المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413641
يتصفح الموقع حاليا : 217

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629119300608.jpg

مـنهج الصوفية فى فهـم المسائل العقائديـة

قضية الحرية وعلاقتها بالقدر من أهم القضايا التى جاءت بها الرسالات السماوية والتى عرضها القرآن الكريم وذلك لأنها تحدد علاقة الإنسان بربه وتفسر الغاية من وجوده فى الحياة ، كما أنها من أوائل المسائل الفكرية التى سببت النزاع بين الطوائف الإسلامية ، ومع أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هما المصدر الغيبى الوحيد لجميع الحقائق الكونية والمبادئ التشريعية ومنها حقيقة العلاقة بين القدر والحرية ، إلا أن الفرقة قائمة بين الفرق المختلفة والمتباينة فى تاريخ الفكر الإسلامى حول التوفيق بين العقل والنقل حيال المشكلة   .

   والسبب الواضح فى إحداث هذه الفرقة يظهر إذا علمنا أن المعرفة الإنسانية موضوع ومنهج ، فالموضوع هو مادة البحث ومصدر المعرفة  والمنهج هو السبيل الفكرى والخطوات الذهنية التى يتبعها العارف فى مساره بقصد تحصيل المعرفة  ، إذا علم ذلك فإن علة اختلاف الفرق والمدارس الفكرية تكمن فى المنهج الذى تتبعه كل فرقة .

    ولما كان المنهج محددا لهوية الطائفة المعنية ومميزا لها عن الآخرين  فلابد من إدراك المعالم الرئيسية للمنهج الصوفى فى فهم المسائل الاعتقادية بصفة عامة ومنهجهم فى موضوع البحث بصفة خاصة  وذلك لتتضح الهوية الصوفية ومدى قربهم أو بعدهم من المنهج النبوى فى معالجة القضية ، وإحقاقا للحق يجب أن نفرق بين المنهج الذى سلكه صوفية التوحيد وهم أغلب المشايخ فى الفترة التى تلت عصر خير القرون وبين صوفية الحلول والاتحاد ووحدة الوجود الذين عكروا على أوائل الصوفية نقاوتهم من الشرك وجوهر العقيدة ، فكثير من الصوفية فى القرون الأولى سلكوا منهجا سلفيا فى أغلب أمورهم خدموا به دينهم وردوا به على أهل البدع لا سيما فى باب الصفات والتأويل العقلى المتعسف للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، وقد استدل غير واحد من السلف بأقوالهم واحتج بها على مذهب السلف الصالح (1) .

    فمن غير الأنصاف أن نشرك هؤلاء فى وصف واحد يجمعه التصوف مع من ضل عن طريق الحق واتبع نوعا من الفلسفة الخارجة عن  الإسلام وحقيقته ممن قالوا بالحلول أو وحدة الوجود ، من أجل ذلك يمكن القول أن أغلب أوائل الصوفية لا يختلفون فى منهجهم عن منهج السلف فى باب الاعتقاد حيث سلكوا منهجا تتضح معالمه فيما يأتى :

    [1] - التسليم للوحى فيما ثبت من نصوص الصفات وغيرها من المسائل الغيبية بمعنى أنهم أعطوا الوحى قدسيته والأولية التامة أو الصدارة فى إثبات الاعتقادات المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله  لعلمهم أن الحقائق الغيبية التى وردت فى القرآن والسنة فوق مستوى ــــــــــــــــــــــــ

1- انظرعلى سبيل المثال مانقله الذهبى عن مشايخ الصوفية فى كتاب العلو للعلى الغفار ، وما كتبه الدكتور الطبلاوى محمود سعد عن التصوف فى تراث ابن تيميه .

العقل البشرى ، ولايستطيع أن يعرفها معرفة تفصيلية بنفسه وإنما دوره حيالها هو التلقى والفهم والتصديق .

     قال الجنيد بن محمد :  ( الطرق كلها مسدودة إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتبعين سنته وطريقته ، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه كما قال : { لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة } (1) وقال أيضا : كل توحيد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو زندقة (2) لأن العقل عندهم لا يعتبر فى مستوى الوحى إذ أن الأمور الغيبية كالحديث عن الله وملائكته والجن والسماوات وأمور الآخرة من الأمور التى لا يستطيع العقل اقتحامها بمفرده ونصيبه منها إذا اجترأ عليها بمفرده الحيرة والندم (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1-الأحزاب /21 والجنيد هـو أبو القاسم الجنيد بن محمد الخراز القواريري ، أصله من نهاوند ومنشأه بالعــراق وكان فقيها من أئمة القوم وسادتهم  توفى سنة 297هـ انظر ترجمته فى صفة الصفوة لابن الجوزى حـ 2 ص 235  ، الرسالة القشيرية حـ 1 ص 105 ، حلية الأولياء حـ 2ص 255 ، وفيات الأعيان حـ 1 ص 146 ، طبقات الشافعية حـ 2 ص 28  ، تاريخ بغداد حـ 7 ص 241  ودائرة معارف البستانى حـ6 ص 367 ، سير أعلام النبلاء حـ 9 ص 155 طبقات الشعرانى حـ 1 ص 98

2- مقولتا الجنيد فى حلية الأولياء حـ 01 ص 257 ، وتلبيس إبليس ص 10   والرسالة القشيرية حـ 1ص 106 والاعتصام للشاطبى حـ 1 ص 95 والأمر بالإتباع والنهى عن الابتداع للسيوطى ص 53 .

3- انظر قوت القلوب حـ 2 ص 124 ، حلية الأولياء حـ 10 ص 255 .

ولذلك قال الجنيد : ( إذا تناهت عقول العقلاء فى التوحيد تناهت إلى الحيرة ) (1) .

    فالمناهج العقلية والأنسقة الفكرية ، ينطلق من خلالها مفكروا الفرق إلى البحث فى القرآن والسنة وهى فى أذهانهم كفروض يعملون على إثباتها ، فإن وجدوا بين الآيات ما يؤيد هــذه المقررات والفروض فبها ونعـمت ، وإن لم يجدوا قاموا بتأويل الآيات والأحاديث تأويلا متعسفا لا تحتمله النصوص ، أو قاموا بردها بزعم أنه من رواية الآحاد التى لا يثبت بها اليقين فى الدين ، هذا الواقع المعبر عـن مذهب الجهمية والمعتزلة ، نبه الصوفية على خطورته وأثره  السيئ فى هدم دين الله إذ يقول المكى (1) فى بيان اعتقاد الصوفية وطريقتهم تجاه الوحى :

ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر التعرف لمذهب التصوف للكلاباذى ص 78 ، 79 .

2- هو محمد بن على أبو طالب المكى نشأ بمكة ورحل إلى البصرة ثم بغداد ، قال ابن الجوزى : كان زاهدا عابدا جمع الناس عليه فى الوعظ فخلط فى كلامه ، وحفظ عنه أنه قال : ليس على المخلوق أضر من الخالق ، فبدعه الناس وهجروه ، فامتنع من الكلام على الناس بعد ذلك ، وكان رجلا صالحا مجتهدا صنف كتابا سماه قوت القلوب ذكر فيه أحاديث لا أصل لها توفى سنة 386 هـ انظر ترجمته فى المنتظم حـ41 ص 385  وتاريخ بغداد حـ 2 ص 89 .

قلت : ما كتبه المكى فى قوت القلوب يدل على اعتقاد أهل السنة والجماعة فى كثير من المسائل كما سنرى أما الصوره التى ذكرها ابن الجوزى عن الرجل فالله أعلم بها

( فإنا قـوم متبعون نقفوا الأثــر غير مبتـدعين بالرأى والمعقول نرد به الخــبر ) (1) .

    وقال أيضا : ( وفى رد أخبار الصفات بطلان شرائع الإسلام من قبل أن الناقلين إلينا ذلك هم ناقلو شرائع الدين وأحكام الإيمان ، فإن كانوا عدولا فيما نقلوه من الشريعة فالعدل مقبول القول فى كل ما نقلوه ، وإن كانوا كذبوا فيما نقلوا من إخبار الصفات فالكذب مردود القول فى كل ما جاء به ) (2) .

    فمصدر المعرفة بالله هو ما جاء عن الله بالخبر الصحيح وعمل العقل هو التلقى والفهم والتصديق والإجابة ، ولا شك أن الصوفى حينما يخضع عقله لقول الله إيمانا منه بأن كل الحق فيه فهو فى الواقع يحرره ولا يقلل من شأنه ، لأن الاستسلام لله وحده تحرر واستعلاء على ما سواه ، أما إذا حاولنا معرفة الحقائق الغيبية من خلال الأصول الذهنية كما فعلت المعتزلة وغيرها فالنتيجة الحتمية هى الانحراف ، وبمزيد من التوضيح يمكن القول أن المعتزلة كانت أصولهم الخمسة تمثل النسق الفكرى الذى يضعونه فى المقدمة ، فالتوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والوعد والوعيد ، هذه الأصول هى السمة المميزة لمن سلك طريق الاعتزال ، ولا يستحق ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر قوت القلوب حـ 2 ص 124 .

2- السابق حـ 2 ص 124 .

أحد أن يطلق عليه لفظ معتزلى من وجهة نظرهم إن لم تكن تلك الأصول مبنى لاعتقاده وأساسا لفكره .

    ولما دخلوا بتلك الأصول المبنية بمادة العقل على كتاب الله كانت النتيجة أن ظهر مذهب التأويل العقلى لنصوص الوحيين بالمعانى الباطنة التى تحمل النصوص غير ما تحتمل حتى بدت تفسيراتهم نوعا من العبث فى كتاب الله ، وما ذلك إلا أن اللفظ المنطوق والنص المكتوب قهرهم وتعارض مع أصولهم فعجزت أصابعهم أن تمتد إليه بتغير الألفاظ فــعطلوا المعنى تحت ستار التأويل .

   ولذلك فإن طريقة الصوفية تتفق مع الطريقة السلفية من حيث التسليم للوحى وتقديمه على العقل وذم الكلام .

   قال عبد الله بن خفيف الشيرازى (1) :

ــــــــــــــــــــــــ

1- هو محمد بن خفيف بن اسفكشاد الضبى الشيرازى ، أمه نيسابورية وأقام بشيراز   كان من الأمراء ثم تفقه وتصوف وتزهد  ، صحب أبا عمر والدمشقى والحريرى ورويما ولقى الحلاج  ، وعليه كثير من المآخذ من خلال سيرته إن كان اعتقاده الذى نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية اعتقادا سلفيا ، وسيرته كتبها أبو الحسن على بن محمد الديلمى ، توفى سنة 371 هـ .

    انظر ترجمته فى حلية الأولياء حـ 1 ص 385   والرسالة القشيرية حـ 1 ص 184 ، طبقات الشعرانى حـ 1 ص 142،  شذرات الذهب حـ 3 ص 76، طبقات الشافعية حـ 2 ص 150 ، المنتظم حـ 7 ص 112 .

 

( والعقل لا يحسن ولا يقبح والشرع حاكم على العقل ) (1) .

    وقال أبو طالب المكى : باب ذكر العلم وطريقة السلف وذم ما أحدثه المتأخرون من الكلام ..ثم تابع كلامه فقال : وقد ظهرت مصنفات الكلام وكتب المتكلمين بالرأى والهوى والعقل والقياس وذهب علم اليقين وغابت معرفة الموقنين من علم التقوى (2) .

   ويذكر شيخ الإسلام ابن تيميه اتفاق طوائف السلـف والأئمة مـن أهـل الحديث والصوفية فى ذمهم العلم الكـلام وطريقه الجهمية والمعتزلة  فى تعطيل الصفات (3) .

   [2] - جواز إعمال العقل والفكر فى الرد على الخصوم بما يؤدى إلى إفحامهم وإظهار الدين ، فإذا كان الصوفية قد حذروا من علم الكلام  فإن الكلام المنهى عنه عندهم هو كلام المبتدعة من الجهمية والمعتزلة ، فقد خافوا على الضعفاء من أتباعهم أن يعلق بأذهانهم من كثرة الخوض فيه فلا يستطيعون الخلاص منه .

ــــــــــــــــــــــــ

1- سيــرة الشيخ الكبير أبى عبد الله محمد بن خفيف الشيرازى ، لأبــى الحسن على بن محمــد الديلمى تحقيــق دكتور إبراهيم الدســوقى شتا ، طبعــة مجمـع البحوث الإسلاميـــة ص 359 .  

2- قوت القلوب حـ 1 ص 146 وما بعدها .

3- انظر التصوف فى تراث ابن تيميه د0 الطبلاوى سعده ، الفصل الثانى ، الاتفاق بين السلفية ومشايخ الصوفية فى ذم الكلام والمتكلمين ص 74 : 86 .

   أما استخدام الكلام أداه يقاوم بها الصوفى ويدافع عن دينه فهذا ثابت فى كلام الأئمة .

    وخير دليل على ذلك الحارث بن أسد المحاسبى (1) إذ أن كتبه تذخر باستخدام العقل لخدمة الشرع والذود عنه فيقول رحمه الله :

    ( ألا فمن رغب منكم فى العقل وأراد السبيل فى اكتسابه ، فإن أفضل ما تستفيد بالعقل أن تطيع الله فيما افترض عليك وتتجنب ما حرم الله عليك ، فمتى فعلت ذلك أخذت من العقل بنصيب فبذلك جاءت الإخبار أن العاقل من أطاع الله ولا عقل لمن عصاه ) (2) .

     ويبين المحاسبى دور العقل حيال النص فيذكر أن قوما من المتكلمين قالوا :

    العقل هو صفوة الروح ولبه ، ولا نقول بذلك إذ لم نجد فيه كتابا مسطورا ولا حديثا مأثورا ، إنما العقل غريزة جعلها الله فى قلوب ــــــــــــــــــــــــ

1- هو أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبى من أهل البصرة من علماء مشايخ الصوفية ، له تصانيف كثيرة أهمها كتاب الرعاية لحقوق الله ، وهو أستاذ أكثر البغداديين فى عصره مــات سنة  243هـ ، انظر ترجمته فى حلية الأولياء حـ 1 ص 73 ، طبقات الشافعية حـ 2 ص 37 ، ميزان الاعتدال حـ ا ص 110 ، تاريخ بغداد حـ 8 ص 211 سير أعلام النبلاء حـ 2 ص 110 ، طبقات الشعرانى حـ 1 ص87 

 2- الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله للحارث المحاسبى ، تحقيق محمد عثمان الخشت ، مكتبة القرآن طبعة 1984م ص 10 .

الممتحنين من عباده أقام به على البالغين الحجة فهو غريزة لا يعرف إلا بفعاله فى القلب والجوارح ولا يقدر أحد أن يصفه بغيـر فعالة (1) .   

   فأنكر تعريف العقل بغير دليل وأنشأ كلاما يصف به العقل ولا يعارض الدليل .

    وقد حدث أن الإمام أحمد أنكر على الحارث المحاسبى اشتغاله بالكلام مما يوهم أن المحاسبى كان على غير طريقة السلف ، والحقيقة أنه أنكر عليه أسلوبه فى الدفاع عن أهل السنة من خلال علم الكلام ونقل شبهات المخالفين ثم الرد عليها  ، فلعل الشبهة التى ينقلها تكون أقوى من رده فيحدث عكس ما يريد ، فلم تكن حملته عليه شكا فى عقيدته لأنهما يتفقان فى المصدر والمسلك ولا أدل على ذلك من اسشهاد شيخ الإسلام ابن تيمة بكلامه فى كتابه الفتوى الحموية وغيرها (2) .

   ويذكر الشيخ سلامه العزامى أن الذى سلك علم الكلام من مشايخ الصوفية إنما أراد بذلك نصرة أهل السنة واستخراج الأصول الدينية من ــــــــــــــــــــــــ

1- القصد والرجوع إلى الله للمحاسبى ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار التراث العربى ، طبعة  1980م ص 11 ، أعمال القلوب والجوارح للمحاسبى ص 46 .

2- انظر تفصيل ما حدث بين أحمد والمحاسبى فى المنقذ من الضلال لأبى حامد الغزالى ص 34، 35 وتاريخ بغداد حـ 8 ص 114 ، قوت القلوب ص 168 ميزان الاعتدال حـ 1 ص 200 ، أستاذ السائرين الحارث ابن أسد المحاسبى ، للدكتور عبد الحليم محمود ص 17 ، 18 .

الكتاب والسنة للرد على  المبتدعة من القدرية والجهمية وغيرهم ، وذلك لما استفحل جدلهم وقــويت شوكتهم وقد كان من آثار ذلك ظهور كتب التوحيد والعقائد  (1) .

    وهذا المنهج سلكه الكلاباذى (2)  فى التعرف فى أكثر من موضع عنده ذكره لاعتقاد الصوفية فيذكر فى قولهم فى القدر وخلق الأفعال لله تحت قوله تعالى : { إنا كل شئ خلقناه بقدر } (3) .

    وأجمعوا أن الله خالق أفعال العباد كلها كما أنه خالق لأعيانهم ، ثم يتحول إلى متكلم ماهر فيبين أن الأفعال أكثر من الأعيان ، فلو كان الله خالق الأعيان والعباد خالقى الأفعال ، لكان الخلق أولى بصفة المدح فى  الخلق من الله تعالى ولكان خلق العباد أكثر من خلق الله .... إلي آخر ـــــــــــــــــــــــ

1- البراهين الساطعــة فى رد بعـض البـدع الشائعة للشيخ سلامة العـزامى ص 181  182 ، وانظر دراسات فى الفلسفة الإسلامية د . محمود قاسم ص 72 ، 73 .

2- هو محمد بن إبراهيم بن يعقوب الملقب بتاج الدين الكلاباذى البخارى  ، من أهل بخارى كان حنفيا فى الفقه وصوفيا فى المسلك  ، له مشاركة فى مختلف العلوم وله كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف ، وهو من أوائل الكتب فى هذا الباب وقالوا فيه : لولا التعرف ما عرف التصوف ، توفى سنة 380 هـ انظر ترجمته فى كشف الظنون لحاجى خليفة حـ 6 ص 155 طبعة سنة 1858م والأعلام للزركلى حـ 2 ص 23 .

3- القمر / 49 .

 

ما ذكر (1) .  

  وعلى الوتيرة نفسها نجد أن المكى فى قوت القلوب يستخدم العقل فى إثبات  صفة الكلام وخلق الأفعال لله عز وجل مؤيدا بذلك منهج السلف الصالح (3) .

   وهم بذلك يقررون أن العقل الذى خلقه الله وأبدعه فى الإنسان لا يتعارض مع النقل الثابت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم 

 [3] - الأمر الثالث فى المنهج الصوفى أنهم بدءوا طريقهم فى معرفة العقيدة بالتزام التوحيد أولا بمعنى أنهم أفردوا الله بذاته وصفاته وأفعاله عن ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم وكل المقاييس التى تحكمهم  ليثبتوا بذلك أن النصوص الواردة فى صفات الله على ظواهرها ، وأنها لا تدل على التشبيه وإنما تدل عليه وحده دون سواه .

   فالمعتزلة تنكروا لصفات الله ظنا منهم أن إثباتها يدل على التشبيه وظواهرها هى المستخدمة فى حق البشر ، فتحاملوا عليها بالتعطيل والتأويل بغير دليل تحقيقا للتوحيد أو الأصل الأول من أصولهم ، فشبهوا صفات الله تعالى بصفات المخلوقين وأخضعوها للأقيسة العقلية التى تحكمهم  فى عالم الشهادة ،  ثم عطلوا صفات البارى حتى ــــــــــــــــــــــــ

1- التعرف ص 60 . 

2- قوت القلوب حـ 2 ص 126 .  

 

لا يخضع لهذه الأقيسة ليخرجوا من شبهة التشبيه بزعمهم (1) .

    ولكن أوائل الصوفية شأنهم فى ذلك شأن السلف الصالح حيث أخرجوا ذات الله وصفاته وأفعاله بداية من المقاييس التى تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم على عكس طريقة المعتزلة وهذا هو مقصدنا بأنهم بدأوا بالتوحيد أولا .  

 يقول الجنيد : ( التوحيد إفراد القديم عن الحدث ) (2) .

  يقول الهجويرى معقبا : ويعنى ذلك أنه لا يجوز لك اعتبار القديم محلا للحادث ومقاييسه ، ولا الحادث أن يكون محلا للقديم (3) .

   فما يحكم المخلوق من أقيسة لا يصلح أن يطبق على ذات الله وصفاته وأفعاله عندهم ، وهذا حق يدل عليه منطق العقل ، ولذا يفصح الجنيد عن المعنى السابق بقوله :

   ( التوحيد هو إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديتة ، وأنه الواحد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، بنفى الأضداد والأنداد والأشباه بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل لقوله تعالى : { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير  } (4) .

ـــــــــــــــــــــــ

1- الإبانة عن أصول الديانة ص 106 ، الانتصار للخياط ص 126 .

2- كشف المحجوب للهجويرى ص 334 ،  والرسالة القشيرية حـ 1 ص 28 ، 29  

3- السابق ص 334 .

4- الشورى / 11 ، وانظر التعرف لمذهب أهل التصوف ص 33 .  

 فهذه الأية جعلها الجنيد أساسا لاعتماده الكلى فى إبراز اعتقاده حيث تضمنت التوحيد وإفراد المتوحد أولا ثم إثبات الصفات ثانيا على ما يليق بجلال الله وعظمته .  

 سئل أبو على الروذبارى (1) عن التوحيد فقال :  

    التوحيد فى كلمة واحدة كل ما تصوره الأوهام والأفكار فالله سبحانه وتعالى بخلافه لقوله تعالى : { ليس كمثله شى وهو السميع البصير }  (2) .

    فاعتمد الروذبارى فى اثبات التوحيد على منع العقل من العمل فى إدراك كيفية الذات والصفات والأفعال ، لأن العقل تحكمه المقاييس والله لا يقاس على شئ من خلقه ، وما جاء شئ فى الوحى يخبر عن كيفية الذات والصفات وكل ما ورد إنما هو فى إثبات حقائق الصفات وذلك بناء على قوله تعالى :

    { ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء } (3)

ـــــــــــــــــــــــ

 1- هو أحمد بن محمد بن القاسم الروذبارى ، من أهل بغداد سكن مصر ومات فيها من أصحاب أبى القاسم الجنيد وكان عالما فقيها حافظا للحديث توفى سنة 322 هـ  انظر حلية الأولياء حـ 10  ص 356 ، البداية والنهاية حـ 11 ص 181 ، المنتظم حـ 2 ص 272 ، شذرات الذهب حـ 2 ص  296 ، صفة الصفوة حـ 2 ص 256    طبقات الشعرانى حـ 1 ص 124 ، تاريخ بغداد حـ ا ص  329 .

2- الشورى / 11 ، وانظر الرسالة القشيرية حـ 1 ص 329 .  3-البقرة / 255 .

    يقول المكى : ( ونعتقـد نفى التشبيه والتكييف عن الأسماء والصفات إذ لا كفـوء للموصوف فيشبه به ولا مثــل له فيجنس منه ولا نشبه ولا نصف (1) ولا نمثل ونعرف ولا نكيف  ) (2) .

    فالصوفية يعتبرون نصوص الصفات على ظاهرها وأنها موضوعة للدلالة على الخالق لا على المخلوق ، فهو منفرد بها لا يشاركه فيها  غيره كما بين المكى أنه لا كفوء للموصوف فيشبه به .

 [4] - إثبات الصفات على الحقيقة لا على المجاز  .

    ولئن كان التوحيد الذى قرره أهل الاعتزال أدى إلى أن تنكروا لأخبار الصفات بناءا على الأصل الفكرى القائل بأن إثبات الصفات شئ زائد على ذات الله لم يكن من قبل (3) .

    فإن الصوفية بعد اثباتهم للمباينة بين الخالق والمخلوق وإفرادهم له بالتوحيد أثبتوا الصفات على مراد الله وعلى الحقيقة لا على المجاز

ــــــــــــــــــــــــ  

1- قوله : ولا نصف عنى به تفويض العلم بكيفية الصفة إلى الله ، فهو يثبتها وجودا وينفى العلم بها إلزاما ، لأنه لن يتمكن من وصفها لقوله تعالى : { ولا يحيطون به علما } ولا يعنى بقوله ولا نصف تفويض المعنى الذى دلت عليه النصوص لأن هذا لازمه أن القرآن بلا معنى .     

2- قوت القلوب حـ 2 ، ص 124 .  

3- نهاية الإقدام فى علم الكلام للشهر ستانى طبعـة  اكسفورد سنة 1934م ص 83 ، 84 ، المنية والأمل لابن المرتضى ص 35 ، أصول الدين لعبد القادر البغدادى  طبعة اسطنبول ص 138 .  

    وعلموا أنه لا يصف الله أعلم بالله من الله ولا أعلم بالله من رسول الله وفى هذا يقول المكى : ( ولا يشبه بالقياس والعقل ولكن يعتقد اثبات الأسماء والصفات بمعانيها وحقائقها ) (4) .

      فنبة المكى أن المعنى الذى تحمله النصوص معلوم واضح فهو وارد بلغة العرب وأنه دل علىحقيقة ثابتة وإن لم نعلم كيفيتها ، فالصفات عنده على الحقيقة لا على المجاز .  

   ويؤكد الكلاباذى أن الصفات التى أثبتها أهل التصوف حتى عصره هى صفات حقيقية ، وإن  له سبحانه وتعالى سمعا وبصرا ووجها ويدا على الحقيقة ليس كالأسماع والأبصار والأيــدى والوجوه (2) .

  يقول الكلاباذى :  

   ( ومن جعل صفة الله وصفه له من غير أن يثبت لله صفة على الحقيقة فهو كاذب عليه وذاكرا له بغير وصفه .. فهو سبحانه وتعالى موصوف بصفة قائمة به  ليست ببائنة عنه ) (3) .

    ويستدل فى رده على المعتزلة القائلين :عالم بعلم هو ذاته ، وأن الصفات هى عين الذات بقوله تعالى : { أنزله بعلمه } (4) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- قوت القلوب حـ 2 ص 124 .

2- التعرف لمذهب أهل التصوف ص 05 .  

3- السابق ص 51 .

4- النساء /  166.

وبقوله : {  فلله العزة جميعا } (1)   . 

  وهم بذلك يبرزون منهج السلف الصالح ويتكاتفون معهم فى نصرته  جاء رجل إلى الإمام مالك رحمه الله فقال يا أبا عبد الله :

      { الرحمن على العرش استوى  } (2)  كيف استوى ؟ فأطرق مالك وأخذته  الرحضاء  ثم رفع رأسه فقال :  ( الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، وأنت صاحب بدعة وأمر به فأخرجوه ) (3) .

    فمنهج الصوفة الأوائل  لا يختلف فى شئ عن مذهب الامام مالك   لأنه فرق فى كلامه كما فرق الصوفية بين إثبات حقيقة الصفة وكيفيتها التى تليق بالله من خلال المعنى الذى دل عليه النص وبين جهلنا بتلك الكيفية ، ومن ثم كان غضبة على السائل لكونه سأل عن كيفية الاستواء لامعناه .

   وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : ( لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لايتجاوز القرآن والحـديث  ــــــــــــــــــــــــ

1- فاطر / 10 وانظر السابق ص 51 .  

2- طه / 5 .

3- مختصر العلو للعلى الغفار ص 264 .  

 

   وقيل له : الله فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه وقدرته وعلمه بكل مكان ؟ قال : نعم وهو على عرشه ولا يخلو شئ من علمه ) (1) .

   وقــد جمع ابن تيميه بين أئمة السلف ومشايــخ الصوفيـة فى نص واحد فيقــول :

    ( وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق فى الأمة مثل سعيد بن المسبب والحسن البصرى وعد منهم مالكا والشافعى وأحمد وبشرا الحافى والجنيد بن محمد وسهلا بن عبد الله التسترى وعمر بن عثمان المكى  ، وأمثال هؤلاء المشايخ ، كل هؤلاء متفقــون على أن الله سبحانه ليس هــو خلقه ولا جزءا من خلقه ولا صفة لخلقه ، بل هو سبحانه متميز بنفسه بائن بذاته المعظمة ) (2) .

   فأثنى على عدد كبير من مشايخ الصوفية الأوائل وعدهم من أئمة السلف الصالح وأن عقيدتهم ومنهجهم واحد وهو الاقتداء والالتزام بما فى الكتاب والسنة ، وأقوالهم هى أقوال سلف الأمة (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبى القاسم اللالكائى ص 165 .

2ــ كتاب توحيد الربوبية لابن تيمية ص 474 .

3- انظر الاستقامة لابن تيمية حـ 1 ص 142 ، وانظر الفتوى الحمـوية ص 35  37 ، 38 ، 42 .

 

   ومن ثم نلخص الى القول بأن المنهج الصوفى السلفى مبنى على الأمور الآتية :  

1- التسليم للوحى وتقديم النقل على العقل عند التعارض  . 

2- دور العقل حيال النقل هو التلقى والفهم وجواز عمله فى إبراز معانى النصوص ومقاصدها فالعقل مطية للنقل وحامل له .

 3- إفراد ذات الله وصفاته وأفعاله عن المقاييس التى تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم .  

 4- إثبات الصفات على مراد الله ورسوله على الحقيقة لا على المجاز وبلا تفويض فى معانى النصوص .

5- الكف عن طلب الكيفية التى دلت عليها النصوص ، لأن هذا خارج عن مداركنا والخوض فيه قول على الله بلا علم وهو من أعظم الحرمات عند الله

  • الاثنين PM 04:08
    2021-08-16
  • 2278
Powered by: GateGold