المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413973
يتصفح الموقع حاليا : 309

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1628702755541.jpg

طرق الصوفية

* تمهيد:

طريقتان:

لا يوجد في الصوفية إلا طريقتان هما:

1- طريقة الإشراق:

هي الطريقة الوحيدة الأزلية التي استعملها المتصوفة في كل الأمم.

فما إليه أبداً نشير           هو علاج النفس والتطهير

وهذه طريقة الإشراق                  كانت وتبقى ما الوجود باقي([1])

بالرغم من أن معنى العبارتين (علاج النفس والتطهير) يجب أن يكون الآن، وبعد مئات الأمثلة، واضحاً تماماً، ومع ذلك فلا بأس من شرحهما.

علاج النفس: سياسة النفس، ومعاملتها، بإخضاعها مرحلة بعد مرحلة، إلى ما يوصلها إلى الجذبة.

تطهير النفس: هو تطهيرها مما يسمونه: (الصفات المذمومة)، وقد مرت عليها أمثلة كثيرة، وهي كل ما يعيق السالك عن الوصول إلى الجذبة وتذوق الوحدة.

2- طريقة البرهان، أو الطريقة الغزالية، أو التصوف السني:

وفرقة قالت بأن العِلْما                من خارجٍ بالاكتساب أسمى

وشرطوا العلوم في اصطلاحه                  إذ لا غنى للباب عن مفتاحه

فليس للطامع فيه مطمع              ما لم تكن فيه علومٌ أربع

وهي علوم الذات والصفات                   والفقه والحديث والحالات

وهذه طريقة البرهان                   وهي لكل حازم يقظان([2])

أي إن طريقة البرهان هي نفس الطريقة الإشراقية التي يعبر عنها هنا بـ(الباب)، أي الباب الذي يمر به السالك كي يصل الجذبة، يضاف إليها العلوم الإسلامية، مع الملحوظةأنه يعبر عن الجذبة ورؤاها بكلمة (الحالات).

ولا بأس من زيادة في التوضيح.

طريقة الإشراق:

هي الطريقة القديمة المستمرة (كانت وتبقى ما الوجود باقي)، وُجدت مع وجود الصوفية في أعماق التاريخ، وهي الطريقة الوحيدة في الحقيقة، ولا طريقة غيرها. يقول عنها الدكتور عبد الحليم محمود: ...فإن الصوفية جميعاً وفلاسفة الإشراق منذ فيثاغورس وأفلاطون، (بل هي أقدم منهما بكثير)، إلى يومنا هذا يعلنون منهجاً محدداً يقرونه جميعاً، ويثقون فيه ثقة تامة، ذلك هو المنهج القلبي أو المنهج الروحي، أو منهج البصيرة، وهو منهج معروف أقرته الأديان جميعها واصطفته مذاهب الحكمة القديم منها والحديث([3]) اهـ.

وأسلويها الأممي التاريخي القديم الحديث، هو أن يميت السالك إحساساته وأعصابه بإرهاقها إرهاقاً شديداً جداً، حتى يصل إلى ما يشبه العته- وأقول (ما يشبه العته)، لأنه عته اصطناعي غير ناتج عن مرض طبيعي، وإلا فله كل مظاهر العته، وذلك بأن يخضع نفسه للرياضة، وهي، كما يقول الغزالي: الخلوة والصمت والجوع والسهر([4]): وقد يضاف إليها شيء من التعذيب الجسدي. كما كان يفعل الشبلي وغيره، مع العلم أن متصوفة المسلمين جعلوا الذكر بدل الصمت، لأنه أسرع في الوصول إلى الجذبة، حتى إذا وصل فقد يأمرونه بالصمت. أما الجوع الذي يطبقونه فقد يمتد إلى عشرات الأيام، وفي سبيل السهر ومقاومة النوم يستعملون أية وسيلة يمكن أن تساعدهم على ذلك: كضرب السالك جسمه أو حرقه، أو الجلوس على الشوك، أو الوقوف على رجل واحدة مع التعلق بوتد اجتناباً للسقوط، أو تعليق القدمين في الأعلى والرأس مدلى إلى أسفل...أو أخذ وضع من أوضاع (اليوغا)، أو أخذ مادة طاردة للنوم كالشاي والقهوة المركَّزين تركيزاً عالياً، أو غيرهما من المواد الكيماوية.

يداوم السالك على هذه الحال، واضعاً أمامه غاية واحدة، حتى يصل إليها، ويعبرون عنها بمثل قولهم: (لا أريد إلا الله)، وهذا لا يمنعه أن يحصل معه أمر آخر غير الغاية المرجوة التي هي الجذبة ورؤاها.

قد يكون مفيداً إيراد بعض شرح لابن عجيبة:

...فعند ذلك (بعد رياضاتٍ ذكرها) يُدْخِله (الشيخ) إلى الخلوة، أي يأمره بها، ويحضه على ذكر الاسم المفرد (الله) حتى لا يفتر عنه ساعة...وهذا التدريج ليس بلازم لكل الشيوخ ولا لكل المريدين أن يسلكوه، بل من الشيوخ من يلقن الاسم من أول مرة (أي: دون الرياضة التي ذكرها قبل هذا الكلام) إذا رأى الفقير أهلاً له، ويأمره بقتل نفسه مع ذكر ربه، بحيث يجعل له وقتاً يذكر فيه ربه، ووقتاً يقتل فيه نفسه، وهذا الذي أدركنا عليه أشياخنا: يأمر الفقير بالخلوة في أول النهار إلى وقت العصر، ثم يخرج إلى السوق ويعمل من الأحوال ما تموت به نفسه، فيكمل فناؤه في الاسم مع موت نفسه، فيقرُب فتحُه.

ومن المريدين مَن لا يحتاج إلى خلوة، بل يأمره بالخلطة من أول مرة، والناس معادن وطبائع، والعلل متفاوتة، والفتح من الله من غير توقفٍ على الأسباب، إلا أن الحكمة جارية مع القدرة. والله تعالى أعلم([5]). انتهى.

- ولعل القارئ يعرف الآن أن (الفتح) هو الجذبة ورؤاها.

- وعادة قد يسبق الجذبة أو يرافقها أمور خارقة للعادة، كأن يرى أشخاصاً أو أشكالاً مختلفة، أو يسمع أصواتاً...وقد يحدث مع بعضهم أن يسير على الماء أو يطير في الهواء...وهو موجود في كل الأمم، وفي الكافرة قبل المسلمة، ودور الشياطين واضح فيها.

- والمشاهد الجذبية مع خرق العادة هي التي تجعلهم يتشبثون بالتصوف، ذلك التشبث الذي لا يقبل النقاش، حتى يصل بهم الأمر إلى تأويل آيات القرآن الكريم

ووضع الأحاديث على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وتأويل الصحيح منها: ((يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)) [النساء:46]، لتتفق مع رؤاهم الإشراقية التي يسمونها: كشفاً وعلوماً لدنية، وقد يسمونها: (حكمة الإشراق)([6]).

أما طريقة البرهان:

فهي طريقة الإشراق نفسها مزجوها بالإسلام، وفلسفها حجتهم الغزالي بذكاء ودهاء. فصار عالمهم يتعلم، إلى جانب الإشراق، العلوم الإسلامية، وذلك بقصد التستر، واعتقاداً منهم أن الله سبحانه يريد ذلك.

وهم في علم التوحيد (علوم الذات والصفات) ينقسمون ظاهراً إلى قسمين: أشعرية وماتريدية. أما باطناً فالتوحيد عندهم هو وحدة الوجود، وقد رأينا مئات الأمثلة على ذلك في الفصول السابقة.

أما الحديث فلهم فيه أسلويهم الخاص!

فقد نرى بعضهم- مع الندرة- يحفظ ركاماً من الأحاديث، وقد يحفظها بأسانيدها، وقد يكون حافظاً لعدة كتب من كتب الحديث، ولكنه لا يستطيع أن يفقه الحديث ولا أن يميز بين صحيحه وضعيفه وموضوعه! وذلك لسببين:

1- أنه لا يحفظ الحديث من أجل العلم والعمل به ولمعرفة الحق من الباطل، إنما يحفظه ليتستر به، وليكون مقبولاً عند الناس، ويستطيع أن ينتزع منه ما يخال أنه يؤيد به مذهبه، وليزاود على منتقديه من أهل الظاهر، وقد مر بعض أقوالهم في ذلك، وطبعاً فيهم شاذون يحفظونه للعلم.

2- رأينا أن كشفهم هو الذي يصحح لهم الحديث أو يضعفه! وقد يكون الحديث صحيحاً فيضعفه الكشف فيصبح عندهم ضعيفاً! وقد يكون الحديث موضوعاً مكذوباً فيصححه الكشف فيصبح عندهم صحيحاً؛ لأن الكشف عندهم هو نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين.

- وفي الإشارة إلى الطريقة البرهانية بالرمز واللغز، يستعمل الصوفية عبارات كثيرة لا تخفى على المتمرس بلغتهم، منها على سبيل المثال: (حقيقتنا مقيدة بالقرآن والسنة) أو (طريقتنا سلفية وحقيقتنا صوفية) أو (التصوف السلفي) أو (إن كانت عين القلب تنظر أن الله واحد في منَّتِهِ فالشريعة تقتضي أن لا بد من شكر خليقته) وغيرها...

* خلاصة القول:

لا يوجد في التصوف إلا طريقة واحدة هي طريقة الإشراق، سواء عند متصوفة المسلمين أو عند غيرهم، ولكن متصوفة المسلمين مزجوا الطريقة الإشراقية بالإسلام، وسموا ذلك: (التصوف السني)، أو الطريقة البرهانية، أو الغزالية، وبذلك استطاعوا أن يخدعوا المسلمين ويجروهم إلى التصوف.

أما ما نرى ونسمع من أسماء كثيرة لطرق كثيرة، فسببه الشيوخ، ولا شيء غير الشيوخ إلا جشع الشيوخ، و(المدد) الذي يقدمه المريدون والمحبون و(المؤمنون). وليُظهر الشيخ أن طريقته تختلف عن بقية الطرق، يخترع أوراداً تختلف بألفاظها فقط عن بقية الأوراد، ولذلك قالوا: (الطريقة بأورادها). وقد رأينا كيف أن أورادهم محشوة بما يناقض الإسلام جملة وتفصيلاً، وكلها تحمل معاني واحدة أو متشابهة.

وقد ظهر في المجتمعات الإسلامية عشرات الطرق الصوفية، اندثر بعضها، وتفرع بعضها إلى طرق كثيرة، وسنرى بعد قليل كشفاً لما أمكن الوقوف عليه منها.

 

 الشيــــخ

 

ما حرمة الشيخ إلاحرمة الله، فقم بها أدباً لله بالله.

ابن عربي

* لا طريقة بدون شيخ:

الشيخ عند المتصوفة هو إله، يعطونه كل صفات الألوهية، وهو الأساس في كل طريقة. وما تفرقت الطرق إلا اتباعاً لشيخ، وتسمى كلها باسم مشايخها ومؤسسيها، ومع الزمن تتفرع الطريقة الواحدة إلى طرق كثيرة تحمل أسماء مشايخها الجدد.

ولنزك أئمتهم يتكلمون...

يقول أبو حامد الغزالي:

...فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة، ليهديه إلى سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض، وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة...فمعتَصَمُ المريد، بعد تقديم الشروط المذكورة، شيخه، فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد، بحيث يفوّض أمره إليه بالكلية، ولا يخالفه في ورده ولا صدره، ولا يُبقي في متابعته شيئاً ولا يذر، وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه- لو أخطأ- أكثرمن نفعه في صواب نفسه لو أصاب، فإذا وجد مثل هذا المعتَصَم، وجب على معتَصَمِه (أي: شيخه) أن يحميه ويعصمه بحصن حصين([7])....

ويقول القشيري:

...ثم يجب على المريد أن يتأدب بشيخ، فإن لم يكن له أستاذ لا يفلح أبداً. هذا أبو يزيد يقول: من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان. وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس، فإنها تورق لكن لا تثمر، كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ منه طريقته نفساً فنفساً فهو عابد هواه، ولا يجد نفاذاً([8])...ويقول محيي الدين بن عربي في أول الباب الواحد والثمانين والمائة من الفتوحات المكية:

ما حُرمة الشيخ إلاحرمة الله                    فقم بها أدباً لله بالله

هم الأدلاَّء والقربى تؤيدهم                    على الدلالة تأييداً على الله

كالأنبياء تراهم في محاربهم                   لا يسألون من الله سوى الله

فإن بدا منهم حال تولههم            عن الشريعة فاتركهم مع الله([9])

- لا أظن أن القارئ الذي بدأ الكتاب من أوله بحاجة إلى شرح لهذه الأبيات الضلالية، وتبيان ما فيها مما ينقض الشريعة الإسلامية جملةً وتفصيلاً.

وكان عبد القادر الجيلاني يقول:

من لم يعتقد في شيخه الكمال لا يفلح أبداً([10]).

ويقول عبد الوهاب الشعراني (القطب الرباني والغوث الصمداني):

...فإن لم يتيسر للمريد صلاة الجمعة عند أستاذه، فليتخيله عنده في أي مسجد صلى فيه([11])...

ويقول علي وفا: ...فكما أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به، فكذلك محبة الأشياخ لا تسامح أن يشرك بها([12])...

وكان أيضاً يقول:

إذا صدق المريد مع شيخه وناداه من مسيرة ألف عام، أجابه حياً كان الشيخ أو ميتاً([13])...

وكان أيضاً يقول:

المريد الصادق مع شيخه كالميت مع مغسله، لا كلام ولا حركة، ولا يقدر ينطق بين يديه من هيبته، ولا يدخل ولا يخرج، ولا يخالط أحداً، ولا يشتغل بعلم ولا قرآن ولا ذكر إلا بإذنه([14])...

ويقول عدي بن مسافر:

لا تنتفع بشيخك إلا إذا كان اعتقادك فيه فوق كل الاعتقاد([15]).

- أرجو أن يفتش القارئ الكريم عن حدود قوله: (فوق كل الاعتقاد).

وللعلم: عدي بن مسافر هذا هو تلميذ عبد القادر الجيلاني، وهو شيخ الطريقة العدوية المعروفة الآن باليزيدية (عباد الشيطان)، طبعاً، بعد أن خضعت لشيء من التطور.

ويقول أبو يزيد البسطامي:

إذا أمر الأستاذُ التلميذَ أمراً من أمور الدنيا وبعثه في إصلاحه، فيقيم مؤذن في بعض طرقاته على مسجد من المساجد؛ فيقول: أدخل أولاً المسجد وأصلي ثم أكون وراء ما بعثني إليه، فقد وقع في بئر لا يتبين أسفلها، يعني ليس لها مقر([16]).

ويقول إبراهيم الدسوقي (أحد الأقطاب الأربعة المدّركين):

...وكذلك ينبغي له (أي: للمريد) أن يحذر من تأويل كلام شيخه عن ظاهره إذا أمره بأمر، بل يبادر إلى فعل ذلك من غير تأويل([17])...

ويقول يوسف العجمي:

مِنْ أدب المريد أن يقف عند كلام شيخه ولا يتأوله، وليفعل ما أمره به شيخه وإن ظهر أن شيخه أخطأ([18])...

ويقول علي اليشرطي:

إياكم أن تؤولوا كلامي، فإن كلامي صريح لا يؤول، فاسمعوا ما أقول لكم([19]).

- كلام الله وحديث رسوله يؤولان ليتفقا مع كشفهم!- كما يقول حجة الإسلام وكما يفعلون كلهم مما مر معنا ومما لم يمر- أما قول الشيوخ المتصوفة فلا يجوز تأويله؟!!

فيا ناس، ويا خلق، ويا عباد الله، ويا أسوياء، ويا مجانين، ويا من عنده ذرة من عقل أو ذرة من ضمير أو ذرة من حياء، أفتونا في هذا البلاء؟ أين المخرج؟ وكيف السبيل؟

ولئن عرضت عليهم هذه الأقوال، فستجد الجواب المعهود: هذا مدسوس، أو: هؤلاء منحرفون، ليس كل الصوفية هكذا...إلخ.

ويقول علي المرصفي (الذي قرأ في يوم وليلة ثلاثمائة وستين ألف ختمة!!):

...وإن قال (قائلٌ) للمريد: إن كلام شيخه معارض لكلام العلماء أو دليلهم، فعليه الرجوع إلى كلام شيخه...وإذا خرج المريد عن حكم شيخه وقدح فيه، فلا يجوز لأحد تصديقه، إنه في حال تهمة، لارتداده عن طريق شيخه([20])...

- إذن فالدليل لا قيمة له!! وما هو الدليل؟ إنه القرآن والسنة بلا ريب، ومع ذلك فعلى المريد الرجوع إلى كلام الشيخ؟! ولتُنْسخ الآية الكريمة.

وهذا يفسر لنا الحالة التي وصل إليها المسلمون من الجهل والانحطاط والذل.

وعودة إلى يوسف العجمي، الذي يقول:

...ومن شأنه (أي: المريد) إذا ذكر الله تعالى، أو فَعَل عبادة من العبادات، أن يستحضر نظر شيخه إليه، ليتأدب ويضم شتات قلبه([21])...

ويقول أحمد الرفاعي (الذي تسري كراماته في أتباعه من بعده!!):

...مَن لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان...وينبغي للمريد أن يعرف لشيخه الحق بعد وفاته كما كان يعرف له الحق في حالة حياته...وقال: من يذكر الله تعالى بلا شيخ، لا الله له حصل! ولا نبيه! ولا شيخه([22])!

- يا مسلمون! بل يا مؤمنون! (لأن ليس كل مسلم مؤمناً)، إن لم يكن هذا هو الشرك فما هو الشرك؟! أفيدونا يرحمكم الله.

ويقول العارف بالله سراج الدين الرفاعي الصيادي، ويشاركه أبو الهدى الصيادي:

...ومِن آداب المريد اللازمة: أولاً: حفظ قلب شيخه، ومراعاته في الغيبة والحضور...والتواضع له ولذريته وأقاربه، وثبوت القدم على خدمته، وأوامره كلِّيَّها وجزئيِّها، وربط القلب به، واستحضار شخصه في قلبه في جميع المهمات، واستمداد همته، والفناء فيه، وأن يكون ملازماً له لا يفتر عنه طرفة عين، ولا يُنْكِر عليه ما ظهر منه من صفة عيب، فلربما يَظْهر من الشيخ ما لا يَعْلمه المريد...كما وقع لبعضهم أنه دخل على شيخه فرأى عنده امرأة جميلة يلاعبها ويعانقها ويجامعها؟! فخرج منكراً على شيخه، فأُخذ منه حالاً جميعُ ما استفاده من شيخه، ومع ذلك إن المرأة امرأة الشيخ وزوجته([23]).

- يا للأولياء النجباء الأتقياء الأنقياء...دستور من خاطرهم دستور! يلاعب زوجته ويجامعها أمام مريده!!

لكن ماذا عليه؟ فالمقربون لا يُسألون عما يفعلون؟ هكذا قرروا ويقررون! ولا تعترض فتنطرد، وسلِّم تَسْلَم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ويقول أبو مدين الغوث:

وراقب الشيخ في أحواله فعسى               يَرى عليك من استحسانه أثرا

ففي رضاه رضا الباري وطاعته                 يرضى عليك فكن مِنْ تركها حذرا([24])

وعودة إلى الشعراني حيث يقول:

سمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول: حقيقة حبِّ الشيخ أن يحب الأشياء من أجله ويكرهها مِنْ أجله، كما هو الشأن في محبة ربنا عز وجل([25]).

ويقول أيضاً:

من أدب المريد إذا زار شيخاً في قبره أن لا يعتقد أنه ميت لا يسمعه، بل الأدب أن يعتقد حياته البرزخية لينال بركته، فإن العبد إذا زار ولياً وذكر الله عند قبره، فلا بد أن ذلك الولي يجلس في قبره، ويذكر الله معه كما شهدنا ذلك مراراً([26]).

ويقول أيضاً:

...وأجمعوا على أن من شرط الحب لشيخه، أن يصم أذنيه عن سماع كلام أحد في الطريق غير شيخه، فلا يقبل عذل عاذل، حتى لو قام أهل مصر كلهم في صعيد واحد لم يقدروا على أن ينفروه من شيخه، ولو غاب عنه الطعام والشراب أياماً لاستغنى عنها بالنظر إلى شيخه لتخيله في باله، وبلغنا عن بعضهم أنه لما دخل هذا المقام سَمِن وعبل مِنْ نظره إلى أستاذه([27]).

ويقول محمد العربي السائح التجاني([28]):

...من فضائل هذه الطريق (أي: التيجانية)، أن من دخلها وأسلم قياده إلى صاحبها بطريق المحبة الخاصة وكمال التصديق، كان من الآمنين عند الله تعالى في الدنيا والآخرة([29])...

ويقول ابن عجيبة:

للقوم في لقاء المشايخ آداب، منها: أنهم إذا قربوا المنزل رفعوا أصواتهم بالهيللة والذكر، فلا يزالون كذلك حتى يصلوا إلى الزاوية...ومنها تقبيل يد الشيخ ثم رجله، إن جرت بذلك عادة الفقراء، فهو من أحسن التعظيم...ومنها جلوسهم بين يديه على نعت السكينة والوقار، خافضين أصواتهم، ناكسين رءوسهم، غاضين أبصارهم، فلا يكلمونه حتى يبدأهم بالكلام([30])...

...فإن تعذر عليه (أي: على المريد) الوصول إلى الشيخ، وقد عرض له مرض أو أمر، فليشخص شيخه بين عينيه بصفته وهيأته ويشكو له، فإنه يبرأ بإذن الله، وإن كان مع جماعة واستحيا فليشتك إليه في قلبه([31])...(ما هو الشرك؟).

ويقول علي اليشرطي:

الطريق في ذِكْر الله ومحبة الشيخ([32]).

ويقول: الطريق طريقنا، والنور نورنا، وإن شئنا نمده للفقير، وإن شئنا نطويه عنه([33])...

ويقول محمد أمين الكردي:

...ومنها أن لا يعترض عليه (أي: على شيخه) فيما فعله، ولو كان ظاهره حراماً، ولا يقول: لم فعل كذا؟ لأن من قال لشيخه: لم؟ لا يفلح أبداً. فقد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن([34])...

ويقول عبد المجيد محمد الخاني النقشبندي:

اعلم أيها الأخ المؤمن أن الرابطة عبارة عن ربط القلب بالشيخ الكامل...وحفظ صورته بالخيال، ولو عند غيبته أو بعد وفاته، ولها صور، أهونها أن يتصور المريد صورة شيخه الكامل بين عينيه، ثم يتوجه إلى روحانيته في تلك الصورة، ولا يزال متوجهاً إليها بكليته حتى يحصل له الغيبة أو أثر الجذب...وهكذا يداوم على الرابطة حتى يفنى عن ذاته وصفاته في صورة الشيخ...فتربيه روحانية الشيخ بعد ذلك إلى أن توصله إلى الله تعالى، ولو كان أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، فبالرابطة يستفيض الأحياء من الأموات المتصرفين([35])...

ويقول القشيري في الرسالة في (باب حفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عليهم):

سمعتُ الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: إن شقيقاً البلخي وأبا تراب النخشبي قدما على أبي يزيد (البسطامي) فقُدِّمت السفرة، وشاب يخدم أبا يزيد، فقالا له: كل معنا يا فتى، فقال: أنا صائم، قال أبو تراب: كل ولك أجر صوم شهر، فأبى، فقال شقيق: كل ولك أجر صوم سنة، فأبى، فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين الله تعالى؟ فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة فقطعت يده([36])...انتهى.

- عجيب والله كل العجب، يؤلهون أنفسهم! يُعطون أجر صوم شهر! وأجر صوم سنة! فماذا بقي من الشرك والكفر؟ ورجل يطيع أوامر الله وأوامر رسوله يصوم تطوعاً لله، ويرفض أن يؤله غير الله أو يأخذ تشريعاً إلا منه. هذا الرجل يصبح ساقطاً من عين الله في حكم هؤلاء القوم! لم وفيم يسقط من عين الله؟ لأنه رفض أن يتخذ إلهاً غير الله! ثم ماذا؟ الصوم أصبح جريمة في نظرهم! فهل يستطيع هؤلاء القوم أن يقولوا لنا ما هو الكفر؟! وما هو الشرك؟! وما هو الإلحاد؟! وما هي الزندقة؟!

لكن يجب أن لا ننسى أبداً أن الاعتراض ممنوع، والذي لا يحفظ قلوب هؤلاء المشايخ العارفين الأبرار، الأطهار الأخيار، الصادقين الصديقين، المقربين الواصلين، المحظيين العارفين، العالمين المدّركين، المتصرفين الأولياء، الأتقياء الأنقياء الأصفياء، المحبين المحبوبين، الغارقين (في جهنم وبئس المصير) الذي لا يحفظ قلوبهم يسقط من عين الله، وتُقطع يده على السرقة؟!

ثم يتساءل المتسائلون: ما هو سبب انهيارالمسلمين؟ ما هو سبب فساد الأمة الإسلامية؟ ما هو سبب ذل المسلمين؟ ما هو سبب انحطاط الأمة الإسلامية؟ يتساءلون؟ والجواب ماثل أمام الناظرين الذين ينظرون بنور القرآن والسنة، لا بأعين الصوفية، لأنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

ويورد القشيري إياه، في نفس الباب (حفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عليهم):

...ومن المشهور أن عمر بن عثمان المكي رأى الحسين بن منصور (الحلاج) يكتب شيئاً، فقال: ما هذا؟ فقال: هو ذا أعارض القرآن! فدعا عليه وهجره، قال الشيوخ: إن ما حل به بعد طول المدة كان لدعاء ذلك الشيخ عليه([37]).

* جوابنا:-

أولاً: الدنيا دار بلاء لا دار جزاء.

ثانياً: استهتاره بالقرآن ومحاولة معارضته لم تكن سبب بلائه، وإنما كان سبب بلائه دعاء الشيخ عليه!!

وللعلم: الرسالة القشيرية تدرس في مساجد المسلمين، وينصح القوم بقراءتها هي وكتاب إحياء علوم الدين، والحكم العطائية على أنها كتب إسلامية! والمشتكى إلى الله.

ويقول عبد القادر الجيلاني:

...وينبغي له (أي: للمريد) أن لا ينتظر من الله مطلوباً سوى المغفرة....

والتحبب إلى الشيوخ من الأولياء والأبدال، إذ ذاك سبب لدخوله في زمرة الأحباب ذوي العقول والألباب! الذين عقلوا من رب الأرباب، واطلعوا على العِبَر والآيات([38])...

* الملحوظات:

نلاحظ قوله: (التحبب إلى الشيوخ...سبب لدخوله في زمرة الأحباب) أي: أحباب الله!

وهذا الكلام مردود عليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا- وحياً عن ربه- أن الدخول في زمرة أحباب الله هو إطاعة الله سبحانه واتباع رسوله والابتعاد عن الشرك، كل الشرك، ولم يرد أي نص عن المعصوم بالوحي أن التحبب إلى الشيوخ سبب في رضا الله، وبالتالي نطالبه بالدليل من القرآن والسنة، ولا دليل لديه إلا باللف والدوران والتأويل الباطل. ثم لننتبه إلى قوله: الذين عقلوا من رب الأرباب..، وهذه العبارة تحمل نفس معنى قولهم: (حدثني قلبي عن ربي..) وهو افتراء على الله الكذب. إنما هي إحساسات هَلْوَسِيَّة أقوى من الأفيونية، توهمهم شياطينهم من الإنس والجن أنها رحمانية وأنها خطاب من الله.

ويقول الجيلاني أيضاً:

وأما آدابه (أي: المريد) مع الشيخ، فالواجب عليه ترك مخالفة شيخه في الظاهر، وترك الاعتراض عليه في الباطن، فصاحب العصيان بظاهره تاركٌ لأدبه، وصاحب الاعتراض بسره متعرض لعطبه، بل يكون خصماً على نفسه لشيخه أبداً، يكف نفسه ويزجرها عن مخالفته ظاهراً وباطناً([39])...

- وهكذا يقرر سلطان الأولياء، عبد القادر الجيلاني، أن الشيخ ينفع ويضر، وأن التحبب إلى الشيخ سبب للدخول في زمرة الأحباب، وهذا هو النفع، والاعتراض عليه في سره سبب لعطبه، وهذا هو الضر.

- أما نحن فنؤمن أن لا نافع ولا ضار إلا الله. ونؤمن أن من يعتقد خلاف ذلك فهو مشرك مرتد.

ويقول: ...إن لم تفلح على يدي، لا فلاح لك قط([40])...

- مقارنة بين هذه الجملة وبين قوله سبحانه: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُوْنَ)) [المؤمنون:1-5].

ولم يقل سبحانه: لا فلاح إلا على يدي الشيخ كائناً من كان هذا الشيخ؟

فنسأل: من الصادق ومن الكاذب؟ ومن يجب أن نتبع؟

ويقول الدكتور سيد حسين نصر([41]) (ترجمة كمال خليل اليازجي)([42]):

والشيخ، فضلاً عن أن تأثيره ثابت، فإن نوره ينتشر فى كل مكان، ومع أنه شخصية روحية واضحة المعالم، لكنه مقترن داخلياً بالنور الذي يشرق على البر والبحر ويضيء كل شيء للمريد المرتبط به([43]).

ويقول شهاب الدين السهروردي البغدادي:

.. ومِن الأدب مع الشيخ أن المريد إذا كان له كلام مع الشيخ في شيء من أمر دينه أو أمر دنياه، لا يستعجل الإقدام على مكالمة الشيخ والهجوم عليه، حتى يتبين له من حال الشيخ أنه مستعد له، ولسماع كلامه وقوله متفرغ، فكما أن للدعاء أوقاتاً وآداباً وشروطاً، لأنه مخاطبة الله تعالى فللقول مع الشيخ أيضاً آداب وشروط لأنه من معاملة الله تعالى([44]).

- لننتبه إلى مقارنته مخاطبة الشيخ مع مخاطبة الله، وجعله الكلام مع الشيخ من معاملة الله تعالى!!

ويقول أحمد الفاروقي السرهندي (مجدد الألف الثاني):

...وهذه المحافظة إنما هي إلى زمان الوصول إلى الشيخ الكامل المكمل، ثم بعد الوصول إليه، لا شيء عليه سوى تفويض جميع مراداته إليه، وكونه كالميت بين يدي الغسال لديه، والفناء الأول هو الفناء في الشيخ، ويكون هذا الفناء وسيلة الفناء في الله([45])...

* مشاهد شيخية مرسلة:

* المنظر الأول:

انتهت الحضرة، ووقف الشيخ تكرماً منه وعطفاً ليسهل على المريدين التبرك بتقبيل يده الإلهية.

وقف المريدون وملء قلوبهم الشكر والامتنان لهذا الشيخ الكريم العظيم، الذي يمكنهم دائماً من تقبيل يده المقدسة، وأحياناً من تقبيل رجله، ينعمون بما تفيضه عليهم من روحانيته التي تحققت بأسماء الله وصفاته، يعبون منها ذخراً روحياً يعيشون في نشوته القدوسية أياماً، حتى يتكرم عليهم الشيخ من جديد بتجل جديد لطلعته الصمدانية، التي تملؤهم بالأسرار الربانية.

أخذوا يتقدمون الواحد تلو الآخر، يجللهم صمت المؤمنين أمام وثنهم المعبود، وبخشوع تعبدي ينحني صاحب الدور راكعاً أمام الشيخ، آخذاً يده الكريمة الممدودة بيده الحقيرة يقبلها، ويحاول أن يرتشف منها أكثر ما يستطيع من الأسرار الإلهية المختزنة في شيخه. ثم يترك الدور لغيره وينصرف حامداً شاكراً.

وصل الدور إلى شاب ملأ الإيمان الخرافي قلبه، وغمره بشوق جنوني إلى تنسم رائحة العارف الكامل الذي وصل إلى مقام (الفرق الثاني). وجاءت الفرحة، فأمسك بيده المرتعشة يد الشيخ القدوسية، وركع أمامه، ثم أهوى عليها يقبلها ويقبلها، وهو لا يشبع من تقبيلها ومن تمريغ وجهه وجبهته عليها. عيل صبر المريد الذي كان خلفه ينتظر دوره، فربت على ظهره طالباً منه الإسراع.

لكن الشيخ الكريم الرحيم العطوف الودود قال لهذا الذي نفد صبره، ناصحاً ومربياً ومعلماً: خليه يرتوي يا ابني خليه يرتوي. وذهبت مثلاً.

* المنظر الثاني:

الوقت بعد العصر، والطقس شديد البرودة، والسيارة الفخمة تقبع في جانب من أحد الأزقة الفرعية، وليس في الشارع سوى أفراد يسرعون الخطا هرباً من البرد.

مر رجل طاعن في السن، ممن امتلأ قلبه إيماناً بالضبابيات والخرافيات الصوفية، ولم يستطع الوصول إلى الجذبة رغم محاولاته.

التفت هذا العجوز نحو السيارة فعرفها، ومن وراء الزجاج المجلل ببخار الماء المتكاثف، لمح داخلها شخصاً فعرفه أيضاً.. وكيف لا؟ إنه شيخه([46]) الولي العارف الصديق المقرب المحب المحبوب الواصل القديس المقدس المتحقق بالاسم الأعظم...إلخ. فكان كأنما عثر على كنز الدنيا والآخرة، بل وأعظم من الدنيا والآخرة! فانطلق نحوه دون وعي حتى وقف أمام زجاج السيارة صامتاً خاشعاً، خافضاً رأسه بذلة وخنوع، ماداً نظره الحقير نحو الشيخ يستجديه نفحة من قدوسيته المستسرة.

نظر إليه الشيخ بعينين جامدتين، وأنزل زجاج النافذة بمقدار ما يكفي لإخراج كفه، وأخرجها، فاستلمها العجوز، وقبلها.

ثم سحب الشيخ يده، وأغلق النافذة.

وذهب العجوز لحال سبيله، وهو مفعم بنشوة تغرقه في أعتم ظلمات الخيالات الوثنية، لكنه كان يحس أنه قبل يد الحق (سبحان الله وتعالى عما يشركون).

مشهد شيخي مسجل:

أورد ابن العماد الحنبلي في أحداث سنة سبع وثمانمائة:

وفيها (أي: توفي فيها) أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن وفا...وقال ابن حجر في أنباء الغمر: اجتمعتُ به مرة في دعوةٍ فأنكرتُ على أصحابه إيماءهم إلى جهته بالسجود، فتلا هوَ وهو في وسط السماع يدور ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) [البقرة:115] فنادى من كان حاضراً من الطلبة: كفرت كفرت، فترك المجلس وخرج هو وأصحابه...

- لعل القارئ يذكر أن علي بن محمد بن محمد بن وفا هذا هو غوث من رجال السلسلة الشاذلية، وهذا يعني أن الطريقة الشاذلية تتبنى أفعاله وأقواله وتؤمن بها، وإن كتموا ذلك.

* الخلاصة:

الشيخ عند الصوفية إله، يسبغون عليه كل صفات الألوهية، والمريد الذي لا يعتقد بشيخه القدسية الإلهية لا يفلح في سعيه إلى الوصول إلى وحدة الوجود، وهذا هو معنى الفلاح عندهم، الجذبة، ثم مشاهدة الألوهية في نفس المُشاهَد وفي كل شيء. ولنستمع إلى قول الدكتور سيد حسين نصر، وهو من أعلام الصوفية في إيران، يقول:

إن دور الشيخ المرشد الذي يقتضي التسليم التام له، وأهميته، في تحرير المريد من الارتباك في عالم الكثرة، ثم توجيهه له بالتأمل في عالم الوحدة([47])...

 

 الرياضة (المجاهدة)

 

* لا طريقة بدون شيخ:

لنرجع أولاً إلى عارفيهم يخبرونا كيف يسلِّك الشيخ مريده في الطريقة.

يقول ابن عجيبة:

إذا أتى الفقير إلى الشيخ ليأخذ بيده، فأول ما يلقنه الورد، فإن التلقين فيه بركة عظيمة...ثم يأمره بالتوبة ورد المظالم وقضاء الدين بقدر الاستطاعة، ويحذره من الرجوع إلى ما كان عليه، ثم يعلمه ما يلزمه في دينه من طهارة وصلاة وما يتعلق بذلك إن كان جاهلاً، وما يتيسر من علم التوحيد خالياً عن الدليل، فإن كان الشيخ ليس من شأنه ذلك، دفعه إلى من يعلمه، ثم يأمره بلزوم الطاعة من صلاة وصيام وذكروغير ذلك، كل واحد ما يليق به، لأن الشيخ تقدم أنه يكون طبيباً ماهراً، ثم يأمره بالصحبة ولزوم مجالسة الشيخ، والاجتماج مع الإخوان، فطريق التربية ليست طريق الانفراد، وإنما هي طريق الاجتماع والاستماع والاتباع، فمهما انفرد المريد عن الإخوان لم يكن منه شيء، فإن تعذر إقامته مع الشيخ أمره بالزيارة والوصول، فمدد الشيخ جار إلى المريد كالساقية أو القادوس، فإن كان يتعاهدها ويمشي معها بقي الماء جارياً، وإن غفل عنها تخرم الماء وانقلب مع غيره، وأيضاً الوصول إلى الشيخ يدل على المحبة...ثم يذكره أولاً بما يُصلح جوارحه الظاهرة وهي التقوى والاستقامة، فإذا صلحت جوارحه الظاهرة أمره بالعزلة والصمت والجوع المتوسط وفراغ القلب والفناء في الاسم المفرد (الله)، فإذا رآه تحقق فناؤه وكثر تعطشه فتح له شيئاً من علم الحقائق، وأمره بالتفرغ التام وقطع العلائق، والزهد في الكونين، فإذا رآه أخذته حيرة أو دهشة دفع له علم الحقيقة، وأمره بتقليل ذكر اللسان وعمل الجوارح، وشغله بالفكرة، فإذا رآه لم يقدر على علم الحقيقة، أو رآه قنع بالعلم دون الذوق، أمره بتخريب الظاهر والتجريد التام، فإذا تمكن من الحقيقة، ورسخت فيه ذوقاً وتحقيقاً أمره بإرشاد الناس إن رآه أهلاً. هذا الذي أخذنا به وفهمناه من طريق أشياخنا([48])...

ويقول ابن البنا السرقسطي مبيناً:

حتى إذا انقاد مع الإفادة           وكاد أن يصلح للإرادة

إذ للمريد عندهم حدود            لأجلها قيل له مريد

فعندها رُدّ إلى الأوراد               كالصمت والصوم مع السُّهاد

وعاملوه بالمعاملات                إذ علموا مختلف العلات

ولم يحيلوه على الحقيقة           إذ لم يكن مستوفي الطريقة

لكن أحالوه على الأعمال                    لأجل ما فيها من النوال

حتى إذا أحكم علم الظاهرْ                  وأبصروا القبول فيه ظاهرْ

ألقوا إليه من صفات النفس                  ما كان فيها قبل ذا من لَبْس

وهي إذا أنكرتها فلتعرف            إحدى وتسعين وقيل نيف

فجرعوها أكؤس المنون             وهي تنادي كيف تقتلون

فعندما مالت إلى الزوال            أُدخل في خلوة الاعتزال

وقيل: قل على الدوام (الله)                 واحذر كطرف العين أن تنساه

فلم يزل مستعملاً للذكر              فيصمت اللسان وهو يجري

وقدر ما تجوهر اللسان               بالاسم يستثبته الجنان

ثم جرى معناه في الفؤاد              جريَ الغذا في جملة الأجساد

فعندها حاذى مِراة القلب            لوحُ الغيوب وهو غير مخبي

فأدرك المعلوم والمجهولا             حيث اقتضى لتركها قبولا

حتى إذا جاء بطور القلب            خوطب إذ ذاك بكل خطب

فقيل لو عرفتني بكوني               قيل إذن فاخلع نعال الكون

ثم فني عن رؤية العوالم              ولم ير في الكون غير العالم

ثم انتهى لفلك الحقيقة               فقيل هذا غاية الطريقة

ثم امتحى في غيبة الشهود           فأطلق القول: أنا معبودي

حتى إذا رُدَّ عليه منه                  أثبت فرقاً حيث لم يكنه

فرُدَّ نحو عالم التحويل               وعبروا عن ذاك بالنزول

ورده بالحق نحو الخلق               كي ما يؤدي واجبات الرق([49])

ويقول ابن عجيبة: ...ثم يمده بالعلم الظاهر، ومعناه أنه يذكره بعلم الشريعة وعلم الطريقة، دون علم الحقيقة، حتى إذا تهذب ظاهره وباطنه صلح لعلم الحقائق، ولا بد من الترتيب...وقد قالوا: من قدم الباطن على الظاهر فاته الباطن والظاهر([50]). اهـ.

- وهكذا فالسالك لا يعرف حقيقة التصوف، لأنهم لا يخبرونه بها حتى يصبح أهلاً لذلك حسب قواعدهم.

وإنما يلقنونه أولاً علم الشريعة، فما هو علم الشريعة هذا الذي يلقنونه إياه؟ لنسمع الغزالي يشرحه، يقول ابن عجيبة:

...قال الشيخ أبو حامد الغزالي رضي الله عنه: ولقد أردت في بداية أمري سلوك هذا الطريق بكثرة الأوراد والصوم والصلاة، فلما علم الله صدق نيتي، قيض لي ولياً من أوليائه قال لي: يا بني، اقطع من قلبك كل علاقة إلا الله وحده، واخل بنفسك واجمع همتك، وقل: الله الله الله ولا تزد على ما فرض الله عليك شيئاً إلا الرواتب، وقل هذا الاسم بلسانك وقلبك وسرك، وأحضر قلبك واجمع خاطرك، ومهما قالت نفسُك: ما معنى هذا؟ فقل لها: لستُ مطلوباً بمعناه، وإنما قال تعالى: ((وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا)) [المزمل:8]([51]).

- مِنْ هذا النص (ومن ركامٍ غيره لا نورده اختصاراً) نعرف ما هو علم الشريعة الذي يلقنونه للمريد؟

هذا الوصف الذي يقدمه هنا ابن البنا السرقسطي وابن عجيبة والغزالي، هو ما نراه في كل كتبهم التي تهتم بهذه الناحية.

أما علم الطريقة (الإشراقية) ففي النصوص التي مرت في هذا الكتاب توضيح مبين.

إنهم يعلِّمون المريد، منذ الخطوة الأولى في رحاب الشيخ، أن يقدس الشيخ، وأن يكون عبداً للشيخ أكثر من عبوديته لله.

هذا هو رأس الطريق وأصله منذ أن نزل إبليس إلى الأرض، أو بعد ذلك بقليل، حتى الآن، وإلى ما شاء الله.

ثم يأتي (عند إشراقيي المسلمين وبعض غيرهم) الذكر الإرهاقي، الذي استعاضوا به- بصورة عامة- عن الرياضة، أو عن بعضها.

لكن الرياضة، رغم كل شيء، يبقى لها دورها في التصوف بين المسلمين، كما أن لها دورها الرئيسي، أو الوحيد، في تصوف غير المسلمين.

والمجاهدة (أو الرياضة)، كما رأينا، هي: الخلوة والصمت والجوع والسهر. وقد يرافقها تعذيب النفس بشكل من الأشكال، وتركيز الفكر في شيء ما أساسيٌ في المجاهدة الإشراقية.

* الخلوة (أو العزلة): طقس إشراقي أساسي، لا بد منه في السير إلى الجذبة، مارسه الإشراقيون منذ أن اكتشف إبليس أحبولة (الإشراق)، التي كانت على مدى التاريخ، وما زالت، تسمى: (المعرفة)، وجاء إشراقيو المسلمين فغلبوا عليها اسم: (الصوفية والتصوف).

كان إشراقيو الأمم، وما زالوا، يمارسون الخلوة في كهوف الجبال والوديان وفي شعابها، وفي أعماق الغابات، أو في كهوف (غرف صغيرة) تبنى في المعابد خصيصاً لهذه الغاية.

ومثلهم تماماً، مارسها متصوفة المسلمين، لكن قرونهم الأولى، استعاضوا عن كهوف المعابد بخلوات في بيوتهم، لأن المسلمين في ذلك الوقت كانوا يعرفون الإسلام ويفهمونه، وكانوا يعرفون أن هذه الزندقة غريبة عن الإسلام، فكل من عُرف بها أقاموا عليه حد الردة.

وتتالت الأيام وشيئاً فشيئاً، فعلت السمومُ الصوفيةُ التي كانوا ينفثونها بهدوء فعلَها في المجتمعات الإسلامية، ففشا فيها الجهل والخرافة، وأخذ كهان الصوفية حريتهم بإعلان عقيدتهم الفاسدة والدعوة إليها، وسموها أسماءً فيها من الوقاحة بقدر ما فيها من الجرأة والافتراء على الله سبحانه، وبنوا لها هياكلها الخاصة التي سموها: (الخانقاه)، وفي الخانقاهات أقاموا، وفيها أقاموا كهوف الخلوة، وفي بعض الأحيان سموها: (المدرسة). وتتالت الأيام، وبالتكرار والزمن تمادوا في السيطرة على الفكر في المجتمعات الإسلامية، فجمدوه وعقَّموه، وصار الجهل والخرافة هو المظهر والمخبر، فانتشرت الخانقاهات في أحياء المدن وأزقتها، وفي القرى، بعد أن بدلوا اسم (الخانقاه) بـ(الزاوية)، ثم امتدوا من الزوايا ليتوغلوا في المساجد فيهتكوا حرماتها، وليرفعوا بيوت الأوثان التي يسمونها: (الأضرحة) وليجعلوا فيها ومنها كهوفاً لخلواتهم، وهياكل لطقوسهم، ومجالس لنشر ضلالاتهم.

وأصبح من غير المستهجن وجود أماكن الخلوة في المساجد، ومن المظاهراللازمة انتشار الزوايا، هياكلهم التي يقيمون فيها طقوس المكاء والتصدية، وارتفاع القباب فوق القبور إشارة إلى أن تحتها وثناً يعبد، ومكاناً للخلوة، ولم يعودوا بحاجة إلى كهوف الجبال والوديان وشعابها، ولا للغابات ولا للصحاري.

وأقل مدة للخلوة يوم وليلة، ولا حد لأكثرها، لكن المعتاد أن تكون أسبوعاً أو أكثر حتى الأربعين يوماً.

* الصمت: طقس إشراقي أساسي، لا بد منه في السير إلى الجذبة، مارسه الإشراقيون منذ أن اكتشف إبليس أحبولة الإشراق التي سموها: (الصوفية).

لكن إشراقيي المسلمين الأوائل عرفوا الأثر السحري لترديد كلمة ما، مئات الألوف من المرات أو ملايينها، بشكل مستمر ودون انقطاع، وهذا ما سموه: (الذكر)، فاستعاضوا به عن الصمت، بل وعن الرياضة كلها في كثير من الأحيان.

على أن عارفهم يعود إلى ممارسة هذا الطقس (الصمت) بعد وصوله إلى ما يسمونه: (مقام جمع الجمع)، أي: عندما تصبح الجذبة طوع يديه أو مسيطرة عليه.

* الجوع: طقس إشراقي أساسي، لا بد منه في السير إلى الجذبة، مارسه الإشراقيون منذ أن اكتشف إبليس أحبولة الإشراق، التي سموها: (الصوفية).

وأقل مدة له يوم وليلة تتكرر، ولا حد لأكثرها نظرياً، وفي كتبهم يتحدثون عن متصوفة صاموا أسابيع وشهوراً، بل وسنين أيضاً، وقد رأينا من أقوالهم هذه أمثلة في هذا الكتاب، حتى تحدثوا عن صوفي صام أربعين سنة كان يأكل كل يوم زبيبة واحدة؟!

* السهر: طقس إشراقي أساسي، لا بد منه في السير إلى الجذبة، مارسه الإشراقيون منذ أن اكتشف إبليس أحبولة الإشراق التي سموها: (الصوفية).

وهذا الطقس، مضافاً إلى الخلوة، كانا وراء اكتشاف القهوة، فهم يذكرون أن عبد الرحمن العيدروس هو مكتشفها، وهو غير صحيح، لأنها معروفة قبله بأكثرمن قرنين([52])، ويقول ابن العماد الحنبلي: إن مكتشفها هو أبو بكر بن عبد الله العيدروس المتوفى سنة (909هـ).

- هذه هي الرياضة أو المجاهدة. وهدفها هو إرهاق الجملة العصبية إرهاقاً يُفقدها المقدرة على القيام بوظائفها، فتتخدر إحساساتها، وتصبح مركباً سهلاً لشياطين الجن التي تجري من ابن آدم مجرى الدم؟ وتصبح أكثر استعداداً للتأثر بالمادة المخدرة التي يفرزها الجسم، من أجل وظيفة حيوية فيزيولوجية.

* تعذيب النفس: كانوا يستعملونه من أجل السهر والصبر على الخلوة، وقد قلت ممارسته الآن، إذ نادراً ما نسمع به، واستعاضوا عنه بالمنبهات.

* الذكر (أو ما يسمى بالذكر):

قلنا، ونقول، وقالوا هم: إن الطريقة الوحيدة التي تقود إلى الجذبة هي طريقة الإشراق، وهي هي نفسها طريقة البرهان، أو الطريقة الغزالية، بعد مزجها بالإسلام مزجاً تعسفياً.

ورأينا أن الطريقة الإشراقية تعتمد الرياضة (الخلوة والجوع والسهر والصمت) للوصول إلى الجذبة، لكن متصوفة المسلمين عرفوا أسلوباً أسرع وأكبر إمكانية للوصول إليها (إلى الجذبة)..

إنه الذكر، وكثيراً ما استغنوا به عن الرياضة.

فما هو الذكر؟ وما هو دوره؟

يقول عبد الوهاب الشعراني:

...إن عُمدة الطريق الإكثار من ذكر الله عز وجل...قالوا: إن الذكر منشور الولاية...وأجمع القوم على أن الذكر مفتاح الولاية، وجاذبُ الخير، وأنيس المستوحش، ومنشور الولاية...وما ثَم أسرع من فتح الذكر([53])...

ويقول ابن البنا السرقسطي:

فعندما مال إلى الزوال                أدخل في خلوة الاعتزال

وقيل قل على الدوام (الله)                    واحذر كطرف العين أن تنساه

يشرح ابن عجيبة هاذين البيتين:

...ومَيْل النفس إلى الزوال هو إعطاؤها الطوع من نفسها، بحيث يتصرف فيها صاحبها بلا نزاع منها...فعند ذلك يدخل الخلوة...ويحضه على ذكر الاسم المفرد حتى لا يفتر عنه ساعة، وهذا التدريج الذي ذكره الناظم (في أبيات سابقة) ليس بلازم لكل الشيوخ ولا لكل المريدين أن يسلكوه، بل من الشيوخ من يلقن الاسم من أول مرة إذا رأى الفقير أهلاً له...ومن المريدين من لا يحتاج إلى خلوة، بل يأمره بالخلطة من أول مرة، والناس معادن وطبائع، والعلل متفاوتة...قال الشيخ أبو حامد الغزالي رضي الله عنه: ولقد أردت في بداية أمري سلوك هذا الطريق بكثرة الأوراد والصوم والصلاة، فلما علم الله صدق نيتي قيض لي ولياً من أوليائه قال لي: يا بني! اقطع من قلبك كل علاقة إلا الله وحده، واخلُ بنفسك، واجمع همتك، وقل: الله الله الله ولا تزد على ما فرض الله عليك شيئاً إلا الرواتب، وقل هذا الاسم بلسانك وقلبك وسرك، وأحضر قلبك، واجمع خاطرك، ومهما قالت نفسك: ما معنى هذا؟ فقل لها: لست مطلوباً بمعناه([54])...

ويقول علي نور الدين اليشرطي: والله ما أخذناها بالسماع، ما أخذناها إلا بالذكر...([55]).

ويقول ابن عطاء الله السكندري:

الذكر الرابع: (الله) ؛ ويسمى: الذكر المفرد، لأن ذاكره مشاهد لجلال الله وعظمته، فانٍ عن نفسه، قال الله تعالى: ((قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)) [الأنعام:91]([56]).

* ملحوظة:

- يستعمل ابن عطاء الله الآية في غير معناها الذي أنزلت له، أي يستعمل التأويل.

فماذا يحدث للذاكر؟...لنستمع إلى أقوالهم:

يقول علي نور الدين اليشرطي:

ما زال العبد يذكر الله حتى يستولي عليه الاسم، ومتى استولى عليه الاسم انطوت العبدية بالربية، وظهرت عليه صفات الرب([57])...

- أقول: إن سأل سائل: ما هي صفات الرب التي تظهر عليه؟ فالجواب: هي الهلوسات التي يشاهدها أثناء الجذبة! ويشاهد فيها أنه الله (جل الله) بأسمائه وصفاته.

ويقول عبد المجيد الخاني النقشبندي:

واعلم أن المريد الصادق إذا اشتغل بالذكر على وجه الإخلاص، يظهر عليه أحوال عجيبة وخوارق غريبة، وهي ثمرات أعماله من فضل الله تعالى عليه، إما تطميناً لقلبه وتأنيساً، وإما ابتلاءً من الله تعالى وامتحاناً له. فالواجب عليه أن لا يلتفت إليها ولا يغتر بها، لئلا ينقطع بها عن مقصوده (مشاهدة الوحدة). ولهذا قال العارفون بالله تعالى: أكثر من انقطع من المريدين بسبب وقوعهم في الكرامات([58])...

* خلاصة ما تقدم:

إذا اشتغل المريد بالذكر، وهو عادة الاسم المفرد (الله)، واستمر عليه ليلاً ونهاراً أياماً كثيرة، قد تقصر وقد تطول، وقد تمتد إلى ما يزيد عن عشرين سنة، كما حصل لعبد القادر الجيلاني، تظهر أمامه خوارق؛ كأنْ يرى أشخاصاً يظهرون فجأة ويختفون فجأة، أو يسمع أصواتاً، أو تحدث أمامه حوادث غير عادية وغير معروفة السبب؟ أو قد يحدث مع بعضهم أن يسير فوق الماء أو يطير في الهواء.

هذه الخوارق ليست لازمة بالضرورة، فقد لا يحصل شيء منها، وإذا حصلت فإنهم يتواصون بإهمالها وعدم الالتفات إليها والاغترار بها؛ لأن غايتهم هي الوصول إلى الجذبة التي يستشعرون فيها وبها الألوهية ويذوقونها.

يستمر السالك بالذكر. وقد يلجأ إلى الرياضة (المجاهدة) كعامل مساعد، وقد يبدل الخلوة في غرفة بالسياحة في القفار، مع الجوع والسهر والمشاق، ويبقى يذكر ويذكر حتى يصل إلى الجذبة التي هي الهدف الأول، وتكون عادة سريعة الزوال في أول الأمر، عندئذ يسمونه: المجذوب أو الولي أو الواصل...، ويعنون بكلمة (مجذوب) أن الله سبحانه جذبه إليه، وينصحونه ألا يغتر بالجذبات القليلة السريعة الزوال، بل عليه أن يستمر في الذكر، حتى يزداد عدد جذباته ويزداد طولها، ثم حتى يشاهد فيها وبها المشاهد.

يبقى المريد (أو السالك) هكذا مستمراً حتى تصبح الجذبة طوع يديه، ففي أي وقت يريدها يبدأ بالذكر، وما هي إلا دقائق حتى يقع فيها، بل قد يقع فيها بمجرد التفكير بها.

وقد يصل إلى مقام تتكرر عليه تلقائياً دون ذكر، وهذا عندهم هو الأمل المنشود، ومن وصل إليه فهو البدل أو الوتد أو القطب أو الغوث (حسبما يوحي إليه شيطانه). على أن عند النقشبندية أسلوباً أسرع (كما يقولون) في الوصول إلى الجذبة، وهو ترديد لا إله إلا الله، مع هز الرأس بالصورة التالية:

يدير المريد وجهه إلى اليمين حتى تصبح ذقنه فوق كتفه اليمنى، ويلفظ كلمة (لا).

ثم يدير وجهه بسرعة إلى الأمام ويضع ذقنه على صدره، ويلفظ كلمة (إله).

ثم يدير وجهه بسرعة أيضاً إلى اليسار، حتى تكون ذقنه فوق كتفه اليسرى، ويلفظ كلمة (إلا).

ثم يدير وجهه بسرعة دائماً، إلى الأمام ويضع ذقنه فوق صدره، كما في الحركة الثانية، ويلفظ كلمة (الله).

ويعيد الكرة ويعيدها، وكل هذا يتم بأسرع ما يمكن.

ويقولون: إن القيام بهذه العملية واحداً وعشرين مرة، يمكن أن يوصل إلى الجذبة، ومن لم يصل، فليعد الكرة، ثم ليعدها، وسيصل أخيراً. ومن الناس من لا يصل مهما عمل وحاول.

ولقد انتقلت هذه الحركة إلى بعض الطرق الأخرى، لما فيها من سرعة في الوصول.

ولعل القارئ أدرك أن ترديد عبارة (لا إله إلا الله) أثناء هذه الحركة لا يقدم ولا يؤخر في الوصول إلى الجذبة، وأن الفعل كله لهز الرأس بالشكل المذكور، ويا لها من ولاية! تهز رأسك فتصبح ولياً لله؟ (مرحباً ولاية)!

* المنشطات (الحضرة، السماع، قراءة الكتب الصوفية):

يقول الشيخ سعيد حوى:

...ويرافق السيْرَ إلى الله اجتماعٌ وإنشادٌ، وتصحبُه أمور، ويتطلب آداباً([59])...ويقول: ...هذه الحالات التي تزيد من إقبال الإنسان على الله تعالى، أو تجدد همته إن فترت كثيرةٌ منها: الاجتماع على علم أو على قراءة قرآن أو على ذكر أو على مذاكرة، ومنها الإنشاد، ومنها المطالعة في كتب السير إلى الله([60])...

- أقول: المعروف أن الصحابة رضوان الله عليهم وتابعيهم وتابعي تابعيهم، كانوا يجتمعون على علم وعلى قراءة القرآن، وكان هذا لا يدفعهم إلى ما يسميه: (السير إلى الله)، بل كانوا يسيرون في طريق الإسلام الذي أنزله الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم. كما أنه من المؤكد أن الذين يجتمعون على علم وعلى قراءة القرآن بتدبر وتطبيق، يبتعدون كل البعد عن هذا الذي يسمونه: (السير إلى الله).

إن القرآن الكريم والعلم النبوي يحكمان بأن ما يسمونه (السير إلى الله) لا يمت لهما بصلة، وبالتالي ليس سيراً إلى الله، بل هو سير إلى الجذبة ليس غير، وسنرى ذلك فيما بعد.

أما الآن، فإلى بعض التفصيل للمنشطات: الاجتماع، ومظهره الرئيسي هو الحضرة، والسماع، وقراءة كتب التصوف.

* الحضرة لا طريقة بدون حضرة إلا بعض الشواذ النادرة:

كلمة (الحضرة) تعني عند القوم الجلسة التي يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه رجال الغيب، ففيها يكونون في حضرته، ولذلك سموها: الحضرة، وقد أفتى شيوخهم أن مَن حلف يميناً أو طلاقاً أن محمداً صلى الله عليه وسلم حاضر معهم، فلا يحنث ولا تطلق زوجته، وكلهم يعتقدون هذا لكنهم يكتمونه حسب القاعدة.

ولا بد في الحضرة من الشيخ أو من نائب عنه بإذنه، إذ بدون ذلك لا يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تنقسم الصوفية من حيث الحضرة إلى قسمين:

1- الصوفية الجالسة:

يقومون بطقوس الحضرة وهم جلوس، وينقسمون بدورهم إلى قسمين:

أ- الجالسة الصامتة: يقرءون أورادهم وأذكارهم جلوساً صامتين، كالنقشبندية، والخوفية، وقد يجهرون بعض الأحيان، وقد يقفون (حسب توجيه الشيخ)، مع ندرته.

ب- الجالسة الصائتة: يقرءون أورادهم وأذكارهم جلوساً مع الجهر بالصوت، كالتيجانية، والنعمتللاهية، وقد يقفون ويرقصون (حسب توجيهات الشيخ)، وهذا نادر.

2- الصوفية الراقصة:

عليها أكثر الطرق، وكلها صائتة، يبدءون الحضرة في أكثر الأحيان جلوساً، ينهضون للقفز والرقص، وقد يصاحب قفزهم الطبول والزمور والدفوف، وقد يكون الرقص إفرادياً، مع السماع طبعاً.

والصوفية الراقصة تنقسم أيضاً إلى قسمين:

أ) الرقص مع السماع بدون آلات.

ب) الرقص مع السماع مصحوباً بالآلات.

وتلخيص ذلك بالشكل التالية:

 

 

 

 

 

 

 

 

أما الرقص الإفرادي فقد يكون رقصاً مع النقص، (أي: مع هز الخصر) أو بدون نقص: (أي: بدون هز الخصر).

* كيفية الحضرة:

نذكر كيفية الحضرة بإيجاز وإجمال، دون تفصيل، إذ لا فائدة من ذلك ولا ضرورة.

مع العلم أنه لا يتم شيء في الحضرة إلا حسب توجيه الشيخ فقط، دون أي كلمة أو إشارة من المريدين، إذ هم أمامه كالميت بين يدي الغاسل.

قد تبدأ الحضرة بدرس يلقيه الشيخ، أو بقراءة بعض أحاديث نبوية دون تمييز، أو بنشيد من أناشيدهم، ثم يبدأ الورد.

ولا يكون الورد إلا مع الالتزام التام بما يسمونه: الرابطة الشريفة، وهي أن يربط كل مريد في الحضرة بصره بشيخه إن كان حاضراً، وأن يتصوره في خياله إن كان غائباً، ويمكن له في أول أمره أن يضع صورته أمامه وينظر إليها، حتى يتدرب شيئاً فشيئاً على تصوره جيداً في وهمه.

وقد يقرأ أحدهم، بأمر من الشيخ طبعاً، السلسلة المزعومة للمشيخة (الطريقة)، والتي يصلونها زوراً وبهتاناً بالرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم تأتي الأذكار والصلوات على النبي، ولكل مشيخة أذكارها وصلواتها التي قد تطول وقد تقصر، والاختلاف طبعاً هو بالألفاظ لا بالمعاني، فالمعاني واحدة أو متقاربة، وقد رأينا نماذج منها فيما مر من الفصول.

وبالنسبة للصوفية الجالسة، تنتهي هذه الجلسة بالفاتحة وإهدائها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن فضله إلى الشيخ ثم إلى الأولياء...إلخ. وقد يزيدون عليها شيئاً من القرآن الكريم.

ثم يمد الشيخ يده، ويبدأ الحاضرون بتقبيلها واحداً بعد واحد، ثم ينصرف من يريد منهم الانصراف، وأحياناً يقف الشيخ عندما يمد يده للتقبيل كرماً منه، ليسهل على المريدين تقبيل يده دون إلجائهم إلى الجلوس والسجود ثم النهوض.

أما بالنسبة للصوفية الراقصة، فهم، بعد الانتهاء من جلسة الذكر والصلوات يقفون بشكل حلقة غير تامة، أو أكثر من حلقة، حسب العدد، ويأخذون بالقفز وهم في مكانهم، يتوسطهم الشيخ أو نائبه، يحركهم بإشارات يده، وهم يرددون: الله حي، الله حي، الله حي، لكن لا بلفظها، بل بأنات تتفق مقاطعها مع مقاطعها، ويد كل واحد ممسكة بقوة بيد جاره، متشابكة أصابعهم، وهم في قفزهم يرتفعون معاً ويهبطون معاً، ويقف المسنون منهم في الأطراف، وقد لا يشبكون أيديهم بأيدي جيرانهم، وعادة يكون قفز هؤلاء بتحريك الرأس والجذع إلى الأمام والوراء، دون أن يرفعوا أرجلهم عن الأرض، وقد يرفعون أعقابهم فقط.

يرافق ذلك إنشاد من منشد حسن الصوت، ولا يوجد نشيد خاص لكل مشيخة، إن الأناشيد بشكل عام، مشتركة بين الجميع، إلا تلك التي تختص بتقديس شيوخ الطريقة.

وفي بعض الطرق، كالرفاعية، يرافق القفز الطبول الرجاجة، وفي بعضها، كالمولوية، يرافقها الموسيقى المنبعثة من النايات والصنوج والدفوف والمزاهر.

وبعد زمن قد يطول وقد يقصر، يعطي (البيشر)([61])، إشارة الانتهاء، وتختلف من طريقة إلى أخرى.

ثم يجلسون، ويقرءون الفاتحة مع الإهداء والدعاء، ثم يأتي شرب الشاي الحار، لأن شرب المشروبات الباردة ممنوع بعد الرقص.

وفي جميع المشيخات الصوفية، لا يجوز دخول الحضرة إلا بعد الطهارة والوضوء.

ثم يأتي دور تقبيل يد الشيخ حسب الشكل الذي مر آنفاً.

عادة، إذا كان الشيخ يريد من الحاضرين جميعهم الانصراف، يقف قبل الجميع قرب الباب، ويمد يده، فيشرع الحاضرون بالخروج مارين أمام الشيخ واحداً بعد واحد، يقبلون يده المقدسة، وقد يمرغون جباههم عليها. وقد يقبل بعضهم رجله، حيث يمدها الشيخ إلى الأمام تكرماً ومنة وعطفاً منه وتفضلاً، ليمكن المريد من تقبيلها وتمريغ وجهه وجبهته عليها.

وأكرر الإشارة إلى أن الرقص قد يكون إفرادياً، فيكون دون ترديد عبارة (الله حي) أو الآهات التي تتناغم معها، والراقص لا يردد أي شيء إلا إن كان الإنشاد الذي يرافقه يقتضي من الجميع أن يرددوا اللازمة معاً، فحينئذ قد يتفاعل الراقص معهم.

ونوع الرقص تابع لمهارة (الولي) الراقص، الذي يمكن أن يكون أي مريد أو أي شيخ، وأكثر ما تكون رقصاتهم من نوع (السماح) الذي هو رقص (المولوية) المشهور، وقد يرقصون (التانجو، أو السامبا، أو السلوفوكس)، ولا أدري إن كانت الرقصات العنيفة (بوغي بوغي، أو الروك أند رول، أو غيرها) قد دخلت حلقاتهم أم لا. مع العلم أن هذا ليس عاماً في كل المشيخات، بل قد يوجد في بعض الأحيان، وفي بعض الأماكن، وقد لا يوجد، ولا يختص بمشيخة دون أخرى.

أما رقصة (السماح) التي يرقصها المولوية (تقرباً إلى الله)، فهي أشهرمن أن تعرف، وكذلك الرقصات البكتاشية حول قبر وثنهم: (حاجي بكتاش)، وأشهر منها رقصات (الزار) في مصر والسودان والحبشة وغيرها.

لكن، على كل حال، يجب أن لا ننسى أبداً، أن هذه الرقصات هي منشطات على (السير إلى الله)!

* السماع:

ماذا يقولون في السماع؟ نكتفي ببعض الكلمات لبعض كبرائهم، و(كلهم في الهوى سوا).

يقول الغزالي:

...فإذاً تأثير السماع في القلب محسوس، ومَن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور، بل على جميع البهائم، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة، ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داوُد عليه السلام لاستماع صوته؟ ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب، لم يجز أن يُحكم فيه مطلقاً بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما في القلب، قال أبو سليمان: السماع لا يجعل في القلب ما ليس فيه، ولكن يحرك ما هو فيه. فالترنم بالكلمات المسجعة الموزونة معتاد في مواضع لأغراض مخصوصة، ترتبط بها آثار في القلب([62])....

ومما يورده الطوسي:..سمعت الطيالسي الرازي يقول: دخلت على إسرافيلَ أستاذِ ذِي النون رحمهما الله وهو جالس ينكت بإصبعه على الأرض ويترنم مع نفسه بشيء، فلما رآني قال: أتحسن تقول شيئاً؟ قلت: لا. قال: أنت بلا قلب. سمعتُ أبا الحسن علي بن محمد الصيرفي قال: سمعت رويماً، وقد سئل عن المشايخ الذين لقيهم: كيف كان يجدهم في وقت السماع؟ فقال: مثل قطيع الغنم إذا وقع في وسطه الذئاب([63]).

ويقول: سمعت أبا عمر وإسماعيل بن نُجيد، قال: سمعتُ أبا عثمان سعيد بن عثمان الرازي الواعظ، يقول: السماع على ثلاثة أوجه: فوَجه منه للمريدين والمبتدئين، يستدعون بذلك الأحوال الشريفة، ويُخشى عليهم في ذلك الفتنة والمراءاة.

والوجه الثاني: للصديقين يطلبون الزيادة في أحوالهم، ويسمعون من ذلك ما يوافق أحوالهم وأوقاتهم.

والوجه الثالث: لأهل الاستقامة من العارفين فهم لا يعترضون، ولا يتأبون على الله فيما يردُ على قلويهم في حين السماع، من الحركة والسكون. أو كما قال([64]).

ويقول: وقال بعضهم: أهل السماع في السماع على ثلاثة ضروب: فضرب منهم أبناء الحقائق، وهم الذي يرجعون في سماعهم إلى مخاطبة الحق لهم فيما يسمعون. وضرب منهم يرجعون فيما يسمعون إلى مخاطبة أحوالهم وأوقاتهم ومقاماتهم، وهم مرتبطون بالعلم ومطالبون بالصدق فيما يشيرون إليه من ذلك. والضرب الثالث هم الفقراء المجردون الذين قطعوا العلائق ولم تتلوث قلوبهم بمحبة الدنيا والاشتغال بالجمع والمنع، فهم يسمعون بطيبة قلوبهم، ويليق بهم السماع، وهم أقرب الناس إلى السلامة، وأسلمهم من الفتنة. والله أعلم([65]).

* السماع والتواجد أو الرقص:

رأينا وصف واصفهم عند السماع أنهم (مثل قطيع الغنم وقع في وسطه الذئاب)، وهذه أبيات لأبي مدين المغربي:

فقل للذي ينهى عن الوجد أهلَه               إذا لم تذق معنى شراب الهوى دَعْنا

إذا لم تذق ما ذاقت الناس في الهوى                  فبالله يا خالي الحشا لا تعنفنا

وسلم لنا فيما ادعينا فإننا             إذا غلبت أشواقنا ربما صحنا

وتهتز عند الاستماع حواسنا                    وإن لم نُطق حمل التوجد نوَّحنا

أما تنظر الطير المقفص يا فتى                 إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى

وفرج بالتغريد ما في فؤاده           فيفلق أرباب القلوب إذا غنى

ويهتز في الأقفاص من فرط وجده             فمضطربٌ الأعضاءُ في الحس والمعنى

كذلك أرواح المحبين يا فتى                  تهزهزها الأشواق للعالم الأسنى

أنلزمها بالصبر وهي مشوقة                    وكيف يطيق الصبر من شاهد المعنى

إذا اهتزت الأرواح شوقاً إلى اللقا             نَعَم ترقص الأشباح يا جاهل المعنى

فيا حادي العشاق قم واحد قائماً             وزمزم لنا باسم الحبيب وروِّحنا

وصن سرنا في سكرنا عن حسودنا            وإن نظرت عيناك شيئاً فسامحنا

فإنا إذا طبنا وطابت نفوسنا                    وخامرنا خمر الغرام تهتكنا

فلا تلم السكران في حال سكره              فقد رفع التكليف في سكرنا عنا

ويا عاذلي كرِّر عليَّ حديثهم                   فأعيننا منهم وأعينهم منا

أرجو من القارئ الكريم أن يتسلى بملحوظة العبارات الصوفية الواردة في كل بيت من أبيات القصيدة، وقد مرت كلها (أو أكثرها) في النصوص السابقة.

والسماع في أكثر الأحيان يكون مصحوباً بآلات تبدأ بالدف، ثم تأتي الصنوج والمزاهر والطبول الرجاجة والنايات والأبواق.

وقد يكون السماع بدون آلات.

وكلتا الحالتين قد توجدان في الطريقة الواحدة، حسب الشيخ والظرف.

وأقوالهم في السماع حسب هذا المعنى الذي رأيناه، تملأ مئات الصفحات وأكثر.

* قراءة الكتب الصوفية:

من المنشطات على الاجتهاد في الرياضة والذكر والإصرار على الوصول إلى الجذبة، قراءة الكتب الصوفية، وهي كلها مشحونة بتقديس التصوف وشيوخه، وبسرد مثير لخوارق العادة التي تحدث أمامهم، وبتلك العبارات والرموز والإشارات التي تتكلم عن أسرار غريبة وعجيبة، وغيرها من المثيرات المغريات.

كل هذا يبعث في القارئ شوقاً جامحاً لتلك الأسرار، واندفاعاً ملحاً للوصول إلى تلك الحالات، ويجعل خياله وآماله وأحلامه تهوم في تلك الأجواء الغنوصية التي يصورونها له إلهيةً وتحققاً بالألوهية، ويعبرون عنها بمثل قولهم: (لا أريد إلا وجه الله الكريم)، فيقبل على الرياضة الصوفية بإصرار، وعلى الغلو في الخضوع الشركي للشيخ، مما يساعده على الوصول إلى الجذبة والتحقق بالألوهية بسرعة أكثر.

وكل المراجع التي اعتمدناها لهذا الكتاب، هي كتبهم التي إليها يرجعون وعليها يعتمدون، وهي كتبهم التي يقدسون مؤلفوها هم عارفوهم وأشياخهم وأقطابهم وعلماؤهم.

وناسخوها هم من عارفيهم وأشياخهم وأقطابهم وعلمائهم ومريديهم.

والمشرفون على طباعتها لجان منتقاة من عارفيهم وأشياخهم وأقطابهم وعلمائهم.

والذين يقتنونها ويقرءونها هم من المنتسبين إلى طرقهم ومشيخاتهم، الذين لا يعصون الشيخ ما أمرهم، ويفعلون ما يأمرهم به.

والذين يقتنونها ويقرءونها أيضاً من عارفيهم وأشياخهم وأقطابهم وعلمائهم ومريديهم.

والذين يشترونها ليضعوها في مكتباتهم، أو في مكتبات المساجد أو المدارس، مراجع إليها يرجعون، هم من عارفيهم وأشياخهم وأقطابهم وعلمائهم وأسيادهم ومريديهم والسالكين على أيديهم.

لذلك أرجو من القارئ الكريم، أن يكون مطمئناً كل الاطمئنان، واثقاً كل الثقة، مؤمناً كل الإيمان، أن كل ما في كتبهم هو صحيح النسبة إليهم، يؤمنون به كلهم إيماناً كلياً كاملاً، ولا يوجد فيه أي دس صغير أو كبير. وإذا قال لك أحد منهم عن أمر من أمورهم أو قصة من قصصهم أو نص من نصوصهم: إنه مدسوس. فاعلم أنه يكذب عليك ويخادعك ويمكر بك ويكيد للإسلام، عن وعي أو عن غير وعي، ولكن عن إخلاص وإيمان.

وإذا قال أحد من غيرهم: إنه مدسوس. فاعلم أنه جاهل بالصوفية غافل عن واقع المسلمين.

إن البحر الميت لا يحتاج لأن يدس فيه الملح ليصبح ملحاً، وجهنم لا تحتاج أن يدس فيها الجمر لتغدو حامية.

 

 كشف بطائفة مما يسمونه الطرق الصوفية

 

إنها ليست طرقاً، وإنما هي مشيخات أخذت أسماءها من أسماء مشايخها، الذين كانوا وما زالوا يجمعون حولهم المريدين والسالكين، ليحصلوا بذلك على المدد، أي: الأموال التي تنهمر عليهم، إما من المريدين مباشرة، أو بسبب هؤلاء المريدين، هذا المدد مضافاً إلى اللذة التي يجدونها في الجذبة، مع هلوساتها التي توهمهم أنهم تحققوا بالألوهية، كل هذا يدفعهم إلى التفاني في خدمة إبليس للإبقاء على مسيرة الكهانة، وجر المسلمين إلى أشراكها، والفرق بين الطرق هو بكلمات الأذكار لا بمعانيها، وبأشكال الحضرة، أما الرياضة والوصول والكشف والحقيقة التي هي هي الصوفية، فواحدة.

وهذه طائفة مما يسر الله سبحانه الوقوف عليه من مشيخاتهم، أوردها بإيجاز:

المحاسبية: نسبة إلى الحارث بن أسد المحاسبي، بصري، مات في بغداد سنة 243 هـ.

الطيفورية (أو البسطامية): نسبة إلى أبي يزيد، طيفور بن عيسى البسطامي، اختلفت كتبهم (المؤيدة بالكشف!!) في تاريخ وفاته على قولين: سنة (234هـ)، وسنة (261هـ).

السقطية: نسبة إلى أبي الحسن، السري بن المغلس السقطي، خال الجنيد وأستاذه، وإليه ينتمي أكثر المشايخ في بغداد، مات فيها سنة 251 هـ.

القصارية: نسبة إلى أبي صالح، حمدون بن أحمد بن عمارة القصار، شيخ الملامتية في نيسابور، مات فيها عام 271 هـ.

الجنيدية: نسبة إلى الجنيد بن محمد (أبي القاسم) سيد الطائفة الصوفية- كما يلقبونه- أصله من نهاوند، ومولده ومنشؤه في العراق، ويقال له أيضاً: (القواريري)، مات في بغداد سنة (297هـ).

النورية: نسبة إلى أبي الحسين، أحمد بن محمد بن عبد الصمد النوري، بغوي الأصل، بغدادي المولد والمنشأ، مات سنة (295هـ).

السهلية: نسبة إلى سهل بن عبد الله التستري (أبي محمد) مات سنة 273 أو 283 هـ.

الخرازية: نسبة إلى أبي سعيد، أحمد بن عيسى الخراز، يقال له: لسان التصوف، بغدادي، مات سنة (277هـ).

الحكيمية: نسبة إلى أبي عبد الله، محمد بن علي الترمذي، الحكيم، مات سنة (296) أو (320هـ)، ولعلها الأرجح، وهو غير الترمذي المحدث صاحب السنن.

الحلاجية: نسبة إلى أبي المغيث، الحسين بن منصور الحلاج، فارسي، نشأ بواسط في العراق، مات قتلاً على الزندقة في بغداد سنة (309هـ). والصوفية كلهم يزكونه، وعلى رأسهم الغزالي في (إحيائه)، والقشيري في (رسالته)، والجيلاني في (فتحه وفتوحه)، وابن عربي في كتبه.

الخفيفية: نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن خفيف الضبي الشيرازي، مات سنة (371هـ) أو (391هـ).

السيارية: نسبة إلى أبي العباس، القاسم بن القاسم السياري من مرو، مات سنة (342هـ).

هذه الطرق، هي الأصول للطرق التي ظهرت فيما بعد، وقد اندثرت أسماؤها بعد أن انقسم كل منها إلى طرق كثيرة، بسبب المشايخ الذين ظهروا فيها، ثم أصل كل منهم طريقة باسمه على حساب اسم شيخه. والظن أن هناك طرقاً غير هذه، واكبتها أو تقدمتها، لم يتهيأ لي الوقوف على ما يشير إليها.

الجنبلانية: مؤسسها أبو محمد عبد الله بن محمد الجنبلاني، من بلدة جنبلا في فارس، مات فيها سنة 287 هـ واليها يعود الفضل في نشر المذهب النصيري.

الملامتية: تنسب أحياناً لحمدون القصار، لكن الذي بلورها وأعطاها شكلها النهائي هو تلميذه أبو محمد عبد الله بن منازل، مات بنيسابور سنة (329) أو (330هـ)، وسموا أنفسهم الملامتية، من (الملامة) لأنهم يشتغلون بملامة أنفسهم ويهملون الشريعة والأخلاق، وقد اضمحلت كطريقة مستقلة، لكنها استمرت تظهر في سلوك كثير من الأولياء في كل الطرق، يتظاهرون بالتهتك وإتيان البهائم وشرب الخمور وتناول الحشيش والسرقة وغير ذلك، ليستروا عن الناس ولايتهم وصديقيتهم!

الكازرونية: نسبة إلى أبي سعيد الكازروني، تتلمذ على ابن خفيف، وكان يلقب بـ(المرشد)، ولم أقف من ترجمته على أكثر من هذا، ويمكن أن تكون نسبة إلى أبي إسحاق، إبراهيم بن شهريار، مات في كازرون (في إيران) سنة 426 هـ، تخرج في الخفيفية بأبي محمد الحسين الأكار، ولعل هذا هو الأرجح، ويدعي أصحاب الطريقة الأويسية في إيران أن الكازروني من رجال سلسلتهم.

السالمية: تنسب إلى أبي عبد الله محمد بن أحمد بن سالم (الكبير) بصري، مات سنة (297هـ)، وإلى ابنه أبي الحسن أحمد بن محمد (ابن سالم الصغير) مات لسنة (360هـ)، وهو أستاذ أبي طالب المكي، والسالمية فرع من السهلية.

المسرية: نسبة إلى محمد بن عبد الله بن مسرة الجبلي، مات سنة (319هـ)، إسماعيلي، اتهم بالزندقة فخرج فاراً من الأندلس، ثم عاد إليها بعد مدة، وطريقته أم الطرق الصوفية في الأندلس، وهو غير ابن مسرة المحدث الحافظ الفقيه([66]).

الحلمانية: أسسها أبو حلمان الفارسي الحلبي في دمشق في القرن الرابع أو بعده بقليل، حاربها الأشاعرة؛ لأن أتباعها كانوا يصرحون بوحدة الوجود، فلم تعمر طويلاً. القشيرية: نسبة إلى أبي القاسم، عبد الكريم بن هوازن القشيري، مؤلف الرسالة القشيرية، مات في نيسابور سنة 465 هـ، ولعلها هي التي تسمى أيضاً: (الهوازنية).

الصديقية: ينسبونها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومؤسسها هو أبو بكر بن هوار من قبيلة الهواريين الكردية، سكن في البطائح في جنوب العراق، في قرية الحدادية، وهو من أهل القرن الخامس الهجري، أخذ طريقته عن أبي بكر الصديق في المنام حيث ألبسه ثوباً وطاقية ومر بيده على ناصيته، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر بك تَحْيا سننُ أهلِ الطريق من أمتي بالعراق بعد موتها...ثم استيقظ فوجد الثوب والطاقية بعينيهما عليه).

العريفية: نسبة إلى ابن العريف، أبي العباس، أحمد بن محمد بن موسى، من المرية في الأندلس، مات في صنهاجة في المغرب سنة (535هـ) أو سنة (536هـ)، وهو غير ابن العريف النحوي الشاعر، وبالعريفية تخرج ابن عربي.

القادرية: أسسها محيي الدين، أبو صالح، عبد القادر الجيلاني (سلطان الأولياء)، مات سنة (561هـ) في بغداد، وهو أعجمي من (جيلان)، لكنهم يجعلونه من سلالة فاطمة الزهراء، رضي الله عنها.

الرفاعية (أو البطائحية): أسسها أحمد بن الحسين الرفاعي، من بني رفاعة (قبيلة من العرب)، ولد وعاش في أم عبيدة، من أعمال البصرة في العراق، ومات فيها سنة 578 هـ، والبطائح اسم المنطقة، وفي كتبهم يجعلونه من سلالة فاطمة الزهراء رضي الله عنه، ويجعلون رفاعة أحد أجداده.

العدوية: أسسها عدي بن مسافر، تلميذ عبد القادر الجيلاني، توفي في قرية بالس في جبل لالش من جبال الهكارية قرب سنجار، شمالي العراق، سنة (555هـ) أو (557هـ) أو (585هـ)، وقد تطورت هذه الطريقة، وأتباعها اليوم هم (اليزيديون) عبدة الشيطان.

البيانية: نسبة إلى الشيخ أبي البيان: بنان أو بناء بن محمد بن محفوظ (السلمي) أو (القرشي) الحوراني ثم الدمشقي، مات سنة (551هـ).

المدينية: نسبة إلى أبي مدين، شعيب بن حسين (أو حسن) الأندلسي، استوطن بجاية في المغرب، مات وهو في طريقه للقتل على الزندقة سنة (590هـ) أو (593هـ) في تلمسان.

الرحيمية القنائية: نسبة إلى عبد الرحيم القنائي، مغربي أخذ عن أبي يعزى، ثم انتقل إلى مصر ومات فيها سنة (592هـ) في قنا. وقد وهم من قال: إنه لم يكن شيخ طريقة. ولكن يظهر أنها اندثرت.

القَلَنْدرية: نسبة إلى قلندر يوسف، أندلسي هاجر إلى المشرق، وقد ظهرت هذه الطريقة لأول مرة في دمشق سنة (610هـ)، وأتباعها يحلقون لحاهم، ولا يأخذون أنفسهم بشعائر الدين الإسلامي ولا بمقومات الأخلاق، مات قلندر يوسف في دمياط بمصر، والطريقة منتشرة في الهند، نشرها الشيخ قطب الدين العمري الجونبوري (أجهل عصره).

الكبروية: للشيخ نجم الدين أبي الجناب أحمد بن عمر بن محمد الخوارزمي الكبرى، أشهر صوفية الفرس، ولد وعاش في مدينة (خيوة) من أعمال خوارزم، مات فيها سنة 618 هـ أو قبلها بقليل، ويقال: إنه أخذ التصوف عن روز بهان([67]) في مصر، لكني أظنه تخرج في القادرية بأحد تلاميذ عبد القادر.

الجِشْتية: نسبة إلى قرية (جشت) في هراة، (في الشمال الغربي من أفغانستان)، مؤسسها أبو إسحاق الدمشقي الجشتي، وهو من أحياء العقود الأخيرة من القرن السادس الهجري، ولعله أدرك بعض الأولى من القرن السابع، وهي منتشرة في الهند، نشرها هناك خواجة معين الدين حسن السنجري الأجميري، مات في أجمير سنة 620 هـ أو 627هـ أو 634 هـ، وقبره محجة للمسلمين والهندوس على السواء، وقد كان لبعض أتباعها دور في نشر الإسلام بين الهندوس، ويقول مؤلف (الثقافة الإسلامية) في الهند: إنها أول طريقة أخذها أهل الهند.

اليونسية: نسبة إلى يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني البخاري، لا شيخ له، مات سنة 619 هـ في قرية (القنية) من أعمال (داريا) قرب دمشق، وهي غير اليونسية الفرقة الشيعية التي ذابت فيما بعد في المتاولة، وغير اليونسية، الفرقة المرجئية.

السهروردية: نسبة إلى شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي البغدادي، مات في بغداد سنة 632 هـ.

البابائية أو (البابية): نسبة إلى بابا إسحاق الكفرسوذي (من كفرسوت بنواحي حلب) التركماني، وقيل: نسبة إلى بابا إلياس، أو إليهما معاً باعتبارهما شريكين، وقد بدأت شهرة (بابا) في بلاد الروم (تركيا) سنة 628 هـ. قُتل بابا إسحاق سنة 638 هـ، قتله السلطان غياث الدين كيخسرو الثاني السلجوقي، وعفا عن بابا إلياس، وهي غير البابية التي أنجبت البهائية.

الأكبرية أو (العربية) أو (الحاتمية): نسبة إلى الشيخ الأكبر...ابن عربي الحاتمي، أندلسي من مرسية، طاف البلاد، واستقر في دمشق، ومات فيها سنة (638هـ)، تخرج بالعريفية، ويعتبره الإسماعيلية من أعلامهم.

الشوذية: مؤسسها أبو عبد الله الشوذي الإشبيلي المعروف بـ(الحلوي) توفي على الأرجح مع مطلع القرن السابع الهجري في تلمسان، وفي الشوذية تخرج ابن سبعين.

  • الاربعاء PM 08:25
    2021-08-11
  • 1482
Powered by: GateGold