المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412612
يتصفح الموقع حاليا : 268

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629116672944.jpg

دراسة فى مفهوم الحرية

وقد اشتمل على ثلاثة مباحث :

 المبحث الأول :

                 الحرية لغة وشرعا .

المبحث الثـانى :

                الحرية فى تاريخ الفكرالإسلامى .

المبحث الثالث :

                 الحرية ومنهج الحياة الإسلامية  .

 

 

 

 

 

 

*** المبحث الأول ***

الـحــــرية لغـــــــة وشــــــــرعا

    تنبئ هذه الكلمة بتصاريفها فى اللسان العربى عن معانى كثيرة ترجع إلى معنى الخلوص والتحرر مـن القيود وعدم الإكراه أو الضغط على إرادة الإنسان .

   يقول الراغب الأصفهانى : ( حررت القوم إذا أطلقتهم وأعتقتهم عن أسر الحبس ، والتحرر جعل الإنسان حرا والحر خلاف العبد ) (1) .

   قال تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } (2) .

   والرقبـة اسم للعضو المعروف جعــل فـى التعارف علما على المملوك إذ أنه مقيد بإدارة سيـده وعتق الرقبة إخراجهـا للحرية ورفع القيود عنهـا (3) .

   وقد جاء الإسلام فى وقت انتشر فيه الرق فرغب فى الحرية والعتق صونا لآدمية الإنسان وتحريرا لإرادته التى منحه الله إياها .

    قال الإمام البغوى فى قوله تعالى :{ فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة } (4) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- المفردات للراغب الأصفهانى تحقيق محمد السيد كيلانى طبعة الحلبى ص11.

2- النساء / 29.      

3- السابق ص 201 .

4- البلد 12:11 .

    قولــه : { فلا اقتحــم العقبة  } يعنى لم يقتحـم العقبة فى الدنيا أى لـم يتحمل الأمــر العظيــم فى طاعة الله ، ثم فسر اقتحام العقبة بفك الرقاب ومنحهــا الحرية (1) .

   وفى الحث على حرية الإرادة والتـرغيب فى العتـق يقول رســول اللـه صلـى اللـه عليه وسلـم :

   (  أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما ، فإن الله عز وجل جاعل وقاء كل عظم من عظامه عظما من عظام محرره من النار ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل قاء كل عظم من عظامها عظما من عظام محررها من النار يوم القيامة ) (2) .

   فالمعنى السائد للحرية بين العرب ما يقابل الرق والعبودية .

   وهناك بعض المعانى التى تقابل معنى الحرية وتحقيق الرغبة استخدمت فى الشرع منها :

1- الإكراه : ويعنى سلب الإرادة وتحقيق الرغبة ولذلك اشترط الفقهاء

ــــــــــــــــــــــــ

1- شرح السنه للبغوى تحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط ، طبعة المكتب الإسلامى حـ 9 ص 251 .

2- أخرجه أبو داود فى سننه فى كتاب العتق باب أى الرقاب أفضل رقم الحديث (3965) والنسائى فى كتاب الجهاد ، باب ثواب من رمى فى سبيل الله برقم (3144) وابن ماجه فى كتاب الجهاد ، باب الرمى فى سبيل الله برقم (2812) .

   أن يكون العاقد فى البيع حرا مختـارا فى بيع متاعه ، فإذا أكره على بيع ماله بغير حق فإن البيـع لا ينعقـــد لقولــــه تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } (1) ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) (2) .

    فحرية التصرف والاختيار من الأمور الأساسية فى البيع والشراء  والرضى فى الإنسان يعنى علامة الكمال فى تحقيق حريته ومن ثم فلا بد من القبول والإيجاب فى العقود  وفى الحديث : ( البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر ) (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- النساء / 92 .  2- انظر معرفة السنن والآثار عن الإمام الشافعى تصنيف البيهقى ، طبعة دار الكتب العلمية حـ 7ص 326 ، والمغنى بالشرح الكبير لموفق الدين بن قدامه  طبعة دار الكتاب العربى حـ 4 ص 3 ، والحديث أخرجه ابن ماجه فى سننه كتاب الطلاق حديث رقم (16) والبيهقى فى سننــه حـ 10 ص  60 والحاكم فــى المستدرك حـ 2 ص 98 وابن عدى فى الكامل حـ 2 ص 758 والخطيب البغدادى فـى التاريخ حـ 7 ص 377 .

3- أخرجه البخارى فى كتاب البيوع ، باب كم يجوز الخيار حـ 3 ص 83 ومسلم فى كتاب البيوع ، باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين حديث رقم (1531) وأبو داود فى سننه كتاب البيوع والإجارات ، باب فى خيار المتبايعين حديث رقم (3454) والنسائى فى البيوع باب وجوب الخيار للمتابعين حديث رقم (4470) والترمذى فى البيوع حديث (1254) وأخــرجـه ابن ماجه فى كتاب التجارات  باب البيعان بالخيار مـالـم يفترقــا حـديث رقــم (2181) .

2- الحجر : وهو المنع والتضييق على المديون أو السفيه والحد من حرية التصرف فيما يملك ، قال الإمام الشافعى رحمه الله : الحجر ثابت على اليتامى حتى يجمعوا بين خصلتين :

  البلوغ والرشد لقوله تعالى :{ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } (1) ويختبر اليتيم فإذا أحسن التصرف فى ماله وأصلحه رفع عنه الحجر (2) .

3- وفى معنى الإكراه والحجر الغصب : وهو الاستيلاء على حقوق الغير قهرا وهو نوع من السلب لحرية الإنسان وآدميته ولذلك فإن الشرع حرمه ، قال تعالى : { يأيها الذين آمنو لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } (3) .

  وفى الحديث : ( إن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا ) (4) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- النساء / 6 .              2- الأم للإمام للشافعى حـ 3 ص 215 ومعرفة السنن والآثار حـ 4 ص 457 .                  3- النساء / 29 .

4- أخرجه مسلم فى كتاب الحج ، باب حجة النبى صلى الله عليه وسلم حديث رقم (1218) وأبو داود فى كتاب المناسك ، باب صفة حجة النبى صلى الله عليه وسلم برقم (1905) والنسائى فى كتاب الحج ، باب الجمع بين الظهر والعصر بعرفه برقم (2713) وابن ماجه فى كتاب المناسك ، باب حجة النبى صلى الله عليه وسلم برقم (3074) .

    ويقسم ابن منظور الحرية إلى ضربين :

    الضرب الأول : من لم يجر عليه حكم الشئ كقوله تعالى : { يـا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى الحر بالحـــر والعبـد بالعبد } (1) .

    الضرب الثانى : من لم تتملكه الصفات الذميمة من الحرص والشره على المقتنيات الدنيوية ، وإلى العبودية التى تضاد ذلك أشار النبى صلى الله عليه وسلم بقوله : ( تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة ) (2) .

    وعلى الضرب الثانى بنى الصوفية اصطلاحهـم فى إطلاق اسم الحرية على من خلع عن نفسه أمارات الشهوة ومزق سلطانها بسيوف المخالفة كل ممــزق (3) .

    ومن ثم فالحرية تقابل العبودية عند الصوفية بناء على المعنى اللغوى

ــــــــــــــــــــــــ

1- البقرة / 178 .

2- جزء من حديث أبى هريرة رضى الله عنه ، أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد  باب الحراسة فى الغزو فى سبيل الله برقم (1887) وأخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة ، باب فضل الضعفاء والخاملين برقم (2622) وانظر لسان العرب لابن منظور طبعة دار المعارف القاهرة حـ 2 ص 829 .

3- اللمع للسراج الطوسى ص 450 وانظر الحرية فى الإسلام تأليف محمد الخضر حسين طبعة دار الاعتصام القاهرة  سنة 1982 ص 15 .

  القيود وأوصافها ، إذ الحرية تعنى التخلص من القيود التى تحد من حركة الإنسان فى أقواله وأفعاله فـى تناسب مطرد بحيث تظهر نسبة الحرية فى الإنسـان إذا حـددت نسبـة القيود فيه ، ويقسم الـراغب الأصفهانى هذه القيود على أربعـة أضــرب فى معنى العبودية :

 [1- عبد بحكم الشرع وهو الإنسان الرقيق الذى يصح بيعه وابتياعه نحو قوله تعالى : { العبد بالعبد } (1)  وقوله تعالى : { وعبدا مملوكا لا يقدر على شئ } (2) .

[2- عبد بالإيجاد وطبيعة الخلقة وذلك ليس إلا لله وأياه قصد بقوله تعالى : { إن كل من فى السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا } (3) .

[3- عبد بالعبادة والخدمة فى تطبيق شرع الله والالتزام بهديه وهو المقصود بقوله تعالى { إن عبادى ليس لك عليهم سلطان } (4) وبقوله : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا } (5) فكل هذه المعانى تدل على التزامهم بمنهج الله وشرعه .

[4- عبد للدنيا وأعراضها وهو المعتكف على خدمتها ومراعاتها ، وإياه ــــــــــــــــــــــــ

1- البقرة / 178 .         

2- النحل / 75 .             3- مريم / 93 .

4- الحجر / 42 .           5- الفرقان / 63 .                                                               

قصد النبى بقوله فى الحديث السابق : ( تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم ) (1) .

  • والحرية فى ارتباطها بمعنى العبادة على ضربين :         

ا ــ حرية اختيار لفعل دون آخر وهى مجال الإرادة البشرية والناس بهذا الاعتبار كلهم عبيد لله إذ أنهم خلقوا خاضعين لهذه الفطرة ، ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة : ( ياعبادى إنى حرمت الظلم على نفسى ) (2) .              

ب ــ حرية تحرر من الأفعال المذمومة بوصف الشرع إلى الأفعال المحمودة وعلى هذا الاعتبار يصح أن يقال : ليس كل إنسان عبدا لله أو مسلمــا (3) .                     

   وفى المعنى الأول اتسع المجال للبحث بين الفلاسفة والمتكلمين فى إثبات الحرية الإنسانية أونفيها عبر التاريخ البشرى ، وفى المعنى الثانى كانت وقفة أوئل الصوفية فى إخراج مصطلح جديد لمعنى الحرية .                               

ــــــــــــــــــــــــ                                             

1- المفردات للراغب الأصفهانى ص 319 بتصرف والحديث تقدم تخريجه ص 22 .

2- جزء من حديث أبى ذر الغفارى رضى الله عنه ، أخرجه مسلم فى كتاب البر والصلـة  برقم (2577) وأخرجه الترمذى فى كتاب صفة القيامة  برقم (2495) وأخرجه عبد الرزاق فى مصنفه  برقم (2072) و ابن حبان فى صحيحه  ، انظر الإحسان فى تقريب صحيح ابن حبان حديث رقم  (619) .                      

3- المفردات بتصرف ص 318 .                 

 *** المبحث الثـانى  ***

الحرية فى تاريخ الفكر الإسلامى

   تعتبر مسألة القدر وعلاقته بالحرية الإنسانية من الموضوعات الهامة التى شاع الجدل حولها قديما وحديثا لدى الفرق والطوائف الإسلامية المختلفة فبعد ظهور هذه الفرق أضحت هذه المسألة حجر الزاوية فى فكر كل فرقة وعقيدتها إذ أنها تعكس أثرا واضحا على منهج التفكير فى الحياة .

   وقد ظهرت وجهات نظر متتعددة ومختلفة وأدلى كل منهم بدلوه إيزاء هذه المسألة وقد كان السؤال الذى يطرح نفسه بإلحاح ويمثل جوهر الموضوع لدى كل فرد هو : إذا كان قدر الله شاملا لكل شئ وقضاؤه نافذا لا محالة فلم يحاسب الإنسان على أفعاله وهى مقدرة ومسجلة قبــل أن يفعلها ؟       

* أولا : مذهب الجبرية :  ويذكر القرآن منطق المشركين المغالطين فى محاولتهم التنصل من المسؤلية المتعلقة بالاختيار الحر وتجاهلهم للإرادة الإنسانية وفعلها مستندين إلى الرجوع بكل شئ وكل حادث وكل فعل إلى مشيئة الله كعلة أولى ووحيدة ومباشرة لشركهم وكفرهم .

  قال تعالى فى شأنهم  : { سيقول الذين أشركوا لوشاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين مــن قبلهـم

حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم الله فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن إن أنتم إلا تخرصون  } (1) .

 { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هـم إلا يخـرصـون  } (2) .                                             

    والملاحـظ فى رد الله سبحانه وتعالى على قـول المشركين الـذين يحتجون بالجبر أنه يصفهم بالجهل والكذب ، لأن  إفراد الله بالخلق والفاعلية لا يتعارض ولا يتنافى مع إثبات الإرادة الإنسانية وفاعليتها باعتبارها إرادة مختارة ، حيث أن هذه الإرادة ومدى فاعليتها وحدود عملها ومجال اختيارها كل ذلك بمشيئة الله وإذنه وقدره ، وحيث أن الله هو الذى أضلهم ولكن بناء على اختيارهم للضلال وإيثارهم له على ضده ولذلك قال فى الرد عليهم وعلى المنكرين للحرية والاختيار :                       

{  قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } (3) ومعنى أن لله الحجة البالغة أن الناس لن يستطيعـوا يوم القيامة الاحتجــاج بالجبر (4)

   والقول بالجبر عند المشركين قديم كما ورد فى القرآن الكريم إلا أنه ــــــــــــــــــــــــ                                

1- الأنعام / 148 .            2- الزخرف /20 .                    

3- الأنعام / 149  .               

4- زاد المسير فى علم التفسير لأبى الفرج جمال الدين ابن الجوزى ، تحقيق محمد عبد الرحمن عبد الله ، طبعة دار الفكر  سنة 1987م  حـ 3 ص 99 .

   نشأ على المستوى الفكرى أو فى مجال علم الكلام مرتبطا بنشأة التأويل العقلى فى المتشابه من آيات القرآن وأحاديث السنة ، فالمؤسس الأول للجبرية على المستوى الفلسفى هو الجهم بن صفوان (1) .                     

    ويذكر الدكتور على سامى النشار أن طائفة المجبرة نشأت فى الأصل على يد الجعد بن درهم ثم الجهم بن صفوان أثناء حكم بنى أمية (2) حيث اتخذوا مـن القول بالجبر منطلقـا عقيديا يبررون به أعمالهم السياسـية (3) .

    ويقسم الشهرستانى الجبرية إلى نوعين : الجبرية الخالصة وهى التى لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة علـى الفعـل أصلا ، الجبرية المتوسطة وهــى التى تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة فى الفعـل (4) .

    والجهمية من الصنف الأول فالإنسان عندهم معدوم الفعل والحرية ــــــــــــــــــــــــ

1-  مفتاح السعادة  لطاش كبرى زاده حـ 3 ص 33 .

2-  انظر فى ذلك نشأة الفكر الإسلامى للدكتور على سامى النشار ، طبعة القاهرة  سنة 1969 حـ 1 ص 329 .

3-  المحيط بالتكاليف للقاضى عبد الجبار تحقيق عمر عزمى ، ص 422 والمنية والأمل لأحمد بن المرتضى ، تحقيق نوما آرنولد طبعة حيـــدر آبـــاد سنة 1902م ص 30 .

4- الملل والنحل للشهرستانى تحقيق محمد السيد الكيلانى  طبعة القاهرة سنة 1961م حـ 1 ص 87 .

ويخلـق الله فيه الأفعـال كما يخلقهـا فى سائر الجمادات ونسبــة الأفعـال إليه على المجاز كما يقال : زالت الشمس ودارت الرحى وأثمرت الشجرة (1) .

* ثانيا : مذهب القدرية :  

   وفى مقابل مذهب الجبرية يذكر القرآن الكريم طائفة ظنت أن القوانين الطبيعية التى أوجدها الله فى الكون ورتب نظام الحياة الدنيا عليها تعلو على القدرة الإلهية ، فنسبت إليها الفاعلية أصالة دون الله سبحانه وتعالى إذ يقول فى شأنهم :

   { وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } (2) .          

    فهؤلاء نسبوا الفاعلية للأشياء والأحياء على وجه الحقيقة وليس لله عز وجل ، فنتيجة الألفة والتكرار للقوانين والسنن الطبيعية وتتابع الأسباب والعلل وظهور نتائجها على الدوام بحركات رتيبة منتظمة أوحت إلى هؤلاء أن فى الطبيعة التى يحيا فيها الإنسان قوة فاعلة من دون الله ومن ثم ظهر اتجاه ينادى أنه لا قدر والأمر أنف .

ويكاد يجمع مؤرخو الفـرق أن معبدا الجهنى ( توفى بعد 80 هـ ) ــــــــــــــــــــــــ

1- الفرق بين الفرق للبغدادى ، طبعة دار الكتب العلمية بيروت لبنان ص 211  .

2- الجاثية / 24 .

هو أول من قال من المسلمين بنفى القدر والفاعلية الإلهية وكان ذلك فى آخر أيام الصحابة  (1) .

    وكان لهؤلاء أثر كبير فى ظهور مذهب المعتزلة القدرية بالصورة المستقلة وفى ثوبهم المتميز بالأصول الخمسة ولذلك صنفوهم على رأس طبقاتهم من أهل الاعتزال (2)  .

   وقد كانت مسألة خلق أفعال العباد من المسائل العظام فى التاريخ الفكرى للأمة الإسلامية ، فالمعتزلة اتفقوا على أن الاستطاعة صفة جوهرية للإنسان وأنها مصدر أول لأفعاله تحدث بها الأفعال دون تدخل للقدرة الإلهية خلقا أو تسيرا ، ورفض أكثرهم القول بأن الله قوى أحدا على الكفر وأقدره باعتباره خالقا لكل شئ مستدلين بقوله تعالى :

   { وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفســك }  (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر ميزان الاعتدال فى نقد الرجال للذهبى حـ 2 ص 141 وشفاء العليل فى مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ، طبعة  دار الفكر القاهرة  سنة 1978م  ص 139  .

2-  نشأة الفكر الإسلامى د. على سامى النشار حـ 1 ص 313 .

3- النساء / 97 وانظرالمنية والأمل لابن المرتضى ص 15 ومقالات الإسلاميين حـ 1 ص 81 والفرق بين الفرق ص 153 ، والملل والنحل حـ1 ص 66 .

   ويجمع المعتزلة إلا قليلا منهم على أن الاستطاعة البشرية محدثـة للفعــل وليسـت مكتسبـة له (1) .

ثالثا : المذهب السلفى :

    وقد دارت الدائرة بين الجبرية والقدرية كعقيدتين متقابلتين ومنحرفتين فى مسألة القدر والحرية من  ناحية ، وبين السلف الصالح من ناحية أخرى ، حيث يؤكد السلف أن القرآن الكريم يثبت فى وضوح وجلاء بالنصوص العديدة وجود وجهين لأفعال البشر :    

 الأول : هو كون الفعل مخلوقا لله ومقدرا بمشيئته وواقعا ككل شئ فى الكون بفاعليته تعالـى كقوله : {  ألا له الخلق والأمر } (2) .

{ الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل } (3) .

  الوجه الثانى : وهو كون هذا الفعل فى نفس الوقت مختارا للعبد ومكتسبا باسطاعته ومفعولا بفاعليته منسوبا إليه بهذا الاعتبار . 

   فقال تعالى : { لمن شاء منكم أن يستقيم  } (4) وقـال : { ولله على النـاس حـج البيـت مـن استطاع إليه سبيلا } (5) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- مقالات الإسلاميين حـ 1 ص 81 .

2- الأعراف / 54 .

3- الزمر / 62  .

4- التكوير /28 .             

5- آل عمران / 97 .

   وقـال : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } (1) .

   ففرقوا بين أمر الله الكونى المتعلق بالربوبية وأمره التشريعى المتعلق بالعبودية ، ومن ثم فالفعل البشرى إذا وقع باختيار الإنسان ونيته مخالفا للشرع أو لأمر الله التشريعى كان معصية وشرا .

   ووجه الشر هنا ليس منسوبا لله إلا أن الله هو خالق الفعل سواء كان خيرا أو شرا ، فالله سبحانه وتعالى هو الخالق لكل شئ حتى معاصى العباد وهو الذى أقدرهم على فعلها لأنه تعالى شاء أن يبتليهـم فقال : { إنــا خلقنا الإنســان مــن نطفــة أمشاج نبتليــه فجعلناه سميعــا بصــيرا  } (2)

    وقال سبحانه وتعالى : { تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شئ قدير الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهـو العزيز الغفـور } (3) .

     ومن ثم تصبح الاستطاعة البشرية والأشياء الطبيعية وأفعالهما المخلوقة لله كلها أفعال وتأثيرات احتمالية يتساوى بها جميعا وقوع الشر والخير ، أما حركة الأفــلاك والنجــوم والشمـس والقمر وســائر ــــــــــــــــــــــــ

1- البقرة / 286 .

2- الإنسان / 2 .

3- الملك / 1 ، 2 .

الأجرام السماوية فلها حركة اضطرارية جبرية كما أرادها الله لها بالأمر الكونى ، فليس أمامها إلا فعل واحد وحركة واحدة مطردة ينبئ ماضيها عن مستقبلها بدقة فائقة شأن الملائكة المكرمين الذين قال الله فيهم  : { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون }  (1) .

    فأفعالهم ذات اتجاه واحد ولا يوجد حيالها سوى احتمال واحد بخلاف الانسان فهو فى كل موقف يبتلى فيه  يجد أمامه احتمالين عليه أن يختار ويفعل واحدا منهما ولا يمكن الجمع بينهما ، على ذلك فالطريق الذى سلكه السلف الصالح والذى يعتمد فى جوهره على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد أمرا وسطا للجمع بين آراء الجبرية والقدرية (2)  .

   ولئن كان القدرية قد قالوا ليس فى الإمكان أبدع مما كان تنزيها لله فى فعله من أن يفعل ما هو قبيح أو ناقص أو معيب أو شر ، بل ورغبة منهم فى القول بأن الله سبحانه وتعالى بوصفه الموجود الكامل المطلق الواحد الأحد فى كماله لا يخلق أو يفعل إلا مخلوقا تاما أو فعلا حسنا ــــــــــــــــــــــــ

1-  التحريم / 6 .    

2- انظر فى ذلك شفاء العليل ص 280 وما بعدها ، مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم مكتبة المتنبى القاهرة حـ 1 ص 226 ، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبى العز الحنفى تحقيق محمد ناصر الدين الألبانى ص 219 ، قوت القلوب لأبـى طـالب المكى حـ 2 ص  17  . 

وخيرا  اعتقادا منهم فى قوله تعالى  : { الذى أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } (1) .

  وقولــه : {  فتبارك الله أحسن الخالقــين }  (2) .

     إلا أنهم تغافلوا عن لازم قولهم وهو نفى المشيئة المطلقة عن الله لأنه مادام لا يخلق ولا يفعل إلا الأصلح ، فهو لا يختار بين ممكنات باعتبار أن الأصلح دائما واحد ، كما أنه يضيق مجال الفاعلية الإلهية من حيث يجعل خلق العالم بهذه الكيفية التى هو عليها واجبا على الله وحتما عليه فى فعله كما أنه يحد من القدرة حيث يجعل خلق غير العالم محال عليه كما يجعل فعل ما لا يحدث محال على قدرته كذلك ، كل ذلك نتيجة لمذهب المعتزلة فى الصلاح والأصلح  .

   وفى مقابل مذهب المعتزلة القدرية رفع أصحاب الجبر شعارهم فقالــوا : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن إطلاقا للمشيئة الإلهية وتحقيقا  للقدرة ووصفا للفاعلية الإلهيـة بما يليق بها ، وهذا وإن كان ــــــــــــــــــــــــ

1- السجدة / 7 : 9 .

2- المؤمنون / 14 .

حقا إلا أن الاكتفاء به يلزم أصحابه بنسبة ما يقع فى العالم من شرور وقبائح لله ، وقد وجدنا أن ذلك واقع من الناس وبفعلهم وإن كان بمشيئة الله وقدره (1) .    

   والحقيقة التى أثبتها السلف الصالح حيال هذا الأمر أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهو ما يحدث بالأمر الكونى وواقع الربوبية وأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان لتحقيق الوضع الأمثل لابتلاء الإنسان فى الحياة الدنيا وتكليفه بالأمر الشرعى من قبل الله لتحقيق العبودية كمـا قال سبحانه  :

       { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون  } (2) .

    فالشعاران اللذان رفعهما الفريقان صحيحان بنص القرآن وليسا متعارضين بل إن اللبس والغموض والاضطراب فى هذه الحقيقة عند كل طائفة يكمن فى أن كلا منهما يتمسك بشعاره ويرفض الآخر .

      وفى حديث النبى صلى الله عليه وسلم عندما سأله سـراقة بــن

ــــــــــــــــــــــــ

1- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ص 228 وما بعدها مختصرا  وانظر اللمع فى الرد على أهل الزيغ والبدع  لأبى الحسن الأشعرى ص 115، وانظر الفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم ، دار الجبل بيروت لبنان حـ 3 ص201 ومـا بعـدها ، تاريـخ المـذاهب الإسلامية للإمام محمد أبو زهرة طبعة دار الفكـر العـربى ص121  .

2-  الذاريات /  56 .

مالك بن جشعم فقال : يارسول الله أنعمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أو فيما يسثقبل ؟

فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ؟

قال :  ففيم العمل ؟

قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم :

{ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى  } (1) .

   فالمتأمل فيه يجد الطريقين المتقابلين فى مسألة القدر والحرية ويجد المخرج من هذا التناقض ، فالله سبحانه وتعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وفى ذات الوقت جعل الإنسان حرا مختارا بالقدر الذى يدينه ويحمله المسئولية عن أفعاله الخلقية كل ذلك فى نسق فكرى واحد نزل به الوحى ، تظهر فيــه الغايــة من خلق الحياة الدنيـا والآخـرة قال تعالى : { ولو شاء ربك لجعـل الناس

ــــــــــــــــــــــــ

1- الليل / 5 : 10  .

2- أخرجه البخارى فى كتاب القدر ، باب جف القلم على علم الله برقم (6596) ومسلم فى كتاب القدر ، باب كيفية الخلق برقم (2647) وأخرجه أحمد حـ 1ص82  ، حـ4ص431 وابن حبان فى التقريب حـ 2 ص 45 برقم (334) والترمذى فى القدر ، باب ما جاء فى الشقاء والسعادة برقم (2136 ) .

أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } (1) .

    وقد نتج عن التفاوت فى علاج هذه القضية كم كبير من التراث الفكرى الإسلامى والأقرب فيهم إلى الحق هو الأقرب فى التمسك بمجموع الأدلة فى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    ولقد كان لكثير من أوائل الصوفية فى هذه المسألة وقفة سلفية تآزرت مع الفقهاء والمحدثين فى وقوفهم أمام المخالفين لكتاب الله سوف تتضح بإذن الله من خلال هذا البحث ، وقد يكون الشائع عن أوائل الصوفية أنهم يرغبون فى إخراج أنفسهم من عواق الحياة بهجرها والزهد فيها وايثارهم للخلوة والبرارى والصحارى عن التفاعل معها والخوض فيها كما هو الحال فى صوفية اليوم ، إلا أن أوائل الصوفية على الرغم من شطحاتهم ومخالفاتهم  لهم  جانب لا ينكر فى خدمة العقيدة السلفية ، فلهم إبداعات قيمة فى عرض مسألة القدر وعلاقته بالحرية الإنسانية تسفر عن فهم دقيق لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــ

1- هود / 118 ، 119  .

 *** المبحث الثالث  ***

الحرية ومنهج الحياة الإسلامية  

     إذا كانت الحرية تعنى استقلال الإرادة الإنسانية وحريتها فى اختيار أفعالها ، فإن الوجه المقابل لاستكمالها أن يعين للإنسان حد لا يتجاوزه وأن توضع نظم تمنع التعدى على حريات الآخرين فالحرية وسيلة وليست غاية إذ الغاية تكمن فى تحقيق الكمال الإنسانى المتمثل فى عبوديته لله سبحانه وتعالى كما قال جل ذكره : { وما خلقت الجن والإنـس إلا ليعبدون } (1) .

    ولقد حوى دين الإسلام من نظم الحياة لجميع أفرادها كل ما يحتاجه الإنسان من تشريع فى علاقته مع ربه ومع ملائكته وأنبيائه ومع أفراد نوعه من بنى البشر ، فبين لنا القرآن الكريم وفصلت لنا السنة النبوية كل ما يلزم الإنسان فى حياته اليومية من نظم تحقق الكمال الإنسانى فى اختياره وحريته ، وذلك فى مقابل النظم والتشريعات المكتسبة من التجربة واستحسان العقول فى الفلسفات الأخرى .

* الحرية فى المجال السياسى :

    ففى تنظيم العلاقة بين الراعى والرعية نجد أفكارا شتى عند السياسيين كل يدلى بدلوه ليحقق كمال الحرية من وجهة نظره وأقربهم ــــــــــــــــــــــــ

1- الذاريات / 56 .

إلى الحق أقربهم إلى النظم الإسلامية التى وضعها الله سبحانه وتعالى .

 فالمبادئ الأساسية التى كفلها الإسلام فى ذلك :

1- الحرية السياسية لكل أفراد المجتمع أو حق الأمة فى اختيار الحاكم .

2- حق الأمة فى مراقبته ومحاسبته على أعماله .

3- مبدأ الشورى .

   أما طريقة الاختيار للحاكم ، فإن الذى اتبعه الصحابة هو أن يبابيع أهل الحل والعقد الإمام أو الخليفة الذى تم الاتفاق عليه ، وأهل الحل والعقد هم أئمة المسلمين وفقهاؤهم ورؤساء عشائرهم وأمراء أجنادهم وذو الشوكة والمكانة والرأى فيهم (1) .

   والبيعة ( هى العهد على الطاعة فقد كان المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر فى أموره وأمور المسلمين ) (2) .

   وقد تولى الخلفاء الراشدون ـ وعهدهم هو العهد الذى يمثل مبادئ القرآن أصدق تمثيل ـ بطريق البيعة من أهل الحل والعقد .

   وقد قرر ابن خلدون حق الإمام فى تعيين خلفه على المسلمين مستندا ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر غياث الأمم فى التياث الظلم لإمام الحرمين أبى المعالى الجوينى  تحقيق ودراسة الدكتور مصطفى حلمى والدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد ص 46 طبعة دار الدعوة الإسكندرية مصر سنة 1979 .

2- المقدمة لابن خلدون تحقيق الدكتور على عبد الواحد وافى حـ 2 ص719 طبعة لجنة البيان العربى .

بتولية عمر بن الخطاب ، ولكن كلامه فيه نظر ، إذ أنه أغفل التفرقة بين الترشيح والتعيين حيث رشح أبو بكر عمر ولم يعينه ، وحيث تم تنصيبه ببيعة أهل الحل والعقد بعد وفاة أبو بكر رضى الله عنه (1) .

   أما حق الأمة فى محاسبة الحاكم ، فقد نص على ذلك أبو بكر وعمر وسائر الخلفاء فى خطبتهم الأولى بعد مبايعة الناس لهم بالخلافة كما أن ما حدث من عامة المسلمين لعثمان بن عفان خير دليل على ذلك ، وإن كانوا قد جاروا عليه باستخدامهم هذا الحق فى غير موضعه ودون مبرر معقول ومقبول .

  والحق الثالث للناس على الراعى حق الشورى لقوله تعالى : { والذين استجابـوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم } (2) فبين أن تلك صفة لازمة للمجتمع المؤمن كالصلاة وسائر الطاعات ومن ثم أمر نبيه أن يعامل المسلمين فى أمورهم بهذا المبدأ : { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر  } (3)  .

هذه الحقوق الثلاثة للرعية على الراعى مقابل حقه عليهم فى السمع والطاعة ما دام لا يأمر بمعصية تحقق المساواة التامة بين الناس من جهة وبينهم وبين الفئة الحاكمة من جهة أخرى ، وأساس هذه المساواة هى ــــــــــــــــــــــــ

1- الحرية فى الإسلام للدكتور على عبد الواحد وافى ص98 .

2- الشورى / 38 .

3- آل عمران : 159 .

حياتهم جميعا وفق شريعة الله تحقيقا للعبوديه ، و ذلك لأن المساواة الحقة بين أفراد مجتمع ما فى القيمة الإنسانية لا تكون إلا تحت لواء شرع ونظام ومنهج حكيم منزل عليهم مـن ربهم (1) .

* الحرية الدينية : 

  وقد راعى النظام الإلهى فى فطرة الناس الحرية التامة لكل فرد من الرعية فى اختيار دينه ذلك لأن الحرية هى الوسيلة لتحقيق  كيان  الفرد فى نفسه وفى مجتمعه ، ومن ثم فلا إنسانية بدون حرية ولذلك فإن التشريع القرآنى يكفل للفرد ضمانات صلبة وراسخة لحريته حيال المجتمع ، فجعل لكل فرد حق الاختيار فى كل أمور حياته وآخرته هزيلها وخطيرها مادام هذا الاختيار لا يتضمن اعتداء ظالما على غيره ومن ثم  فحرية اختيار الإيمان بالله أو الشرك به حق لكل إنسان يتحمل نتائجه : { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها } (1) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السياسة الشرعية ونظام الدولة الإسلامية فى الشؤن الدستورية والخارجية والمالية للشيخ عبد الوهاب خلاف ص25 وما بعدها بتصرف ، طبعة دار الأنصار القاهرة سنة 1977 م .

2- الكهف : 29 .

   وذلك لأنه مخلوق حر والحرية مكون أساسى فى طبيعته التى خلقه الله بها فما دام ذلك حقه الذى أعطاه الله له ، فليس من حق أحد أو أى سلطة أن تسلبه منه حتى لو كان ذلك لصالح الإيمان والإسلام .

   فلو أكره حاكم أحدا من رعيته على الإسلام لكان ذلك اعتداء منه على حق المكره الذى كفله الله له ، ورفض منه لارادة الله ومشيئته فى خلقه وذلك واضح صريح فى قوله تعالى لرسوله مبينا أنه ليس من حقه أن يكره أحدا على الإيمان : { ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } (1) .

   فما دام الله قد شاء أن يكون الناس أحرارا مختارين بين الإيمان والكفر فمن يكره إنسانا على الإيمان وهو مصر على الكفر أو الشرك ، فقد خالف مشيئة الله واعتدى على حق هذا الإنسان الذى وهبه الله له .    

   أما ماورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :

   ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله فمن قالها فقد عصم منى دماءه وماله ) (2)  فذلك لا يعنى إكراه الناس على الإيمان ــــــــــــــــــــــــ

1- يونس 99 .  2- حديث متواتر رواه البخارى فى كتاب الزكاه ، باب وجوب الزكاة برقم (1399) ومسلم فى كتاب الإيمان ، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله برقم (21 ) وأبوداود فى كتاب الزكاة برقم (1556) والترمذى فى كتاب الإيمان برقم (2609) والنسائى فى كتاب المحاربة برقم (3983) وابن ماجه فى كتاب السنة والفتن برقم (3927) .  

بالقتال ، ولكن المقصود بالناس هنا من وقف فى طريق الدعوة يتصدى لها من أصحاب السلطان الجائرين فى الأرض المكرهين للناس على الضلال والشرك ، الحاكمين بينهم بشريعتهم وأهوائهم ، ولذلك فإن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد النصر أعطى عهدا لأهل إيليا بالأمان والحرية التامة فى أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسائر ملتهم ولا يضار أحد منهم (1) .

    وكذلك عهد عمرو بن العاص لأهل مصر وجميع من عهد نص على حرية العقيدة وإقامة الشعائر (2) .

    ومن ثم فمهمة الجيوش الإسلامية المجاهدة تتمثل فى إزالة هذا الحاجز المانع حتى يستطيع المسلمون تبليغ رسالة الله التى كلفهم بتبليغها وحتى تبلغ كلمة الله آذان الأمم والشعوب وبعد ذلك يكون من حق كل منهم أن يؤمن أو لايؤمن  ، وذلك التشريع السياسى العام فى حرية العقيدة ينسحب على تشريع الحرية العقيدية بين الزوجين ، فلا يسمح الإسلام للمسلم المتزوج باليهودية أو النصرانية أن يجبرها على ترك دينها أو أن يمنعها من آداء شعائرها التعبدية فى كنيستها ، بل تذهب بعض مذاهب الفقه الإسلامية إلى وجوب مصاحبة الزوج المسلم للزوجية ــــــــــــــــــــــــ

1-البداية والنهاية حـ 7 ص 65  طبعة دار الفكر العربى سنة 1387هـ .

2- السياسة الشرعية ونظام الدولة الإسلامية ص36 .

 

الكتابية إلى كنيستها أو بيعتها للصلاة إذا أرادت (1) .

    ولقد أثار مخالفو الإسلام من مستشرقين وغيرهم شبهات حول انتشار الإسلام نتيجة الفتوحات الإسلامية زاعمين أن من أسلم من مواطنى البلاد المفتوحة إنما أسلم تحت السيف ، ولكن ذلك افتراء مناف للصحة والصواب فلم تكن حقيقة الحروب الإسلامية سوى تحرير للناس من أوضاع ونظم ظالمة غاشمة تستعبد الشعوب للحكام من دون الله .

    وأصدق تعبير وأوضحه على هذا المبدأ الهام هو قول ربعى بن عامر لملك الفرس عندما سأله عن سبب غزو المسلمين لبلاده قبل موقعة القادسية قال : ( إن الله ابتعثنا لنخــرج النــاس من عبادة العبــاد إلى عبادة الله وحده ومـــن جور الأديان إلى عـــدل الإسلام ، ومــن ضيق الدنيــا إلى سعــة الدنيـا والآخــرة ) (2) ولن تتحقق الحرية على وجهها الأمثل إلا بهذا التحرير .          

* الحرية فى المجال الاقتصادى :

     وتعنى حرية الإنسان فى التملك للأرض التى منحه الله إياها واستغلاله لثرواتها ومنتجاتها ، وتعبيد كل ما عليها من نبات وحيوان ومعادن لمعاشه ومتاعه المشروع وهى شعبة أخرى من شعب الحرية ــــــــــــــــــــــــ

1- الحرية فى الإسلام من سلسلة كتاب اقرأ د . عبد الواحد وافى ص 61.

2- البداية والنهاية حـ 3 ص 123 .

 

الإنسانية بعد الحرية السياسية والعقيدية ولا تقل خطرا عنهما (1) .

    ويقدم الإسلام نظامه الاقتصادى الإسلامى المحكم كمنهج لضمانها لكل فرد فما دام الناس كلهم مستخلفون فى الأرض فقد أطلقت التشريعات الاقتصادية الإسلامية طاقات العمل عند كل الأفراد فى المجتمع للاستغلال والبناء والتعمير والإنتاج وفى شتى ضروب النشاط الاقتصادى .

   فأباح الإسلام الملكية الفردية تمشيا مع الفطرة الإنسانية وإطلاقا للطاقات البشرية إلى آخر مدى مقدر لها وجعل هذه الملكية هى الأجر الطبيعى والمكافأة العادلة لمن يعمل ويجتهد لاستخراج الأرزاق للناس من الأرض .

  ومن الطبيعى أن تفاوت الناس فى مواهبهم الموروثة التى خلقهم الله بها يستتبع تفاوتا بينهم فى طاقة كل منهم على العمل والإنتاج واستغلال الأرض ومن ثم يستتبع ذلك فروقا بينهم فى ملكياتهم ولا يمنع الإسلام ذلك ، ولكنه يجعله مسموحا بشروط البشرية فوجود أغنياء فى المجتمعات البشرية أمر قد أراده الله وشاءه لابتلاء الناس .

   ولكن الذى يحتمه التشريع الاقتصادى الإسلامى حماية للحرية    الاقتصادية لأفراد المجتمع هو أن يكون للفقراء والمساكين واليتامى والعجزة حق فى مال هؤلاء الأغنياء بقدر كثرة هذا المال وتلك هى ــــــــــــــــــــــــ

1- الحرية فى الإسلام من سلسلة كتاب اقرأ  ص 72 .

الزكاة ، ذلك أن الإسلام فى مقابل إطلاق أيدى الناس أصحاب الطاقات البناءة والعاملة فى ثروات الأرض يمتلكون من خيراتها  ما يشاؤون وما يستطيعون يجعل لهؤلاء الذين لا يملكون وسائل الإنتاج والقدرات الجسدية والذهنية والعقلية من العجزة واليتامى والمساكين وأبناء السبيل وكل من أقعدته ظروفه الجبرية عن الكسب  يجعل لهم حقا فى مال الأغنياء لأن ما يكسبه المستطيعون نتيجة عملهم واستغلالهم لثروات البر والبحر إنما هو رزق مقدر من الله للجميع .

   ويتضح لنا ذلك الأمر بمعرفة مفهوم الملكية فى الإسلام باعتباره الأساس الفلسفى للنظام الاقتصادى الإسلامى .

   وينبثق مفهوم الملكية فى الإسلام من حقيقة كبرى تتمثل فى أن المالك الحقيقى للأرض هو الله وأن الملكية الموهوبة للإنسان ليست ملكية مطلقة دائمة وحقيقية بل هى مؤقتة لعلة تنتهى بالموت أو فناء الدنيا كما قال تعالى : { له ملك السمـاوات والأرض ثم إليه ترجعــون } (1) .

    وقال سبحانه :  { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الزمر /44 .           

2- الأنعام / 94 .

* الحرية فى المجال الاجتماعى :

     أما الحرية الاجتماعية والتى تعنى كون المواطنين جميعا سواء فى الحقوق والواجبات بلا تميز طبقى أو تفاوت بينهم من حيث القيمة الإنسانية ، فالقرآن والسنة يشملان من النصوص العديدة ما يثبت ذلك بوضوح وجلاء .

    وتنبثق فلسفة النظام الاجتماعى فى الإسلام من خلال حقيقة كبرى يبينها قوله تعالى : { وهو الذى جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتكم } (1) .

    فالابتلاء علة وجود التفاوت والدرجات بين الناس فى المجتمع فى شتى المجالات ، وهذه مشيئة الله سبحانه وتعالى حيث خلقهم متفاوتين فى المواهب وسعة النفوس والعقول ، وما عليه كل منهم من الجمال والصحة وأحوال البيئة والظروف الخاصة لكل أسرة ولكل فرد .

  ولكن هذه الحالات الاجتماعية بين الناس ليست سوى حالات مؤقتة ومتنوعة يخلق الله العباد فيها تحقيقا للابتلاء ، وبذلك يوجب الشرع على الخادم حب مخدومه وطاعته وآداء واجبه نحوه باعتبار أن ذلك أمر الله ومشيئته لابتلائه ، كما يوجب فى الوقت عينه حب المخدوم لخادمه ــــــــــــــــــــــــ

1- الأنعام / 165 .

وحسن المعاملة واحترام آدميته وآداء حقه عليه غير منقوص باعتباره إنسانا مثله بل باعتباره أخا له وباعتبار أنه مبتلى كذلك .

     ومن ثم فليس الإسلام طبقات بين الناس بمفهوم الطبقات الاجتماعية وإنما هى درجات ، ويستحيل أن يخلو مجتمع ما من الدرجات التى تعرف فى علم الاجتماع بالسلم الاجتماعى الذى يأخــذ الشكـل الهرمى .

     وتلك الأسس تحقق الوحدة الاجتماعية بين أفراد المجتمع بالحب والإخاء ويصبح كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلـم فى قوله :

  ( ترى المؤمنين فى تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم  كمثل الجسد إذا اشتكى  عضو تداعى له سائر جسده  بالسهر و الحمى ) (1) .

 

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــ

1- أخرجه البخارى فى كتاب الأدب  ، باب رحمة الناس والبهائم برقم (6011) ومسلم فى كتاب البروالصلة برقم (2586)  .

 

  • الاثنين PM 03:24
    2021-08-16
  • 1020
Powered by: GateGold