المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413630
يتصفح الموقع حاليا : 203

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629029722416.jpg

فهم الصوفية واستشراف أثرها في السياسة الأمريكية

 

التعريف بمركز نيكسون

هو مركز لدراسة السياسات العامة ولا ينتمي إلى أي حزب سياسي، أسسه الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون عام 1994م قبل وفاته بفترة قصيرة، وهو متخصص في تحليل التحديات والسياسات التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية من خلال التركيز على المصلحة الأمريكية القومية. والمركز قسم منفصل برامجياً ومستقل عن مكتبة ريتشارد نيكسون ومؤسسة مكان الولادة.

        والبرامج الرئيسة لمركز نيكسون تضم برامج الدراسات الصينية والهجرة، ومنتدى الأمن القومي، وبرنامج الأمن الدولي، والطاقة وبرنامج الأمن القومي، وبرنامج الاستراتيجية الإقليمية وبرنامج العلاقات الأمريكية الروسية. والموضوعات التي تناقشها برامج المركز تضم العلاقات الأمريكية مع الصين ومع روسيا وكذلك مسائل الطاقة الجيوسياسية في الخليج الفارسي والبحر الأسود ومسائل الأمن الأوروبية. ويعتمد المركز على دعم من أوقاف مكتبة مركز نيسكون ومؤسسة مكان الولادة وكذلك من قبل التبرعات من المؤسسات والهيئات والأفراد.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تقديم

        إن اهتمام مركز نيكسون للبحوث بالتصوف إنما هو امتداد للاهتمام الغربي عموماً ومراكز البحوث والدراسات والأقسام العلمية بالعالم الإسلامي. ويأتي ضمن هذا الاهتمام هذه الندوة التي عقدتها مركز نيكسون للبحوث لتقديم النصح والمشورة للإدارة الأمريكية في كيفية فهم التصوف وتفعيل دوره في السياسة الخارجية الأمريكية.

        لقد شارك في الندوة عدد من الباحثين الغربيين المتخصصين في الإسلام وفي التصوف بصفة خاصة كما شارك بعض العلماء المسلمين ومنهم رشيد قباني أحد المنتمين للطريقة النقشبندية.

        ماذا دار من حديث في هذه الندوة؟

        لقد تحدثت فهدة بنت سعود بن عبد العزيز في مقالة لها نشرت بعد صدور تقرير الندوة بقليل عن الندوة مشيرة إلى أن المشاركين فيها لهم صلة بالإدارة الأمريكية وبخاصة المحافظين الجدد مثل ديك تشيني (نائب الرئيس) وبول وولفوتز (رئيس البنك الدولي الآن، ومساعد وزير الدفاع الأمريكي سابقاً) وضلوع بعضهم في الإساءة إلى الإسلام والمسلمين. وكان مما قالته في هذا الصدد": فالكاتب برنارد لويس, يعتبر من أشد الناس عداوة للإسلام من خلال كتاباته الناقدة والمستهدفة للإسلام. والشيخ محمد هشام قباني ساهم في تأسيس المجلس بهدف رسم مستقبل المسلمين في أمريكا وفي أرجاء العالم."([1])

        كما أشارت الباحثة إلى هدف الندوة بقولها:  نجد أن المؤسسات الأكاديمية الغربية والمؤسسات الحكومية بدأت بالاهتمام أكثر وبشكل جدي بالصوفية وذلك للأسباب التالية: أولا: رغبة الغرب بإظهار الجانب السلبي (الاستلامي) في بعض طرق الصوفية وهم بذلك يحققون هدفين: الهدف الأول: تغريبه عن أصوله الصحيحة لأنهم يرون الإسلام الخالي من الشوائب هو القوة التي تعوق سيطرتهم على مصير الأمة الإسلامية بمقدراتها, ويحاولون تأصيل الروح الاستسلامية المنهزمة في نفس المسلم. الهدف الثاني: هو إعطاء صورة سلبية للإسلام لدى غير المسلمين لتشويه صورته حتى لا يدخلوا في الإسلام الصحيح"([2])

        لقد استعرض المشتركون معنى التصوف، وتاريخه، ومواقف الطرق الصوفية من الاحتلال الغربي لبعض البلاد الإسلامية وجهاد بعض الطرق الصوفية في القديم والحديث. وكان معظم الحديث يدور على الصوفية وتاريخها وواقعها المعاصر في آسيا الوسطى أو الجمهوريات التي انفصلت عن الاتحاد السوفيتي(سابقاً). وركز الحديث عن علاقة التصوف بما أطلق عليه الممنتدون "الوهابية". واختصروا الإسلام إلى فئتين لا ثالث لهما: التصوف والوهابية. وإن كان مصطلح "السلفية" قد ورد في حديث أحد المتحدثين مشيراً إلى كلام الملك فيصل-رحمه الله- في إحدى خطبه بأن السعوديين ليسوا وهابيين ولكنهم سلفيون. لينبري المتحدث في شرح معنى السلفية وأنها مرحلة تاريخية دون معرفة حقيقية بما تعني السلفية من اتباع السلف الصالح في القرون المفضلة وليس بصفته مذهباً.

         وانطلقوا في نقد ما أسموه الوهابية وأنها المصدر الحقيقي للإرهاب في العالم وربطوا "الوهابية" بالمملكة العربية السعودية ومساعداتها الإنسانية في دول البلقان وفي دول آسيا الوسطى وبخاصة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي (السابق) وكيف أن هذه الأموال استخدمت لنشر ما أسموه الوهابية.

        وكانت مجمل توصيات المشاركين في الندوة دعم التصوف من خلال إعادة إعمار المزارات والأضرحة ونشر الكتب الصوفية ونشر المدارس الصوفية ودعم الطرق الصوفية. وبرر المشاركون هذه الدعوة إلى دعم الصوفية أنها تتسم بالتسامح مع الأديان والمعتقدات الأخرى بعكس الوهابية أو غيرهم من المسلمين.

        وفات المشاركون أن الصوفية على الرغم من وجود فئات منها قامت بمواجهة الاحتلال الأجنبي وشاركت في الجهاد ضده لكن هناك طرق صوفية أسهمت إسهاماً واسعاً في التخذيل والاستسلام للقوات الأجنبية. وقد عانت الجزائر طيلة جهادها ضد الاحتلال الأجنبي من وقوف الصوفية ضد الشعب الجزائري وهويته العربية الإسلامية، بل إن سلطات الاحتلال منعت نقد الصوفية أو الانحرافات العقدية للصوفية؛ فقد أوقفت الحكومة الفرنسية صدور مجلة "المنتقد" الجزائرية بعد صدور العدد الثامن عشر. وكان الشيخ عبد الحميد بن باديس حين أصدر المجلة ليواجه الانحرافات الصوفية التي كانت تبث في أتباعها (اعتقد ولا تنتقد) بينما طالب ابن باديس بنقد معتقداتهم وخرافاتهم وارتمائهم في أحضان المحتل. بل إن بعض الطرق الصوفية كانت ضالعة في محاولة اغتيال الشيخ عبد الحميد بن باديس نفسه.

        حاولت الندوة أن تظهر بالمظهر العلمي الموضوعي، ولكن كانت في الحقيقة مبادرة لتقديم المشورة للحكومة الأمريكية لنشر التصوف والخرافات والبدع في العالم الإسلامي من ناحية نشر الأضرحة والمزارات والزوايا الصوفية. وقد أشار أحد المتحدثين وهو ألن قودلاس Allan Godlas إلى أن حكومة المغرب قد شرعت في دعم الطرق الصوفية. وهو أمر معروف لأن هذه الطرق لها اجتماع سنوي في المغرب، كما أنه تقام في المغرب مهرجانات للموسيقى الصوفية.

        وأختم هذه التقدمة الموجزة بالدعوة إلى أن لا نكون ممن تتسم أعمالهم دائماً بردود الأفعال ولكن الأولى أن نكون مبادرين وفاعلين، وحبذا لو تم الاتفاق مع جهة علمية لمناقشة التصوف وحقيقته والفائدة الحقيقية التي يمكن أن تجنيها الولايات المتحدة الأمريكية من التعامل مع العالم الإسلامي لا من خلال تمزيقه إلى فرق وطوائف ولكن باحترام خصوصياته. وإزالة الغشاوة عن مسألة تسامح الصوفية وأن الإسلام الحقيقي هو المتسامح الحقيقي وليست الصوفية.

        ومن الاقتراحات العملية مطالبة الكاتبة فهدة بنت سعود أن تكثف منظمة المؤتمر الإسلامي جهودها في مواجهة هذا المد الفكري الغربي الذي يطول عقيدتنا بدعوة جميع علماء المسلمين في العالم الإسلامي للتضامن ونشر الدعوة الإسلامية الخالصة من الشوائب ليكون ردنا عليهم بالحوار وتأصيل الفكر الإسلامي, وتنظيم مؤتمر لعلماء المسلمين لتحديد المصطلحات الإسلامية التي تتفق مع الفكر والثقافة الإسلامية بدلا من المصطلحات الغربية التي فرضت علينا لتطويعنا لإرادتهم بمسح ذاكرة المسلمين وفق جدول زمني محدد لم يبق منه إلّا القليل لفرضه على أرض الواقع. ."([3])


المقدمة:

        استضاف برنامج الأمن الدولي في مركز نيكسون في الرابع والعشرين من أكتوبر 2003م مؤتمراً لاستكشاف علاقة الدور الذي يمكن أن يقوم به التصوف- الحركة الروحية داخل الإسلام- ضمن أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وكان هدف الاجتماع تعريف صانعي السياسة ومجتمع صناعة القرار بها الجزء المهمل من الإسلام، والذي يشار إليه غالباً بـ "الإسلام الثقافي". ويمارس التصوف ملايين من الناس حول العالم ومن ضمنه الولايات المتحدة الأمريكية.

        وقد ركز الاجتماع أساساً على منطقة أوراسيا التي تضم أكبر الطرق الصوفية وهي النقشبندية، وكذلك الطرق الصوفية التركية. وفي الجلسة الأولى تناول المتحدثون المعتقدات، والبناء التنظيمي، والدور الاجتماعي للصوفية ككل، بينما تناولت الجلسة الثانية تأثير بعض الطرق الصوفية الديني والاجتماعي والسياسي النشطة في منطقة القوقاز وأواسط آسيا. وتناولت الجلسة الثالثة والأخيرة برامج الحكومة الأمريكية مقابل برامج العالم الإسلامي بينما وضعت الأسئلة لتناسب الدول الأوروأسيوية فإن تطبيقاتها السياسية يمكن تعميمها في أماكن أخرى.

        وكانت قمة المؤتمر النقاش الافتتاحي بين البروفيسور برنارد لويس والشيخ محمد هشام قباني ولويس هو الشخصية المشهورة اللامعة صاحب التآليف التي بلغت العشرات ومنه بينها (ما الخطأ الذي حدث: الصدام بين الإسلام والتحديث في الشرق الأوسط)، وكتاب (أزمة الإسلام) وقد عمل مستشاراً لصانعي السياسة في المستويات كافة حول الطرق البناءة للتعامل مع المسلمين. أما الشيخ قباني فهو نائب رئيس الطريقة النقشبندية الحقانية، والتي يتبعها أكثر من مليوني شخص حول العالم. وكان أول زغيم مسلم يحذر الولايات المتحدة حول الخطر الداهم الذي يشكله أسامة بن لادن وشبكة القاعدة الإرهابية، وهو أيضاً الذي تزعم العالم الإسلامي في التنديد مباشرة بهجمة الحادي عشر من سبتمبر. والشيخ قباني داعية نشط لا يكل ولا يمل من الدعوة إلى الإسلامي التقليدي المعتدل، وهو معارض شرس للإسلام المتطرف.

ويتضمن هذا التقرير النص الكامل لوقائع الندوة التي سجلت وملخصاً للنقاط الرئيسة لبقية المؤتمر.

                                                كليف كوبشان Cliff Kupchan

                                                        نائب رئيس مركز نيكسون

 

 

الحلقة الأولى: الصوفية: التاريخ والمعتقد والطرق

المشاركون: د.تيموثي بي جيانوتي، قسم الدراسات الدينية بجامعة أوريجن University of Oregon Dr.Timothy J. Gianotti,

             د. زكي سارتيوبارك، قسم الدراسات الدينية بجامعة جون كارول Dr. Zeki Saritopark  ـJohn Carrol University

             د. هدية ميراحمدي ، المدير التنفيذي للمجلس الإسلامي الأعلى الأمريكي، Dr. Hedieh Mirahamdi

        ركز الدكتور تموثي من قسم دراسات الأديان بجامعة أوريجن على أصول الصوفية ونشأتها في الإسلام حيث شرح مصطلح "التصوف" وذكر أن هذا المصطلح من المعضلات في أي نقاش حول الصوفية هذه الأيام، وما ذلك إلاّ لتعدد المجموعات والمعتقدات والممارسات التي يمثلها هذا المصطلح على الرغم من أن العديد من الأشخاص يعرّفون أنفسهم بأنهم صوفيون، وهذا يجب أن لا يعني أنهم يفترضون انتماءً رسمياً أو حتى شبه رسمي للإسلام.فمثلاً هناك أشخاص يتبعون مجموعة لقراءات كتابات الرومي (جلال الدين) أو يتبعون الحركة الاصطفائية للعصر الحديث المتأثرة بالفكر الصوفي أو الممارسات الصوفية، ولكن ليس لهم أي انتماء للصوفية التقليدية ذات الجذور القوية في العقيدة والممارسات الإسلامية.

        ومع ذلك فإن بناء الصلة الضعيفة بالإسلام التي يظهرها الأفراد الممارسون فإن جيانوتي أكد أن الصوفية يمكن النظر إليها على أنها إسلام مثالي، حيث إنه من المستحيل أن نؤمن بالإسلام دون الحقائق الأصلية التي يعتنقها الصوفيون بطريقة منتظمة. ومن ذلك قيمة الإحسان، والإحسان يفهم على أنه "الوعي الداخلي أو الوعي الذي لا تقف الأنا في طريقه أو الخيالات التافهة أو الانشغالات بالماضي أو الانشغالات الدنيوية. وفهم الصوفية بهذه الطريقة يمثل صلب الإسلام بصفته ديناً وتطلعاً شخصياً يركز على أعداد الإنسان في سعيه لتأسيس العلاقة المطلقة بالإله.

         وبدأ جيانوتي استعراضه الموجز لتاريخ الصوفية بظهور الإسلام في المدينة حيث أسس النبي محمد (ص) أول مجتمع مسلم عام 622م، وقام هو شخصياً بتعليم أول مجتمع مسلم وتكوينه. وأشار جيانوتي إلى لقاء بين النبي والمَلَك جبريل وأوضح الإطار الأساس لفهم مكانة الصوفية في الإسلام، ووفقاً للقصة سئل النبي عن الجوانب الثلاثة الأكثر أهمية في الدين. فقال الإيمان هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، أما التطبيق أو الإسلام فهو أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، وان تؤدي الصلوات، وأن تدفع الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وأن تحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً. والإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

        وخلال القرون الأولى للإسلام عندما بدأ توسعه الإمبريالي السريع وغير المسبوق والازدهار الفكري فإن جهداً كبيراً بذله العلماء المسلمون الأتقياء في تنظيم وتقنين الدين الجديد. وهكذا بدأ العلماء الأوائل في التخصص في مجالات ذات ارتباط بالحياة اليومية للناس مثل وضع معيارية للقرآن وحفظه ودراسة القواعد العربية (التي سمحت بقراءة القرآن وتفسيره بدقة أكبر) والحديث (جمع وتوثيق كلمات الرسول وأعماله التي عدت سابقات تحتذى) والتوصل إلى معتقدات أكثر توسعاً في وجه الفرق أو الطوائف المنحرفة، ووضع التقنين للحياة الإسلامية الأساسية (علم الشريعة أو الفقه)، وقد اعتمدت الجهود الأخيرة بكثافة على الجهود المبكرة لوضع قراءة معيارية للقرآن وتأسيس العقيدة وجمع مجموعات الحديث الصحيحة وباختصار تأسيس تفاصيل الإسلام والعقيدة المحافظة، وهو الأمر الذي استنفد جهود معظم العلماء في هذا الوقت.

        وعندما شعر بعض المسلمين خطورة التركيز المتزايد على المتطلبات الخارجية للإيمان فإنهم بدأوا في تفسير وتقنين علم مقابل ركز على الحياة الداخلية(الإحسان) وهو علم له جذوره في القرآن وفي تقاليد النبوة وممارسات أخلص أصحاب محمد. وقد أطلق بعض العلماء على هذا "علم الطريق إلى الآخرة" وقد ضمّ علماً مبنياً على المعرفة ذات البعد التطبيقي والذي ركزّ على تطهير القلب وكذلك جانباً نظرياً تعمق في الجوانب الغامضة للإيمان. وباعترافهم بالضرورة المستمرة القائمة لعلم الفقه فإن هؤلاء العلماء الممارسون للطريقة الداخلية أكدوا أن الشكل الخارجي لم يكن كافياً حيث حولوا اهتمامهم إلى فحص المواقف والمقاصد والحالات العقلية وأنها ضرورية لتطهير القلوب وحكمها ساعين إلى شق طريقهم إلى الله. وهكذا فإن النطاق الذي مارس فيه هؤلاء العلماء (علماء الآخرة) حكمهم وسلطتهم كان عالم القلوب غير المرئي ويتجاوز هذا النطاق الهادئ قدرة الأنظار الدنيوية ومع ذلك فيمكن استيعابه من خلال التجربة والنظرة الروحية للفهم الروحي.

        ومع مرور الوقت برز علماء استطاعوا أن يكونوا أساتذة وقدوات مطبقين لهذا العلم. ومع حلول القرن الثاني عشر ظهرت الطرق الصوفية يقود كل طريقة أستاذ كبير أو شيخ ويخلفه شخص معين أو خليفة في كل جيل. وحصلت كل طريقة روحية على الاعتراف بها وأهليتها من خلال سلسلة من التكوينات الروحية والانتقال تعود إلى الشيخ المؤسس وما قبله حتى تصل إلى النبي.

        وهكذا ظهرت الصوفية كعلم ديني وحركة اجتماعية يتبع كل طريقة أعداد كبيرة من الأتباع، وفي الوقت الذي استمرت هذه الطرق في الظهور والانتشار في أنحاء العالم الإسلامي فإن شيوخ هذه الطرق حققوا سلطة في العالم الروحاني بل أيضاً في العالم الدنيوي كذلك. وأصبح هؤلاء السادة يحصلون على التقديس والولاء من قبل الآلاف وحتى عشرات الآلاف من الأتباع الذين أقسموا يمين الطاعة للشيخ ومن خلال الشيخ للنبي وفي النهاية لله.

        واختتم جيانوتي قائلاً إن الصوفية التي ساعدت في انتشار الإسلام في أواسط آسيا وشرقها وجنوبها وشبه القارة الهندية وما وراء الصحراء الكبرى الأفريقية كانت قوة روحية واجتماعية على السواء. والميراث الذي تركته الصوفية هو إسلام يدعى إليه بحساسية تجاه الثقافات الأخرى والتعاون بين الأديان والذي لا يهمل أبداً الحياة الداخلية والأصل الروحاني من أجل حركة سياسية فقط.

المتحدث الثاني: الدكتور زكي ساريتوباركZeki Saritopark  من قسم دراسات الأديان بجامعة جون كارول John Carroll University

          بدأ ساريتوبارك ملاحظاته بالتأكيد على أن معتقدات الصوفية إنما هي وسائل عميقة وغامضة يستطيع الإنسان من خلالها اختراق عالم الغيب أو عالم الحقيقة المطلقة. وفي الحقيقة فإن المتحدث جادل بأن كل الصوفية في الإسلامي يمكن النظر إليها بصفتها تعبيراً عن السعي المتواصل نحو الغيب. وهذا ما تؤكده الآيات الخمس الأولى من القرآن حيث تنص على أن الذين يخشون ربهم هم الذين يؤمنون بالغيب(سورة البقرة الآية 2-3) وبتعبير آخر إن معرفة الله تأتي من خلال النظر من خلال القلب لا من خلال العين الحسية.

        وأشار ساريتوبارك إلى أهمية الروحية في الصوفية مشيراً إلى القرآن وأحاديث النبي محمد( المصدران المهمان للإسلام) فكل الصوفيين يتبعون الآيات القرآنية مثل: (وما الحياة الدنيا إلاّ لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون) (سورة الأنعام آية 32) ويؤكد المتحدث أهمية القلب بالاستشهاد بالآية القرآنية التي تقول: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) (سورة الرعد الآية 28)، ويرى الباحث أن هذه الآية هي الأكثر قرباً من الصوفية حيث أنها تقدم مصطلحين هامين هما "تطهير القلب" والثاني "ذكر الله" وكلاهما شكلا جوهر الصوفية.

        ويتوقع الصوفيون بأنه نتيجة معرفة الله سيحظى الإنسان بحب الله وبالتالي سعادة الروح. وهذه الرحلة تتكون من ثلاث مراحل: الإيمان بالله والمعرفة بالله وحب الله. وكما قال الشاعر التركي المتصوف يونس عمر "نحن نحب المخلوقات من أجل الخالق" وينظر الصوفيون لهذا الكون على أنه كتاب الله فكل جزء من الطبيعة يُعَدُّ آية على الخالق. وبالتالي يستنتج ساريتوبارك بأنه لا مكان للكراهية في قلوب الصوفية.

        وقد قام الصوفيون في التاريخ الإسلامي الوسيط  بتأسيس الطرق الصوفية لمساعدة أتباعهم على تحقيق أعلى مستوى من الأمان خلال رحلتهم نحو عالم الغيب ويستشهد الباحث بمقولة جلال الدين الرومي على  أهمية المرشد في هذه الرحلة " إذا دخلت الطريق بدون مرشد سوف يستغرق الأمر مئات السنين لقطع رحلة تستغرق يومين" وهذه الرحلة هي أساساً صراع ضد كل نقاط الضعف البشرية. ويتحدث القرآن عن النفس البشرية التي تأمر بالسوء على أنها نقطة ضعف. ويستمر الصراع خلال حياة الإنسان كلها حيث تبقى الروح مع الإنسان حتى الوفاة. وهذا هو الوضع حتى بالنسبة لأولئك الذين حققوا أعلى مستويات الأمان. والصراع ليس مباشرة ضد الروح ولكن ضد كل الميول السيئة والعادات. وبخصوص هذه المجهودات المستمرة يرى الصوفيون أن قول النبي هي نقطة انطلاقهم :" أخطر عدو هو النفس التي بين جنبيك"

        ومن خلال هذا الصراع يحاول الصوفي أن يصل إلى المستوى الذي يطلق عليه "الإنسان الكامل". وفي هذه المسائل يتكون التراث الصوفي من ثلاث مراحل من الالتزام الديني: علم اليقين (الإيمان القوي من خلال المعرفة)، وعين اليقين (الإيمان من خلال الملاحظة) وحق اليقين (الإيمان من خلال التجربة)، والمرحلة الأخيرة هي أعلى شكل، ويوصف أيضاً بمعرفة الله والتي لا يمكن تحقيقها من قبل كل الصوفيين مع أن كل المتصوفة يسعون إلى الوصول إليها.

        وصرّح ساريتوبارك بأن علي بن أبي طالب الخليفة الرابع وزوج ابنة الرسول يقدم مثالاً شخصياً عظيماً لهذا المستوى من الإيمان. قال علي: "حتى لو فتح حجاب الغيب فإن قوة إيماني لن تزيد عمّا هي عليه" وبكلمات أخرى إن إيمانه قوي لدرجة أنه حتى لو فتحت حجب الغيب لرؤية الله فإن إيمانه لن يزداد، ووفقاً لذلك يعد عليّ السلطان (قائد روحاني) لكل الصوفيين لأن شخصية علي مهمة لأهل السنّة والشيعة فيمكن أن تكون عاملاً مشتركاً بين الفرقتين، فالصوفيون السنّة بصفة خاصة يؤكدون على أهمية علي، وبالتالي فوفقاً لساريتوبارك يمكن أن يشجع هذا الحوار بين الشيعة والسنّة، وهما طائفتان مختلفتان سياسياً ومع ذلك فإنهما متطابقتين عقدياً.

        وبينما يعد القرآن والسنّة هما مصدر المعتقدات الصوفية فليس ثمة شك في أن الصوفية استعاروا من المعتقدات اليهودية والنصرانية. والتأثير اليهودي النصراني جاء من خلال التأثير الخفي للصوفيين اليهود والنصارى الذين دخلوا في الإسلام وكذلك من خلال التبادل الثقافي الذي استمر من القرن السابع وحتى فترة الحروب الصليبية. وبالتالي فإن كثيراً من الصوفية يعدون عيسي شخصية روحيانية مهمة. وهناك صوفيون ضلوا عزّاباً ليقلدوا المسيح في عزوبيته، ولكن على الرغم من أن الحقيقة أن المتصوفة المسلمين قد تفاعلوا مع التصوف النصراني واليهودي ويحترمون التراث اليهودي النصراني فإن القرآن وأقوال الرسول مازالا هما المصدران المعصومان للصوفية.

        ومع كل هذا فخلال تاريخ الإسلام كان هناك توتر بين الصوفية وعلماء الشريعة المسلمين الذين يرفضون أن تكون جذور الأفكار الصوفية موجودة في القرآن وأحاديث النبي، وهؤلاء ينقسمون إلى قسمين: أولئك الذين يرفضون الصوفية باسم الإسلام، وأولئك الذين يرفضون الصوفية باسم التحديث. فالفريق الأول يرى أن الصوفية ابتداع ضد تعليمات الإسلام، بينما يرى الآخرون أن الصوفية غير صالحة لتطبق في العصور الحديثة، وأنها ببساطة سلبية وكانت من أسباب تخلف العالم الإسلامي في عصر العلم والتقنية.

        وكان مركز الخلاف أن العلماء قدروا واحترموا الشريعة بينما احترم الصوفيون الحقيقة، وطالب علماء الشريعة أن يتبع الصوفية الشريعة، بينما يرى كثير من الصوفية أن النظام غير أساسي واختاروا بدلاً من ذلك القدرات العقلية التي اعتقدوا أن القرآن يدعو إليها. ووفقاً لسارتيوبارك فيعتقد الصوفيون أن النصوص المقدسة تشجع المسلمين على التفكير وأن يستخدموا عقولهم لفهم معنى الخَلق، وقد اتبع بعض المثقفين طريق العقل التي توصى بها النصوص المقدسة وهكذا فإن نظاماً شرعياً وكثير من الفكر الإسلامي ظهر نتيجة لهذه المجهودات. ومع ذلك فإن التوتر ما زال مستمراً في الوقت الحاضر بصورة متشددة بين الوهابيين والصوفية.

        وناقش ساريتوبارك أن معظم الصوفية يظلون أوفياء للتعليمات الأساسية والتقليدية للإسلام ولكن التطورات الحديثة أتت بتحديات جديدة لحياتهم، ففي تركيا مثلاً بالرغم من أنهم منعوا عام 1924م فإن هناك طرقاً صوفية متعددة تحاول أن تتلاءم مع الحياة الحديثة، وتظل الطريقة النقشبندية ذات شعبية في السياسة وفي الثقافة في تركيا وقد أسست مجموعات أخرى مجلات وصحف وحتى بعض المؤسسات المالية.

        وهناك بعض الحركات الدينية ذات التوجه المدني والتي لا يمكن عدّها من الناحية الفنية من الطرق الصوفية، ولكن فيها عناصر صوفية في حياة أتباعها الروحية. ويعدّ ساريتوبارك أتباع فتح الله جولان من أهم أتباع هذه الحركات، فجولان يركز على النظرة المتوسطة التي ترى أن الحياة الحديثة والروحانية لهما قيمة. وتختلف حركة جولان في تنظيمها عن الطرق الصوفية وذلك في الروابط ذات النسيج غير المتشدد، وينقصه التسلسل السلطوي وهي مثل الطرق الصوفية في أنها لا تترك البعد القلبي وببساطة إنها تسعى إلى نوع من التوازن.

         وقد أسس أتباع جولان الذين يعدون بالملايين شبكة تلفزيونية كبيرة وصحيفة مرموقة هي صحيفة الزمان، والعديد من المؤسسات المالية وجامعات في تركيا وخارجها. إنهم يدعون إلى تعليم ليبرالي مع التركيز على العلوم الطبيعية. ويظهر أن هؤلاء منفتحين على التنوع ضمن هذا التنظيم حيث تضم مجموعاتهم الطلابية تعدداً من الناحية العرقية والدينية. ولا يعد مؤسس هذه الحركة جولان شيخاً أو زعيماً لطريقة صوفية، ومع ذلك فقد قام بتأليف العديد من الكتابات حول الصوفية، ونظراً لأنه لا توجد عضوية مرتبطة بهذه الحركة المدنية وليس ثمة بناء صوفي يمكن للإنسان أن يقول إنها حركة مدنية ذات توجه روحاني بفهم حديث للصوفية، وبكلمات أخرى يمكن فهمها كطريقة للصوفية أو الصوفية الجديدة.

        واختتم ساريتوبارك القول بأن الطريقة التقليدية للصوفية ستعيد بناء نفسها وفقاً لظروف العصر الحاضر، وبصفتها النموذج الروحاني للإسلام، فإن الصوفية سوف تستمر في البقاء وإن كان أقل مكانة وقوة. وقال أيضاً إن الصوفية الحديثة ستثير الانتباه عندما تتحرك أبعد من كونها مهتمة بالمسائل الروحانية إلى الاهتمام بالعوالم الاجتماعية والسياسة وحتى الاقتصادية.

 

د. هدية ميرأحمدي: المدير التنفيذي للمجلس الأمريكي الأعلى

        تناولت الدكتورة هدية في حديثها ما سبق قائلة: إنه على الرغم من أهمية النقاط التي أشار إليها المتحدثان السابقان لكن أهم جانب من تاريخ الصوفية هو حقيقة أن الصوفية حافظت على وجودها مع الاتجاهات الأخرى الإسلامية من بداية الإسلام، وأضافت إن الروحانية كانت موجودة منذ السنوات الأولى لهذا الدين ولكن بدون اسم وأصبحت الآن اسماً دون مضمون.

        ولشرح الملاحظة السابقة بدأت الدكتورة هدية بمناقشة كيف أن الأحداث الخطيرة التي وقعت في القرن العشرين (انهيار الإمبراطورية العثمانية، والحملات الاستعمارية لبعض القوى الغربية، والتراجع العام للحضارة الإسلامية) قد أدت إلى موجة جديدة من الفكر في العالم الإسلامي تسعى إلى توحيد المسلمين في قوة سياسية موجهة ضد أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وهذه الأيديولوجية يشار إليها بالوهابية (ويطلق عليها اليوم السلفية) ووصفت للمسلمين بأنها محاولة لتنقية ممارسات المسلمين حول العالم المتأثرة بالغرب والصوفية وغيرها، وهذه الأيديولوجيات أرجعت فشل المسلمين في مقاومة الاستعمار الغربي إلى فساد الاعتقاد، وجادلوا بأن المسلمين كانوا متساهلين جداً مع الثقافات الجديدة التي دخلت الإسلام ونتيجة لذلك فقد استحق المسلمون غضب الله.

        إن نجاح هذه الأصولية المسيسة اعتمد على إنشاء قوة موحدة تكون قادرة على مواجهة الغرب، وكان الحل هو الرجوع إلى القرآن ، ومن أجل استكشاف النصوص المقدسة أعادوا تفسير الشريعة الإسلامية بالاعتماد على تفسر حرفي جداً للكتابات الدينية، وكان هذا الحل ناجحاً حقاً، وأشارت ميرأحمدي إلى أن الناس لم يدركوا أن الإرهابيين كانوا يعيدون تفسير الآراء الاعتقادية والشرعية التي صمدت عدة قرون، وظهر للجميع تقريباً بأنهم ببساطة "يُنَقُّون الاعتقاد"

        وقد أعطى التفسير الجديد للإصلاحيين كل الغطاء القانوني الضروري لإخفاء تدميرهم المنظم للتعددية الإسلامية في الممارسة. وأول ما حدث من هدم الثقافة الإسلامية كما وصفته ميرأحمدي هو إلغاء المراكز الصوفية الاجتماعية حيث كان الشيوخ يلتقون بالشباب للتعلم وحيث بنوا شبكات اجتماعية متينة. وفي المراكز التعليمية الجديدة والمساجد التي حلت محل المراكز الصوفية أقصيت الروحانية وجددت المناهج بالتركيز الشديد على النظرية السياسية. وبدأ الأئمة الجدد الذين حلوا محل الشيوخ كذلك بالدعوة باستفاضة لتفوق الإسلام على كل الأديان الأخرى.

        وقالت ميرأحمدي إن الناس غالباً ما يسألوا كيف أن هذه الجماهير العظيمة التي تتجاوز البليون سمحت  لعقيدتها أن تغير بطريقة دراماتيكية. والإجابة البسيطة هي إن المسألة لم تكن مسألة "السماح" بتعديل الدين فقد كان هناك من قاوم وقاوم بقوة. وأصرت بأن هذا الجهد الوهابي الضخم للهدم قد تسبب في سفك الدماء والعنف في كل ركن من العالم الإسلامي. وقد أصبح الآباء والأبناء ضد بعضهم البعض ومزقت الأسر حيث تعلم الجيل الجديد في مدارس الفكر السلفي.

        وبالتالي تؤكد ميرأحمدي أنه من المهم أن ندرك أنه قبل أن يصبح العنف ظاهراً ضد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاها بمدة طويلة فإن النسيج الاجتماعي للعالم الإسلامي قد دمّر، وختمت ميرأحمدي أنه من المستحيل الهروب من تأثير الهدم السلفي والوهابي في أي مكان من العالم الإسلامي.

        وبخصوص السياسة الأمريكية قالت إنه نظراً للطبيعة العلمانية للنظام السياسي الأمريكي فمن الصعب تخيل أن نرى صنّاع السياسة الأمريكية يؤيدون قيم الصوفية بصراحة. ومع ذلك فترى ميرأحمدي أن برامج مساعدات الولايات المتحدة يمكن أن يتم  بطريقة التفافية مع الأخذ في الاعتبار ثقافة الدول المختلفة وتاريخها.  وقد تجد نفسها قادرة على مساعدة أمم على استعادة تراثها المفقود. وهناك دافع حقيقي للولايات المتحدة الأمريكية أن تفعل هذا لمواجهة بعض النقد المتزايد من قبل المسلمين بأن الحرب على الإرهاب إنما هي حرب موجهة عمداً لهدم الإسلام. وفقاً لذلك قدمت ميرأحمدي ثلاث طرق محددة يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تسلكها للمساعدة وهي:

        الأول: القيام بالمحافظة و/ أو إعادة بناء أضرحة الأولياء والمراكز التعليمية المرتبطة بها، فالسلفيون ينكرون فكرة الأولياء وغالباً ما يهدمون ويحقرون من شأن الأضرحة الموجودة منذ قرون وبخاصة في آسيا الوسطى. وإن إعادة بناء هذه الأضرحة والمحافظة عليها سيقوي التقليد القديم لدى الناس. وذكرت ميرأحمدي الحاضرين أن هذه هي الأماكن التي كان يجتمع فيها الناس من كل أنحاء العالم للتواصل الاجتماعي والعلم وبناء جسور التسامح والتفاهم. وهي أيضاً مكسب عظيم للعملة الصعبة الأجنبية المشروعة لأنها تجتذب السياحة العالمية.

        الثاني:المحافظة على المخطوطات القديمة وترجمتها، فبعض الشعر العظيم والعلم والمخطوطات الأدبية المهمة تبقي محجوبة بسبب نقص التمويل للمجهودات لنشرها وتوزيعها وبمساعدة كهذه يمكن لهذه الوثائق أن تبرهن على نطاق أوسع الأهمية التاريخية لهذه التقاليد الإسلامية.

        الثالث: يمكن للولايات المتحدة أن تساعد في إنشاء مراكز تعليمية وتمويلها تقوم بالتركيز على التاريخ القديم والحضارة الخاصة بالمنطقة مع تركيز معين على سوابق التسامح الديني والعرق. وهذه المراكز يمكن أن تساعد المجتمع في المحافظة على الشباب الذين أصبحوا متذمرين من الفكر الوهابي.

        هذه المبادرة ستكون مهمة جداً شريطة أن تحتاط الولايات المتحدة حتى لا تقوم بتمويل مجموعات بالخطأ، وعليها ألاّ تعمل إلا مع أولئك الذين برهنوا على أنهم دعاة للسلام والتسامح بين الأديان والاعتدال في مجتمعاتهم.

 

الحلقة الثانية

الصوفية في آسيا الوسطى

المشاركون:

  • ألان جودلاس ، قسم دراسات الأديان بجامعة جورجياAlan Godlas, University of Georgia
  • د,محمد فاغفوري، قسم الدين بجامعة جورج واشنطن
  • تشارلز فيربانكس Charles Fairbanks معهد آسيا الوسطى- القوقاز بجامعة جون هوبكنز John Hopkins University
  • ألكسي ألكسييف exiev Alexi Alكبير باحثين في  مركز سياسات الأمن.

 

المتحدث الأول: ألن جودلاس

    ناقش جودلاس الذاكرة الجماعية للصوفية في أواسط آسيا وبخاصة في أوزبكستان وتركمانستان خلال فترة الحكم السوفيتي، وقال إن الولايات المتحدة يمكنها أن تساعد في المحافظة على هذه الذاكرة الجماعية بدعم إحياء المعتقدات المحلية، ولكن يجب أن يعمل هذا بطريفة مختلفة في كل بلد.

    ومما لا يمكن إغفاله هو أنه خلال التاريخ الإسلامي كانت أواسط آسيا واحدة من أهم مراكز التصوف. ومع ذلك فخلال ثمانين سنة قام السوفيت باضطهاد الصوفية في المنطقة حتى أصبحت مجهولة إلى حد كبير. والآلية التي استخدمها السوفيت للقيام بحملة الاضطهاد هذه يمكن مقارنتها إلى حد بعيد مع أساليب الوهابية. فقد قتل القادة الصوفيون في الغالب وأغلقت مدارسهم التي كانوا ينشرون العلم من خلالها ومنعت النصوص الصوفية وعُدّ العلماء الذين حاولوا البحث في الصوفية من المتخلفين أو أسوأ من ذلك حيث عدّوا أعداء للسوفيت. ونتيجة لذلك فإن نصوص الصوفية في آواسط آسيا والثقافة قد تم اجتنابها من قبل الباحثين السوفيت في الأديان الذين اقتصر اهتمامهم على حياتهم الشخصية ومسيرتهم العملية. وكان هناك استثناءان فقط عندما كان بالإمكان أن يعد بعض الصوفية مؤييدين لصراع الماركسية ضد الاقطاع. وأحد المشكلات الرئيسية اليوم في البحث في الصوفية في أواسط آسيا هو أن العمل الأكاديمي في الفترة الصوفية أظهر الصوفية بهذه الطريقية غير الوافية والمحدودة. واستنتج جودلاس بأن تاريخ الصوفية في أواسط آسيا يكاد لا يكون معروفاً بالنسبة للعلماء الغربيين وكذلك لشعوب أواسط آسيا أنفسهم، وبأن الصوفية كانت غائبة إلى حد كبير في الذاكرة الجماعية لدى مسلمي أوساط آسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فإن هذه الفجوة في الثقافة والهوية قد ملئت بمسلمين متطرفين من الوهابية والسلفية والمودوديين.

    ولحسن الحظ أن العديد من دول آسيا الوسطى أدركت أهمية استعادة الثقافة الصوفية بالنسبة لمجتمعاتهم؛ فقد شهدت أوزباكستان زيادة في نشر كتابات حول الصوفية مثل كتاب بهاء الدين النقشبندي، ونجم الدين كوبرا. وفي عام 2004 ساهمت الدولة في نشر إحدى روائع الأدب الصوفي بترجمتها إلى اللغة الأوزبكية الحديثة وهي كتاب الشرنافاي (لغة الطيور). وكان هناك محاولة حكومية في العلمي العالم لبرط المفهموم الغربي ل "المجتمع المدني" مع عناصر من الصوفية فمثلاً أسست في أوزباكستان في عام 1994م وزارة أطلق عليها "المركز الشعبي للروحانية والتنوير"، ولكن بدلاً من المعنى الأصلي لكلمة (الروحية ومعرفة (معرفة مباشرة يتم تحصيلها من خلال التجربية الروحيانية، قدمت هذه المصطلحات بمعان علمانية مثلاً الوصول إلى طاقة الإنسان الكاملة و"المشاركة الكاملة في المجتمع المدني". وعلى الرغم من أن هذه بعيد أن يكون إحياءً مؤسساتياً للثقافة الصوفية الأوزبكية ولكن مثل هذه التحركات يمكن رؤيتها على أنها خطوة غير وهابية أبعد من الماضي الماركسي وتضم على الأقل بذور زواج بين الصوفية الأوزبكية التلقليدية مع تلك النابعة من مفهوم المجتمع المدني."

    واقترح جودلاس مكوناً آخر في إعادة بناء الهوية الصوفية في أوزباكستان وهو وجوب دعم الطريفة الصوفية النقشبندية بصفة خاصة. وهذا الاتجاه له قدم ثابة في البلاد فأكبر مدرسة في أواسط آسيا يرأسها شخص نقشبندي، وكذلك اللجنة الحكومية للدراسات الدينية وبالإضافة إلى ذلك هناك بالقرب من مدينة كوكاند شيخ يقوم حالياً بتدريس قيم النقشبندية الكلاسيكية. وقد حاول باحثو الحقبة السوفيتية إبراز النشاط العسكري الصوفي ومازال هناك خوف في الدوائر الرسمية من النشاط الديني، ومع ذلك يقول جودلاس إن الثقافة النقشبنيدية بصفة خاصة والصوفية بعامة ينظر إليها على الأقل في الحكومة الأوزبكية بأنها مؤيدة للتغيير الاجتماعي من خلال إعادة التثقيف التدريجي بدلاً من الثورة الوهابية العسكرية أو أسلوب الطالبان بفرض القيم الدينية. وعلى الرغم من أن الصوفيين الأوزبكيين سيرحبون بالمساعدة الأجنبية (حيث إن مثل هذا التعاون معروف جداً فعلى الأقل يمكن للولايات المتحدة أن تشجع انفتاحا حكومياً لعودة ظهور الصوفية النقشبندية.

    وبالإضافة إلى إحياء القيم الصوفية التقليدية لأواسط آسيا في المؤسسات التعليمية وفي النشر والصوفية النقشبندية هناك إعادة إحياء القيم الصوفية في أواسط آسيا من خلال زيارات الأضرحة، وأشار جودلاس إلى مقالة ديفيد تايسون David Tayson "الحج إلى الأضرحة في تركمانستان" مؤكداً على زيارات الأضرحة وارتباطها بهوية تركمانستان القبلية، وتحت الحكم السوفيتي كانت الصلات الثقافية والتاريخية لهذه الأضرحة وبخاصة في تركمانستان قد فقدت في الغالب مما أدى إلى خلق فراغ ثقافي. إن أهمية زيارة الأضرحة أمر فريد بالنسبة للهوية التركمانية وتلعب دوراً مهماً بدرجات متفاوتة في هوية الكازخ والأوزبك والأفغان والطاجيك وإلى درجة ما في الإحياء الثقافي المرتبط بضريح بهاء الدين النقشبندي في بخارى هو في طور التنفيذ ولكن مما تم عمله إنما هو جزء مما هو ممكن. ومن خلال نشر ترجمات للأعمال المرتبطة بالتصوف إلى اللغات المحلية وكذلك إلى الإنجليزية (وقد تم شيء من هذا مع كتابات أحمد باصوفي في كازاخستان) وهذا الفراغ الثقافي يمكن ملؤه جزئياً وبالتالي مساعدة كل دولة في إحياء هويتها الصوفية التقليدية واندماجها مع الهوية القومية المعاصرة.

    وباختصار ذكر جودلاس أنه في الوقت الذي تعيد دول آسيا الوسطى هويتها وتبتعد من كلٍّ من الهوية الماركسية والوهابية فإن الولايات المتحدة ستحسن صنعاً في محاولة كل دولة لإحياء هويتها الصوفية المحلية وإدماجها مع الهوية القومية من خلال:

1- تشجيع نشر كتابات الصوفيين المحليين وترجمة النصوص الكلاسيكية (من قبل صوفيين محليين) إلى اللغات المحلية المعاصرة وإلى اللغة الإنجليزية (يعطيها شهرة وأهمية اللغة الإنجليزية وبخاصة بالنسبة للشباب)

2- تشجيع دمج القيم الصوفية مع قيم المجتمع المدني في المعاهد التعليمية.

3- نصح العديد من دول آسيا الوسطى للتأقلم مع موقف الانفتاح نحو إعادة إحياء النقشبندية بصفة خاصة.

4- تشجيع إحياء الثقافة والآداب وفي الوقت نفسه إحياء تقاليد زيارة الأضرحة والمقامات في كل دولة. وقد وصل إلى علم دوجلاس من خلال أحاديث مع مسؤولين مغاربة –وهو بلد عاني من هجوم الوهابية- بأن هناك برامجه شبهية تهدف إلى إعادة إحياء الصوفية المحلية التقليدية

    وفي النهاية قال جودلاس هناك معركة حقيقية بين الوهابية والإسلام الصوفي حول من يقود الإسلام في آسيا الوسطى والعالم، فإذا ما تخذت الولايات المتحدة الأمريكية إجراءً حمائيا في دعم إحياء الصوفية في آسيا الوسطى فإنها يمكن أن تكون قادرة على أن تحول المنطقة من أيدي العسكريين نحو مستقبل أكثر إشراقاً.

د.محمد هـ. فاغفوري قسم الدين بجامعة جورج واشنطن

ركز فاغفوري مشارتكته على إيران التي كان لها اتصال وثيق بالصوفية كما هو واضح في الممارسات الروحانية وكما تعكسه الآداب الفارسية، ويعكس سلمان الفارسي أو من دخل الإسلام وصاحب النبي المقرب فضول الإيرانيين الروحاني، وحب الحقيقية فكثير من الطرق الصوفية بما فيها أكبر طريقة سنية وهي المباركية النقشبندية التي نمت في إطار ثقافي فارسي وأثراها شعراء مثل عبد الرحمن جامي، وثمة طريقة أخرى النعمة الإلهية التي نمت في إيران الشيعية وكانت ذات شعبية لعدة قرون في إيران. وقد تولد عن الصوفية ممارسات شيعية عديدة مثل الفتوة اخوان ماردي (الفرسان الروحانيين) والمؤسسات البهلوانية مثل نقابة السوق.

    وعلى الرغم من أن تاريخ الصوفية في إيران قد شهد خلافات حادة بين الحين والآخر بين الطرق الصوفية وفقهاء الشيعة وعموماً فالعلاقات بين المجموعتين كانت في الغالب سلمية، فغالبا ما تسامح كلا الطرفين أو أهمل الآخر.

وبعد انتصار الثورة الإسلامية في عام 1979م ظهر إلى السطح من جديد التوتر القديم والصراع بين "العارف" و"العالم" (أي بين المشايخ المحافظين والمتصوفة)، وكانت هناك تقارير عن تهديدات ضد الخانقات(مدارس الصوفية) أو المنازل التي يلتقي فيها الصوفيون والتي تعرض بعضها للهجوم من قبل الحشود الغوغائية وهذا أدى إلى تحديد نشاطاتهم بسبب الأجواء المعادية للصوفية من قبل المشايخ ذوي الرتب المنخفضة. وقد غادر إيران شيوخ بعض الطرق الصوفية إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ونصحوا أتباعهم بخفض نشاطاتهم من أجل أمنهم وسلامتهم.

    وعلى الرغم من كل ذلك ولأن جذور الصوفية عميقة شهد العقد الأخير نمواً غير مسبوق لشعبيتهم، وأحد المؤشرات كان نشر عدد كبير من الكتب عن الصوفية وبخاصة تلك التي كانت متوفرة للصوفية بصورة مخطوطات، وأضاف فاغفوري إلى هذه القائمة ترجمة العديد من الكتب عن الصوفية والروحانية لبعض علماء الصوفية المشهورين مثل فرتجوف شون Fritjof Schoun وتيتوس ، وبوركهارتBurkhart ومارتن لنجز Martin Lings وسيد حسين نصر.

    وقام بعض العلماء بنشر طبعات من مؤلفاتهم موجهة إلى جماهير أوسع، ومن هذه الكتب ترجمة الرومي التي كتبها أبو الحسين زارينكوب ورسال حول شمس تبريزي والطبعة الثامنة لكتاب "العلامة الطبطبائي" (لب الألباب)، وكان هناك إحياء للموسيقى الصوفية يشير إلى ذلك شعبية بعض الموسيقيين مثل محمد رضا لطفي وشهرام نزيري ومحد رضا شاجريان بالإضافة إلى موسيقى القوالي لنصرة فتح على خان وتسجيل حلقات الساما والتسجيلات الصوتية المرئية (الفديو) للمجالس وموسيقى المولوي وطرق الخواتي جراجي.

    وقدم فاغفوري قائمة بعدة طرق مشهورة في إيران لها فروع في أسيا والولايات المتحدة وهي كالآتي:

1- طريقة نعمة اللهي :كانت في الأصل طريقة سنّية ولكنها تحولت إلى طريقة شيعية في القرن السادس عشر، ولهذه الطريقة في الوقت الحالي أربعة فروع، أحدها مشتق من مونس علي شاه ضرياساتيان، وشيخ هذه الطريقة الحالي هو الدكتور جواد نور بخش، ويعيش في لندن. وهذا الفرع نشط جداً في نشر الكتب حول الصوفية.

2- الطريقة الكوثرية وكان الحاج محمد حسن مارغيهمي والمعروف ب محبوب علي شاه بيرماراغه أحد أكثر شيوخ الصوفية في إيران في القرن الثاني عشر، واعترف به بصفته قطباً للطريقة النعمة اللهية الكوثرية حتى مات عام 1955م، ووفقاً لبعض التقارير فقط ترك وصية مكتوبة أوصى فيها أن يكون خليفته على أسغر ملكنيا وتلميذه المصدق والذين اتبعوه أصبحوا يعرفون باسم الطريقة النعمة اللهية الكوثرية، وذكر فاغفوري أن أعضاء هذه الطريقة الشيعة يلتزمون بالشريعة وهم دقيقون في مراعاة الاحتفال بمولد النبي ومولد الإمام علي بن أبي طالب والمناسبات الشيعية الأخرى. وبخصوص التركيبة القومية والعرقية والطبقية فمن المهم أن نلاحظ أن الطريقة مكونة أساساً من الاذربيجانيين من الطبقة التقليدية والطبقة المتوسطة. والخانقاه الرئيسية لهذه الطريقة موجودة في مدينة مراغاه خارج طهران، ولكن لها جذور عميقة في أذربيجان حيث يحافظ على خانفقاه في مدينة مراغاه. وقد توفي السيد مالكينا (اسمه في الطريقة ناصر على شاه) عام 1998م في فرنسا. وقد نقل جثمانه إلى إيران ودفن في الخانقاه الخاصة به في الري بجوار شيخه محبوب علي شاه.

3- طريقة نعمة الله جندبادي وأحد أبرز شيوخ هذه الطريقة في القرن العشرين السلطان حسين تابنده. لقد كان شيعياً محافظاً وكان ملتزماً بالشريعة بعناية.

4- الطريقة الشمسية وسيمت هذه الطريقة على اسم سيد حسين حسيني ويعرف أيضاً بشمس العرفا (1871-1935م) وقد انقسم أتباعه بعده.

5- صافي علي شاهي، وسميت هذه الطريقة باسم الشخصية الرئيسية فيها صافي على شاه أصفهاني .

6- الطريقة الذهبية وهذه كما يشير فاغفوري كانت في الأصل  فرعاً من طريقة معروفة في آسيا الوسطى باسم كيراويه، ومؤسسها هو سيد علي حمداني المولود عام 1314م ومن نسل الإمام سجّاد وتلميذ علاء الدولة سمناني (توفي 736هـ،/1336م) والمركز الرئيسي لهذه الطريقة في مقاطعة فارس في إيران (وبخاصة مدينة شيراز) ولكن لها خانقاه في طهران وأخرى في تبريز. وقد أسست الكيراوية نفسها من قبل الشيخ نجم الدين لورا في مدينة خوارزم وتعرف بصفة خاصة بمقاومتها للغزو المغولي لتلك المدينة في عام 1231م/618م. ومن بين أبرز الشيوخ في هذه الطريقة سيد محمد نور بخش (توفي 1246م/869هـ) وقد تحولت الطريقة إلى المذهب الشيعي تحت قيادة هذا الشيخ، والطريقة العويسية المعروفة في إيران اليوم بالطريقة العويسية المصودي هو فرع من الطريقة النوربخشية.

7- بالإضافة إلى هذه الطرق ومجموعات أخرى أصغر (علي الله) الشيعية هناك العديد من الطرق السنّية في إيران ومرتبطة بمجموعات عرقية معينة ففي كردستان مثلاً يتبع الطريقة النقشبندية والطريقة القادرية عدد كبير من الأتباع بينما في كردستان تحظى الطريقة القادرية بوجود قوي نوعاً ما.

    وهناك العديد من الجوانب المهمة التي يميز الطرق الصوفية التي نشأت  وما تزال قائمة في فارس/إيران، وأهم جانب يمكن ملاحظته هو التزامهم بالمذهب الشيعي (عرفان شيعي)

    والموجة العرفانية غير المعروفة والتي لم تدرس بجد حتى الآن هي الصوفية الغريبة التي وجدت في السر، فهي موجودة غالبا بين العلماء الذين رفضوا التصوف الرسمي ولكنهم كانوا منجذبين للتعاليم الغامضة لأئمة الشيعة وبخاصة الإمام علي والإمام زين العابدين سجاد والإمام علي بن موسى الرضا. وفسر الفاغفوري ذلك بأن كان لديها خصائص السلسلة التي تربط الشيوخ بالتلاميذ ولكنها تفقد التنظيم الرسمي الذي يميز الطرق الصوفية الخانقاهية. وبدلاً من ذلك فأعضاؤها في غالبيتهم مقتصرين على علماء الدين بالإضافة إلى قليل من التجار المخلصين (الملتزمين)، والمثقفين المتدينين، وتتضمن نقلاً منظماً للسلطة بعهد الولاية والاتجاه الروحاني وباختصار لها كل خصائص الطرق الصوفية عدا اسم "الصوفية" نفسه.

    وهذا الاتجاه كان موجوداً في مراكز التعليم الشيعية (حوزات) في قم ومشهد وطهران وكذلك في كرباء والنجف، ولكن وجودها يبقى مخفياً وإن مناهجها وتدريباتهم شفوية لمجموعة من الأفراد المختارين الذين يكرسون في أثناء دراستهم لنصوص العرفان الرئيسة. ومن بين أهم الشيوخ خلال القرنين الماضيين آية الله سيد مهدي بحر العلوم ، والملا حسين قولي حمدان ، والشيخ أحمد كربلائي وسيد علي قاضي طبطبائي تبريزي والعلامة سيد محمد حسين طبطائي وسيد هاشم حداد ومحمد جواد أنصاري والعلامة سيد محمد حسين طهراني، كل هؤلاء الرجال هم ضمن أبرز العلماء في فارس والعراق ونالوا الاحترام فقط ليس لكونهم علماء دين ولكن أيضاً كرجال مقدسين نسبت إليهم غالباً المعجزات.

    وسيكون لكل المجموعات التي ذكرت سابقاً بعد قليل صلات مع أضرابهم في جمهوريات آسيا الوسطى وبخاصة تلك الطرق التي أُجبرت على السرية خلال الاحتلال السوفيتي وبدأت تظهر إلى العلن في الدول المستقلة حديثاً. وإن كان التاريخ دليلاً فإن إيران سوف تستمر في أن تكون مصدر الإلهام للمسلمين المتصوفة في هذه المنطقة.

      لقد فتح المسلمون آسيا الوسطى خلال خلافة معاوية بن أبي سفيان وبعد احتلال المغول لبغداد عام 1258م أصبحت الصوفية القناة الرئيسية لانتشار الإسلام في آسيا الوسطى، وبمقارنة التصوف بالاتجاهات الإسلامية الأخرى فإن انتشار الصوفية كان أسرع وذلك بسبب انفتاحها وتقبلها للأديان الأخرى وتأكيدها الواضح والبسيط على البساطة والتقوى والنقاء. واستمرت العملية متسارعة في الفترة العثمانية (القرن 14-18م) وفي الحقيقة أصبحت مدن أواسط آسيا الرئيسية مثل بخارى وسمرقند مراكز رئيسية للعلم حيث أصبحت مركزاً لمئات المدارس، فمدرسة خراسان التي ظهرت ومثلها شخصيات بارزة مثل بايزيد بسطامي، والحاكم الترمذي، وأبو ناصر سراج، وأبو الحسن خرقاني، وعبد الرحمن سلامي لاقت شعبية واسعة في خراسان العظمى(آسيا الوسطى)

        وتمثل الصوفية في آسيا الوسطى كما في غيرها من المناطق الجوانب الكومزبولتية والفكرية والروحية في الإسلام القادرة والراغبة في أن تتواصل مع الأديان والثقافات الأخرى (وبخاصة الأديان الإبراهيمية) وقال فاغفوري إن تاريخ الصوفية في آسيا الوسطى يؤيد هذه النقطة حيث واجهت عند دخولها المنطقة أدياناً متعددة وتقاليد دينية من الزرادشتية إلى العدمية الشامانية ومع ذلك فإن الصوفية قبلتها جميعاً بصفتها أشكالاً مختلفة لحقيقة واحدة وعاملتهم باحترام (وبالتالي نالت احترامهم). وحيث إن الصوفية انتشرت أساساً عن  طريق التجار والعلماء الرحالة فقد كانت قادرة على الوصول إلى جمهور لديه الاستعداد في المناطق الحضرية والريفية. وحالما تأسست ظلت دون تغيير قرون عدة، ولاحظ فاغفوري أن شبكات الأخوة الصوفية المنظمة التي كانت ذات شعبية في أواسط آسيا منذ القرون الوسطى استمرت حتى عام 1988م في ممارسة تأثير كبر في المسلمين ومن هذه الطرق تعد النقشبندية الأكثر شعبية ويتبعها القادرية والخلوتية والعيسوية.

        وعلى الرغم من فشل العديد من الحركات ضد روسيا القيصرية خلال  القرن التاسع عشر فإن الإسلام استطاع البقاء في الإمبراطورية الروسية وفيما بعد في الاتحاد السوفيتي، وهذا راجع أساساً إلى قوة شبكات الصوفية وبخاصة الطريقة النقشبندية، ووفقاً لإحصائيات عام 1970م فإن خمسمائة ألف من بين سبعة وعشرين مليونا كانوا أعضاء في الطرق الصوفية، وقد تجنبت بعض الطرق الصوفية الأقدم بما فيها القادرية والشيشتي العمل السياسي المباشر ولكن الآخرون مثل النقشبندية انغمسوا في الحياة السياسية الروسية خلال الجزء الأخير من القرن التاسع عشر.

        وعموماً كان تنظيم الطرق الصوفية مؤثراً بدرجة عالية في نشر المفاهيم الدينية وكذلك الثورة والمقاومة المسلحة، وخلال كل تلك السنوات ظلت اللغة الفارسية الأداة الأساسية للاتصال (وبخاصة الشعر الصوفي)، ويعتقد فاغفوري أن هذا الاتجاه سوف يستمر بناء على الأدلة ويكسب قوة في السنوات القادمة. ففي طاجكستان هناك اهتمام خاص باللغة الفارسية وشعرها كما يشير إلى ذلك الطبعات الجديدة من الدواوين والنصوص الصوفية.

        وحث فاغفوري الحضور أن يدركوا أن الصوفية قادرة على لعب دور مزدوج في العالم الإسلامي المعاصر؛ فهي تستطيع أن تكون جزءاً من بناءً من العملية السياسية حيث إنها قادرة على "أسلمة" الديموقراطية من جهة، ومن جهة أخرى هي قادرة على "دمقرطة "الإسلام. وتستطيع أن تسهم في الاستقرار السياسي في إيران وفي أواسط آسيا وذلك بتحقيق تفاهم بين المجموعات السياسية المتنافسة والأحزاب والتسامح المطلوب جداً. ويمكن للصوفية أن تصبح عنصراً مهماً في علاقة إيران بالعالم الخارجي على الصعيد الفكري والروحي والثقافي والسياسي، وذلك لثراء تراثها في الثقافة الإسلامية الفارسية حيث يستطيع التصوف الفارسي أن يعمل كمصدر للإلهام للمجموعات والحركات الأخرى فيما وراء إيران في أماكن مثل طاجكستان والشيشان، وبهذا النطاق يستطيع التصوف أن يوفر إمكانات لعلاقات إيران مع جمهوريات آسيا الوسطى وكذلك أفغانستان وبصفة خاصة مع مناطق مثل البلقان وسمرقند وهرات وخوارزم.

        واستمر فاغفوري محذراً بأن الصوفية في كل أنحاء العالم الإسلامي تواجه هجوماً من جهتين الأولى هي المجموعات التحديثية التي تنتقد الصوفية لأنهم يعدون التصوف سلبياً وضعيفاً أمام القوة وفي الصراع مع طريقة العيش المعاصر. والجهة الثانية هي الأصولية التي ترى أن التصوف مخالف للإسلام المحافظ. ويرى الصوفيون أن هذين الطرفين وجهان لعملة واحدة لأن كلا المجموعتين (بعلم أو بغير علم) تشتركان في أدلجة الإسلام مستخدمين الإسلام بصفته أيديولوجية سياسية للوصول إلى أهدافهم.

 

الدكتور تشالز فيربانكس Charles Fairbanks

        ركز فيربانكس على الصوفية في شمال وجنوب القوقاز مناقشاً بأن النخبة الصانعة للسياسة الخارجية الأمريكية تعاني من قصور في حربها ذات الطبيعة شبة الدينية على الإرهاب، وبالإضافة إلى ذلك فعلى الرغم من قيام دراسات ممتازة حول جذور الإرهاب في الشرق الأوسط. وهذا العمل على الرغم من أن له تأثير لكنه يستمد جذوره التاريخية من التنوير الألماني في القرن الثامن عشر؛ فأحفاد علماء اليوم كانوا في الغالب أبناء وأحفاد قساوسة بروتستانت وبالتالي فإن فيربانكس يرى أن الدراسات الحديثة قد خدمت عن طريق غير مباشر العمل التاريخي لمعاداة المشيخة والذي وضع عقبة أخرى يجب التغلب عليها لتطوير فهم أفضل لجذور الإرهاب.

        وبعد ذلك كله إذا نظر الإنسان نظرة أطول إلى التاريخ فيمكن أن يرى بأن الدراسات الحديثة قد ساعدت في الحلول مكان الكومنولث النصراني في القرون الوسطى (وإلى درجة أقل حلت محل الأمة الإسلامية) من قبل الدولة القومية العلمانية الحديثة. وما تزال الدراسات تميل إلى أن تكون مصبوغة بالبروتستانتية وبخاصة في دول لديها تقاليد بروتستانتية. والدراسات الحديثة أيضاً متحيزة لأن معظم المتخصصين في الإسلام والناطقين بالغة الإنجليزية يرجعون إلى شبه القارة الهندية حيث اندمج التيار السلفي أو المعادي مع التيارات الوهابية.

        ومع ذلك فهناك تعميمان صحيحان يمكن تطبيقهما على الصوفية في القوقاز: الأول فالقوقاز –ما عدا المناطق الشيعية في أذربيجان- هي حقاً جزء من العالم الإسلامي حيث الاندماج بين الشريعة والتصوف بريادة أبي حامد الغزالي الذي كان ناجحاً جداً وفي شمال القوقاز وعلى الأقل حتى دخول الوهابيين من الخارج كان هناك تداخل بين الصوفية والعلوم الإسلامية، فقد كان كل شيوخ الصوفية يتمتعون بتعليم جيد وقبل الحكم الشيوعي فقد كانت لغة الداغستان والشيشان هي العربية، وبعد عام 1991م اكتشف الباحثون الفرنسيون والروس قرى صغيرة في داغستان بالقرب من حدودها مع جورجيا حافظت على تقليد نشط لتدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية سراً خلال العهد السوفيتي.

        وناقش فيربانكس بعد ذلك الوجود النقشبندي في القوقاز الذي أدخل إلى المنطقة في القرن الرابع عشر  وتم تقويته فيما بعد عن طريق الطريقة الحقانية المتفرعة من النقشبندية والتي كانت مسيطرة في القرن التاسع عشر، وقد حدث هذا على أعتاب نهضة رئيسية يطلق عليها فيربانكس "الصوفية السياسية" والتي لم يتم تحليلها تحليلاً كافياً على الرغم من أهميتها كظاهرة. وفيما بعد في هذا القرن بدأت الطريقة الحقانية النقشبندية بمواجهة الإمبريالية الروسية وتم ربطها الصراع الأوسع ضد الاستعمار. وقد أصبح شمال شرق القوقاز: إنجوشيا والشيشان وداغستان وأجزاء من أذربيجان مكاناً مثل بولندا وليتوانيا وأيرلندا حيث اندمج الدين بالقومية.

        كان هناك أربعة أئمة في شمال القوقاز ابتداءً من 1829م وكان الأخير والأهم هو الإمام شامل الذي تم اختياره في عام 1832م، وقد قام بحملة ناجحة جداً (جهاد) ضد روسيا تماماً على مثال الجهاد الناجح الذي قاده زعماء مثل عبد القادر (صوفي من الطريقة القادرية) في الجزائر عام 1830م، والجهاديين الأفارقة في عام 1840م مثل عثمان دان فوديو في نيجيريا والنيجر، وكان هناك تدفقاً كبيراً للصوفية الجهادية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأصبح الإمام شامل رجلاً مشهوراً جداً، وأشار فيربانكس بأن أهميته زادت كثيراً بعد وفاته خلال حملات الإبادة في عهد ستالين بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى أبناء من قاتله في داغستان والسشيان احتفوا به كبطل قومي، وكان له تأثير كبير في العالم.

        وعلى الرغم من أن وضع الإمام شامل كان قريباً من الشريعة فإن الحكم السوفيتي القاسي كان له تأثير ضخم في إبقاء ذكراه حية، وفي هذه الفترة كان القرآن لا يكاد يطبع، ولم يكن الحديث متوفراً إلاّ إذا كان الإنسان قد دفن نسخة في حديقة منزله الخلفية وكانت المدارس الابتدائية مضطهدة في العشرينيات والثلاثينيات. وقد أغلقت كل المدارس وكل مؤسسات التعليم الثانوي الإسلامي أو التعليم الإسلامي العالي في أواخر العشرينيات. وقد بدأت مدرستان إسلاميتان لتعليم مشوه ومنهاج مختصر مرة أخرى عام 1952م على نطاق ضيق، واستمر التعليم بالعربية سراً فقط أو بعد فحص شديد من الحكومة في معهد الاستشراق في موسكو وليننقراد وأماكن أخرى قليلة. ونتيجة لذلك تناقص العلماء تناقصاً كبيراً فمثلاً انخفض الرقم في بخارى من خمسة وأربعين ألفاً في وقت الثورة الروسية إلى ثمانية آلاف في عام 1955م.

        ودُفعت الصوفية إلى السرية (بسبب الإمام شامل)، وحرمت من الاتصال بالعلوم الإسلامية حتى أصبحت جزءاً من الفولوكلور وأكثر محلية وأكثر عرقية وأكثر "وثنية" (هذا الاتهام يطلقه السلفيون) والذي كان له تأثير دولي على الطريقة أو الطرق، فبدون تعليم الإسلام فإن التفريق بين التلاميذ والذين يتطورون ليصبحوا خلفاء للشيوخ قد تعطل. وبالتالي انهار الارتباط والتراتيبية مع الطرق الصوفية العالمية. ونظراً للحاجة إلى السرية فلم يكن ثمة بنايات خاصة يجتمع فيها المتصوفة أو يعيشون، والصوفية سواء النقشبندية أو القادرية تم توارثها من الوالدين. وقد أصبحت الصوفية مؤسسة اجتماعية وجانباً من الحياة الاجتماعية والأسرية للشيشان وبخاصة الداعستانيين في الشمال الغربي أكثر من أن تكون طريقة حقيقية يختارها الإنسان. ولا يختلف التلاميذ ولا المعلمين(الملا) بوضوح في المظهر أو الممارسات من المجتمع المحيط بهم، وهذه هي نقطة البداية للوهابيين التي استولت على الأبعاد السياسية الإيديولوجية للإسلام.

        وختم فيربانكس القول بأنه ليس ثمة إسلام سياسي ذي طبيعة صوفية في شمال القوقاز، مضيفاً أن الصوفية ليست هي التي  يجب أن يخشاها الغرب في القوقاز حيث يمكن للصوفيين أن يحاربوا روسيا ومعظم المقاتلين الشيشان مازالوا صوفيين، ولكنها قضية شخصية فهم لا يريدون أن يموتوا من أجل عالم الجهاد مثل رفاقهم المتأثرين بالوهابية.

 

ألكس ألكسييف Alex Alexiev كبير باحثين في مركز دراسات السياسات

        ركز ألكسي ألكسييف على الصراع بين الصوفية والوهابية، وكما أشار المتحدثون الآخرون فهذه المشكلة ليست جديدة فهي ترجع إلى بداية الوهابية، ولكن المشكلة في القوقاز جديدة لأنه حتى وقت قريب جداً لم يكن هناك وجود للوهابية، وبعد سقوط الشيوعية انتعشت الصوفية ووفقاً لمسؤول داغستاني فإن ستين بالمائة يعرّفون أنفسهم بأنهم صوفيون كما يوجد أربعين طريقة صوفية مسجلة، وليس من المبالغة القول إن الصوفية تستعيد دورها التاريخي في شمال القوقاز، ولكن صعود الوهابية يظل أكثر وضوحاً.

        وناقش ألكسييف بأن مشكلة الصوفية والوهابية تمثل جزئياً صراعاً أكبر بين الأصولية والصوفية على جوهر الإسلام، وثمة اختلاف مهم بين الاثنين هو في تفسير الجهاد؛ ففي الصوفية يعني الجهاد بذل الجهد من أجل التطهير الروحاني الشخصي بينما يمثل لدى الوهابيين الصراع من أجل انتصار عالمي للإسلام، وشبيه بذلك تعد الولاءات التقليدية والعشائرية والقومية مهمة للصوفية، بينما يرى الوهابيون هذا التفكير على أنه غير إسلامي، ويجادلون أن الإنسان يجب أن يسعى من أجل جمهورية شمال القوقاز الإسلامية أولاً وبعد ذلك يتطلعون إلى انتصار الأمة في العالم كله.

        ووفقاً لذلك صرح ألكسييف أنّ التأثير الوهابي يخدم تأجيج الصراعات الموجودة في المنطقة؛ فبالنسبة للشيشان يعد الهدف الأساسي لصراعهم المسلح هو الحصول على الحكم الذاتي وربما الاستقلال، بينما لدى الوهابيين أهداف مختلفة، فقد بدأت مع التوسترايكا عام 1986م عندما أعطي المسلمون المحليون لأول مرة حرية أن يكونوا مسلمين مرة أخرى ، وعندما أصح السفر إلى روسيا أسهل وسمح للمبشرين السعوديين أن يدخلوا البلاد وكانت الظروف في المنطقة ملائمة بطرق عدة لنمو الإسلام المتطرف ومن هذه الظروف الفقر الشديد والضياع بين المسلمين وحكامهم المتعاونين.

        ومع ذلك يرى ألكسييف أن ما جعل انتشار الوهابية أكثر درامية هو المال والكثير منه، يقول السعوديون أنهم أنفقوا ثمانين بليون دولار في مساعدة النشاطات الإسلامية حول العالم منذ منتصف السبعينيات والتي أنفق جزء مهم منها في شمال القوقاز، ولكن كم أنفق بدقة أمر غير معروف ولكن كإطار مرجعي يمكننا أن ننظر إلى البوسنة فقد أنفق السعوديون ستمائة مليون دولار في التسعينيات أي حوالي ثلاثمائة دولار لكل مسلم، وهناك مائة وستون مسجداً وهابياً ومدارس لا يمكن إحصاؤها والعديد من المؤسسات الإسلامية المتطرفة، وفي قلب منطقة إسلامية  معتدلة. والشيء نفسه حدث في شمال القوقاز على الرغم من عدم وجود أرقام دقيقة فالمساجد الوهابية والمدارس موجودة في كل مكان. ولاحظ ألكسييف أن كل الصحف الإسلامية والمنظمات الإسلامية هي من النوع المتطرف في هذه المنطقة وبالفعل كل هذا النمو كان بتمويل سعودي.

        وهكذا أسس الوهابيون مجتمعاً صغيراً ولكنه قوي جداً يتألف من خمسة في المائة من سكان شمال القوقاز. إن دخولهم المنطقة أدى إلى جعل المقاومة الشيشانية متطرفة إلى درجة أن أصبحت دعوة مسلحة للوهابية، وبالإضافة إلى الهجوم على الروس فإنها هاجمت الصوفيين فبدأوا يهدمون الأضرحة الصوفية متهمين شيوخ الصوفية بالبدعة وإعلان أن الصوفية كفار. وبعد أن تعرض غزو الوهابيين للداغستان للصد من قبل السكان المحللين بمساعدة الجيش الروسي في أغسطس 2000 منعت الوهابية، ويبدو الآن أن الغزو المفتوح تحت السيطرة ولكن الاهتمام به مازال قائماً سرياً.

 

مناقشات فترة الغداء الرئيسية

برنارد لويس:

        ما سأقوله الآن هو جزئياً نتيجة لما سمعته اليوم وجزئياً نتيجة تأملاتي لهدف اجتماع اليوم وهو يناقش هذه علاقة هذه الأسئلة العملية بالسياسة الخارجية والأمن القومي والعلاقات الدولية وسأقدم ثلاث نقاط:

النقطة الأولى حول الاتصالات؛ فنحن نتحدث ليس عن علاقات بين دول ولكن بين مجتمعات وثقافات وأديان وحضارات، وخلال التاريخ البشري كله وجدنا سوء فهم مستمر وفشل في القراءة والفهم والتقدير لما يحدث في الجهة المقابلة من السور. ونحن جميعاً على الجانبين نصل إلى الميل إلى إجهاد أنفسنا ونفترض أنهم يفعلون ما سنفعله نحن وأن ردة فعلهم تشبه ردة فعلنا وأنهم يعنون الأمر نفسه كما نعني نحن إذا قلنا الشيء نفسه، أحياناً هذا الأمر صحيح ولكن غالباً ما يكون شديد الخطأ.

        ودعوني أفصل أكثر أولاً لا بد أن المسألة الأولى الأساسية في الاتصال اللغة والترجمة. لقد أدركت منذ مدة طويلة عندما بدأت أبحث في بدايات العلاقات التركية الإنجليزية في أواخر القرن السادس عشر. لقد كان هناك العديد من الوثائق في الأرشيفات التركية والبريطانية، وكثير من الرسائل المتبادلة بين الملكة إليزابيث والسلطان مراد. ولم يكن ثمة شخص واحد في بريطانيا يعرف التركية، ولم يكن هناك شخص واحد يعرف الإنجليزية في تركيا. ولذلك انطلقوا في الترجمة على مرحلتين، فإذا ما قارن أي إنسان الوثائق الأصلية في الجهتين فإنه سيرى نموذجاً من الترجمة الخاطئة المقصودة والمنظمة، فالسلطان في ذلك الزمان سيد العالم يكتب إلى المملكة رسالة ودية "سوف تستمرين في الخضوع لسلطاننا في العالم"، ولكن الترجمة الإنجليزية وصلت إلى الملكة تقول: "نعتمد على استمرار صداقتك ونيتك الحسنة" والإجابة لا شك تم تعديلها بالطريقة نفسها.

        وقد أتيحت الفرصة لي قبل ثلاثين سنة تقريباً لملاحظة تقارير عن الاستماع للإذاعات العربية وكان ها قبل بدأ التسجيل وكانت الخدمة الوحيدة المتوفرة هي تقارير الاستماع التي تعدها حكومات متعددة لبعض الأغراض، ولكنها كانت تعد بشكل أو بآخر. فقد كانت إذاعة لندن BBC تعد تقارير استماع عن الإذاعات الرسمية العربية، وكانت إذاعة صوت أمريكا تفعل الشيء نفسه للأخبار الأمريكية، وكانت النسخ متوفرة أيضاً. وعند المقارنة بينهما وجدت أن تقارير الاستماع البريطانية استخدمت التحرير المنظم بحذف كل ما هو مسيئ للقارئ الإنجليزي، مع الإبقاء على كل ما هو معاد لأمريكا. وفي التقارير التي أعدت في أمريكا حدث العكس تماماً حيث تم حذف ما هو معاد لأمريكا وبقي ما هو معاد لبريطانيا. ويحدث الشيء نفسه اليوم إذا أخذت النصوص المكتوبة للخطب. وقد نشرت خطب الرئيس جمال عبد الناصر في كتاب وتستطيع أن تقارن بين الأصل العربي والترجمة الإنجليزية فهناك نموذج من الترجمة الخاطئة تؤثر في كل أنواع الاتصال.

        والجواب بالطبع هو تعلم اللغات، ويبدو أننا نرى تراجعاً بدلاً من التقدم، فعندما كنت طالباً جامعياً في بدايات القرن العشرين كنت أتعلم العربية؛ ففي السنة الثانية كان من المتوقع أن نقرأ نصوصاً في اللغة العربية الفصحى من النثر، وفي السنة الثالثة كنّا نقرأ القرآن والحديث، بينما في هذه الأيام نشعر بأننا قد فعلنا الكثير حيث كان الطالب في السنة الرابعة يستطيع أن يقرأ مقالة في صحيفة بتعثر. إن هذا بسبب تغير نمط الدراسة، إنها صعوبة وليس لدي أي اقتراح لحلها، فالسؤال ليس فقط الترجمة من لغة إلى أخرى ولكن السؤال يتعلق بالفهم.

        ففي أوروبا النصرانية كانت هناك محاولة منذ المراحل الأولى لفهم شيء حول الإسلام وحول اللغة العربية الكلاسيكية والدين الإسلامي وهكذا، وهذا يعود إلى فترة العصور الوسطى العليا ومبني على اهتمام عملي حيد، وفوق ذلك كان الإسلام المسلح يغزو أوروبا وشعر الأوروبيون أن عليهم أن يفعلوا شيئاً واستمرت دراسة الإسلام بعد أن تراجع تهديد الغزو ومنذ القرنين السادس عشر والسابع عشر كان هناك كراس للغة العربية في الجامعات الأوروبية، فقد أنشئ أول كرس للغة  العربية في فرنسا في كلية فرنسا في بداية القرن السادس عشر، وكان أول غزو فرنسي إمبريالي للعالم العربي عام 1798م لمصر، وكان المستشرقون الفرنسيون ذوي نظر بعيد، كما كان الإمبرياليون الفرنسيون نشطون. وأهم من ذلك كله إنهم تعلموا اللغة العربية وأسسوا كراس للغة العربية لأن اللغة العربية كانت لغة كلاسيكية ولغة النصوص المقدسة وبالتالي تستحق أن تأخذ مكانها بجوار اللغة اللاتينية واليونانية واللغة العربية المكتوب بها الكتاب المقدس في الجامعات، ولكنهم لم يؤسسوا كراس للغة الفارسية أو التركية، وذلك لنفس السبب أنهم لم يؤسسوا كراس لتدريس اللغة الإنجليزية أو الفرنسية. فاللغات   العامية لم تكن مناسبة للدراسة الجامعية واستمروا في محاولة فهم الإسلام ولغته وعقيدته والتي نطلق عليها "الاستشراق".

        ومع ذلك فليس هناك ما يقابله وهو "الاستغراب" وعلى الجانب الآخر نجد نقصاً كاملاً في الاهتمام بأوروبا حتى فرض هذا الاهتمام من خلال الهزيمة والاحتلال، وحتى بعد ذلك فالاهتمام منصب على القضايا المعاصرة، فبينما تعلم المستشرقون اللغة العربية الكلاسيكية ودرسوا القرآن فالشرق أوسطيون الذين درسوا اللغات الأوروبية انصب اهتمامهم على المشكلات المعاصرة. فهناك على سبيل المثال بحلو القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كتابات كثيرة حول القانون الإسلامي والعقيدة الإسلامية من قبل الأوروبيين النصارى (واليهود) ولا أعرف أي دراسة جادة للعقائد النصرانية من قبل علماء مسلمين يبدو أن الأمر لا يبدو مثيراً للاهتمام أو مهماً، إنه اختلاف في الفهم.

        إنني من جيل تربى في بلاد ما زالت النظرة النقدية للمجتمعات الأخرى مسموح بها ، والنظر المتعاطف مع المجتمع الذي ينتمي الإنسان إليه، وأدرك أنه لم يعد مسموحاً بأي من الاتجاهين الآن. هذا الاختلاف هو بالتأكيد عنصر مهم في صعوبة الاتصال التي ما تزال موجودة، بل إنها تزداد في القوت الحاضر.

        سأتحول الآن إلى النقطة الثانية وهي وصول الوهابية، لقد سمعنا الكثير عنها في هذا الاجتماع ولكن ثمة نقطة مهمة ما تزال تحتاج إلى توضيح، فالوهابية ذات مكانة مركزية بالنسبة للتقاليد الإسلامية، ويمكن أن تكون مثل جماعة كوكس كلان في النصرانية، والفرق الكبير في التأثير بين المجموعتين هو بسبب مبررات الظروف التي بكل سرور لم تحدث في العالم المسيحي. إن تحول أسرة آل سعود وشيوخ القبائل المحليين في حاجة إلى المعتقدات الوهابية والقرن الثامن عشر وتأسيس المملكة العربية السعودية في العشرينيات من القرن العشرين والتي ضمت مكة والمدينة والأسوأ من ذلك كله اكتشاف النفط. وهذا كان يعني أنه فجأة أصبحت المملكة الوهابية مغمورة بمال النفط وسيطرت على أقدس مكانين في الإسلام مع كل ما حصلت عليه من مكانة ظهر واضحاً في السيطرة على الحج.

        يجد الغربيون صعوبة كبيرة في فهم أهمية الحج لأنه ليس لدى النصرانية أو التاريخ الغربي ما يماثله. لقد قام النصارى بالحج ولكنهم كانوا يقومون بذلك بشكل رحلات فردية في الوقت الذي يناسب الفرد، بينما الحج عند المسلمين عمل جماعي يحدث في وقت معين من السنة ويحضره مسلمون من كل أنحاء العالم. وقد أوجد الحج مستوى من الاتصال ليس له ما يماثله في العالم النصراني حتى اختراع وسائل الإعلام الجماهيرية المعاصرة. ففي كل سنة يأتي المسلمون ويشتركون في شعائر مشتركة وطقوس ويتبادلون الأفكار والمعلومات. وهكذا فهناك درجة من الاتصال التفاعلي في العالم الإسلامي خلال الحج وأهمية هذا الأمر لا يمكن المبالغة فيها. وحالما استولى آل سعود على هذا أصبح كل هذا تحت سيطرة الحكام الوهابيين، وإذا أضفنا إلى ذلك ارتفاع الثروة بسبب النفط كانت النتيجة تحولهم إلى قوة عالمية والتي بدون ذلك كانوا سيبقون طائفة متطرفة في بلد هامشي.

        والأمر الثالث الذي أود الحديث عنه هو الصوفية وأود أن أتحدث عن نقطة أو نقطتين. نحن نتحدث في هذه الأيام كثيراً حول "التسامح" ونسمع كثيراً عن تراث التسامح الذي وجد في إسبانيا الإسلامية في  القرون الوسطى، دعوني أوضح ما يعني هذا. إن التسامح جوهرياً مثال غير متسامح. ماذا نعني عندما نقول تسامح؟ إنها تعني أساساً : سأسمح لك ببعض الحقوق وليس كل الحقوق التي أتمتع بها مادمت تتصرف وفق القوانين التي وضعتها" أعتقد أن هذا تعريف معقول للتسامح كما مورس في أوروبا ومناطق أخرى من العالم. من الواضح أن هذا أفضل من اللاتسامح. إذا قارن الإنسان التسامح الذي منحته الإمبراطورية العثمانية في أوجها مقارنة بما كان في أوروبا فإن الإمبراطورية العثمانية كانت أفضل بكثير. ولكن مع ذلك فإن هذا التسامح هو ما يمكن أن نطلق عليه في لغتنا المعاصرة مواطن من الدرجة الثانية، وهذا بوضوح أفضل من لا تسامح على الإطلاق.

        ولكن الصوفية رائعة، إنها تقدم شيئاً أفضل من التسامح، إن الموقف من الآخرين من الأديان الأخرى كما تعكسه الكتابات الصوفية لا مثيل له. إنه ليس مجرد تسامح إنه القبول. هناك قصائد لجلال الدين الرومي وابن العربي باللغة الفارسية والتركية تشير إلى أن الأديان جميعها أصلها واحد. وكل الأديان لها هدف واحد ورسالة واحدة والتواصل نفسه. وهم يعبدون الإله نفسه. يمكنهم فعل ذلك بطرق مختلفة. ولكن الله موجود في الكنيسة وفي المسجد وفي الكنيس بدرجة واحدة. يبدو لي أن فكرة القبول المتميزة عن مجرد التسامح هي مساهمة عميقة ولا تزال تستطيع أن تلعب دوراً أفضل في تأسيس علاقات أفضل بين المجتمعات في الوقت الحاضر وفي المستقبل. إذا نظرت إلى الوصايا العشر تجد أن معظمها تهتم بالصلات بين البشر بينما جزء بسيط منها يهتم بالعلاقة بين البشر وبين الله. إنّ معظمها حول ما يجب عدم فعله لإخوانك في الإنسانية. أما في النصوص الإسلامية الشائعة ترى العكس تماماً إنها تهتم أساساً بالعلاقات مع الله أكثر من اهتمامها بالعلاقات بين البشر، والصوفية مرة أخرى أحدثت تغيراً مهماً في هذا الاتجاه. إنها أيضاً مهتمة إلى درجة كبيرة بتصرفات الإنسان تجاه الناس الآخرين وليس فقط علاقة الإنسان مع الله. وهناك صوفي هندي هو الشيخ سارافادين الذي أوضح ذلك بصورة رائعة حيث يقول:" الإساءة للناس أسوأ من الإساءة لله، فإذا ارتكبت خطأً بحق الله فلن تضر الله ، ولكن الله يستطيع بطريقته أن يغفر لك، ولكن إذا أخطأت بحق الآخرين فأنت تضرهم بالفعل، والذي يمكن أن لا يكون قابلاً للإصلاح. إن مسألة العفو تصبح عندئذ أكثر تعقيداً. يبدو لي أن هذا إنجاز مهم للحوار الأخلاقي لأعلى القيم.

والنقطة الأخيرة بخصوص بعض جوانب السياسة الخارجية الأمريكية والذي هو موضوعنا الأساس، هناك تقليد مشهور في الشرق الأوسط يعود إلى عهد الحرب الباردة؛ فكل واحد يعرف أنك إن قلت أي شيء يزعج الروس فإن العقوبة ستكون سريعة وقاسية، ومن جهة أخرى لو قلت الشيء نفسه ضد الأمريكيين فإنه ليس فقط لن يكون هناك عقوبة ولكن ربما حدث العكس، وربما نلت بعض الجوائز، حيث إن العملية القلقة لدى الدبلوماسيين ورجال الكونجرس والصحفيين وآخرين تأتي متتالية تقول: ماذا فعلنا للإساءة لك، وما ذا نستطيع أن نفعل لتصحيح ذلك؟ هذان الطلبان هما الأساس للسياسة الخارجية، ولذلك فإن الناس في الدوائر الرسمية يجدون صعوبة للملاءمة مع حركة ودية، وعادة فإن الموقف الأساس :" يجب أن لا نقترب كثيراً من أصدقائنا خوفاً من إزعاج أعدائنا. ولا أعتقد أن هذا شكل مناسب من الدبلوماسية."

 

الشيخ هشام قبّاني:

        قال الرومي :"أنا مسلم ولكن لا أعرف إذا ما كنت كذلك، ولا أعرف إذا ما كنت نصرانياً أو يهودياً، أو نمساوياً أو شرقياً أو غربياً أو عُلْوياً أو سُفْلياً. لا أعلم إذا كنت من العناصر الأربعة للعالم. لا أعرف إذا كنت من الجنة أو من الأرض.  لا أعرف إذا كنت هندياً أو صينياً أو بلغارياً. لا أعرف إذا ما كنت عراقياً أو سورياً ، ولا أعرف إذا ما كنت روشوهان أو أسوهان، لا أعرف هل أنا من هذا العالم أو ذاك، ولكن أنا جسد وروح، وذاتي هي روحي وعندما أقول اثنان فهذا يعني أنا والله....

        وقال ابن عربي "أصبح قلبي انعكاساً لكل صورة ، إنه مكان لدرويش ليرقص فيه، إنه دير لقس ليتعلم فيه إنه منزل للجميع للعبادة، إنه كعبة للحج، إنه الوصايا العشر التوراتية، إنه القرآن الكريم، إن ديني هو دين الحب وحيثما أوجه قلبي إنه حب الله"

        نرى من هذه القصائد أن الصوفية تعمل بصفتها قوة اجتماعية لتقريب الناس، إنها جسر بين الثقافات المختلفة والذي يفسر جزئياً نجاح الصوفية في معظم أنحاء العالم. إن هدف الصوفية الأساس لم يكن أبداً أن يصبحوا قادة لأي بلد، ولكن أن يصبحوا العمال الاجتماعيين. إنهم يمتزجون بسكان البلد ويتعلمون لغاته، إنهم يوفرون الاتصالات بين الناس وبخاصة في الماضي عندما لم يكن هناك تأشيرات دخول. لقد بدأوا التزاوج المختلط ولكن بطرق أخرى بنوا تفاهماً بين أنوعا مختلفة من الشعوب.

        إن الله يأمرنا أن نؤمن بالأنبياء وأن نؤسس علاقات مع اليهود والنصارى" لا تحقرونهم" فعند ذلك تتضاعف المشكلات الاجتماعية، إنه يخبر المؤمن أن يعبد الله كأنه يراه حتى لو تره فإنه يراك، وهذا يعني أنك لن تستطيع أن تراه ولكن تستطيع أن ترى آياته في الكون، والصوفيون يقرؤون هذا بطرق مختلفة، فإذا لم تعد ترى نفسك إذا ألغيت  رغباتك  تماماً عندئذ تستطيع أن تراه، وزيادة على ذلك من المؤكد أن تراه في كل فرد يحب أن يرى الله في كل إنسان، وهكذا فإن التعليمات الصوفية ترى كل شخص في خلق الله كشخص خلقه الله. وبالتصرف بهذه الطريقة فإن الصوفيين لا يمكن اتهامهم باللامسؤولية أو السلوك السيئ.

        لقد قال أحد المستشرقين الأوائل في أوروبا إن الصوفيين ليسوا بحاجة إلى نشر حبهم القلبي بالسلاح، فليس لديهم جيش ولكنهم يستخدمون أدواتهم الروحية في علاقاتهم بالآخرين. وبناء على ذلك كسبوا أعداداً هائلة لطريقتهم في آسيا الوسطى وفي إندونيسيا وجنوب شرق آسيا وتركيا وحتى أوروبا. وهذا لا يحدث اليوم لأن الإسلام أصبح مرتبطاً بالقومية ففي بداية القرن العشرين وخلال ظهور الاستعمار الأوروبي في العالم الإسلامي سعى العلماء المسلمون لتفسير القرآن الكريم بطريقة للحصول على أقصى تأييد للنهوض، لقد أهملوا كليا الجوانب الروحية (والصوفية) للدين من أجل القيام بهذا الصراع، وقد كسبت المقاومة الوهابية بالتالي الحق للتحدث باسم العالم الإسلامي.

        ونقطة أخرى أود إثارتها وهي الفرق بين الوهابيين والسلفية، فليس ثمة مصطلح في الإسلام اسمه "السلفية" هذا المصطلح يمكن إطلاقه فقط على القرون الثلاثة الأولى من الإسلام يطلق عليهم السلف الصالح، وبعد ذلك لم يستخدم المصطلح حتى عام 1980م عندما قال الملك فيصل في افتتاحية مؤتمر بمجادلة منه أن يرفع الشرعية الدينية "نحن لسنا وهابيين، نحن سلفيون" والآن يستخدم هذا المصطلح لوصف كل المجموعات المسلمة المتطرفة الجديدة مثل الإخوان المسلمون وحزب التحرير.

        لقد كنت في إندونيسيا قريباً وقابلت شخصاً من الصين، لقد أخبرني أن الحكومة الصينية تغلق كل المساجد الوهابية. وسألت من أي نوع من المسلمين أنت؟ فقال أنا صوفي أوجري، وليس للحكومة أي اعتراض مادمنا لا نتدخل في السياسة. إن المشكلة الوحيدة التي نواجهها في الصين سببها الحج. اعتدنا أن نذهب إلى السعودية بالآلاف وكان الحجاج يقابلون في جدة من قبل وهابيين يقدمون لنا بعض الكتيبات، وبعد قليل أغطي الجميع دورات سريعة في الوهابية، وعادوا ليهدموا أضرحتنا ويحرقوا مخطوطاتنا، وهكذا فإن الحضارة الصينية الإسلامية التي بلغ عمرها ألفاً وأربعمائة سنة تدمر من قبل الوهابيين. إذا استطاع الوهابيون اختراق الصين المغلقة تخيل ما تستطيع أن تفعله في الولايات المتحدة الأمريكية. فقبل عام 1960م لم يكن هناك مشكلة في الولايات المتحدة وجاءت بعد ذلك التعليمات الوهابية وسبب ذلك أن معظمكم هنا يعتقد أن الصوفية نوع غريب من الإسلام. ولكن في الحقيقة عندما تسافر إلى مناطق أخرى من العالم تجد أن الصوفية جزء أساس من الدين. ففي إندونيسيا هناك خمسين مليون تلميذ نقشبندي وعشرون مليون من طرق أخرى، وهناك أعداد مشابهة في ماليزيا وبروناي وتركيا وحتى في السعودية هناك صوفيون يمارسون تصوفهم في بيوتهم لأنهم لا يستطيعون فعل ذلك علناً.

        ووفقاً لذلك نواجه السؤال التالي: هل نحن بصفتنا أمريكان سنؤيد الصوفية أو نعم مع الوهابيين. فإذا اخترنا الأخير، فإن تلك مخاطرة أننا نعمل مع الإرهابيين، مع أنه ليس هناك أي خطر في التعامل مع الصوفيين. ببساطة يجب على الولايات المتحدة أن تتواصل مع المسلمين غير الوهابيين إذا أردنا أن ننجح في هذه المعركة. إنه وضع غير ممكن فيه تقبل الخسارة.

المناقشة:

سئل الشيخ قباني فيما إذا كان على الولايات المتحدة أن تدعم الطرق الصوفية في المناطق التي تواجه اضطراباً مثل الشيشان إذا افترضنا أن الصوفية لا تمارس الإرهاب. اقترح قباني أن تواصل الولايات المتحدة الضغط على الحكومة الروسية للتوصل إلى حل وأن تبلغ الروس أن المشكلة ليست بسبب الشعب  الشيشاني ولكن الوهابيين الذين يستخدمون الرشوة وأساليب أخرى من التآمر والخداع وبذلك شجعوا العناصر المتصلبة من الشعب الشيشاني نحو التطرف. إن العرب المقاتلين الذين اخترقوا الشيشان من خلال داغستان أرادوا إخراج القيادة الشيشانية الصوفية وأن يؤسسوا حكومتهم الوهابية.

        وسئل لويس عندئذ إذا كان يرى أن الشرق الأوسط سيتطور إلى النموذج الغربي العلماني الديمقراطي مع انفصال تام بين الدين والدولة وظهور الطبقة المتوسطة. وهنا دعا لويس أن يكون الإنسان واعياً بمسألة التعريفات وبخاصة كلمة "ديمقراطية" فما دامت الديمقراطية تعرّف تعريفاً مناسباً فإنه يرها في مستقبل الشرق الأوسط، أولاً في العراق ثم في  المناطق الأخرى.

        ولماذا كان لويس متفائلاً هكذا؟ أولاً أجاب بأن فكرة أن البعث قد جعل الديمقراطية أمراًَ مستحيلاً في العراق وسوريا وزائفة تماماً، وفسّر ذلك بأن نظام الحزب وصدّام حسين ليس لهما أي جذور مطلقاً في الماضي العربي أو الإسلامي. فهذا استيراد من أوروبا. ونستطيع أن نعيد ذلك إلى عام 1940م بالضبط. فعلى الرغم من استسلام فرنسا فإن حكومة فيشي المتعاونة حافظت على سيطرتها على المنطقة وفتحها لتأثير المحور، وإن حركة البعث ظهرت "لتتلاءم مع الأوضاع المحلية للنموذج النازي" وعندما مارس السوفيت التأثير على المنطقة قام البعثيون بالتحول من النموذج النازي إلى النموذج الشيوعي، وقرر لويس  بأنه لم يعد هناك أي سبب لاتباع هذه النماذج في المنطقة.

        وثانياً وبينما الظروف المحلية الحقيقية للمنطقة ليست ديمقراطية بمعنى قيام انتخابات  ووجود مجالس تشريعية فإن هناك تقليد للحكومة المسؤولة المحدودة. هناك اعتراف يعود إلى بداية الإسلام بأن على الحاكم واجبات وكذلك مسؤوليات وأن سلطته تعاقدية. وفي الحقيقة فإن مفهوم التعاقدية الرضائية للحكومة محترم من قبل الشريعة، وهكذا قال لويس: "هناك أساس قانوني وثقافي وأساس مبني على التجربة لنمو الديمقراطية في  الشرق الأوسط، إن الأنظمة المستبدة التي نراها في الوقت الحاضر في معظم العالم العربي إنما هي "نتيجة للتغريب والتحديث في المنطقة، وكانت النتائج ذات اتجاهين فأحدهما أنّ التغريب أدى إلى تقوية السلطة السيادية إلى حد كبير، ومن جهة أخرى أضعف أو أزال كل عناصر المجتمع التي أدت في السابق إلى محدودية السيادة، وكانت النتيجة أن أي ديكتاتور معاصر لديه من السلطة أكثر من أي حاكم في الماضي. وهذه الحقيقة الأخيرة تزيد في تفاؤلي بأن هؤلاء الحكام المستبدون للأنظمة الحاكمة ليسوا جزءاً من الثقافة التقليدية. وأن هذا فرض عليهم وجيء بهم من الخارج. وإذا نظروا إلى الخلف لتقاليدهم التاريخية والثقافية والدينية فسيجدون عناصر أفضل بكثير.

        وثالثاً قرر لويس بأن العراق تملك نظاماً تعليمياً معقولاً، وأنه كان متطوراً بطريقة واضحة في قضايا المرأة بالمقارنة مع بقية المنطقة. فقد كان التعليم متاحاً للمرأة وكثير منهم أصبحن طبيبات ومحاميات وأستاذات جامعيات وعالمات وموظفات في الإدارة، وهذا أيضاً مصدر أمل للعراق في نظر لويس.

        وسئلت المجموعة بعد ذلك إذا ما كانت الصوفية ستكون قادرة على معالجة أحد أهم اهتمامات معظم المسلمين وهو وضعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي متخلف بالنسبة للعالم الغربي وبالتالي تواجه انتشار الوهابية، فأجاب الشيخ القباني بالمقارنة بين تقليدين: السلوك في بداية القرن العشرين عندما أخذ الوهابيون الريادة من أجل تفسير القرآن الكريم لتحريك المسلمين ضد البريطانيين وكانوا يشهدون انهيار الإمبراطورية العثمانية الذي ترك فراغاً أرادوا ملأه، ومن أجل هذا أرادوا أن يسيطروا على آل سعود ومن خلالهم السيطرة على العالم الإسلامي. ومع ذلك يقول القباني: "الصوفيون نظروا إلى العالم الإسلامي ليس من خلال السيطرة السياسية ولكن من خلال المشكلات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم" وختم قباني قوله ومع نهاية عصر الاستعمار فإن الصوفيين يستطيعون أن يلعبوا دوراً كبيراً في بناء جسور بين الثقافات والمجتمعات والدول المختلفة، ويستطيعون بصفة خاصة أن يجعلوا الإسلام يزدهر دون سيطرة دولة معينة فإذا أعطي الصوفيون الفرصة والتشجيع فإنهم قادرون على تحقيق الكثير بطريقة سلمية."

        وعلّق لويس من جانبه على قضايا "الحرية" و"الاستقلال" واصفاً إياها بأنهما "كلمتين مختلفتين تطرح أفكاراً مختلفة، فعندما كان المسلمون تحت الحكم الاستعماري نُظر إلى هاتين الكلمتين على أنهما كلمتان مختلفتان لشيء واحد، والآن وفي  الواقع كل هذه الدول التي حصلت على الاستقلال ولكنها تملك حرية أقل من السابق.  أوضح لويس أن معنى"الاستقلال" في العادة هو استبدال طغاة محليين أكثر مهارة وأقل تحرجاً بالأسياد الأجانب الإمبرياليين. وبالنسبة للحرية فإن إمام أول بعثة مصرية إلى فرنسا عام 1828م كتب كتاباً عن ملاحظاته، وناقش كيف كان الفرنسيون يتحدثون عن الحرية، وقد وجد ذلك الإمام الأمر محيراً ذلك أن كلمة الحرية كانت في ذلك الوقت مصطلحاً قانونياً وليس مصطلحاً سياسياً، فالإنسان الحر معناه أنه ليس رقيقاً، وعندها أدرك أن ما عناه الفرنسيون بالحرية هو ما فهمه العرب من كلمة "العدل" وأكد لويس على أهمية هذا التمييز في العالم العربي. نحن معتادون على التفكير في الحرية والمعارضة والحرية والاستبداد على أنها أقطاب متقابلة، وفي المفهوم الإسلامي سيكون البديل هو العدل والمعارضة والعدل والطغيان(الاستبداد) على أنها أقطاب متقابلة. فالمفهوم الصحيح لمفهوم العدل أمر غاية في الأهمية لتطوير المؤسسات الحرة في العالم الإسلامي.

        وكان السؤال التالي هل يمكن للصوفية أن تستخدم العنف ضد الغربيين إذا أخذنا في الاعتبار أن الصوفيين الشيشان قد استخدموا العنف ضد الروس كما فعل الصوفيون ضد الفرنسيين في شمال أفريقيا وضد الهولنديين في إندونيسيا. وأجاب لويس باختصار: "إن أي أحد درس الصوفية سيوافق أن الصوفية مسالمة ولكنها ليست سلبية، لقد لعب الإخوة الصوفيون دوراً مهماً في الصراع ضد الإمبريالية في شمال أفريقيا والهند والقوقاز، وأكد لويس مع ذلك " إنه من غير المحتمل أن مثل هذا الاحتمال سيظهر مستقبلاً"

        وكان آخر سؤال قدم للمجتمعين حول اقتراحات للحكومة الأمريكية لحوار أحسن مع العالم الإسلامي قال لويس ببساطة: "أقترح أن عليهم أن يتحدثوا إلى الشيخ قباني" ومن جانبه حذر الشيخ قباني أن الحكومة الأمريكية في النهاية تعمل مع الوهابيين في كل أنحاء العالم، وبدلاً من ذلك اقترح أن على الحكومة الأمريكية أن تسأل الأشخاص المناسبين للبحث عن علماء معتدلين ويطلبوا منهم الاقتراحات المناسبة لسياسة أمريكا.

 

الجلسة الثالثة: الإسلام الثقافي وتأثيراته في السياسة الأمريكية.

في هذه الجلسة التي لم يتم تسجيلها حضر ممثلون عن عدد من الوكالات الحكومية الأمريكية وشاركوا بآرائهم في النقاش وفيما يأتي أبرز النقاط:

        عبر أحد المشاركين عن انزعاجه من أن معظم إدارات السياسة الخارجية الأمريكية هي أدوات جامدة وغير قابلة للتأقلم مع الاحتياجات الحالية، إن الإدارة ترمي النقود نتيجة الانفعالات لحي أي مشكلة تظهر وهكذا هو الأمر في ظهور مبادرة شراكة الشرق الأوسط (MRPI) في ديسمبر 2002م. لقد خصص الكونجرس مبلغ تسعة وعشرين مليون دولار لمبادرة الشراكة في الشرق الأوسط وأضاف مائة مليون أخرى في عام 2003م بصورة دعم استثنائي طارئ، وقد خصصت عشرة ملايين دولار منها للاهتمام بالإسلاميين. ولمشروع شراكة الشرق الأوسط أربعة أعمدة ثلاثة منها تتعلق بالمساعدات الاقتصادية، فالمفروض في البرامج الاقتصادية أن تتواصل وتقرب المسافات في المعلوماتية أما في المجال السياسي فهدفها أن تقوي "الأصوات الديمقراطية" في الشرق الأوسط كله، وأن تبني إحساساً بالحكم والمحاسبية لنظام الحكم. وهذه شعارات جميلة ولكن نمو معاداة أمريكا في العالم لم يمكن إيقافه بهذه البرامج الدبلوماسية.

        واقتبس مشارك آخر من كلام نائب وزير الدفاع بول وولفوتز Paul Wolfwitz والسفير السابق لإندونيسيا "من أجل أن نصف سياسة أمريكا تجاه المسلمين أفضل وصف. فإن الولايات المتحدة لا ترى هذه العلاقة حرباً بين الحضارات بين الغرب والإسلام، ولهذا فإنها حرب كل العالم المتحضر ضد المتطرفين الذين يهاجمون القيم التي يشترك فيها معظم سكان العالم" وتدرك الولايات المتحدة بأنه ثمة فجوة خطيرة بين الغرب والعالم الإسلامي، ويجب أن نقرب الهوة ويجب أن نبدأ الآن. إن الفجوة عميقة وليس ثمة وقت للتأخير، وسواء كنا ناجحين في تضييق هذه الشق الحرج بين الشرق والغرب سيكون عنصراً رئيسياً في تشكيل الصورة.

        وهناك نمو في الإدراك بأن الولايات المتحدة سوف تكسب الحرب على الإرهاب، ولكن الحرب الأكثر صعوبة هي "حرب الأفكار" إنها حرب حول التحديث والعلمنة والتعددية الديمقراطية، والنمو الاقتصادي الحقيقي. ولتحقيق نصر في هذا الصراع الأوسط فإن الولايات المتحدة تفهم بأن من الواجب على الولايات المتحدة أن "تعمل لتفهم الوجوه المتعددة للعالم الإسلام" إن كبار أعضاء الإدارة الأمريكية مقتنعون بأن الغالبية العظمي في العالم الإسلامي ليس لهم شأن بالمبادئ التي تعرضها مجموعات مثل القاعدة وطالبان، كما قال وولفوتز وبالعكس تماماً إنهم يعادون  الإرهاب ويعادون الإرهابيين ليس فقط الذين يخطفون الطائرات ولكن أيضاً الذين حاولوا اختطاف واحد من أديان العالم العظيمة." ليس لهم علاقة بالذين ينكرون الحقوق الأساسية للنساء أو الذين يسيطرون على عقول الآلاف بالخرافات والكراهية. إن مثاليات الديمقراطية والحرية كانت هي المحرك الأكثر قوة للتغيير في الخمسين سنة الأخيرة، ويجب أن تعطينا الأمل لمزيد من التطور في العالم الإسلامي" وقال المتحدث ليس هناك استراتيجية أخرى تحمل أي معنى للولايات المتحدة.

        هناك ثلاث عناصر للحرب على الإرهاب: الأول اصطياد الإرهابيين وهذا يتضمن قوة القانون وتبادل المعلومات الاستخباراتية والانقضاض على مصادر التمويل، وتعني أيضاً مواجهة الدول التي تدعم الإرهاب. والعنصر الثاني هو الأمن الداخلي،والعنصر الثالث هو حرب الأفكار. وهي في المقام الأول حرب أهلية داخل العالم الإسلامي بين المعتدلين والمتطرفين. وتدرك الولايات المتحدة أنها ليست عضواً في العالم الإسلامي وتعترف أنه ليس من مسؤولية أمريكا تقديم وجهات نظر حول العقيدة، وفي الوقت نفسه لا يشك أحد أن للولايات المتحدة دوراً مهماً لتقوم به لأنها تستطيع أن تكون مؤثرة فيما يجري من أمور. إن الولايات المتحدة والأعضاء الآخرين في المجتمع الدولي يستطيعون أن يجعلوا الإرهاب أمراً غير شرعي، والوصول إلى إجماع جولي أن الإرهاب يجب أن يزول وأنها مسألة تتعلق بالقانون الدولي والأخلاقيات مهما كان السبب السياسي وراءه.

        ومن الناحية الاستراتيجية تستطيع الولايات المتحدة أن تؤيد الدول التي يقطن فيها مسلمون معتدلون مثل تركيا والأردن والمغرب، وهناك تطورات مهمة في الخليج الفارسي حيث تحدث نقاشات جادة حول الإصلاح السياسي. وفي إيران أيضا ملّ الناس من نظام الملالي الذي لم يعد له رصيد ويرغبون في التغيير. وبينما لا تستطيع الولايات المتحدة التدخل لكنها تستطيع أن تؤيد تطلعات الشعب الإيراني. وزيادة على ذلك سيكون هناك تأثير سيكوسياسي في العالم الإسلامي، إذا كانت إيران قلب العالم الإسلامي الحديث أخذت في تغيير مسارها.

        وقد أشار المشاركون إلى أربعة أمثلة تاريخية تستطيع الولايات المتحدة أن تبني عليها بخصوص معركة الأفكار؛ والمثال الأول هو أيضاً حادثة إيديولوجية هي نوع من نفي الشرعية عن الإرهاب شبيهة بالحملة ضد الرق. ففي القرن التاسع عشر أعلنت بريطانيا عدم شرعية الرق بطرق متعددة أولاً بإعلان الحرب على المفهوم وتطور ذلك تطبيق هذا باستخدام القوة البحرية وكذلك من خلال القوة الناعمة: الإدارات الفكرية والأخلاقية والدبلوماسية، وخلال عقد  من الزمان ساعد البريطانيون في تغيير طريقة تفكير الناس المحترمين تجاه الرق.

        والمثال الثاني هو هزيمة الماركسية اللينينية، وهذه أيديولوجية ظنها البعض موجة المستقبل حيث ولدت حماسة كبيرة وحركت الناس بقوة ولكنها سقطت عندما فشلت في تقديم الفردوس الذي وعدت به. لقد تهاوت عندما وصلت الجرائم التي ارتكبت باسمها إلى حجم ناقض المبادئ التي دعت إليها ولأنها أيضاً واجهت مقاومة قوية واثقة بنفسها. والدرس الذي تعلمناه أن الأيديولوجيات يمكن هزيمتها ونفي الشرعية عنها عندما تفشل.

        والمثال الثالث هو صراع الحرب الباردة حول المؤسسات؛ فقد أجاد الشيوعيون في الاستيلاء عليها ولكن الغرب كان لديه الطاقة لرد الهجوم، فقد ساند نقابات العمال الحرة والإعلام الحر والمجموعات الفكرية الحرة التي منعت من الشيوعيين من الاستيلاء عليها. وهذا النوع من الصراع يعد احتمالاً آخر لما نحتاج أن نفعله لمساعدة المؤسسات والهيئات.  وبالتعاون مع شركائنا في الغرب وفي كل مكان في العالم تحتاج الولايات المتحدة أن تساعد المؤسسات الخاصة والهيئات وكل أولئك الذين يقفون معنا في هذا الصراع.

        والجبهة الرابعة التي تهدف إليها الولايات المتحدة هي الإصلاح: السياسي والاقتصادي والتعليمي وتهدف مبادرة الولايات المتحدة الجديدة جمع أكثر من بليون تقدمها الولايات المتحدة مساعدات للدول الإسلامية الصديقة سنوياً. وقد اقترح الرئيس الأمريكي مبادرة التجارة الحرة للأسباب نفسها. وأكد المشاركون أيضاً أن العالم يواجه مسؤولية كبرى وفي مساعدة أصدقائنا الذين يؤيدون الملايين الذين يعادون التطرف والذين هم في الواقع ضحايا التطرف. فالتاريخ يقف بجانب الحرية والتسامح والتحديث والديموقراطية ويتطلب الشجاعة والإصرار والقوة منّا جميعاً. ونستطيع أن نعتمد على هذا النوع من القناعة التي ستقود إلى النصر.

        وقد ركزت الحلقة الأخيرة على أواسط آسيا كأفضل منطقة لبدء معركة الأفكار في هذا الصراع على الوجود.. إن الإصلاح الديمقراطي والاقتصادي أمور أساسية لاستقرار طويل الأمد حيث إن الناس الذين ليس لديهم فرصة للمشاركة في الحياة المدينة أو الحق في ممارسة دينهم علنا وبحرية في بلادهم سيتجهون إلى السرية. وقال المشاركون إنه في الحقيقة هذا هو بالضبط ما يحدث اليوم في أواسط آسيا. فبينما تسبب الاضطهاد الأول في استمرار تلك الحركات السرية وربما قدم المساحة لهذه الأنظمة لتقدم استراتيجيات بناءة فإنهم أكدوا بأن هذه النافذة قد أغلقت إن "أنظمة الحكم في أواسط آسيا تزداد وحشية."

        ماذا تستطيع الولايات المتحدة أن تعمل في هذه المسألة؟ أولاً تحتاج أواسط آسيا أن يعاد تعريفها بثقافاتها وتفسيراتها التقليدية الإسلامية بدلاً من الإيديولوجيات المستوردة، فالولايات المتحدة لا تستطيع أن تدرب الأئمة المحلين والتي هي نقطة البدء المهمة ، ولكنها تستطيع أن تقدم مساعدة بتقديم تعليم (علماني) أساسي. وتستطيع الولايات المتحدة أن تساعد بالمحافظة على المزارات الدينية والمخطوطات وربما كانت المساعدة الأهم هي أن تقدم مساحة سياسية للمؤسسات الخاصة للقيام بمسؤولياتها.

        وفوق ذلك كله فإن تركيا بصفتها واحدة من دولتين ديمقراطيتين في الشرق الأوسط وعضو في حلف شمال الأطلسي فيجب فهما بطريقة أفضل حتى يمكن أخذ الدروس لتطبيقها في أواسط آسيا. لقد أوجد المجتمع التركي طريقة للسماح لحرية التدين  وفي الوقت نفسه محاضرة التيارات المتطرفة. وبينما لا يمكن تطبيق الأنموذج الكمالي تماماً في جميع الأقطار مثل تعليم المبادئ الأساسية للإسلام في  المدارس العلمانية حتى يصبح لدى الناس المناعة من التفسيرات المتطرفة.

 

1- "ماذا يحدث في مركز نيكسون? التخطيط للانحراف بالصوفية إلى منزلق الفكر الغربي لضرب الإسلام" في صحيفة عكاظ ، 14 ذو القعدة 1424هـ

1-المرجع نفسه

  1- المرجع نفسه

  • الاحد PM 03:15
    2021-08-15
  • 1785
Powered by: GateGold