المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413978
يتصفح الموقع حاليا : 288

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629119759748.jpg

مراتب الإيمان بالقدر عند مشايخ الصوفية

سبق أن الصوفية يؤسسون مفهوم القدر على صفات الله المطلقة وإفراده بالربوبية والخلق والتدبير , وفى هــذا المطلب يـدور البحث حول المراتب المتدرجة التى بهـا يكون السبيل لظهور الأشياء أو العالـم إلى الوجـود .

   وهنا نجد أن أوائل الصوفية سلكوا طريقا يعتمد على الأدلة القرآنية والأحـاديث النبــوية إيزاء هذه القضية ، فالشيخ الكبير سهـل بن عبد الله التسترى يقرر فى مراتب الإيمان بالقدر أنها تبدأ بالعلم ثم الكتاب ثم القضاء والقدر،ولا يخرج الخلق من القدر ، والعلم الأصل لا يخرج منــه أحد ، والكتاب فيه يمحو ما يشاء ويثبت ، والقضاء هو الحكم الذى يثبت ، والقدر إظهــاره فى الخلق (1) .

[1] - فأول هذه المراتب التى ذكرها سهل بن عبد الله التسترى هى العلم ويقصد به علم الله الذى أنشأ فيه المخلوقات فى الأزل ، فهو العلم المحيط الشامل بكل شئ من الموجودات ، وعلم ما كان وما يكـون من الخلق قبل أن يخلقهـم وعلمه تعالى بأرزاقهم وآجالهـم

ــــــــــــــــــــــــ

1- التصوف طريقا ومذهبا وتجربة للدكتور محمد كمال جعفر ص 276 نقلا عن الشرح والبيان لما أشكل من كلام سهل لأبى القاسم الصقلى مخطوط رقم 727 كوبرولو بتركيا  ص 211  أ .

وأحوالهـم وأعمالهم فى جميع حركاتهم وسكناتهم وعلمه تعالى بأهل الشقاوة والسعادة أو أهل الجنة والنار (1) .

   والعلم عنده صفة ذاتية لله سبحانه قديمة أزلية وباقية ببقائه ، والمشيئة عنده تلى العلم فهى أقرب صفة من الذات بعد العلم ومن ثم فهى مرتبة تلى العلم (2) بيدأ أن العلم والمشيئة سران لله عز وجل لا يطلع عليهما أحد من خلقه ولا يوجد شئ مطلق خارج العلم المحيط ولا يقع أى شئ إلا بالمشيئة المطلقة ، وهما سران لأنهما صفتان قديمتان للذات .

    قال سهل بن عبد الله  : ومعنى { رب العالمين }  سيد الخلق المربى لهم والقائم بأمرهم ، المصلح المدبر لهم قبل كونهم وكون فعلهم  المتصرف لهم لسابق علمه فيهم كيف شاء لمـا شاء ، وأراد وحكم وقدر وشرع من أمر ونهى لا رب لهم غيره (3) .

    ويلى العلم والمشيئة ، الإرادة والقدرة وهما ليسا سرين كالعلم والمشيئة لأنهما من صفات الأفعال ، ولذلك فإن آثارهما وما يتم بهما ظاهر فى الوجود فهما علنيان باديان ، بيد أن ثمة فرق بينهما وهو أن

ــــــــــــــــــــــــ

1- تفسيرالقرآن العظيم لأبى محمد سهل بن عبد الله التسترى ص 16 طبعة ،  دار الكتب العربية الكبرى مصر ص 113 .    

2- السابق ص 9 .

3- السابق ص 7 وانظر الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله للحارث بن أسد المحاسبى ص 31 .              

الإرادة تسبق القدرة فى الأثر لا فى الوجود (1) .

[2] - المرتبة الثانية  لظهور الأشياء إلى الوجود هى الكتابة ، وفيها تسجل الأحكام الصادرة بمشيئة الله فى الكتاب وعند ذلك يتم القضاء الغيبى الـذى يتحول بالخلق والإنشاء إلى قدر ، فالأحكام الإلهية الصادرة بمقتضى المشيئة هى ما دون فى الكتاب وهو مظهـر للإرادة ، وهذه الأحكام قابلة للمحو والإثبات لا من حيث ذاتيتها ولكن من حيث وسائل تنفيذها واتخاذها المكان المناسب للظهور ولا يكون التغيير فى قدر الله تعالى حيث يتحدد القدر بالعلم والمشيئة وهما صفتان للذات فلا يجوز التغيير فيهما (2) .

   سئل سهل بن عبد الله عن معنى قوله تعالى : { وإياى فاتقون } قال : أراد بذلك وصولهم إلى موضع علمه السابق فيهــم ، لعمرى إن المعرفة أدرجت فى أوطــانها ليجرى عليهم ما كان من علم الله سابقا فيهـم ، فلا بد من إظهاره على أوصافه ) (3) .  

     فالقضاء والقدر بعد الإرادة ، والمحو والإثبات يكون فى التدوين  ومن ثم يكون سبيل ظهور الأشياء فى الوجود أو خروجها إليه متدرجا بحيث يبدأ بالعلم ثم الكتاب ثم القضاء والقدر .

ــــــــــــــــــــــــ

1- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 725 .

2- السابق ص 725 وانظر فى معنى كلام  التسترى  قوت القلوب حـ1 ص127.

3- التفسير،  لسهل بن عبد الله ص 12 .

   ويستدل المكى على هذه العقيدة السابقــة بالأدلــة النقلية ويـورد الآيات التــى تــدل علـى العلـم السـابق كقوله تعالى :

   { قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السموات والأرض وأعلم     ما تبدون وما كنتم تكتمون } (1) .

  ثم يقول بعدها :

   ( وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : سبق العلم وجف القلم وقضى القضاء وتم القدر بالسعادة من الله تعالى لأهل طاعته وبالشقاء من الله تعالى لأهل معصيته ) (2) .

   كما يستدل التسترى بقوله تعالى : { كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون  } (3) على أنه إذا كان فى علمه السابق الأزلى أمر قضاه فأراد إظهاره فى القدر قال له كن فيكون يضيف قائلا (4) :

ـــــــــــــــــــــــ

1- البقرة / 33 .

2- قوت القلوب حـ 1 ص 126 ، والحديث ثابت بمعناه وبألفاظ أخرى كثيرة  انظر صحيح البخارى كتاب الجنائز ، باب موعظة المحدث عند القبر حـ 2 ص 120 ومسلم فى كتاب القدر ، باب الخلق برقم  (2647) والترمذى فى كتاب التفسير  باب من سورة الليل برقم  (3341) وابن ماجه فى المقدمة ، باب القدر برقم (78) والنسائى فى كتاب الجنائز ، بـاب الصـلاة علـى الصبيان حـديث رقم (1949) .

3-آل عمران / 47 .

4- تفسير القرآن لسهل بن عبد الله ص 25  .

  قضى قبل خلق الخلق ما هو خالق  :  خـــلائق لا يخفــى عليـه أمورها

  هواهــا ونجواهــا ومضمر قلبهـا  :  وقبل الهوى  ماذا  يكون  ضميرها

1- فالعلم هو الأصل الذى لا يخرج منه أحد ولا يخالف فى الكون حادث فكل ما هو كائن وما سيكون مطابق لما فى العلم .

2- وأما الكتاب فهو ما يسجل فيه العلم  ، وما يتم من محو وإثبات فهو فى علم الله  الشامل ومدون فى الكتاب أنه سيمحى أو سيثبت .

3- وأما القضاء فهو الذى يثبت بعد مرحلة المحو والإثبات ويستصدر منه الحكم الإلهى فى تكوين شئون المخلوقات .

[4] - أما القدر فهو إظهاره فى الخلق حيث أن العلم والمشيئة هما أصل القضاء والقدر فإن الله  يخلق ما يشاء ويختار ، فيخص البعض بالفضل دون البعض ، ويصطفى فى الخلق من مخلوقاته وعباده من يشاء دون أن يكون من العبد سبب ، لكى يعرف هذا الفضل  ويدعوا هذا حتى يتفضل عليه بما تفضل على غيره وإذ أعطى الله عبدا ولم يعط أخر فليس هذا ظلما منافيا للعدل الإلهى لأنه لم يمنعه شيئا هو له (1) .

ـــــــــــــــــــــــ  

1- التصوف طريقا ومذهبا وتجربة ص 276  .

    ويذكر الدكتور جعفر فى كتابه التصوف أن أوائل الصوفية وعلى رأسهم سهل بن عبد الله لا يقبلون أى مذهب فى القدر إلا أن يفى بالمبادئ الآتية (1) :

1- علم الله فى الأصل .

2- عدله فى الفرع .

3- سلطانه فى النهاية .

4- عدم الاسغناء عنه فيما بين ذلك .

    وإذا كانت المشكلة الصعبة التى واجهت الفكر البشرى هى كيفية انتقال العالم من كونه معلومة فى علم الله المحيط الشامل ، وكونه مرادا له بالمشيئة المطلقة إلى كونه موجودا فى العيان وكذلك الأمر بالنسبة للشئ الجزئى ، فإن سهل بن عبد الله قد وضع حلا لهذه المسألة لا ينقصه العمق والتوفيق الى حد كبير ، مع حرص التسترى على الالتزام بآيات القرآن الكريم .

   وهذا الحل يعبر فيه سهل بن عبد الله عن آيات الخلق القرآنية بكلمة  كن ولكى نتعرف على الحل علينا أن نتذكر تفريق سهل بن عبد الله الذى سبق فى المبحث الثانى بين صفات الذات وصفات الفعل من ناحية ، وتفريقه تبعا لذلك بين علم الله اللانهائى كصفة ذاتية وبين ــــــــــــــــــــــــ

1- الشـرح والبيان لمــا أشكــل مــن كــلام سهــل بن عبـد الله ص 211 تقلا عن السـابـق ص 276 .

مراداته ومعلوماته المنفصلة عن غيبه أى المنفصلة عن علمه المحيط بإرادته من ناحية أخرى ، ومن ثم فإن هذا المنفصل عن العلم اللانهائى محدود باعتبار دخوله الزمان .

  وأساس هذا الحل أن التسترى فهم كلمة كن الالهيه التى نقلت مراد الله من الغيب الى الشهادة على نحوين :

  الأولى : الكن الأعظم .

  الثانية : الكن الخاصة لكل موجود جزئى .

  وتعبر الأولى فى مفهوم التسترى عن مشيئة الله وعلمه الكلى للمخلوقات ، وكل موجود جزئــى له كن الخاصة به ، وكلمات الله بهذا المعنى أدت إلى ظهور المخلوقات فى الوجود خلال الزمان ، وإن كانت كلمات الله قديمة ويسميها التسترى القوة المفصلة أى المظهرة للمخلوقات .

    فعلم الله  المحيط بالمخلوقات ومشيئته الكلية للموجودات هى الكن الأعظم وإرادته وقدرته بالنسبة للشئ الجزئى هى الكن المفصلة للشئ المظهرة إياه فى الوجود المحققة له فى العيان .

    وعلاوة على أن هذه الفكرة كانت أساسا للتفريق بين فاعلية الله عز وجل وأثار هذه الفاعلية أى المخلوقات ، فإنها تعتبر فى نفس الوقت حلا ناجحا للمشكلة العويصة التى نحن بصددها وهى كيفية نزول الأمر الإلهى القديم ثم تحققه فى الواقع الحادث ؟

    وذلك لأن حدوث الشئ أو نفاذ الحدث فى الكون ليس بمقتضى مشيئة أولى للإله ثم بمقتضى الأسباب بعد ذلك وإنما هو بمقتضى إرادة إلهية خاصة لكل حدث أو لكل شئ فى الكون ، فكل شى وكل حدث من فعل الله عز وجل ومن خلقه وليس للأسباب أو الاستطاعات المخلوقة أى دور فى الخلق والإحداث سوى أنها أدوات للقدرة الإلهية  وهذا ما جعل مفهوم التوحيد عند أوائل الصوفية مفهوما راسخا يعبر عن العقيدة الاسلامية فى القضاء والقدر (1) .

   وقد تقدم فــى المبحــث السابق قول الجنيد : ( التوحيد هو اليقين وهو معرفتك أن حركات الخلق وسكونهم فعل الله عز وجل وحده لا شريك فإذا فعلت ذلك فقد وحدته ) (2) .  

   ولقد عبر التسترى بتفصيله السابق فى انتقال المقادير من الغيب إلى الشهادة عند عقيدة القرآن والسنة فالكن الأعظم فى مفهوم التسترى  تعبر عن علم الله ومشيئته فى تقدير أمر المخلوقات ، وهو ما دون فى اللوح المحفوظ من نوعى التقدير الأزلى والميثاقى .

  • قال تعالى : { ألم تر أن الله يعلم ما فى السموات والأرض إن ذلك فى كتاب إن ذلك على الله يسير } (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- من التراث الصوفى للدكتور كمال جعفر ص 258 بتصرف .

2- انظر ص 119 .

3- الحج /  70  .  

  • وقال تعالى : { ما أصاب من مصيبة فى الأرض ولا فى أنفسكم إلا فىكتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } (1) .

    قال ابن كثير فى تفسيره : ( يخبر سبحانه وتعالى عن قدره السابق فى خلقه قبل أن يبرأ البرية أنه ما من مصيبة تحدث فى الآفاق أو فى النفوس إلا كتبها فى اللوح المحفوظ ، وقوله : { من قبل أن نبرأها }  أى من قبل أن نخلق الخليقة (2)  .

    ثم أورد حديث مسلم : ( قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السمـاوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشـه على الماء ) (3) .  

    وفى حديث أبى داود : ( أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال : رب وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شئ حتى تقوم الساعة ) (4) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الحديد / 22 : 23  .

2- تفسير القرآن العظيم لابن كثير حـ 4 ص 314  .

3- الحديث رواه مسلم فى القدر ، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام برقم (2653) وأحمد فى المسند حـ 2 ص 169 والترمذى فى القدر برقــم (2156)   والبيهقى فى الأسماء والصفات ص 374 .

4- رواه أبو داود فى كتاب السنة ، باب القــدر رقم الحديث (4700) والحاكــم فى المستدرك حـ 2 ص 454 ، والهيثمى فى مجمع الزوائد حـ 7 ص 190 والحديث صححه الشيخ الألبانى انظر صحيح الجامع حديث رقم (2014) . 

   فدلت الآيات والأحاديث على أن الله تبارك وتعالى قدر كل شئ سيحدث فى الكون سواء كان خلقا أو فعلا ، وسواء كان الفعل جبريا أو اختياريا ، إضافة إلى أن ذلك مكتوب ومدون تدوينا سابقا على الحدوث فى التقدير الأزلى واللوح المحفوظ .

    وأما مراد التسترى بالكن الخاصة لكل موجود جزئى فيطابق أنواع التقدير والتدوين الأقل عموما من الكن الأعظم أو التقدير الأزلى والكلى للمخلوقات .

 [1 ــ سواء كان تقديرا خاصا بعمر كل إنسان عند خلقه فى الرحم كما جاء فى قولـه صلـى الله عليه وسلم :

    ( إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوما نطفة            ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ،  ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه       وأجله وعمله وشقى أم سعيد ) (1) .

[2 ــ أو كان تقديرا أخص حيث تدون فيه المقادير سنويا مما يخص أحوال العباد كما جاء فى قوله تعالى :

ـــــــــــــــــــــــ

1- أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد ،  باب ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين برقــم (7454)  ومسلم فى كتاب القدر باب كيفية خلق الأدمـى فى بطن أمه برقــم (2643) والدرامى فى الرد على الجهميـــــة ص 81 ، وأبو داود برقـم (4708) والترمذى برقـــم (2137) وأحمد فى المسند حـ 1 ص 382  .

   { إنا أنزلناه فى ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل       أمر حكيم أمـرا عندنا أنا كنا مرسلين } (1) فيها يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وغير ذلك من تقديرات (2) .

[3 ــ أو كان تقديرا يوميا أخص مما تقدم من أحوال التقدير الجزئى كما جاء فى قوله تعالى :  { يسأله من فى السماوات والأرض كل يوم هو فى شأن } (3) .

   ويروى ابن جرير الطبرى فى معنى قوله : { كل يوم هو فى شأن }  حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد سئل ما ذاك الشأن ؟   فقال :

    ( أن يغفر ذنبنا ويفرج كربنا ويرفع أقواما ويضع آخرين ) (4) .

   ويذكــر ابن كثير أن هـذا الحــديث روى موقـوفا وقد ذكره البخارى على أنـه مـن كـلام أبـى الدرداء .

ــــــــــــــــــــــــ  

1- الدخان / 4 .

2- هكذا روى عن ابن عمر ومجاهد وأبى مالك والضحاك وغير واحد من السلف  انظر فتح القدير للشوكانى حـ 4 ص 570  .

3- الرحمن / 29  .

4- انظر تفسير ابن جرير الطبرى حـ 6 ص 113  .

 

  يقــول ابن كثير : وبهذا المعنى فسر جمهــور السلـف الآية (1) .

  وكل هذه المعانى تؤيد رأى التسترى فى نزول الأقدار على ضربين ضرب عام وضرب خاص .

    لقد أقر أوائل الصوفية بأخص خصائص الربوبية فى القرآن الكريم وهو انفراد الله سبحانه وتعالى بالعلم الأزلى اللانهائى والمشيئة المطلقة   حتى وصف بعض الصوفية مشيئة الله  المطلقة لكونها مع العلم سران للذات ، وصفوها بأنها عرش الذات (2) .

      وذلك مع اعتقادهم أنه من كمال الربوبية اللائقة به مباشرة الله سبحانه وتعالى للكون المخلوق بإرادته وتنظيمه سواء كان لكل موجود على حدة أو للعالم أجمع ، وذلك يتم بقدرته وأمره النازل إلى العباد فى حياتهم الزمنية  .

   فأمر الله سبحانه وتعالى إنما ينزل بمقتضى إرادة إلهية لكل حدث أو لكل شئ فى الكون ، فكل شئ وكل حدث من فعل الله عز وجل ومن خلقه وليس للأسباب أو الاستطاعات المخلوقة أى دور فى الخلق والإحداث ، إلا باعتبار الغاية من خلقها ، فوجود العلل الغيبية أو العلل الطبيعية ليس سوى أدوات وآلات للقدرة الإلهية يتم بها قضاء اللــه ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير حـ 4 ص 273 ، وفتح القدير الشوكانى حـ 5 ص 139 ، وزاد المسير فى علم التفسير لابن الجوزى حـ 8 ص 32 .

2- انظر التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 275 .

وقدره ، وهى جميعا جنود لله تعالى تفعل بمشيئته وفاعليته دون استقلالها عن المشيئة والقدرة الإلهية ، هذا مع قدرته تعالى على الفعل بدونها كالفعل بها سواء بسواء .

    ويذكر المكى أننا لا يمكن عقلا أن ننسب لمن يضرب بالسوط الضرب للسوط دونه ، وإنما الفعل منسوب للفاعل لأن السـوط ليس سوى أداة يصدر تأثيره عنه حسب قصد الفاعل وإرادته (1) .

  وبذلك يمكن القول أن الصوفية تجنبوا الإلزامات الشنيعة التى ترتبت على مفهوم القدر عند الفلاسفة العقليين كابن سينا حيث جعل مفهوم القدر هو إيجاب الأسباب للمسببات ، فزعم فى رسالته سر القدر أن فعل الإله لا يتم إلا بالأسباب والمسببات وهذه الأسباب والمسببات مقدرة ومرتبة ومنظمة منذ الأزل (2) .

    وذلك يعنى أن كل ما يحدث وما سيحدث لازم وفيه حتمية لنفاذ  القضاء ، وعدم جوازه تغييره وتلطيفه أو محوه وإثباته .

   وهذا التصور يجعل الأسباب والاستطاعات الحادثة مشاركة لله فى فعله وخلقه ، بل وصل الأمر بهؤلاء الفلاسفة إلى عزو الخلق والربوبية للأفلاك والكوكب والأجرام السماوية دون الله (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- قوت القلوب حـ 2 ص 13 .

2- رسالة فى سر القدر ص 3 : 7  .

3- القضاء والقدر فى الاسلام للدكتور فاروق الدسوقى حـ 1 ص 386 .

  ويذكر الدكتور كمال جعفر أن هذا ما رفضه الصوفية الأوائل وعلى رأسهم سهل بن عبد الله حيث أدى فهمه لكلمة كن على هذين النحوين السابقين إلى حل جذرى لهذه المشكلة ، فهو علاوة على إثباته القدر الشامل المحيط فإنه يثبت أيضا العناية الإلهية للكون شامله ومحيطه  ويثبت الربوبية أو الفاعلية كاملة مطلقة للكلى كما هى للفردى والجزئى سواء بسواء ، فيتغير بذلك مفهوم العلاقة بين الفاعلية الإلهية والأسباب الطبيعية تماما بحيث تصبح هـذه الأسباب مفعولة وليست فاعلة ، ومخلوقة وليست خالقة  .

    وهذا هو مفهوم القدر عند الصوفية وفى الإسلام حيث أطلق القرآن الفاعلية الإلهية وأثبت حكم الله عز وجل لقدره وهيمنته على سننه فإثبت الله عز وجل لنفسه المحو والإثبات فى القضاء على نحو لا ينسب له التغيير فى القدر أو فى علمه وصفاته وذلك فى قوله تعالى :

    { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } (1) .

   يقول الدكتور جعفر بعد ذلك : وهذا يدع مجالا واسعا لتأكيد فكرة الإحتمال وتفنيد الحتمية الصارمة وهو ما يعنيه بعضهم من قوله عن الله عز وجل : ( يمحو الأسباب ويثبت الأقدار ) (2) .

  وإذا عدنا إلى المبادئ الصوفية الأربعة لحل مشكلة القدر نجد أن  ــــــــــــــــــــــــ

1- الرعد / 39  .

2- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 275 .

 الدكتور جعفر يفسر الأول بقوله : ( إن الله جل شأنه عليم لا يعـزب عن علمه شـئ ) فيجعل علمه فى الأصل هو شمول العلم ولا نهائيته .

والثانى بقوله : ( عادل لا يمكن أن ينسب إليه الجور ) ففعل الإنسان لمعاصيه نابع من ذاته وإن كان هذا الفعل من خلق الله عز وجل ككل شئ فى الوجود .

  ويفسر أيضا المبدأين الثالث والرابع بقوله : ( وهو سبحانه المرجع والمعول فى كل شئ ) (1) .

  فليس ثمة مشكلة كما مر بنا بالنسبة لخضوع كل شئ فى الكون لقدر الله المحيـط ، ولكـن المشكلة بالنسبة للإنسان الذى يترتب على سلوكه حساب فى الآخرة ثوابا وعقابا ، فماذا يقول سهل بن عبد الله بالنسبة للمعاصى والشرور الإنسانية هل هى من قدر الله وقضائه أم لا ؟

    وهنا يتفق التسترى مع سائر السلف فى إثبات عموم القدر حتى يشمل أفعال العباد والسلوك الإنسانى الخلقى بما فى ذلك المعاصى ويستخدم التسترى لفظ القيام ليعبر به عن سلطان الله ونفاذ أمره وانطلاق  صفاته وهو يستمد هذا المصطلح من القرآن الكريم حيث يقول تعالى فى سورة الرعد :

     { أمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- من التراث الصوفى للدكتور كمال جعفر ص 249 .

2- الرعد / 33 .    

    فقيام الله عز وجل على كل نفس بما كسبت سواء كان خيرا أو شرا طاعة أو معصية هو تفسير للمبدئين الثالث والرابع من مبادئ القدر   عند الصوفية وهو سلطانه فى النهاية وعدم الاستغناء عنه فيما بين البدء والمنتهى (1) .

  ومن ثم تكون معاصى العباد بقدر الله وخلقه وليست واقعة بغير مشيئته أو مخالفة لإرادته التكوينية ، والتسترى يدخل أية الإشهاد فى مفهوم القدر حيث يقول : ( خلق الله الخلق على معرفته وابتلاهم بنفسه ) (2) فيفهم الإشهاد فى قوله تعالى : { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } (3) أن الله ابتلاهم بنفسه فى عالم الذر وزودهم بذلك بإيمان فطرى ثم أرسل لهم الرسل بقوله تعالى :

  { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } (4) .

   وقوله : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } (5) .

  فاتصل العلم السماوى النازل بالوحى ، بالعلم الفطرى المغروس فى النفوس بالإشهاد ، وهو سبحانه وتعالى قبل ذلك قد قهرهم بقدرته ـــــــــــــــــــــــ

1- السايق ص 251 .

2- السابق ص 258 بتصرف .

3- الأعراف / 172 .

4- الإسراء / 15  .

5- المائدة / 48 .    

     وانفذ فيهم مشيئته وأجرى عليهم أحكامه وهو القائم عليهم بملكه   فإذا انصرف الإنسان عن إيمانه الفطرى باختياره فهو بالأمر الكونى لله عز وجل ، والله مقيم على نفسه بما كسبت من كفر ومعصية ويدين الإنسان على أنه اكتسب الكفر باستطاعته واختياره وذلك ما سنعرضه تفصيلا فى الباب الثالث إن شاء الله .

    ولكن هذه الاستطاعة وهذا الاختيار كفيلان بإدانة الإنسان ومسئوليته عن فعله الخلقى ، وإذا كان خلق الفعل لله فإن النية التى هى مصدر الخير والشر فى الفعل منسوبة عند سهل بن عبد الله  أصالة للعبد وعليها يجازى بذلك (1) .

مما يدفعنا إلى دراسة الحرية وأصالتها فى الذات الإنسانية فى الفصل الثانى من هذا الباب ، ولاشك أن هذه المبادئ الأربعة التى بنى عليها الصوفية الأوائل مفهومهم للقدر نابعة من التوحيد الخالص ولا تختلف عن اعتقاد السلف الصالح أهل السنة والجماعـة .

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر السابق ص 258  بتصرف .

  • الاثنين PM 04:15
    2021-08-16
  • 1751
Powered by: GateGold