المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413312
يتصفح الموقع حاليا : 318

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629120611312.jpeg

دوافع الإرادة وبواعثها عند الصـوفيـة

وصلنا مما سبق إلى أن أوائل الصوفية اتفقوا على إثبات الإرادة الإنسانية حرة وأصيلة فى ذات الإنسان ، ومن الأمور التى ينبغى ذكرها إظهارا لمفهوم الحرية من الناحية الاعتقادية عند أوائل الصوفية ، تأصيل الدوافع التى تسبق الإرادة وأثرها عليها ، تلك الدوافع التى أجاد الصوفية فى إبرازها تحت تفصيلهم للخواطر وتحليلها .

    فمن مقومات الحرية عندهم وجود الإرادة الحرة بين نماذج مزدوجة من الخواطر ، إما أنها تهيئ الإنسان إلى فعل الخير أو المفاضلة بين أنواعه  وإما تحضه على فعل الشر أو المفاضلة بين أنواعه .

     وقد أفرد أبو طالب المكى فصلا مستقلا لتفصيل هذه الخواطر فى كتابه قوت القلوب واستدل لها بقوله تعالى : { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } (1) .

    يقول المكى مبينا المعنى : ( أى ألقى فيها وقذف فيها ) (2) .

وهذه الخواطر مبنية عند أوائل الصوفية على ركنين اثنين هما :

   [1] - وجود نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين :

ـــــــــــــــــــــــ

1- الشمس / 7، 8 .

2- قوت القلوب حـ 1 ص 113 ، وانظر الرسالة حـ 1 ص 393 .

أحدهما : يسمونه بالروح وهى عندهم نازع الخير ومكنه ومستقره وبأثرها تظهر التقوى وتظهر فطرته المؤمنة الموحدة .

والثانى : النفس وهى مكمن الشهوات ومستقرها ونازع الشر فى الذات الإنسانية وبأثرها يظهر الفجور (1) .

    ولقد سبق القول بأن اهتمام أوائل الصوفية بجانب النفس أعظم من عنايتهم بجانب الروح والتقوى ، وذلك بهدف البعد عن الغرور وإنكار الذات والرجوع بالفضل إلى الله تعالى ، غير أنهم ركزوا على الخواطر ومتابعتها ومعرفة بواعثها ومنابعها ، ليتمكنوا من الثبات على الطريق   فنازعا الخير والشر حظيا باهتمام بالغ لديهم .

    والصوفية الأوائل يعتبـرون صفاء الروح ومخالفة النفس هما رأس التصوف والعبادة (2) .

    فالصوفى عندهم هو الذى تحررت روحه من كدورة البشرية ، وصفت من الآفات النفسية ، وخلصـت من الهوى .

     يقــول أبو الحسين الـنــورى : ( التصوف ترك كل حظ للنفس  والصوفية هم الذين صفت أرواحهم فصاروا فى الصف الأول بين ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر التصوف طريقا وتجربة ومذهبا د. كمال جعفر ص 98  بتصرف . 

2- انظر التصوف فى الإسلام د. عبد اللطيف محمد العبد ص 75 .

 

يدى الحق ) (1) .

    ويقرر سهل بن عبد الله أن مصدر التقوى والخير فى الإنسان هو روحه ومصدر الشر والهوى نفسه وكل منهما ينقسم إلى مراتب ودرجات خاصة ، وهو لا يعنى بتقسيم النفس أو الروح تجزئتهما ، بل يعنى فقط وجود درجات فى نطاق الوحدة لكل منهما ، فالنفس واحدة ولكن لها درجات والروح واحدة ولكن لها درجات (2) .

    وهذان النازعان عند أوائل الصوفية من دوافع الإرادة المؤثر فى سلوكها ويشكلان ملتقى الخواطر التى تجول فى داخل الإنسان ، يقول المحاسبى : ( فاعرف نفسك فإنك لم ترد خيرا قط ، مهما قل إلا   وهى تنازعك إلى خلافة ولا عرض لك شر قط إلا كانت هى   الداعية إليه ، ولا ضيعت خيرا قط إلا لهواها ، ولا ركبت        مكروها قط إلا لمحبتها ، فحق عليك حذرها لأنها لا تفتر عن ــــــــــــــــــــــــ

1-  كشف المحجوب ص 232 ، وانظر الرسالة حـ 1 ص 393 والنورى هو أحمد بن محمد أبو الحسين النورى بغدادى المنشأ والمولد خرسانى الأصل توفى سنة 295هـ   انظر فى ترجمته ، تاريخ بغــداد حـ 5 ص 93 ، البداية والنهاية حـ 11 ص 106  المنتظـم حـ 6 ص 77 ،  صفة الصفوة حـ 2 ص 294 ، طبقات الشعرانى حـ 1 ص26 ، حلية الأولياء حـ 10 ص 294 .

2- من التراث الصوفى لسهل بن عبد الله التسترى د.كمال جعفر ص 236 .

 

الراحة إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة ) (1) .

[2] - الركن الثانى الذى يسهم فى تشكيل الخواطر عند الصوفية هو إيمانهم بوجود هاتفين يهتفان للإنسان بفعل الخير أو فعل الشر لحظة الاختيار :

1- هاتف يهيب به أن يفعل الخير ويزينه له ويسمى عندهم بالملك .

2- هاتف يزين للإنسان أن يفعل الشر ويحضه عليه ويسمى عندهم بالعدو أو الشيطان .

    والروح والنفس فى ذات الإنسان هما النازعان المقابلان لهذين الهاتفين من حيث اتفاق الروح مع الملك فى الدعوة إلى الخير واتفاق النفس مع العدو فى الدعوة إلى الشر .

   يقول المكى فى وصف النازعين والهاتفين فى القلب : ( فمن السواء والتعديل والازدواج والتقويم ، أدوات الظاهر وأعراض الباطن وهى حواس الجسم والقلب ، فأدوات الجسم هى الصفات الظاهرة وأعراض القلب هى المعانى الباطنة ، قد عدلها الله بحكمته وسواها ـــــــــــــــــــــــ

1- الرعاية لحقوق الله ص 261 وانظــر الصدق لأبى سعيد الخراز فى توافقه مع المحاسبى ص 25 ، 26 .

 

على مشيئته وقومها اتقانا بصنعته ، أولها النفس والروح وهما مكانان للقاء العدو والملك وهما شخصان ملقيان للفجور والتقوى ) (1) .

    ويستند المكى إلى الدليل الشرعى فى إثبات الهاتفين فيستدل بقوله صلى الله عليه وسلم : 

     ( ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة ، قالوا : وإياك يارسول الله ؟ قال : وإياى  لكن الله أعاننى عليه فأسلم فلا يأمرنى إلا بخير ) (2) .

    وبقوله : ( إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاذ بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاذ بالخير وتصديق بالحق  فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله تعالى فليحمد الله ، ومن  وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ) (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- قوت القلوب حـ 1 ص 114 ، وانظر كتاب الصدق ص 27 .

2- السابق حـ 1 ص 114 ، والحديث أخرجه مسلم فى كتاب صفات المنافقين  باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنــة الناس برقم  (2814) وأحمــد فى المسند حـ 1 ص 385 ، والـدارمى فى سننه حـ 2 ص 306 ، والبخارى فى التاريخ الكبير حـ 4 ص 239 .

3- السابق حـ 1 ص 114 والحديث أخرجه الترمذى فى كتاب التفسير حـ3 ص104 والهيثمى فى مجمع الزوائد حـ 8 ص 225 وأخرجه الطبرانى فـى الكبير برقم (7223) .

  وهذان الهاتفان كما دل الحديث ليس لهما جبر أو ضغط على الإرادة فى الإنسان فلا يلزمانها بفعل معين دون آخر ، وإنما دورهما فقط يكمن فى الإيعاذ والوسوسة والدعوة إلى فعل معين دون آخر .

     أما الإرادة فهى التى تمضى الفعل وتحرك الجسد ، يقول المكى : 

   وروينا عن الحسن رحمه الله أنه قال : ( إنما هما همان يجولان فى القلب ، هم من الله تعالى وهم من عدوه ، فرحم الله عبدا وقف عند همه فما كان لله أمضاه وما كان من عدوه يجاهده ) (1) .

    فالدور الذى يثبته أوائل الصوفية للشيطان هو الوسوسة فقط ، ومن ثم نرى عندهم تفسيرا مقبولا لعبودية الإنسان للشيطان من خلال اتباعه لما يطرحه من أفكار ، وبهذا أيضا يظهر سلطان الشيطان عليه .

    وقلما يخلو تراث أوائل الصوفية بوجه عام من وصف الحذر من العدو والطريقة المثلى فى مقاومته ، وقد أجاد المحاسبى فى عرضه مجموعة من الأبواب لتحليل الحـذر من العدو (2) يظهر من خلاصتها أن هذه الأفكار والوساوس التى يطرحها الشيطان إنما هى ابتلاء      للعبد يجب عليه أن يردها ما استطاع وأفضل طريق لذلك هو الاشتغال بذكر الله .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 115.

2- انظر الرعاية لحقوق الله ص 150 وما بعدها .

    يقول المحاسبى فى وصف أفضل طريق يمكن الإنسان من القضاء على نوازع العدو وخطراته : ( فهم فى الاشتغال بربهم دائبون ، وبالحذر إذا عرض الخاطر متيقظون ، وبقوة الاشتغال بالله يسهل عليهـم فحص الخواطـر إذا عرضـت بفتنة ، فسلمـوا أو غنمـوا واتبعــوا واستقاموا ) (1) .

* التفاعل بين النازعين والهاتفين وعلاقة ذلك بالإرادة :

    ويرى الباحث فى تراث أوائل الصوفية مدى التفاوت والتفـاعل بين النـوازع والخواطر وعلاقتها بالإرادة :

     فتارة تختلف اللمتان من الملك والعدو ويتفاوت الإلهام والوسوسة فى طرح معانى الخير والشر ، فلربما تقدمت لمة العدو بالأمر بالشر وتقدح بعدها لمة الملك نصرة للعبد وتثبيتا على الخير وعناية من الرب تعالى فينتهى عن ذلك وعلاقة ذلك بالإرادة أنه يجب على العبد أن يعصى الخاطر الأول ويطيع الخاطر الثانى .

     ولربما تقدم إلهام الملك بالأمر بالخير ثم يقدح بعده خاطر العدو بالنهى عنه والتثبيط فيه بالتأخير ، محنة من الله تعالى للعبد لينظر كيف يعمل وحسدا من العدو ، فعليه أن يطيع الخاطر الأول ويعصى      الخاطر الثانى .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 163 .

     ثم تدق الخواطر من إلهام الملك بالخير ومن وسوسة العدو بالشر  وقد يتفاوت ذلك من ضعف خاطر الخير لقوة الرغبة فى الدنيا ، ومن قوة خاطر الشر لقوة الشهوة والهوى ، وفى المزيد والنقص منهما والتقديم والتأخير بهما لتفاوت الأحكام والإرادة من الحاكم (1) .

   ويتساءل المحاسبى عما إذا كان الشيطان يعلـم ما تحدث به النفس فيعارضــها بالصــد عن الخير ؟

    ويقرر أن الشيطان طالت مقارنته للإنسان وتفقده لأحواله ، حتى لم يخف عليه حاله فعرف مطالبه ومذاهبه فعند كل خير صده عنه ، هذا من غير علم منه بما يحدث غير أنه علم أن خيرا قد أحدثه العبد وكذلك يعلم أن شرا قد أحدثه لا يعلم أى خير ولا أى شر (2) .

     ويرى المكى أن خلق الإنسان بازدواجية فى الخواطر ووجود الإرادة الحرة بينهما وتركيبه بهذا الوضع أية من آيات الله الكونية تدل على حكمته سبحانه وتعالى فى تعديل الإنسان بما يحقق الغاية من خلقه وابتلائه فى الدنيا ، ويستدل المكى لذلك بقوله تعالى : { يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذى خلقك فسواك فعـدلك فى أى صــورة ما

ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر تفصيل ذلك فى قوت القلوب حـ 1 ص 122 : 125 .

2- انظر تفصيل ذلك فى أعمال القلوب والجوارح للحارث المحاسبى ص 80 : 83 

 

شاء ركبك } (1) .

   وبقــوله : { لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم  } (2) .

   فكانت صورة التعديل والتقويم عند المكى أن جعل الله زوجين من الخواطر كبواعث للإرادة الإنسانية فى حثها على تحريك البدن إلى الطاعة أو المعصية .

    ونجد لسهل بن عبد الله التسترى تحليلا للعلاقة بين الإرادة وبواعثها فى إظهار التوفيق الربانى للعبد المؤمن أو الإضلال الذى لا ينافى عدله سبحانه وتعالى ، فيقرر أنه إذا كانت هذه الخواطر عن أواسط الهداية  وهى الملك والروح ، كانت تقوى وهدى ورشدا وكانت من خزائن الخير ومفتاح الرحمة قدحت فى قلب العبد نورا أدركه الحفظة ، وهم أملاك اليمين فأثبتوها حسنات .

وإن كانت الخواطر عن أواسط الغواة وهم العدو والنفس كانت فجورا وضلالا ، وهى من خزائن الشر ومعالق الأعراض قدحت فى القلب ظلمة ونتنا أدرك ذلك الحفظة من أملاك الشمال فكتبوها سيآت  .

   وكل هذا إلقاء من خالق النفس ومسويها وجبار القلوب ومقلبها حكمة منه وعدلا لمن شاء ، ومنة وفضلا لمن أحب كما قال : { وتمت

ــــــــــــــــــــــــ 

1- الانفطار / 6 : 8 .

2-  التين / 4 .

 كلمة ربك صدقا وعدلا  } (1) أى بالهداية صدقا لأوليائه ما وعدهم من ثوابه وبالإضـلال عدلا علـى أعدائه ما أعد لهم من عقابه (2) .

    ويبين سهل بن عبد الله أن الله إذا أراد إظهار شئ من خزائن الغيب حرك النفس بلطيف القدرة فتحركت بإذنه فقدح من جوهرها بحركتها ظلمة تنكت فى القلب همة سوء ، فينظر العدو إلى القلب وهو مراصد ينتظر والقلوب له مبسوطة والنفوس لديه منشورة يرى ما فيها وما كان من عمله المتبلى به المصرف فيه ، فإذا رأى همة قدحت فى النفس فأحدثت ظلمة فى القلب ظهر مكانه فقوى بذلك سلطانه (3) .

   والهمة عند التسترى ترد على واحــد من ثلاثة معـان لا تحصى فروعها لأن هـم العبد على قـدر بغيته :

1- هوى وهو عاجل حظ النفس .

2- أمنية وهذا عن الجهل الغريزى .

3- دعوى حركه أو سكون وهو آفة العقل ومحبة القلب .

   فأى هذه الثلاثة قدح فى القلب فهو وسوسة نفس وحضور عدو ترد بأحد ثلاثـة أصـول بجهـل أو غفلـه أو طلـب فضــول دنيـا ، والأفضـل ــــــــــــــــــــــــ

1-  الأنعام / 115 .

2- من التراث الصوفى ص 172 ، وقوت القلوب حـ 1 ص 123 .

3- من التراث الصوفى ص 175 .

عنـده مجـاهـدة النفس والعـدو عن إمضائها وحبس الجـوارح عن السعى فيها ، فإن أمرح قلبه فى ذكرها أو نشر خطـواته فى طلبها ، كن حجابا بين قلبه وبين اليقين ، وإن كن وردن بمباحات فالأفضل له أن ينفيها عـن قلبه كيلا يكـون قلبه موطنا للغفلات ، كل ذلك يندرج عند سهل بن عبد الله تحت أصل كبير هو الابتلاء من الله تعالى بالتقليب والامتحان منه فى التصريف .

    ويفسر لنا هذا الصوفىكيف يريد الله تعالى سلامة هذا العبد الذى أشرف على الهلاك والبعد بتسليط العدو عليه وتسويل النفس له فيقول :

   ( فيطهِّر القلب عند الابتلاء ويهدى النفس بنور إيمانه إلى الله  تعالى ويسر الالتجاء إليه ويخفى التوكل عليه عائدا لائذا مخلصا       له ، فهناك توكل عليه فكان حسبه وعندها فوض الأمر إليه فوقاه   الله مكر عدوه وجعل له مخرجا ونجاة ، فينظر الله تعالى إلى       القلب نظرة تخمد النفس وتمحق الهمة وتخنس العدو لسقوط       مكانه ، وتذهب لخنوسه شدة سلطانه ، فيصفوا القلب بقوة القهار العزيز الجبار ، فيخاف العبد مقام الرب ويفزع من الخطيئة ويهرب منها ويستغفر الله ويتوب ) (1) .

   وفى المقابل يبين سهل بن عبد الله فى تحليل عميق أن الله تعالى إذا ــــــــــــــــــــــــ

1- من التراث الصوفى ص 174 ملخصا ، وقوت القلوب حـ 1 ص 124 .

أراد إظهار خير وإلهام تقوى من خزائن الملكوت حرك الروح وهى نازع الخير فيه بخفى اللطف فتحركت بأمره جلت قدرته ، فقدح من جوهرها نور سطع فى القلب فأنتج همة عالية .

    وكما قسم الهمة فى الشر إلى ثلاثة أقسام قسم همة الخير فى المقـابل كـذلك لأن همة كل عبد فى الخير عنده والتى هى مبلغ علمه ومنتهى مقامه ثلاثة أنـواع :

      1- مسارعة إلى أمر بفرض أو ندب لفضل يكون عن عمل فى حال العبد .

      2- علم يكون فطنة له ظهر عليه من مكاشفة غيب من ملك أو ملكوت .

      3- تحمل مباح من تصرف يعود صلاحه عليه واستراحة النفس بما أبيح له يكون نفعه لغيره أو ما يباح من ترويحات من الأفكار لقلبه الغائص فى البحار يكون تخفيفا لكربه .

     فهذه مرافق للعبد باختيار من المعبود وحكمة من الحكيم ، وفى كلها رضاه سبحانه وتعالى ، ويرى التسترى أن إمضاءها أفضل للعبد  وبعضها أفضل من بعض (1) .

   ثم يقول التسترى : ( وهذه الأصول الستة من الخير والشر هى ـــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 176 .

الفرق بين لمة الملك وبين لمة العدو ، وبين إلهام التقوى وإلهام الفجور التى هى النية والوسوسة وهما الاختيار و الاختبار ، ويتفاوت العباد فى مشاهدتها على حسب علوهم فى اليقين ) (1) .

   وعلى الوتيرة نفسها قسم أبو طالب المكى بواعث الإرادة من الخواطر إلى ستة أقسام :

1- خاطر النفس وخاطر العدو وهذان لا يعدمهما عموم المؤمنين وهما مذمومان محكوم لهما بالسوء ولا يردان الا بالهوى وضد العلم

2- خاطر الروح وخاطر الملك وهذان لايعدمهما خصوص المؤمنين وهما محمودان لايردان إلا بحق وبمادل عليه العلم .

3- خاطر العقل وهو متوسط بين هذه الأربعة :

    ا ــ يصلح للمذمومين فيكون حجة على العبد لما كان من تمييز العقل وتقسيم المعقول ، لأن العبد يدخل فى هواه بشهوة جعلت له ، واختيار لايعسر عليه من حيث لايعقل و إجبار .

    ب ــ ويصلح أيضا للمحمودين فيكون شاهدا للملك ومؤيدا لخاطر الروح  ويثات العبد على حسن النية وصدق المقصد .

   ويبن المكى أن خاطر العقل إنما كان مع النفس تارة ومع الملك تارة أخرى حكمه من الله تعالة لصنعه وإتقانا لصنعه ليدخل العبد فى الخير ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 176 .

    والشر بوجود معقول وصحة شهود وتمييز، فيكون عاقبة ذلك من الجزاء والعقاب عائدا له وعليه ، فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان مكانا لجريان أحكامه ومحلا لنفاذ مشيئته فى مبانى حكمته .

4- خاطر اليقين وهو روح الإيمان والعمل الذى يحرك الإرادة على الطاعة والاستجابة كمحصلة للخواطر الإيمانية المتقدمة (1) .

    لقد بلغ تفصيل الخواطر التى تسبق الإرادة عند أوئل الصوفية حدا يوحى بمدى الفهم الدقيق للقدر وعلاقته بحرية العبد واختياره ، ذلك لأنهم حللوا بواعث الإرادة بدرجة توجب الحذر من كل صغير أو كبير تعن فى القلب من هداية وتوفيق أو إضلال وخذلان يُبتلى من خلالها الإنسان ، يقول المكى :

     وهذ كله كشف لعلم الله تعالى وإنفـاذ لمشيئته وهـو الابتلاء بالأسباب فالعدو يصير سببا لقوله تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين } (2) .

ثم أحكم ذلك بسابق علمه فقال : { وماكان له عليهم من سلطان } يعنى بحوله وقوته ومشيئته { إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة مـمن هو ــــــــــــــــــــــــ

 1- انظر قوت القلوب ملخصا حـ1 ص 114 ، 115 .

2- سبأ / 20 .

 

منهـا فى شك } (1) أى لنرى .

وقيل : لنعلم العلم الذى يجازى عليه بالصواب والعقاب .

وقيل : لنخبر ونكشف (2) .

 * كيفية التعرف على مصدر الخواطر :

   ويعرض المكى أيضا فى تفصيل رائع كيف يمكن للإنسان أن يفرق بين أنواع الخواطر ومصادرها والسلوك الأمثل حيالها من قبل الإرادة ويحصر ذلك فى التقسيم فيما يلى :

[1] - ما كان من لائح يلوح فى القلب من معصية ثم يتقـلب فلا يثبـت فهـذا نزغ من قبل العدو .

[2] - ما كان فى القلب من هوى ثابت أو حال مزعج دائم لابث  فهو من قبل النفس الأمارة بطبعها أو مطالبة منها بسوء عادتها .

[3] - ما ورد على العبد من همه بخطيئة ووجد العبد فيها كراهيتها فالخاطر مركب :

     ا ــ الورود من قبل العدو .

    ب ــ والكراهية من قبل الروح والإيمان .

[4] - ما وجد من هوى أو معصية ثم ورد عليه المنع من ذلك فالخاطر مركب أيضا :

    ا ــ الهوى من قبل النفس .

   ب ــ المنع من قبل الملك .

[5] - ما وجده عن خوف أو حياء أو ورع أو زهد وما شهده من تعظيم وهيبة وإجلال فهذا كله من إرادة اليقين وهو من مزيد الإيمان (1) .

    ثم يقول المكى بعد ذلك : ( فما كان منها من نية وعزم ، كان محسوبا للعبد فى باب النيات مكتوبا له فى ديوان الإرادة له بها حسنات ، وما كان منها من الشر نية وعقدا وعزما فعلى العبد فيه مؤاخذة من باب أعمال القلوب ونيات السوء وعقود المعاصى ) (2)

* شكل توضيحى لبواعث الخواطر عند الصوفية :

 

الروح                       الـمـلك                     نجد الخير

                                                                           

                                                                                   

              العقل                           الإرادة

                                                                                    

                                                                               

النفس                      الشيطان                  نجد الشر

 

ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر السابق حـ 1 ص 127 ملخصا . 

2- انظر السابق حـ 1 ص 127 .

    نخلص من جملة ما سبق فى هذا المبحث إلى القول بأن أوائل الصوفية أثبتوا وجود بواعث للإرادة يقلبها الحق سبحانه وتعالى كيف يشاء تثير الإرادة وتهيؤها للفعل دون إجبار أو إلزام بفعل دون آخر ، وهذه ممثلة فى وجود نازعين متقابلين هما محل التقوى والفجور ، وهاتفين يهتفان له فى كل وقت ، أحدهما هو العدو أو الشيطان بوعده الكاذب من ناحية ، والثانى هو الملك ووعد الله الحق من ناحية أخرى ، وكل ذلك ثابت بدليل النقل ، كما أكدوا رفع أى سلطان أو قهر على الإنسان لحظة الاختيار وإجابته للدواعى الداخلية إلا سلطان الإرادة الذى يتربع الإنسان على عرشه ، فهى كما تقدم الفيصل فى تحريك البدن إلى ما يلحقه من ثواب أو عقاب .

    وهم بذلك يضعون الشيطان فى موضعه الصحيح ويفسرون كيف أنه لا سلطان له إلا على أوليائه من خلال متابعتهم لأوامره ؟ تحقيقا لقول الله تعالى فى شأنه : { وقال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخى إنى كفرت بما أشركتمونى من قبل إن الظلمين لهم عذاب أليم } (1) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- إبراهيم / 22 .

  ويفسرون كيف يعبد الهوى باتباع الإرادة لدوافعه ؟ تحقيقا لقول الله تعالى فى شأنه :

    { أفـرأيت مـن اتخذ إلهه هواه وأضله الـله على علـم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الـله أفلا تـذكـرون } (1) .

    وكيف يقلب الله القلوب ولا يتنافى ذلك مع عدله فى تحقيق العقاب على المسئ ؟ .

 

 

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــ

1- الجاثية / 23 .

 

  • الاثنين PM 04:30
    2021-08-16
  • 1451
Powered by: GateGold