرادة ويعرفون المريدين مكامن النفس لإفساد العطايا الواردة على السالكين بذلك       الطريق إلى الله ) (1) .

     فالاختيارات والنيات التى يختارها العبد هى التى تحدد طريقه فى الحياة ، وتصبح أفعاله وأعماله بعد اختياره وبعد تلبسها بإرادته ووقوعها منه فى الواقع مكتسبة للخير أو الشر أو الحلال والحرام ، ومجال العمل الدائم عند أوائل الصوفية هو محو الرذائل والتفانى فى مجال الفضائل .

   والزهد والمجاهدة والفناء وغير ذلك من المصطلحات التى أنشأها أوائل الصوفية أكبر دليل على اختيار الآخرة وعدم الإصرار على حب الدنيا .

   والصوفى الحق عندهم يبغى من مجموع اختياراته فى الدنيا أن يصل إلى نعيم الله ومحبته وهو يعتبر مجاهدته فى إصلاح النفوس والتحكم فى الخواطر ونوازع السوء التى تعن له على الدوام من أشد أنواع التقوى .

  يقول الترمذى :

     ( فإن التقوى فى هذا الطريق أصعب وأدق وأغمض وأعظم   ـــــــــــــــــــــــ

1- الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية  للدكتور عبد الفتاح عبد الله بركه حـ 2 ص 311   طبعة مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر .

مؤنة من التقوى فى طريق الشريعة ، لأن طريق الشريعة على  الجوارح ، وهذا الطريق بالقلوب فى ممرها على النفوس فيحتاج     إلى أن يسلك بعمل القلب على شهوات النفس بالحراسة       العظيمة ، والاستعانة بالله حتى يسلم ذلك العمل الذى نهض فى القلب من آفة النفس فيخرج إلى الجوارح سليما يصعد إلى         الله سليما من آفاتها ) (1) .

   ويبين الحكيم الترمذى مجال الاختيار وعمـل الارادة فيمـا يسميه بولاية التدبير فمعنى ولاية التدبير أن الله شرع السبيل وهدى القلوب ورزق العقول وأكد الحجة بالرسل ، وبما جاءوا به من البيان  وأيدهـم بالملائكة يهدون ويسـددون وقيل سيروا إلى الله سيرا مستقيما فى هذا الصراط ، فإن عارضتكم نفوسكم بخلاف ما أمر الله فجاهدوها وسلوا الله المعونة ، فهذا تدبيره الذى وضعه للجميع ) (2) .

    ومن ثم فإن أعز العلوم على الصوفية معرفة النفس وأخلاقها ، وأقوم الناس بطريق المقربين من الصوفية أقومهم بمعرفة النفس ، ومعرفة أقسام الدنيا ودقائق الهوى وخفايا شهوات النفس ، وشرها وشرهها (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 142 .

2- السابق ص 214 .

3- عوارف المعارف للسهروردى ص 26 .

ويذكر المكى فى تفسيره لقوله تعالى :

    { فأمـا مـن طغـى وآثـر الحيـاة الدنيـا فـإن الجحيــم هى المــأوى وأمـا مـن خــاف مقـام ربــه ونهــى النفـس عـن الـهوى فـإن الجنــة هـى المأوى } (1)

     أنه لما كانت الجنة ضد الجحيم كان الهوى هو الدنيا ، لأن النهى عنه ضد الإيثار له فمن نهى نفسه عن الهوى ، فإنه لم يؤثر الدنيا وإذا لم يؤثر الدنيا ظهر معنى الزهد فيها وكانت له الجنة التى هى ضد الجحيم فصارت الدنيا هى طاعة الهوى وإيثاره فى كل شئ (2) .

     ويذكر المكـى فى موضع تخيير العبد بيـن الدنيا والآخرة حديثا نبويـا فيـه : ( لغدوة فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا        وما فيها ) (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- النازعات / 37 : 41 .

2- قوت القلوب حـ 1 ص 246 .

3- الحديث أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد ، باب الغدوة والروحة فى سبيـل اللــه برقم (2792) وكذلك أخرجه مسلم فى كتاب الإمارة ، باب فضل الغدوة والروحة فى سبيل الله برقم (1880) وأحمد فى المسند حـ 3 ص141 والترمذى برقم (1648) والنسائى حـ 6 ص 15 ، وابن ماجه برقم (2756)  والدارمى حـ2 ص 212 والبيهقى فى السنن حـ 9 ص 159 .

    ثم يشرح المكى كيف يزهد المرء فى الدنيا من خلال ما هو مطروح لديه من أمور الابتلاء بأن الله قال فى شأن يوسف عليه السلام :

   { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من     الزاهدين } (1) .

     فهذه تسمية لهم بالزهد فلما باعوه وخرج من أيديهم صاروا زاهدين ، والعرب تقول شريت بمعنى بعت لأنهم يقولون ابتعت بمعنى اشتريت .

   كذلك العبد إذا باع نفسه وماله من الله تعالى وخرج من هـواه إلى سبيل مولاه فهو من الزاهدين ، وكذلك قال المولى عز وجل :

    { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن            لهم الجنة } (2) .

    وقال أيضا : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى } (3) .

    فإذا كان العوض واحدا وهو الجنة فى ذكر المعنين كان بيع النفس ـــــــــــــــــــــــ

1- يوسف / 20 .

2- التوبة /111 .

3- النازعات /40 .

 والمال وإخراجهما لله تعالى بمعنى النهى عن الهوى فيهما ، والهوى هو الحياة الدنيا ، وهو اقتناؤه للمال وحبس النفس عليه ، فاستبدال ذلك بضده من إخراج الهوى من النفس وإدخال الفقر على المال هو الزهد فى الدنيا (1) .

    يقول سهل بن عبد الله : ( من علامة حب الله تعالى حب النبى عليه السلام ومن علامة حب النبى صلى الله عليه وسلم حب السنة ومن علامة حب السنة بغض الدنيا وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا زادا وبلغة ) (2) .

* موضوع الاختيار البشرى واتساع دائرته عند الصوفية :

    وإذا كان موضوع الاختيار البشرى ومجاله عند أغلب أوائل الصوفية هو اختيار الدنيا فى مقابل الآخرة أو العكس ، فإن هذا المجال أخذ فى وقت مبكر بمعنى آخر يختلف عن هذا المعنى وإن اتفق معه فى بعض النتائج ، وذلك أن الزهد الذى تميز به الصوفية وبمفهومه السابق دليل واضح على اختيارهم للآخرة ورفضهم للدنيا ، ولكنه لم يلبث حتى تطور من الزهد فى الدنيا فقط إلى الزهد فى الدنيا والآخرة معا ، طمعا

ــــــــــــــــــــــــ

1- قوت القلوب حـ 1 ص 247 .                   

2- السابق حـ 1 ص 259 . 

فى إرضاء الله ومحبته .

    فأصبح مجال الاختيار هو تفضيل الله على الدنيا والآخرة وكل شئ   وقد نبتت هذه الفكرة وأينعت فى القرنين الثانى والثالث الهجريين حينمـا شاع قول رابعة العدوية (1) من نساء الصوفية :  ( ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا فى جنتك ، ولكن حبا لذاتك ) (2) .

  فقد جعلت بواعث العبادة ثلاثة :

     1- عبادة عن خوف .

     2- عبادة عن طمع .

     3- عبادة مجردة من الخوف والطمع وهى أرقاها .

     ولا شك أن هذه العبادة التى دعت إليها رابعة العدوية تبدوا مخالفة للنصوص الشرعية ومنهج النبوة ، حيث جعل أصحاب هذا الاتجاه ذات الله موضوعا للاختيار فى مقابل الدنيا والآخرة .

ــــــــــــــــــــــــ

1- هى رابعة بنت إسماعيل العدوية العابدة المشهورة ، قال ابن كثير : أثنى عليها الناس وتكلم فيها أبو داود السجستانى واتهمها بالزندقة فلعله بلغه عنها أمر       وقد ذكروا لها أحوالا وأعمالا صالحة وصيام نهارا وقيام ليل ، توفيت بالقدس الشريف سنة 185 هـ انظر البداية والنهاية لابن كثير حـ 10 ص 186 صفة الصفوة حـ 2 ص 249 تذكــرة الأولياء لفريـد الدين العطار حـ 1 ص 71 وما بعدها .

2ـ صفة الصفوة حـ 2 ص 249 .

     والواقع أن بعض أوائل الصوفية تصوروا أن العبد ينبغى أن يسترسل مع الله على غير انتظار للثواب وعلى غير خوف من العقاب بل يسترسل معه على ما ينبغى له سبحانه وتعالى من العبودية حتى وصلوا إلى درجة يحتقرون فيها من عبد الله انتظار لثوابه وخوفا من عقابه .

     وقد صنفوه من التجار الذين لا يعطون إلا لانتظار البدل ، بل غالى بعضهم فوصف هذا الفريق بأنهم عبيد السوء لا يوقرون الله عز وجل لذاته ولكن لما يصلهم من نفع أو نعمة (1) .

       وهذا النقد اللازع لمن طلب العوض فى العمل سوف يتوجه حتما وباللزوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه باعتبار الأدلة الثابتة عنه فى كونه عبد ربه خوفا وطمعا مما يدل على خطأهم وسوء أدبهم ، كما أدى ذلك أيضا إلى استهجان البعض منهم لعذاب النار فصرح بعدم الخوف منها وقلل من شأنها ، قال أبو بكر الشبلى (2) :

ــــــــــــــــــــــــ

1- طبقات الصوفية ص489 والتعرف لمذهب أهل التصوف ص161، 184 .        

2- هو جعفر بن يونس الشبلى وقيل اسمه دنف بن جحدر خرسانى الأصل بغدادى المنشأ والمولد صحب الجنيد ومن فى عصره من المشايخ ، له بعض الشطحات والمخالفات الشأن فى صحتها توفى سنة 334 هـ انظر شذرات الذهب حـ2 ص 338 ، اللباب حـ 2 ص 10 وفيات الأعيان جـ1 ص 225 تاريخ بغداد حـ 14 ص 389 ، الكامل لابن الأثير حـ 8 ص 350 وطبقات الصوفية ص 337 .

( إن لله عبادا لو بزقوا على جهنم لأطفئوها ) (1) .

      وقال أيضا : ( لو خطـر ببـالى أن الجحيم بنيرانها وسعيرهــا  تحرق مــنى شعـره لكنت مشركـا ) (2) .

     والله سبحانه وتعالى جعل النار فى مقابل الجنة وجعل لكل منهما طريقا يوصف بالخير والشر ولم يجعل الطريقين الذين يمثلان موضوع الاختيار البشرى حيال الإرادة الإنسانية ، ذات الله مقابل الفوز بنعيم الجنة والنجاة من النار  بحيث يقال : إن من أراد الله فقد وفق إلى الصواب ، ومن أراد الجنة فقد أراد غيره أو قع فى المحذور .

    وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية خطأ هذه الطائفة من حيث ظنوا أن الجنة ليست إلا التنعم بالأكل والشرب والنكاح والباس وسماع أصوات طيبة وشم روائح طيبة ، ولم يدخلوا فى مسمى الجنة نعيما غير       ذلك ، فجعلوا يطلبون نعيما أعلى من خلال رؤية الله تعالى        والتنعم بالنظر إليه فسمت إليه همتهم وخافوا فوته .

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( قول أحدهم : ما عبدتك شوقا إلى جنتك أو خوفا من نارك ولكن لأنظر إليك وإجلالا لك ، وأمثال هذه الكلمات مقصودهم بذلك هو أعلى من الأكل والشرب ــــــــــــــــــــــــ

1- اللمع ص 490 .

2- السابق ص 491 .

والتمتع بالمخلوق ، ولكن غلطوا فى إخراج ذلك من الجنة ) (1) .

     ويضيف ابن تيمية تعليلا لهذه الحالة فى مجال الاختيار بين الله وما دونه بأن الصوفى همته المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تفنيه عن نفسه حتى لا يشعر بنفسه وإرادتها ، فيظن أنه يفعل لغير مراده ، والذى طلب وعلق به همته غاية مراده ومطلوبه ومحبوبه ، فكثير من الصالحين والصادقين أرباب الأحوال والمقامات يكون لأحدهم وجد صحيح وذوق سليم ، لكن ليس له عبارة تبين كلامه ، فيقع فى             كلامه غلط وسوء أدب مع صحة مقصوده (2) .

      ويذكر العلامة ابن القيم فى تحقيقه لهذا الأمر أن الخطا نشأ عندهم لأنهم غلطوا فى مسمى الجنة ، فالجنة ليست اسما لمجرد الأشجار والفواكه والطعام والشراب  والحور والقصور والأنهار ، وإنما الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل ، ومن أعظم نعيم الجنة التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم وسماع كلامه وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه ، فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبدا فأيسر يسير من رضوانه أكبر من الجنان وما فيها من ذلك (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية حـ 1 ص 699 .

2- السابق حـ 10 ص 70 .

3- مدارك السالكين لابن القيم الجوزية حـ 2 ص 80 .

  واستدل لذلك بقوله تعالى : { ورضـوان مـن اللـه أكبـر } (1) .

والرضوان فى الآية نكرة فى سياق الإثبات ، أى أىُّ شئ كان من رضاه عن عبده فهو أكبر من الجنة ، يقول ابن القيم بعدها : ( فأى نعيم وأى لذة وأى قرة عين وأى فوز يدانى نعيم تلك المعية ولذتها وقرة    العين بها وهو سبحانه به طابت الجنة وعليه قامت ، فكيف يقال : لا يعبـد اللـه طلبـا لجنتـه ولا خوفـا من ناره ؟ ) (2) .

     وقد دلت نصوص القرآن والسنة على الثناء على عباد الله وأوليائه بسؤال الجنة ورجائها والاستعاذة من النار والخوف منها  .

  • قال تعالى : { إنهم كانوا يسـارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانـوا لنا خاشعين } (3) .
  • وقال سبحانه : { والذين يقولـون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابهـا كان غراما إنهـا ساءت مستقرا ومقاما } (4) .
  • وفى الحديث عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه ــــــــــــــــــــــــ

1- التوبة / 72

2- السابق حـ 2 ص 80 .

3- الأنباء / 90 .

4- الفرقان / 65 : 66 .

  وسلم لرجل : ما تقول فى الصلاة ؟

  فقال : أتشهد ثم أقول : اللهم إنى أسألك الجنة وأعوذ بك من النار ، أنا والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ .

  فقـال صلى اللـه عليه وسلـم : حولها ندندن ) (1) .

  • وفى حديث الملائكة السيارة : ( إن الله تعالى يسأل عن عباده وهو أعلم بهم .

   فيقولون : أتيناك من عند عباد لك يهللونك ويكبرونك  

   ويحمدونك ويمجدونك .

   فيقول عز وجل : وهل رأونى ؟

   فيقولون : لا يارب ما رأوك .

   فيقول عز وجل : وكيف لو رأونى ؟

   فيقولون : لو رأوك لكانوا أشد تمجيدا .

   قالوا : يارب ويسألونك جنتك .

   فيقول : هل رأوها ؟

ــــــــــــــــــــــــ

1- أخرجه أبو داود فى كتاب الصلاة ، باب تخفيف الصلاة برقم (927) وأخرجه ابن ماجه فى كتاب الإقامة ، باب ما يقال فى التشهد برقـم (910) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 3 ص 474 وصحح الألبانى إسناده فى كتابه صفة الصلاة ص 202 .

   فيقولون : لا وعزتك ما رأوها .

   فيقـول : فكيف لو رأوها ؟

   فيقولون : لو رأوها لكانوا لها أشد طلبا .

   قالوا : ويستعيذون بك من النار  .

   فيقول : وهل رأوها ؟

   فيقولون : لا وعزتك ما رأوها .

   فيقول : فكيف لو رأوها ؟

   فيقـولون : لو رأوها لكانوا أشد منها هربا .

   فيقول : إنى أشهدكم أنى قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا 

            وأعذتهم مما استعاذوا ) (1) .

    وقـد قسـم ابن القيـم أصنـاف النـاس فـى هـذا الموضع إلى أربعـة أقسـام :

ــــــــــــــــــــــــ

1- أخرجه البخارى فى كتاب الدعوات ، باب فضل ذكر الله عز وجل رقم (66) وأخرجه مسلم فى كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، باب فضل مجالس الذكر برقم ( 1722 ) وأخرجه الترمذى فى كتاب الدعوات ، باب ماجاء أن لله ملائكة سياحين فى الأرض برقم ، وأخرجه أحمد حـ 2 ص 358 ، 382 والحاكم فى المستدرك حـ 1 ص 495 .

1- من لا يريد ربه ولا يريد ثوابه فهؤلاء أعداؤه حقا وهم أهل      العذاب الدائم وعدم إرادتهم لثــوابه إما لعدم تصديقهم به وإمــا لإيثارهـم العاجل عليه ولو كان فيـه سخطه .

2- من يريده ويريد ثوابه وهؤلاء هم خواص خلقه وهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم أجمعين .

3- من يريد من الله ولا يريد الله فهذا ناقص غاية النقص وهو حال الجاهل بربه ، ويضرب لهذا النوع حال أكثر المتكلمين لأنهم أنكروا رؤيته والتلذذ بالنظر إلى وجهه فى الآخرة ، وأعلى الإرادة عندهم إرادة الأكـل والشـرب والنكاح واللبـاس فــى الجنة وتوابع ذلك .

4- من يريد الله ولا يريد منه فهذا هو زعم بعض الصوفية بأنهم يطلبون الله بلا علة من طمع فى جنة أو خوف من نار (1) .

    ويمكننا تعليل الوجهة الصوفية عند الأوائل لاختيارهم محبة الله على ما سواه من باب حسن الظن الذى ذكره شيخ الإسلام وهو أنهم لا يحسنون الكلام عن مرادهم وإن كان مقصدهم حسنا .

      ذلك التعليل يتمثل فى المفاضلة والاختيار بين أثر من آثار صفات الذات وأثر من آثار صفات الأفعال ، فالجنة مخلوقة بفضل الله ورحمته  ــــــــــــــــــــــــ

1- مدارج السالكين حـ 2 ص 81 ، 82 مختصرا .

  ففى الحديث عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تحـاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين .

 وقالت النار : لا يدخلنى إلا ضعفـــاء النـاس وسقطهم .

 فقال الله للجنـة : أنت رحمتى أرحم بك من أشـاء من عبادى .

 وقال للنار : أنت عـذابـى أعذب بك مـن أشاء من عبادى ولكل       

              واحد منكمـا ملؤها ) (1) .

     فالجنة من آثار صفات الأفعال وهى عندهم باقية بإبقاء الله لها ، أما محبته ورضاه فإنهما يتعلقان بصفات إلهية باقية ببقائه ، فهم أثروا ما يبقى ببقائه على ما يبقى بإبقائه ، من ثم يعتبر الصوفى نفسه قد ارتقى درجة عندما يبتغى بعبادته محبة الله ورضاه وليس فضله وجنته ، فليس بعد الدنيا من دار إلا الجنة وهم آمنوا بوجودها ، ومع ذلك فإنهم أخطأوا

ــــــــــــــــــــــــ

1- والحديث أخرجه البخارى فى تفسير سورة  ق ،  باب قول الله تعالى وتقول هل من مزيد برقم (4850) ومسلم فى كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء برقم (2846) والترمذى فى صفة الجنة  باب ما جاء فى احتجاج الجنة والنار برقم (2561) وأحمد فى المسند حـ 2 ص 450 ، والبيهقى فى الاعتقاد ص 158 وابن منده فى الرد على الجهمية برقم (9) والآجرى فى الشريعة ص 391 .

لأنهم تجاوزوا الخط النبوى .

  • فقول أبى يزيد البسطامى : ( الجنة لا خطر لها عند أهل المحبة وأهل

 المحبة محجوبون بمحبتهم ) (1) .

  • وقوله الآخر : ( إن الله قد أمر العباد ونهاهم فاطاعوه فخلع عليهم خلعة فاشتغلوا بالخلع عنه ، وإنى لا أريد من الله إلا الله ) (2) .

   نقول فيه : يجب أن يتأدب فيه ويقف بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقدم بين يده قولا ولا فعلا ، وإن كان الدافع الذى حمله على اسقاط النظر إلى الثواب والعقاب هو تطلعه إلى الأفضل والارتقاء فى سلم الرضى والمحبة .

    وأيا كان موضوع الاختيار البشرى عند الصوفية الأوائل ، فإنهم جعلوا مجاله محددا بالالتزام بفعل دون آخر وفق توجيه الشرع وتدبير  الله ، كما أن شيوخ الصوفية رفضوا رفضا باتا فكرة الاتحاد بالذات الإلهية وشهودها من خلال القول بالمحبة فى ذات الله ، والأقوال السابقة لمشايخ الصوفية تؤكد أنهم يعنون بحب الذات أو الفناء فى الله فناء الإرادة الإنسانية عند رؤية إرادة الله التشريعية ، وانطلاقا من محبة العبد لربه فإنه يلتزم بأوامر المحبوب ونواهييه قولا وعملا فيكون سلوكه ترجمة ــــــــــــــــــــــــ

1- طبقات الصوفية ص 70 .                  

2- السابق ص 71 .

لرغائب محبوبه ، محفوظا فيما لله عليه مأخوذا عما له وعن جميع المخالفات .

     وعلى الرغم من أن أوائل الصوفية أجمعوا على أن القبيح ما قبحه الله والحسن ما حسنه ، وأن القبيح ما نهى والحسن ما أمر به إلا أن بعضهم انزلق إلى مفهوم يبطل دين الله كليه ويقلب مجال الاختيار الذى شرعه بالأمر والنهى إلى معان كفرية خبيثة ، فإذا كان مشايخ الصوفية قد وقفوا موقفا حازما من القائلين بالحلول والاتحاد فإن الحلاج (1) ومن سار على نهجه قد جعلوا موضوع الاختيار فى المقابلة بين القول بالحلول وبين التحلل من الشرع وانفكاك معانية واضمحلالها ، فجوز ــــــــــــــــــــــــ

1- هو الحسين بن منصور الحلاج يكنى بأبى المغيث ، كان جده مجوسيا اسمه محمى من أهل بيضاء فارس ، نشأ بواسط وقيل بتستر وقدم بغداد فخالط الصوفية وصحب الجنيد بن محمد وأبا الحسين النورى ، وعمرو بن عثمان المكى ، والصوفية مختلفون فيه  رده أكثر المشايخ ونفوه وأبوا أن يكون له قدم فى التصوف وأثنى عليه جماعة منهم وصححوا حاله وجعلوه عالما ربانيا ، مات مقتولا بسبب آرائه سنة 309 هـ انظر تاريخ بغداد حـ 8 ص 112 البداية والنهاية حـ 11 ص 144 ، طبقات الشعرانى حـ 1 ص 126 ، شذرات الذهب حـ 2 ص 233 ، وفيات الأعيان حـ 1 ص 183 ، اللباب حـ 1 ص 330 ، والمنتظم حـ 6 ص 160 ، الفهرست لابن النديم ص 283 ، وأخبار الحلاج لويس ماسينيون وبول كراوس ، باريس سنة 1936م .

الحلاج كفر فرعون  وإبليس وضياع المعانى الشرعية فى مقابل القول بالحلول  فنراه يدافع عن إبليس وفرعون فى عصيانهما الأمر الإلهى  ويرى فيهما مثالا للفتوة الحقة ، بل لقد صرح بأن استاذه هو إبليس وفرعون ، فإبليس لما عصى الله بامتناعه من السجود لآدم ، إنما عصى الأمر لأنه أبى أن يسجد إلا لله .

    ولما قال الله لإبليس : لأعذبنك عذاب الأبدية .

    قال له إبليس : أو لست ترانى فى تعذيبك إياى .

    قال : بلى .

    قال : فرؤيتك إياى تحملنـى على عـدم رؤية العــذاب (1) .

     فهو ينسى عذابه لحلول الحق فيه ، وكان إبليس فى نظر الحلاج مجيبا لله لا عاصيا له لأن إبليس قد رأى فى جحوده للأمر          تقديسا للآمر (2) .

  يقول الحلاج : ( إن لم تعرفوا الله فاعرفوا آثاره ، وأنا ذلك الأثر وأنا الحق لأننى ما زلت أبدا بالحق حقا ، فصاحبى وأستاذى إبليس وفرعون ، فإبليس هــدد بالنار وما رجع عن دعواه ، وفرعون أغرق

ــــــــــــــــــــــــ

1- الطواسين للحلاج نشره الأستاذ لويس ماسينيون ص 12 طبعة باريس سنة 1913 م

2- من قضايا التصوف فى ضوء الكتاب والسنة ص 105

فى اليـم وما رجـع عـن دعواه وإن قتلت أو صلبت أو قطعت يداى ورجلاى ما رجعت عن دعواى ) (1) .

  وثبت عنه أنه قال (2) :    

        أنا من أهوى ومن أهوى أنا     :     نحن روحان حللنا بدنـا

        فـــإذا أبصــــرتنى أبصــــرتــه     :     وإذا أبصـرتــــــه أبصــــرتنـا  

  وقريب من فعل الحلاج ما يروى عن بعض الصوفية كأبى الحسين النورى فى تفضيله نباح الكلب على تكبير المؤذن .

  فلما سمع المؤذن دعا عليه قائلا : طعنة وشم الموت .

 وسمـع نبـاح الكلاب فقال : لبيك وسعديك .

  لل ذلك فقال : أما المؤذن فأنا أغار عليه أن يذكر الله وهو غافل   يأخذ عليه الأجرة ، ولولا الأجرة من حطام الدنيا التى يأخذها لما ذكر الله ، فلذلك قلت له : طعنة وشم الموت .

  وقد قال الله تعالى : { وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الطوسين ص 51 ، 52 .

2- المنتظم حـ 6 ص 162 ، تاريخ بغداد حـ 8 ص 129 .

3- الإسراء / 44 .

     فالكلب وكل شئ يذكرون الله بلا رياء ولا سمعة ولا طلب للعــوض (1) .

     وفى هذا الكلام وأمثاله ضياع لمعانى الكتاب والسنة فالمخلوقات تسبح بواقع الربويية ولا اختيار لها فى قبول التسبيح أو رفضه لأنها اختارت بداية قبول الطاعة الدائمة كما دلت آية الآمانة فى سورة الأحزاب فلا تكليف عليها :

   قال تعالى : { ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أوكرها قالتا أتينا طائعين } (2) .

    أما الإنسان فهو حامل للأمانة مستخلف فى الأرض مريد حر مكلف باتباع الشرع على سبيل الابتلاء ، فلا بد من السعى والمجاهدة والحفاظ على الأمانة بأدائها .

    وإذا كان المؤذن يؤدى ما أوجب الله عليه ولو تقاضى أجرا وكان جزاؤه الإعدام من وجهه نظر النورى فأى معنى للشريعة يبقى مع هذا الاعتقاد الفاسد .

      ولا شك أن هذه الأقوال فتحت الباب للقول بوحدة الوجود وغيره من الفلسفات التى شوهت صورة الأوائل من الصوفية .

ــــــــــــــــــــــــ

1- اللمع ص 492 .

2- فصلت / 11 .

    وخلاصة الأمر أن أغلب المشايخ من الصوفية الأوائل جعلوا موضع الاختيار ما ذكره الله فى كتابه من وعده بالجنة ووعيده بالنار ، وأن مجال الاختيار يتمثل فى الالتزام بالأحكام التشريعية ممثلة فى الأوامر والنواهى التكليفية ، وحتى الذين جعلوا محبة الله فى مقابل التضحية بكل شئ فهم وإن أخطأوا فى ذلك إلا أنهم لم يجوزوا الخورج عن مجال الأحكام الدينية ودعوا إلى الالتزام بالسنة .

  • الاثنين PM 04:36
    2021-08-16
  • 1023
Powered by: GateGold