المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 414018
يتصفح الموقع حاليا : 259

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629119445150.jpg

موقف الصــــوفية من صفات الذات وصفات الفعل

سبق القول بأن الصوفية أثبتوا صفات الله عز وجل وأفردوها عن الأقيسه والقوانين التى تحكم صفات المخلوقين مستدلين بقوله تعالى :

        { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير } (1) .

   وفى هذا المبحث يدور الكلام حول الموقف الصوفى من قدم صفات الذات وصفات الأفعال لما له من أثر واضح فى بيان مفهوم القدر وطلاقة الفاعلية الإلهية ، فالقــول بقدم صفات الأفعال طرح عند البعض مشكلة فكرية مضمونهــا : أن قـدم صفات الأفعال كالخلق والرزق والمنع والعطاء يستتبع قـدم صفات المخلوقين المفعولين مما يؤدى إلى تعـدد القدماء (2) .

  والموقف الصوفى تجاه هذه المشكلة موقف واضح ، فمشايخ الصوفية لا يفرقون فى إثبات الصفات بين القدم فى صفات الذات والقدم فى صفات الأفعال ولا يلزم من ذلك القول بقدم المفعولات .

  يقول سهل بن عبد الله التسترى : 

ــــــــــــــــــــــــ

1- الشورى /11 .      

2- مقالات الإسلاميين للأشعرى حـ 1 ص 164 .

  ( الوحدانية فى الأصل أنه كان ولم يكن شئ فهو فرد علم وشاء وقضى فقدر ووفق وخذل وتولى وعصم وأثاب وعاقب والأعمال تنسب إلى العباد والبداية منه والتمام عليه ) (1) .

   فالأشياء كلها بعلم الله وقدرته وليست هى العلم والقدرة ولكنها بعلم وقدرة .

    ويخاطب التسترى من أنكر قدم صفات الأفعال فيقول :

يقال لمن أنكر هذا : أخبرنى عن الله أهو تام كامل ؟

فإن قالوا  : نعم .

فيقـال لهم : فهـو مع تمامه وكمــاله هــو أول وهـو حى وهو عالم وهــو قادر ؟

فلابد من قولهم : نعم .

فيقـال لهم : هذه صفات الذات والأشياء كلها داخلة فى هذه وهذه الأفاعيل كلها فى القدرة فهو حى عالم  قادر جل ثناؤه (2) .

  وفكرة التسترى قائمة على أن المخلوقات كانت معلومة فى علم الله فى الأزل ، ثم شاء الله أن يكتبها فى اللوح المحفوظ فكتبها ، وبهذا تم القضاء ، فلما خلقها بقدرته تم القدر ، ومن ثم كان كل شئ ــــــــــــــــــــــــ

1- المعارضة والرد على أهل الفرق وأهل الدعاوى فى الأحوال ، لسهل بن عبد الله التسترى ، تحقيق الدكتور محمد كمال جعفر ص 80 طبعة دار الإنسان سنة 1980م 

2- السابق ص 81 .     

داخلا فى العلم .

   فالقضاء عنده علم وكتابة ومشيئة ، والقدر علم وكتابة ومشيئة وخلق ، فمرد الأشياء إلى العلم والعلم صفة ذات وهو قديم بقدم الله .

    ولهذا لما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن القرآن وموقفه مـن خلقه قال للسائل :  ( أخبرنى عن العلم ، فإذا كان العلم مخلوقا كان القرآن مخلوقا وإذا كان العلم صفة من صفات الله غير مخلوق ، كان كلام الله كذلك ) .

    لأن القرآن كان فى علم الله فى الأزل وكتبه فى اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، كما قال تعالى : { إنه لقرآن كريم فى كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون } (1) فاللوح فيه كلمات الله وكلام الله غير مخلوق وإن كان مكتوبا .

  فاحتج على قدم صفات الأفعال بقدم صفات الذات مؤيدا بذلك منهج التسترى فى الاحتجاج (2) .

    ويكشف الغزالى عن فكرة التسترى فى إثبات صفات الأفعال والرد على من قال :

ــــــــــــــــــــــــ

1- الواقعة / 77 : 79 .

2- انظر طبقات الشافعية حـ 2 ص 27 ، حيلة الأولياء حـ 9 ص 161 ،  البداية والنهاية حـ 10 ص 270 ، والعواصم والقواسم لابن الوزير حـ 4 ص   361 .

   إن إثباتها يستلزم حدوثها ، بحجة أنه لاخلق فى الأزل فكيف يكون خالقا فى الأزل ؟ 

 فيقول : إن السيف يسمى صارما قبل القطع وحال القطع ، وهو فى الأول صارم بالقوة وفى الثانى صارم بالفعل ، فالبمعنى الذى يسمى به السيف فى الغمد صارما يصدق اسم الخالق على الله تبارك وتعالى فى الأزل (1) .

   فالله وله المثل الأعلى ما زال بصفاته قديما قبل خلقه ، ولا فرق بين صفة هى صفة ذات أو صفة هى صفة فعل .

   وخلق المخلوقات لا يزيد فى صفات الله شيئا لم يكن من قبل ، فهو المسمى بالخالق قبل الخلق وحال الخلق وبعد فنائهم ، كما أنه منفرد بالربوبية قبل خلق العالمين ، وحال خلقهم وبعد فنائهم .

    ويؤكد الكلاباذى أن جمهور الصوفية وكبار مشايخهم على أنه لا يجوز أن يحدث لله تعالى صفة لم يستحقها فيما لم يزل ، وأنه لم يستحق اسم الخالق لخلقه الخلق ، ولا لإحداث البراي ة استحق اسم البارى  ولا بتصويره الصور استحق اسم المصور ، ولوكان كذلك لكان ناقصا فيما لم يزل وتم بالخلق (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الاقتصاد فى الاعتقاد للإمام حامد الغزالى ص 158 .  

2- التعرف على مذهب أهل التصوف ص 53 .

 

ومن الحجج التى أوردها على ذلك أيضا :

1- أنه لما ثبت أنه سميع بصير قادر خالق بارئ مصور وأن ذلك مدح له   فـلو استوجب ذلك بالخلق والمصوَّر والمبرَئ لكان محتاجا إلى الخلق   والحاجة أمارة الحدث .  

2- أن ذلك يوجب التغيير والزوال من حال إلى حال فيكون غير خالق ثم يكون خالقا ، وغير مريد ثم يكون مريدا ، وذلك نحو الأفول الذى انتفى منه خليله إبراهيم عليه السلام فقال : { لا أحب الآفلـــين } (1) .

3- أن الخلق والتكوين والفعل  صفات لله تعالى ، وهو بها فى الأزل موصوف ، ومعلوم أن الفعل غير المفعول وكذلك التخليق والتكوين ، لو كانا جميعا واحدا ، لكان كون المكونات بأنفسها لأنه لم يكن من الله إليها معنى سوى أنها لم تكن فكانت (2) .

   ومن ثم ينفى الكلاباذى نسبة حدوث تغيير فى الذات الإلهية عند بدء الخلق وكل ما يشترط لتحقيق الفعل موجود فى الأزل .  

    ويرد الصوفية المرجع فى الخلق إلى المشيئة الإلهية المطلقة لقوله تعالى :        { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } (3)   

ولقوله : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } (4)

ــــــــــــــــــــــــ

1- الأنعام / 76 وانظر السابق ص 53 .       2- السابق ص 53 .                                   

3- مريم / 35 .              4-  يس / 82  وانظر المعارضة والرد ص 58 .

   ولعل ذا النون المصرى (1) قد بين الفرق الواضح الدقيق بين ذات الله عز وجل وبين صفاته من ناحية وبين صفاته وبين مخلوقاته من ناحية أخرى حين قال :

      ( إن الله عز وجل صانع كل شئ بقدرته ، وعلة كل شئ صُـنْـعُه ولا علة لصنعه ) (2) .

  • فقوله : صانع كل شئ بقدرته وعلة كل شئ صنعه تلاشى به إلزامات المعتزلة حيث جعل علة وجود الأشياء هى صنع الله عز وجل وخلقه لها ، وليس الإله علة وجود الأشياء ، فنفى بذلك أن تكون ذات الله سبحانه وتعالى علة ، كما هو الحال عند المعتزلة حيث قالوا : خالق بذاته مريد بذاته ، ونسب العلة إلى صفاته الفاعلة القديمة (3) .

وقوله : ولا علة لصنعه تلاشى به إلزامات الفلاسفة الذين فهموا ــــــــــــــــــــــــ

1- هو أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم المصرى ، كان أبوه نوبيا ، ثم نزل بأخميم من ديار مصر فأقام بها وأتى بأشياء غريبة فى التصوف امتحن بسببها  ، توفى سنة 245هـ ، انظر تاريخ بغداد حـ 8 ص 393 ، شذرات الذهب حـ 2 ص 107   طبقات الشعرانى حـ 1 ص 81 ، حلية الأولياء حـ 9 ص 331 .  

2 - الرسالة حـ 1 ص 35 .

3 - انظر مقالات الإسلاميين للأشعرى حـ 1ص 263 وما بعدها فى بيان رأى المعتزلة .

الذات الإلهية من خلال مفهوم العلية الطبيعية (1) .

ففرق بين الشئ وبين فعل الله ، ففعل الله صفة من صفاته قديم بقدم الذات وليست الذات علة لصفاته وفعله وصنعه .

    ومن ثم فرق ذو النون المصرى بين صفات الذات وصفات الفعل من ناحية ورفض أن تكون الذات علة لصفاته من ناحية أخرى لأن الصفات قديمة ملازمة للذات .

 كما أنه رفع أى ضرورة عن الفاعلية الإلهية عندما رفض أن يكون ثمة علة لصنعه غير صفات الأفعال وإرادة الله فى خلقه .

      وعلى كل حال فإن جمهور أوائل الصوفية الصوفية على القول بقدم صفات الذات والأفعال ولا يلزم من ذلك قدم المفعولات ، ولا عبرة بسلوك بعض الصوفية مذهب الاعتزال أو غيره حيث يقرر الكلاباذى أن بعضهم منع أن يكون الله تعالى لم يزل خالقا وقال : إن ذلك يوجب كون الخلق معه فى القدم (1) وقد تقدم جواب التسترى وموقف أغلب المشايخ من هذه القضية .

ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر فى بيان موقف الفلاسفة الرسالة العرشية لابن سينا ص 10 : 12 ، وانظر تهافت الفلاسفة لأبى حامد الغزالى ص 37 ، 38 ، الطبعة الثالثة ، دار المعارف القاهرة سنة 1972م وانظر التعليقات ص 20 وهى رسالة من رسائل الفارابى ضمن أحد عشر رسالة ، طبعة دار المعارف العثمانية ، حيدرآباد الهند سنة 1926م  .

2- التعرف ص 54 .  

* صفات الأفعال وأبدية المفعولات :  

    وبالرغم من تصريح الصوفية بأن البقاء لله وحده ، فإنهم لا ينكرون بقاء بعض المخلوقات معه أبدا .

     وقد قدم الكلاباذى صفة البقاء على الأزلية حين قال : ( بـــاق أول ) (1) .

     وهنا تظهر مشكلة فكرية حول صفة البقاء ، فلا شك أن بقاء أهل الجنة والنار أبدا يبدو لأول وهلة متعارضا مع إفراد الله عز وجل بالبقاء   وإذا كان مشايخ الصوفية قد رفضوا رفضا قاطعا إشراك غيره معه فى الأزلية ، فإن ذلك يستتبع ضرورة رفضهم مشاركة غيره معه فى الأبدية   مما يوحى بالتعارض مع نصوص القرآن والسنة الخاصة ببقاء أهـل الخلدين أبدا .  

    لقد كانت هذه المسألة مثار خلاف بين فرق الإسلام وبين طائفة المعتزلة حول مفهوم الأبدية لأهل الجنة والنار فى القرآن الكريم حتى  فهمها البعض بطول الأمد وليس البقاء اللانهائى (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 47 .

2- مقالات الإسلاميين حـ 2 ص 53 ، 55 .

 

    ولعــل أبا القاسم النصــرباذى (1) قـد وفق فى تقـديم الحل المقنع والنابع مــن القـرآن والسنة حين فــرق بين ما يبقى ببقاء الله عز وجل وبين ما يبقى بإبقــائه فقال :

   ( الجنة باقية بإبقائه ، وذكره ورحمته ومحبته لك باق ببقائه ، فشتان بين ما هو باق ببقائه وبين ما هو باق بإبقائه ) (2) .

    فالجنة مخلوقة لله عز وجــل وكائنة بأمره ورهـن المشيئة الإلهية  باعتبار المشيئة صفة تخصيص بين ما يبقى وما لا يبقى ، ومن ثم فإن أوائل الصوفية يعتبرون خلد الجنة وأهلها إلى ما لا نهاية إنما هو بإبقاء الله وإرادته .

    فالبقاء عندهم ليس من طبيعة المخلوقات ولا من خصائصها    الذاتية  بل من طبيعتهـا جميعا كمخلوقات حـادثة فى الزمان الفناء   فالخلـود المحدث ليس فـى ذاته وإنما هو و بمــدد دائم ومستمر ـــــــــــــــــــــــــ

1- هو إبراهيم بـن محمــد بن محمــويه شيخ خراسان فى وقتــه نشأ فى نيسابور  وكان عالما بالسيرة والتاريخ ومن أكابر مشايخ الصوفية فى عصره ، مات بمكة سنة 367هـ.

   انظر شذرات الذهب حـ 3 ص 58 ، والمنتظـــم حـ 7 ص 89 ، تاريخ بغداد حـ6 ص 169 ، اللباب فى تهذيب الأنساب حـ 3 ص 225 .

2- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 41 .

 

لا ينقطع من الله تعالى (1) .

وهذا هو ما عبر عنه النصرباذى فى قوله : الجنــة باقيــة بإبقائــه .  

   أما صفات الله عز وجل ومنها رحمته وذكره ، فهى باقية ببقائه سبحانه وتعالى حيث البقــاء صفــة ذاتية له ، كما أن الأزلية صفة ذاتية لله تعالى  .

   فالنصرباذى فرق بين صفات الأفعال الإلهية وبين مخلوقات الله عز وجل وهو فى هذا لا يعبر عن رأيه فى تلك المسألة فقط ، وإنمـا يعبـر عن رأى أغلبالأوائل من الصوفية ، حيث يعقب القشيرى على كلامه بقوله :

    ( وهذا الذى قاله الشيخ أبو القاسم النصرباذى ، هـو غاية التحقيق فإن أهل الحق قالوا : صفات ذات القديم سبحانه وتعالى باقيات ببقـائه تعالى ) (2) .

    فنبه على هذه المسألة وبين أن الباقى سبحانه وتعالى باق ببقائه بخلاف ما قاله مخالفو أهل الحق ، لأنهم قالوا : لا يبقى شئ ببقائه (3)

ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر سيرة الشيخ الكبير عبد الله خفيف الشيرازى ص 356 حيث ذكر اعتقاد مشايخ الصوفية فى هذه القضية .  

2- الرسالة حـ 1 ص  42 .

3- انظر تعليق الدكتور عبد الحليم محمود على الموضوع فى الرسالة حـ 1 ص 42 .

فنفوا صفات الحق سبحانه وتعالى . 

 وفى هذا يفرق القرآن الكريم بين نوعين من البقاء :

  • الأول : فى قوله تعالى : { كل مـن عليها فـان ويبقى وجــه ربك ذو الجلال والإكرام } (1) .

وقوله : { كل شئ هالك إلا وجهه } (2) .

  • والثانى : فى قوله تعالى : { ومــا عنـد الله خـــير وأبقـى للذين آمنوا وعلى بهـم يتـوكلــون } (3) .

 وقـوله : { والآخــرة خــير وأبقـــــى } (4) .

 وقـوله : { ولعــذاب الآخـــرة أشــد وأبقــى } (5) .

    فالأيات الأولى دلت على صفة من صفات الذات وهى صفة الوجه ودلت على بقاء الصفة ببقاء الذات ، فأثبتت بقاء الذات بصفاتها   وفناء ما دونها أو إمكانية فنائه ، إذ أن الله هو الأول والآخر وهو قبل كل شئ وبعد كل شئ .  

ــــــــــــــــــــــــ

1- الرحمن /26: 27 .

2- القصص /88 .

3- الشورى / 36 .

4- الأعلى / 17 .

5- طه / 127 .

     قال ابن كثير فى الآية الأولى والثانية : أخبر الله بأنه الدائم الباقى الحى القيوم الذى تموت الخلائق ولا يموت ، فعبر ببقاء الوجه عن بقاء الذات لأن الوجه من صفات ذاته سبحانه وتعالى (1) .

    أما الآيات الآخرى فبقــاء المخلوقات فيهـا لا لذاتها ولكن بعطاء من الله لإكرام أهل طاعته وإنفاذ عدله فى أهل معصيته (2) ولذلك يقول سبحانه : { إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاءا من ربك عطاءا حسابا } (3) .   

   ويضيف النصرباذى فرقا آخر بين صفة الفعل وصفة الذات يغلب عليه الطابع الوجدى بالإضافة إلى ما سبق من تفريقه النابع من النظـر العقلـى فى الأدلة فيقول :

   ( أنت متردد بين صفات الذات وصفات الفعل ، وكلاهما صفته ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر تفسير القرآن العظيم لأبى الفدا إسماعيل بن كثير ، طبعة دار إحيـــاء الكتــب العربيـة حـ 3 ص 403 .

2- انظر هذه المسألة فى الاعتبار ببقاء الجنة والنار للسبكى فى الرد على ابن     تيمية وابن القيم القائلين بفناء  النار ، تحقيق وتقديم الدكتور طه الدسوقى        حبيشى ص 32 ، 33 .

3- النبأ / 34 : 36 .

تعالى على الحقيقة ، فإذا هيمك فى مقام التفرقة قرنك بصفات فعله  وإذا بلغك إلى مقام الجمع قرنك بصفات ذاته ) (1) .

     فجعل تعامل العبد مع الله عز وجل من خلال صفات أفعاله مقاما من المقامات ، ومعرفة صفات الذات مقاما أعلى فى التوحيد والتحقيق من معرفة صفات الأفعال ، ومن المعلوم أن مبنى هذه التفرقة قائم على تفريقه بين صفات الذات وصفات الأفعال من ناحية وبين صفات الأفعال وآثارها المتمثلة فى المخلوقات من ناحية آخرى .  

  وهذا الأصل هو الذى رفض به جمهور الأوائل من  الصوفية القول بقــدم العالم وغير ذلك مـن المنزلقات الفكـرية المؤدية إلى وحدة الوجود   ولذلك نجد لأئمة التصوف فى العصر الأول أقوالا يرفضون بها الحلول والإتحاد سواء بتصور إمكانية اتحاد النفس الإنسانية بالذات الإلهية أو بتصور جواز حلول الإله فى العالم .  

  يقول الجنيد بن محمد مستنكرا ذلك :

   ( متى يتصل من لا شبيه له ولا نظير له بمن له شبيه ونظير ؟! هيهات هذا ظن عجيب إلا بما لطف الطيــف فــلا إدراك ــــــــــــــــــــــــ

1- الصوفية الأوائل يقصدون بمقام التفرقة العبادة حال النظر إلى الأسباب    والاشتغال بها لكسب الضروريات التى تقيم الأبدان كالأخذ بالأسباب حال التوكل وما شابه ذلك ، ويقصدون بمقام الجمع النظر إلى مدبر الأسباب والتغافل عنها حال الصلات وبعض أنواع العبادة الأخرى ، انظر السابق حـ 1 ص 42 .

ولا وهم ولا إحــاطة إلا شارة اليقين وتحقيـق الإيمــان ) (1) .

     فهو ينفى الاتصال بين ذات الله وبين غيره من الذوات نفيا قاطعا  سواء من جهة ذاته أو من جهة غيره ، ويجيز الاتصال بين الخلق وبين الله ويحصره فى الصفات الإلهية ، أما اتصال المشاعر والوجدان فيحدد له صفة اللطف الإلهية التى يمن الله بها على المؤمنين بما يشعرون بوجوده ويتمثلون عظمته ويحيون برحمته .  

    ويورد الجنيد الدليل على هذا الاعتقاد فيقول :

  ( وإن الدليل على ذلك لموجود ، أليس قد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : قال الله عز وجـل : ولا يـزال يتقرب إلى عبدى بالنوافل حتى أحبه فــإذا أحببتــه كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الـذى يبصر بـه (2) فإذا كان سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ، فكيف تصف ذلك بكيفية أو تحده بحد تعلمه ؟ ولو ادعى ذلك مدع لأبطل دعواه ، لأنا لا نعلم ذلك كائنا بجهة مـن الجهــات تعلم أو  تعرف ) (3)  .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 43

2- الحديث أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق ، باب التواضع برقم (650) وابن ماجه برقـــم (3989) وأبو نعيم فى الحلية حـ 1ص 252 .  

3- كتاب الفناء للجنيد مخطوط شهيد على رقم 1374 ص 55 : 58  ، نشره الدكتور محمد كمال جعفر فى كتابه التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 303 .  

    فالاتصال الذى يثبته الجنيد هو اتصال بين الصفات الإلهية وبين الخلق

دون الحلول يقول فى بيان معنى الحديث :

      ( إنما معنى ذلك أنه يؤيده ويوفقه ويهديه ويشهده مـا شاء   كيف شاء بإصابة الصواب وموافقة الحق ، وذلك فعل الله عز وجل فيه ومواهبه له منسوبة إليه ) (1) .

 * معية الله لخلقه فى مجال الصفات دون الذات :  

    ويرفض الجنيد فهم المعية من خلال الذات ويثبت أنها معية الصفات والأفعال ويفسرها على معنين :

  [1] - مع الأنبياء بالنصر والكلاءة ويستدل لذلك بقوله تعالى :   { قال لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى } (2) .

  [2] - مع العامــة بالعلم والإحاطة ويستـدل لذلك بقــوله تعالى :   { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم  } (3) .

    فقصر المعيــة على الصفات دون أن ينسبها إلى الذات ، وأبطل بذلك القول بالحلول والإتحاد والمماسة أو القول بوحدة الوجود إبطــالا تامــا (4) .

ـــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 305  .       

2-  طه /46 .

3- المجادلة / 7  .

4- الرسالة القشيرية حـ 1 ص44 .

     ويذكر السراج الطوسى أن الذى وقع فى القول بالحلول غلط لأنه لم يحسن أن يميز بين أوصاف الحق وأوصاف الخلق ، لأن الله تعالى لا يحل فى القلوب وإنما يحل فى القلوب الإيمان به والتصديق والتوجه له  والمعرفة به ، وهذه أوصاف مصنوعاته من جهة صنع الله بهم ، لا هو بذاته أو صفاته يحل فيهم ، ثم يقول : ( والله تعالى موصوف بما وصف به نفسه كما وصف بــه نفسـه ) (1) لقوله تعالى : { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير  } (2) .

     ولعل أعمق ما وصلنا عن أوائل الصوفية بشأن الحديث عن صفات الأفعال أقوال أبى محمد سهل بن عبد الله التسترى ، حيث يحاول توضيح مفهــوم الربوبية والفاعليــة الإلهية من خلال مفهــوم الكلام كصفة لله عـز وجــل (3) وحيث تتم مفعولاته بكلمة كن الإلهية .

    فالفرق بين كلام الله وبين كلام الخلق أن كلام الخلق موضوع بـاتفاق واصـطلاح ، وهى صيغة تحدث فـى الهـواء جـزاءا جزا ثم تتقدم وتنفذ ولا تثبت البتة (4) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- اللمع لأبى نصر السراج الطوسى تحقيق د. عبد الحليم محمود ، طه عبد الباقى سرور ، دار الكتب الحديثة بمصر سنة 1380 / 1960م ص 542 .

2- الشورى / 11 .

3- من التراث الصوفى للدكتور محمد كمال جعفر ص 360 .  

4- السابق ص 367 من رسالة الحروف لسهل بن عبد الله التسترى .

    فكلام الخلق ليس له وجود ذاتى مستقل عن غيره فلا يبقى بينما كلام الله تعالى أسفر عن أعيان قائمة وأنوار روحانية ساطعة (1) .

    ومعنى ذلك أن كلمات الله عز وجل موجودات قائمة فى الوجود باقية بمشيئة الله تعالى ، وهذا القول من شأنه أن يثير لدينا مسألة العلاقة بين صفات الله عز وجل وبين أفعاله حيث قـد يُـتوهـم مـن أول وهلة أن التسترى يوحـد بيـن الصفـة : أى الكلمـة ،  وبيـن الفعل : أى المخلوق ، من حيث أن الكلـمـة : كـن  تصير بعد أن يقولها الله تعالى لشئ كائنا حسب المشيئة ولكن التسترى يشرح مذهبه بما ينفى عنه هذه الشبهة نفيا تاما فيقول :

    إن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه له صفة انفرد بها عن الأشياء وهى صفة ذاته ويفسرها قوله تعالى : { لـم يلـد ولـم يولد ولـم يكن

له كفوا أحــد } (2) والثانية هى التى  بها فعل وبها أوجد وبها تسمى الله  (3) .

    وتوضيحا لقول التسترى يقرر الدكتور كمال جعفر أن سهلا يؤكد بهذا القول التفرقة بين صفات الذات وصفة الفعل ، ثم يبين أهمية هذه التفرقة حيال العلاقة بين الله وخلقه بقوله :

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 368 .

2- الصمد / 3 : 4 .

3- السابق ص 368 .

     ( وعن طريق هذه التفرقة استطاع التسترى بحق أن يثبت    وجود علاقة أساسية بين كل المخلوقات وبين الله تعالى من خلال       صفاته لا من خلال ذاته ) (1) .

    لقد فهم أوائل الصوفية التوحيد بأنه انفراد الله عز وجل بفعل الوجود بنفس الدرجة التى فهموا بها انفراد ذاته بالأزلية ، وبالمثل فسروا الشرك بأنه إشراك فاعل حقيقى آخر معه فى الوجود .

   يقول المكى :

    ( وعند أهل المعرفة أن لا فاعل حقيقية إلا الله عز وجل لأن   حقيقة الفاعل هو الذى لا يستيعن بغيره لا بآلة ولا سبب ، وعندهم أن فعلا لا يأتى مـن فاعلين وإلا كان شركا ) (2) .

    وهذا الفهم للتوحيد وإن كان يثير مسألة هى جوهر مشكلة  القدر والحرية  وهى كيف تصدر المعاصى من العباد ؟ ولماذا يحاسبون عليها إن لم تكن فاعليتهم خاصة ومستقلة وحقيقيه ؟

      إلا أننا نرجئ ذلك لمبحث آخر فما نود إثباته الآن بيان موقف الصوفية من صفات الذات وصفات الفعل ويمكن تلخيص موقفهم فى ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 369 .

2- قوت القلوب لأبى طالب المكى حـ 2 ص 12 .

 

 

النقاط الآتية بناء على ما تقدم :

1- أوائل الصوفية لا يفرقون بين القدم فى صفات الذات والقدم فى صفات الأفعال .

2- أن الصفات صفات الذات وصفات الفعل هى صفات حقيقية قائمة بالذات وليست هى عين الذات كما هو الحال عند المعتزلة ، ولا الذات علة للصفات كما هو الحال عند الفلاسفة فالصفات لا تخضع للقوانين والأسباب .

3- أن الله متصف بها قبل أن يخلق الخلق ولا يلزم من قدمها وجود مفعولات لا أول لها

4- أن الجنة والنار مخلوقتان باقيتان بإبقاء الله ومشيئته عز وجل فالبقاء ليس من طبيعتهما .

5- أنهم رفضوا القول بالحلول سواء باتحاد النفس بالذات الإلهية أو بجواز حلول الإلـه فى العالم ، ويثبتون الاتصال بين الإله والخلق من خلال الصفات فقط دون الذات .

 6- أن بعض أوائل الصوفيـة  خالفوا ومالوا إلى رأى المعتزلة  لكن ما تقدم يمثل رأى الأغلبية .

 

 

 

  • الاثنين PM 04:10
    2021-08-16
  • 3667
Powered by: GateGold