المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409182
يتصفح الموقع حاليا : 362

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1628858476830.jpg

الصوفية في الوثنيات وعند أهل الكتاب

الصوفية هي المستنقع الذي عاشت فيه أو شربت من شواطئه وثنيات التاريخ.

وهذه لمحات سريعة عن أشهر الوثنيات المعاصرة، وكيف أنها قائمة على الإشراق الصوفي بطريقته وحقيقته، يتلوها عرض سريع للتصوف عند أهل الكتاب.

وقبل ذلك، يجب أن نتذكر دائماً أن الأديان جميعها، ما عدا الإسلام، مجهولة التاريخ والجغرافية، وكل ما تذكره كتب هذه الديانات عن تاريخها وجغرافيتها لا أساس له من الصحة، إلا قليلاً مما عند أهل الكتاب، ويجب ألا ننسى هذه الحقيقة في قراءتنا للعروض التالية.

* الطاوية (منتشرة في الصين):-

نسبة إلى (طاو)، وقبل عصر كونفوشيوس (حوالي القرن الرابع قبل الميلاد)، كانت هذه الكلمة تعني (الطريق وأسلوب العمل)([1])، واستعملها كونفوشيوس بمعنى (الطريق الصحيح للعمل).

أما الطاويون فقد صارت عندهم ذات مفهوم واحد؛ يعني: الأشياء في مجموعها، أو ما يطلق عليه وحدويو الغرب اسم المطلق، وهو ما يطلق عليه متصوفة المسلمين اسم الوجود.

والنصوص المنقولة هنا تُعزى لشخص مقدس معاصر لكونفوشيوس، اسمه (لاو تزو)، أي: الأستاذ لاو، يقال: إنه مؤسس الطاوية، وهذه النصوص من كتابهم المقدس كتاب (لاو تزو)، يقول: الطاو مَثَلُها كوعاء، رغم أنه فارغ، يمكن أن يُسْحب منه بلا نهاية، وليس في حاجة قط لأن يُملأ، وهي عظيمة جداً، وبالغة العمق، حتى ليبدو أنها أقدم من كافة الأشياء، إذا ما انغمس فيها أحد طرف صار ناعماً، وأصعب مشكلة تحل، وأقوى ضوء ساطع ينتشر، وأشد المشكلات تعقيداً تستحيل إلى أمور بسيطة، إنها في سكونها كالخلود نفسه، إنني لا أعرف وليدة من هي. اهـ.

- في هذا النص، يُعرِّفنا الأستاذ لاو ما هي الطاو، ويُلاحظ أن وصفها يشبه أن يكون وصفاً لله تعالى، لكنه وصف فيه شذوذ وتجرؤ وتشبيه، وهذا نابع من ثقافتهم وتصوراتهم.

ويقول: يأتي إلى الوجود عشرة آلاف شيء، وقد شهدتها تعود، لا يهم كيف تنتعش انتعاشاً بالغاً، كل شيء يجب أن يعود إلى أصله الذي صدر عنه، هذه العودة إلى الأصل تسمى الهدوء، هي تحقيق لمصير فرد، وأن يُحقق كل شخص مصيره لهو النمط الأبدي، وإذا عرفت النمط الأبدي فهو محصَّن من كل ناحية، والمحصَّن من كل ناحية هو عادل تماماً، وإذا كان عادلاً، فهو مَلِكٌ، ومن كان مَلِكاً فهو كالسماء، وإذا كان كالسماء فهو متمشٍّ مع الطاو، وإذا كان متمشياً مع الطاو فهو مثلها لا يفنى، وبرغم أن جسده قد يختفي في خضم محيط الوجود، فهو بعيد عن كل أذى...اهـ.

- يشرح (لاو تزو) في هذا النص وحدة الوجود، وكيف أن الأشياء تصدر عن ذات الطاو ثم تعود إليه، ويلاحظ أنه يستعمل كلمة (الهدوء) والتي يقابلها عند متصوفة المسلمين كلمة (الفناء). ولنلاحظ عبارة: (وقد شهدتها تعود)، والتي لا تعني إلا أنه شهدها بالكشف.

ويقول: الكلمات الصادقة لا تكون منمقة، والكلمات المنمقة لا تكون صادقة، والرجل الصالح لا يجادل، وأولئك الذين يجادلون ليسوا بصالحين، والحكماء ليسوا بعلماء، والعلماء ليسوا بحكماء، إذا ما توقفنا عن العلم لا يواجهنا المزيد من المشاكل...تخلوا عن الحكمة وتخلصوا من الفطنة، وسيصبح الناس أحسن حالاً مائة مرة. اهـ.

- بين (لاو تزو) هنا أن حقيقتهم لا يمكن أن يُبَرْهن عليها بالأساليب الجدلية، والكلمات المنمقة، وأنها تشرح بالكلمات الصادقة البسيطة، والملحوظةالهامة هنا هي الأمر بالجهل! لأن الجهل جزء أساسي من رسالة الإشراق في كل زمان ومكان.

ويقول: هو لا يغادر داره قط، ومع ذلك فهو عالم بالعالَم بأسره، ولا يُطلُّ من نافذته، ومع ذلك يسبر غور طريق السماء، وفي الحقيقة كلما سافر الإنسان إلى مكان أبعد، كان أقل إدراكاً، وهكذا يعرف الحكيم دون أن يتحرى، ولا يفعل شيئاً ومع ذلك ينجز كل شيء.

...لهذا السبب يرتدي الحكيم رداءً من قماش خشن يُخفي ما هو أثمن من أنفس درة داخل فؤاده...

هذا ما يسمى الاستغراق الخفي، مَن خَبِرَهُ لا يمكن أن يعامل على أنه مُقَرَّب أو مزجور، لا يمكن أن يعان أو يضار، لا يمكن أن يمجد أو يحط من قدره، ولهذا يحتل المكان الأول بين كافة الكائنات البشرية في العالم. اهـ.

في هذا النص يقدم (لاو تزو) صورة خاطفة للجذبة التي يسميها الاستغراق الخفي ولكشفها الذي يجعل الحكيم عالماً وهو لم يغادر داره، بل ولا غرفته، بل ولم يطل من نافذته..

والتماثل الكامل بين الطاوية والصوفية واضح، حتى لقد دفع هذا الوضوح أحد الباحثين لأن يقرر أن التصوف عند المسلمين هو امتداد للطاوية، وطبعاً؛ لا بد من وجود فروق يقتضيها اختلاف الظروف.

* الجينينة (نسبة إلى جينا، أي: القاهر والمتغلب):-

أسسها مهاويرا الملقب بـ(جينا الرابع والعشرين)، وكان مولده سنة 599 قبل الميلاد.

صام مهاويرا يومين ونصف يوم، ونتف شعر جسمه، وبدأ يجوب البلاد حافياً..

ولجأ إلى الزهد والجوع والتقشف، وغرق في التفكير، واهتم بالرياضة الصعبة القاسية والتأملات النفسية العميقة، وبعد ثلاثة عشر شهراً من ترهُّبه خلع ملابسه دون حياء، إذ كان قد قتل في نفسه عواطف الجوع والإحساس والحياء، وكان أحياناً يعتكف في المقابر... وكان يغرق في المراقبة إلى حد لا يشعر فيه بالحزن أو السرور، ولا بالألم أو الراحة... ووصل مهاويرا إلى حالة الذهول وعدم الإحساس بما حوله (أي: الجذبة)، وأفنى كل اتجاه مادي، فحصل من درجات العلم على الدرجة الخامسة (أعلى الدرجات)، وهي درجة العلم المطلق، ونيل البصيرة أو النجاة، وبعد سنة أخرى من الصراع والتأملات فاز بدرجة (المرشد)...وبهذا بدأ مهاويرا مرحلة جديدة هي الدعوة لعقيدته...

ويقول الجينيون: إن جينا الثالث والعشرين، واسمه: (بارسوانات)، أسس نظاماً رهبانياً شدَّد فيه بضرورة الرياضات الشاقة المتعبة([2])...

- نرى في هذا النص أن الجينية تقوم على الرياضة الإشراقية، وعلى رأسها الجوع، وهذه الرياضة تقود إلى الجذبة التي يسمونها (حالة الذهول وعدم الإحساس بما حوله وفناء كل اتجاه مادي)، وفي الجذبة يحصل على الدرجات العليا من العلم (العلم المطلق)، وبالمثابرة على الرياضة وصل إلى درجة (المرشد)، كما نلاحظ أن هذا هو (النجاة) عندهم. ولننتبه إلى العري أيضاً. ولعل من المفيد ذكر المنجيات عند الجينيين (وهناك ما يشبهها في الهندوسية والبوذية والطاوية، بل وكل الوثنيات)، وهي: الاعتقاد الصحيح، العلم الصحيح، الخلق الصحيح الذي له أصول سبعة هي: التمسك بالخلق الحميد، والإقلاع عن الخلق السيء، الورع، التقليل من الحركات البدنية ومن الكلام، التحلي بعشر خصال هي العفو، والصدق، والاستقامة، والتواضع، والنظافة، وضبط النفس، التقشف الظاهري والباطني، والزهد، واعتزال النساء، والإيثار، ثم التفكير في الحقائق الأساسية، والسيطرة على متاعب الحياة وهمومها والقناعة الكاملة([3]). اهـ.

هذه هي المنجيات في الجينية، وفي كل الوثنيات ما يماثلها في المكان والمقام، وهي تذكرنا بمنجيات الغزالي ومقامات الصوفية، كما يذكرنا العري في الجينية بمثيله عند الصوفية.

* الهندوسية:-

نظرة سريعة:

لا يمكن العثور على تعريف جامع للهندوسية؛ لأن فيها مئات كثيرة من المذاهب المتباينة، لكن عندهم عقيدة رئيسية (يؤمن) بها أكثرهم، إن لم يكن كلهم.

- فكلهم يؤمنون بالفيدا، كتابهم المقدس، لكن يوجد غيره مئات الكتب المقدسة.

- وكلهم يؤمنون بالروح الأزلي (آتمان)، وقد يطلقون عليه أسماء أخرى، والإله عندهم ذو ثلاثة أقانيم (حسب الوظيفة التي يقوم بها).

أ- براهمان (الخالق).

ب- فيشنو (الحافظ).

ج- سيفا (المهلك).

وقد تختلف المذاهب عن بعضها في تقسيم الأعمال بين الأقانيم الثلاثة، كما قد يختلف عدد الأقانيم.

- إلى جانب هذا الثالوث، يوجد عشرات الألوف من الآلهة! والنص المقدس التالي من (الفيدا)، هو حوار بين فِشْنو الذي تجسد بصورة إنسان اسمه (كْرِشْنا)، وبين ملك مقدس اسمه (أرجونا) (صار إلهاً فيما بعد)، والحوار يجري في مستهل معركة حربية بين أفراد عائلة صاروا كلهم آلهة.

يروي هذا الحوار شخص اسمه (سامياجا)، كان حاضراً معهما، يرويه لملك آخر اسمه (هاري)، وطبعاً، كل هؤلاء الأشخاص صاروا آلهة يعبدون.

يقول النص:

قال أرجونا: اللغز السامي، الحديثُ المتعلق بالروح التي وهبتَي إياها بالنعمة، بهذه النعمة انتهى ضياعي، وكما أعلنَتْ عن نفسها، هكذا أنت تكون، أيها الرب السامي، لكنني أرغب أن أرى شكلك المقدس، أيها الشخص السامي، وإذا كنت تعتقد أنني أستطيع أن أراك، فأظْهِرْ لي روحك اللافانية، يا رب اليوجا، يا كرشنا.

قال الرب المبارك: شاهِدْ أشكالي يا أرجونا، هي بالمئات وبالآلاف، متنوعة في شكلها ومقدسة، ولها ألوان وهيئات مختلفة... اليوم، شاهِدْ الكون المتحرك والساكن، وكل ما تريد أن تراه، كله متَّحِدٌ في جسدي يا أرجونا، لكنك لا تستطيع أن ترى بعينيك الإنسانيتين، وسأمنحك أعيناً تفوق الطبيعة، شاهد قدرتي المقدسة.

قال سامياجا: بعد أن تكلم رب اليوجا، أيها الملك هاري، أظهر شكله المقدس السامي إلى أرجونا. لهذا الشكل أفواه وعيون كثيرة، ورؤى عديدة تدهش، وزينات مقدسة، وأسلحة مرفوعة مقدسة، ويلبس الثياب المقدسة، ويتحلى بالعطور والدهون المقدسة، ويتألف من كل الأعاجيب، ويتألق، وغير محدود، ووجهه يلتفت إلى كل اتجاه، ولو شعت ألف شمس في الفضاء، كان من الممكن أن تشبه عظمة الكائن المعظم.

هناك شاهد أرجونا الوجود بكامله، بأجزائه العديدة المتجمعة في واحد، في جسد إله الآلهة([4]).

- وفي مكان آخر (والمتكلم الآن هو كْرِشْنا):

من لا يتعلق فهمه بأي مكان، من يُخضع ذاتَه ومن يطرد رغبته، يأتي عن طريق الرفض إلى الحالة السامية التي تُصعِّد كل عمل. اسمع إلى ما أوجزه لك يا أرجونا: كيف يصل الإنسان عندما يحقق الكمال إلى براهمان؟ من يكون موهوباً بفهم نقي، ويضبط نفسه، ولا يلتفت إلى مواضيع الحس، ويلقي بالجاذبية والاشمئزاز بعيداً، ويسكن في عزلة، ويأكل القليل، ويضبط كلامه وجسده وعقله، ويعتنق التأمل والتركيز، ويلقي الإحساس بالذات والقوة والتنافر والرغبة والبغضاء، أو الملكية بعيداً، أولا يكون أنانياً، بل هادئاً في عقله، يستحق أن يصبح براهمان.

عندما يصبح الإنسان واحداً مع براهمان، ويكون هادئاً في روحه، فلا يحزن، ولا يرغب، وعندما يعتبر كل الكائنات على السواء، ويصل إلى التعبد السامي، إليَّ. بالتعبد يعرفني، ويعرف من أنا، وما هو مقامي، وعندما يعرف من أنا يدخل فيَّ. الرب يسكن قلوب الكائنات، ويجعلها أن تدور بقدرته كأنها على آلة. الْتَجِئ إليَّ بكل قدرتك يا أرجونا، وبنعمتي تحصل على السلام السامي والمسكن الأبدي.

الحكمة أكثر سرية من كل الأسرار التي أعلنتها لك، فكر فيها تماماً، واعمل ما تشاء([5]).

- النصان واضحان كل الوضوح، ومع ذلك لا بأس من لفت نظر القارئ إلى بعض النقاط فيهما:

أ- وحدة الوجود في النصين: (شاهد أرجونا الوجود بكامله)، (يصبح الإنسان واحداً مع براهمان).

ب- الرياضة، في النص الثاني: (العزلة والأكل القليل وضبط الكلام والجسد والعقل والتأمل والتركيز).

ج- (إفراغ النفس من كل رغباتها على الإطلاق)، التي تقابل قول المتصوفة: (اخلع نعليك)...وماشابهها.

د- هذه الأمور هي نفس ما نراه ونسمعه ونقرؤه من أقوال متصوفة المسلمين وفي كتبهم.

هـ- كما يجب ألا ننسى الشبه التام بين قول الهنادكة: (إن البراهمة خلقوا من وجه الإله الأعظم)، وقول المتصوفة المسلمين: (إن محمداً خلق من وجه الله).

كما نلاحظ التوافق بين الكشف (عندما شاهد الرب) والعقائد المسبقة.

ومن يتتبع أقوال المتصوفة ونصوص الفيدا يقف أحياناً على تشابه حتى في المفردات.

- ونص آخر من نصوصهم الكثيرة من (أوبانيشاد شاندوجيا):

1- حقاً إن هذا العالم كله براهمان. وبهدوء، يعبده الإنسان، لأنه قد أتى منه، وسينحل فيه، ولأنه يتنفس بواسطته.

2- هو الذي يتضمن العقل، وجسدُه هو الحياة، وشكله هو النور، وفكره الحقيقة، وذاته هي الفراغ، إنه يتضمن كل الأعمال والرغبات والأوامر والأذواق، ويشمل العالم كله، هو الذي لا يتكلم- روحي هذه ضمن قلبي، هي أصغر من حبة أرز، ذاتي هذه هي أعظم من الأرض ومن الفضاء والجو ومن هذه العوالم([6]). (انتهى).

ونص آخر (أوبانيشاد ائتاريا).

...هو براهمان، هو أندرا، هو براجاتي، هو كل هذه الآلهة، هو هذه العناصر، الأرض والريح والفضاء والماء والنور، هذه الأشياء، وتلك التي تمتزج بالنار كما كانت([7])...

- أرجو من القارئ الكريم أن يعود إلى أقوال المتصوفة، وخاصة عينية الجيلي ليرى التشابه.

وهذه صور من ضرب الشيش عند الهندوس، أو عند فرقة من فرقهم التي تعد بعشرات الألوف، وهذه الفرقة موجودة في ماليزيا، ويجعلون رأس الآلهة هو سيفاناتراجا، بدلاً من براهمان. ولهم عيد سنوي يحتفلون به هو عيد (تابوزام)، حيث يكون الاجتماع العام على مقربة من أحد مداخل العاصمة (كوالالامبور).

هذا العيد المجيد يحتفل به هنود ماليزيا سنوياً في شهر (الكوكب)، حيث يتوسط البدر كبد السماء،...وذلك تمجيداً لذكرى الإله (سيفاناتراجا) رب آلهة الهندوس([8]) (بالنسة لهذه الفرقة)..

ويبدأ التمجيد أيضاً للإله (مورغان)، وهو حفيد (سيفاناتراجا)([9])...

إن الصلاة الهندوسية تقام قبل الاحتفال بالعيد المجيد...يمتنعون عن ممارسة الحب، ويكتفون بوجبة طعام واحدة نباتية في اليوم...ثم يدخلون في الصلاة والتأمل والعزلة...التي تتحول تدريجياً إلى غيبوبة عن هذا العالم (أي: الجذبة).

وبفضل تلك الصلاة والعزلة والتأمل التي تفصلهم عن الواقع لتدخلهم في عالم الخيال والغيبوبة الطويلة المقترنة بالتوحيد للذات الإلهية...عندها تمتلكهم نشوة غريبة جداً تدعى (نشوة الرعدة الإنشائية)، فتراهم حالمين بأبعاد لا حدود لها...وبواسطتها يتاح لهم دون استثناء اجتياز المسافات الطويلة (الصاعدة في الجبل الشاهق)، ضمن الدروب الوعرة، والتي تتطلب جهداً ومهارة فائقة، فيصلون بالنهاية إلى المعبد التابوزامي...

وهم في تلك الحالة يبدون في إحساس غامر بالورع والتقى...بينما الرماح الحادة تترنح على وجناتهم...والأسهم الفضية مغروزة في ألسنتهم...والكلاليب التي تنتزع قطعاً من أجسادهم.. والسلال التي تثقل كاهلهم (قد يبلغ وزن بعضها 60 كغ).. وهم لا يأبهون لكافة الآلام والإصابات، بل إنهم من خلالها يستسلمون لنشوة غريبة وعجيبة...والأغرب من كل هذا هو أن تلك الجروح العميقة لا يسيل منها الدم إلا من بضع قطرات تعد على أصابع اليد الواحدة...فسرعان ما تلتئم...فلا يبقى منها سوى آثار ندوب سوداء...وهم فريسة لذلك الشعور الغريب الذي يعبر لهم عن إمكانية الوصول بتلك المآثر والبطولات من خلالها الاتصال بالإله الأكبر سيفاناتراجا...

...فيتجمع أولئك المؤمنون حول زعيمهم الديني (غورو)، وهم يتغنون بنشيد (الفل - فل)، بمعنى (الرمح - رمح)...بينما يقف (غورو) أمام أحد المؤمنين ليثقب وجنة المؤمن بالمغرز بعد أن باركه بدعواته...

ولكن عندما يشق السهم الحاد والمسنون لحم وجنة المؤمن اللدنة... يبدأ المؤمن بالارتعاد بشدة كمن أصابه مس أو جنون، فيقفز بالهواء ليدق الأرض بقدميه دقاً رتيباً وشديداً، ومن ثم يتمايل على وقع النشيد الحماسي، بينما يكون قد برز من وجنتيه الغائرتين ذلك السهم الفضي، فلا يسيل من وجنتيه من أثر الجرح إلا قليل من قطرات الدم لا تذكر...وتشق ألسنتهم بأسياخ فضية يتراوح طولهم ما بين (12-18 سم)...والرماح الطويلة التي تخترق الوجنة ويبلغ طولها عادة أربعة أمتار، وعلى طرفي الرمح تعلق السلال المملوءة حليباً وعسلاً، وأما البرتقال فإنه يثبت على الخصر بواسطة سنارات فضية تغرز في الجسد...فيتقدم أحدهم ليجلس على كرسي بلا ظهر، عندها يباشر الزعيم الديني (غورو) في غرز الكلاليب الفضية الحارة في جسده، ويبلغ عدد الكلاليب في بعض الأحيان زهاء ستين كلاباً، والمؤمن لا يزال تحت سيطرة الرعدة الانتشائية الغريبة إلى أن يحني رأسه ليذهب في غيبوبة بلا حدود أو نهاية([10])....إلخ. اهـ.

- لا أظنني بحاجة إلى تعليق، فالأمر واضح؛ لكن الملحوظةأن متصوفة المسلمين لم يبلغوا شأو هؤلاء القوم!

والسؤال: هل هؤلاء القوم تسري فيهم كرامة أحمد الرفاعي؟ أم ماذا؟

* وهذه نصوص بوذية متفرقة من كتاب فايسيسكا سوترا:

الكتاب الأول- الفصل الثاني:

17- الوجود واحد بسبب وحدة العلامة([11])...

الكتاب الثاني- الفصل الأول:

28- تتوضح وحدة الأثير بوضوح وحدة الوجود([12]).

الكتاب الثاني- الفصل الثاني:

7- جوهرية وأبدية الزمان تتوضحان بتوضيح جوهرية وأبدية الهواء.

8- وحدة الزمن تتوضح بتوضيح وحدة الوجود.

11- جوهرية وأبدية الفراغ تتوضحان بوضوح جوهرية وأبدية الهواء.

12- وحدة الفضاء (أي: الفراغ) تتوضح بتوضيح وحدة الوجود([13]). اهـ.

ولا حاجة للتنبيه إلى وحدة الوجود الواضحة في هذه النصوص وضوحاً كاملاً، وكذلك الطريقة التي توصل إليها، وللزيادة في الوضوح نورد وصفاً يذكره (آسين بلاثيوس)([14])عن كيفية وصول الهندوسي أو البوذي إلى الجذبة، يقول: ...ومذهب الفيدا الوارد في الأوبانيشاد يجعل غاية الكمال والسعادة في حشد الروح باستبعاد كل خاطر غير فكرة الموجود المطلق، وأصحاب نظام اليوجا([15]) كانوا يستخدمون من أجل الوصول إلى هذه الغاية طريقة في الإيحاء الذاتي التنويمي شبيهة جداً بما قرره ابن عربي، فكان اليوجي يجلس القرفصاء ساكناً بلا حراك، ونظره مثبت، وانتباهه مستغرق في الحرفين (أم)، وهو اسم من أسماء براهما المستسرة، ثم يقع في جذبة([16]) تفقده الشعور. وتمرين النَّفَس، وهو رياضة إيقاعية للشهيق والزفير، كان يمارسه (تنجل) للوصول إلى نفس الغاية([17]) (أي: الجذبة). اهـ.

- أي: إن الرياضة الإشراقية هي الطريق للوصول إلى المعرفة عندهم وعند غيرهم طبعاً، والفرق هو في تفسير هذه الظاهرة، وفي وسائل تزيينها للمريدين. وفي الرياضة الإيقاعية للشهيق والزفير يمكن أن نلاحظ دور الأكسجين مضافاً إلى دور الإيقاع الرتيب.

* الصوفية عند أهل الكتاب:-

* عند اليهود:

مر في فصل سابق وصف الأستاذ عبد الأحد داوُد للتصوف اليهودي الذي كانوا يسمونه (التنبؤ)، وأنهم كانوا يسمون الواصل إلى الجذبة وأحلامها (نبي)، ويسمون الشيخ المسلك (صوفي)، أي المراقب أو المرشد. وكانت عندهم- على قلتهم- عدة طرق، منها (الإلكسائية) و(الأبيونية).

وبعد ظهور الإسلام بقرون، ولعله في حوالي القرن الخامس الهجري، صار التصوف اليهودي معروفاً باسم (الكبالة Gabbalah)، أي المأثور، مع الاحتفاظ بالاسم القديم (التنبؤ).

وهناك أشياء مثيرة للانتباه؟ ففي التنبؤ اليهودي (أو الكبالة) يصنفون الواصلين إلى الجذبة على ثلاث مراتب: نبي (ومعناها الناطق)، أو نبي سفاتايم (أي: ناطق الشفتين)، ثم رائي، ثم بصير- وهو أعلاها- والبصير عندما يتصدى لتسليك المريدين يسمى (صوفي)، أي: المرشد. ورأينا في فصول سابقة أن متصوفة المسلمين يقسمون المكاشفين كذلك إلى نفس المراتب الثلاث: المحاضر (من المحاضرة)، ثم المكاشف (من المكاشفة)، ثم المشاهد (من المشاهدة)، وهو أعلاها، وعندما يتصدى من وصل إلى مقام المشاهدة إلى تسليك المريدين يسمونه (المرشد).

وواضح أن هذه المصطلحات، التصوفية هي مرادفات للمصطلحات الكبالية.

وشيء آخر، نقرأ في المعجم الفرنسي (Larousse) وصفاً للكبالة ترجمته كما يلي: (تفسير يهودي باطني ورمزي لنص الكتاب المقدس)، كتابه التقليدي (الكلاسيكي) هو (الزوهار) أو (كتاب الإشراق). وأنصار العلوم الخفائية (الباطنية) يستعملون رموز الكبالة في اتجاه سحري. اهـ.

نلاحظ أن أسلوب الكبالة في تفسير الكتاب المقدس هو باطني ورمزي، مثل تفسير متصوفة المسلمين للقرآن الكريم تماماً.

وكذلك استعمال الرموز الكبالية في السحر هو مثل استعمال الرموز الصوفية في السحر.

أما كتاب الإشراق (الزوهار)، فقد ظهر في أوائل القرن السادس الهجري لمؤلف يهودي من مدينة ليون في إسبانيا، كما يظن، ويمكن أن يكون أقدم من ذلك بقليل أو كثير.

ولننتبه إلى أن واقع تصنيف أحلام الجذبة (محاضرة ثم مكاشفة ثم مشاهدة) تابع لتوجيهات الشيخ المسلك، ولتوجيهاته فقط، وأن خوارق شتى تحدث على أيدي الكباليين.

* عند النصارى:

أعلنت الصوفية عن نفسها عند المسيحيين في القرن الثاني الميلادي باسم الغنوصية، أي: المعرفة، ومنها الغنوصي أي: العارف، وسماه العرب منهم الكاهن، وقد رفضتها الكنيسة أولاً، ومع الزمن قبلتها وتبنتها.

وهذا نص لصوفي مسيحي يصف كيفية وصوله إلى الجذبة.

يقول (نيمو)([18])خادم أم الإله، متلقي اعترافات القديسة تيريزا([19])، في كتابه الأسفار:

...وجدت فائدة كبيرة في الدعوات الصوتية التي تسمى بالأذكار، خصوصاً في الكلمات (أبانا الذي...) مما يكرره الفم ساعات طويلة، و(ليتقدس اسمك)، و(وفي القلب رغبة في أن ينحصر هناك)....

كنت أجد في هذه الكلمة وحدها (الله) رضاً بالغاً لنفسي، بحيث لم أشأ ولم أستطع أن أنتقل عنها إلى أفكار أخرى، وكنت أقتصر على ذلك حتى أصل إلى البركة([20])...

رجل دين إسباني من أهل النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي.

ويعرف القارئ أن البركة تعني الجذبة، كما يظهر في هذا النص تأثر متصوفة المسيحيين بأسلوب الذكر الإرهاقي الذي استعمله متصوفة المسلمين قبل نيمو بحوالي ستة قرون.

وبسبب عوامل ما، تشعبت الصوفية عند المسيحيين إلى أكثر من مذهب، فالقديسة تيريزا الأفيلية، مثلاً، تؤمن أن الخالق غير المخلوق، وتصف وصولها أو (فتوحها) بأنه اتحاد بينها وبين الله (تعالى الله)، فتقول من قصيدة:

...واتحاد النفس بالله في القران الروحي شبيه بشمعتين تذوبان معاً حتى يصبح نوراهما نوراً واحداً([21])...

ومن قصيدة أخرى:

...هاأنذا يا عريسي الأكبر، دعني أقترب منك... وليدخل هذا الجدول الصغير في خضمك، أغثني يا أعذب حليل... ولتسترح نفسي بين ذراعي عريسها([22])...

حيث يظهر من أقوال القديسة هذه أن تجلياتها كانت جمالية لا جلالية، واتحادية لا وحدوية.

بينما نرى القديس خوان دي لا كروث([23]) يؤمن بوحدة الوجود، فمن أقواله:

...حبيـبي هو الجبال، والوديان المنعزلة المليئة بالأشجار، والجزر الغريبة، والأنهار الرنانة، وصفير الرياح الحبيبة، والليل الساكن([24])...

من النصوص المارة آنفاً، وكذلك من الفصول السابقة، ومن أية دراسة واعية لأية وثنية في التاريخ، يظهر واضحاً دور الإشراق فيها، بل إن الكاهن في كل الوثنيات لا يسمى كاهناً حتى يصل إلى الجذبة عن طريق الرياضة الصوفية، ويحصل على يده بعض الخوارق، وقد يكتفون بالمهلسات، أو يستعملونها كعامل مساعد، مع العلم أن بعض الوثنيات، كديانة الإينكا مثلاً، كانت كما يظهر تكتفي بالمهلسات، وبعضها كالديانة الهندوسية، كانت وما زالت تستعمل الطريقتين، المهلسات والرياضة الصوفية، وبعضها كان ولما يزل يكتفي بالرياضة الصوفية.

للتسلية:

يقول د. سيد حسين نصر:

...بل إن مقام (الخدمة) نفسه الذي يأتي متأخراً بعد مقام البقاء، لا يجوز أن يحمل على معنى العمل أو الفرض الديني بالمعنى المألوف؟ بل بمثابة خدمة أداها كائن تذوق (الوصال)، وهي في منزلتها تقابل العهد الذي قطعه أفالوكتسفارا على نفسه في الدين البوذي، بإنقاذ الخلائق، بعد أن تم له أن يخطو خطوة واحدة في (النيرفانا)([25]). اهـ.

- النيرفانا هي المصطلح البوذي الذي يقابل مصطلح (الفناء في الله)، وقد عربها بعض المتصوفة في إيران أو (أسلمها)، فصارت (نيروان)([26])، واستعملوها بنفس المعنى. وبقراءة النصوص المترجمة إلى العربية، نجد أن كلمة (النيرفانا) ترد أحياناً بمعنى (المطلق)، وأحياناً بمعنى: (الفناء في المطلق)، وهو الأكثر تواتراً.

- ويجب ألا ننسى ملحوظة هامة، وهي أن الحقيقة الصوفية، (أي: الجذبة ورؤاها)، والطريق إليها (أي: الرياضة الصوفية)، هي واحدة في كل زمان ومكان، ويكون الاختلاف في أشكال الهالات التي تحاط بها، والتفاسير التي تشرح بها رؤاها وأساليب الدعاية التي يقدمونها لها، كما أن للخلفية الاجتماعية المحيطة بالواصل دور شامل في الأطروحات التي تقدمها كشوفه.

 

 

 

([1]) يلاحظ أن كلمة (الطريقة) تحمل نفس معنى كلمة (طاو)، مع التنبيه إلى أن كلمة (طاو) هي كلمة صينية وليست عربية، وأن الكلام هنا عن أمر حدث في الصين، مع ملحوظة أخرى قد يكون لها أهمية، وهي أن المصريين القدماء كانوا يطلقون على مصر اسم (طاو)، فهل هناك علاقة بين (طاو) التي هي مصر وبين الطاولة، كما أن هناك الوادي المقدس (طوى)؟ فهل من علاقة تاريخية وجغرافية نُسيت؟.

([2]) أديان الهند الكبرى (سلسلة مقارنة الأديان)، (ص:111، 112، 113).

([3]) أديان الهند الكبرى، (ص:127، 128، 129).

([4]) الفكر الفلسفي الهندي، (ص:204).

([5]) الفكر الفلسفي الهندي، (ص:234، 235).

([6]) الفكر الفلسفي الهندي، (ص:112).

([7]) الفكر الفلسفي الهندي، (ص:109).

([8]) أغرب القبائل والشعوب بالقرن العشرين: (1/16).

([9]) أغرب القبائل والشعوب بالقرن العشرين: (1/17).

([10]) أغرب القبائل والشعوب بالقرن العشرين: (1/19، وما بعدها).

([11]) الفكر الفلسفي الهندي، (ص:484).

([12]) الفكر الفلسفي الهندي، (ص:486).

([13]) الفكر الفلسفي الهندي، (ص:486).

([14]) مستشرق إسباني مات سنة (1944م).

([15]) اليوجا رياضة تعبدية إشراقية يمارسها الهندوس والبوذيون والجينيون للوصول إلى الجذبة.

([16]) كلمة (جذبة) هي مصطلح يستعمله متصوفة المسلمين فقط ويستعمله آسين بلاثيوس هنا بالاستعارة.

([17]) النص من كتاب (ابن عربي) لآسين بلاثيوس، (ص:187).

([18]) رجل دين إسباني من أهل النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي.

([19]) تيريزا الأفيلية من قرية آفيلا الإسبانية، ماتت سنة (1582م).

([20]) ابن عربي، لآسين بلاثيوس، (ص:186) في الحاشية.

([21]) يسوع المسيح شخصيته وتعاليمه (ص:212).

([22]) عمر بن الفارض من خلال شعره، (ص:77).

([23]) إسباني متصوف من أهل القرن السادس عشر الميلادي.

([24]) مجلة العربي، (عدد: 305)، (ص:40).

([25]) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:67).

([26]) من الفكر الصوفي الإيراني المعاصر، الفصل الأخير.

  • الجمعة PM 03:41
    2021-08-13
  • 1378
Powered by: GateGold