المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413992
يتصفح الموقع حاليا : 288

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1628686324484.jpg

العارف

كلنا نسمع بالعارف بالله فلان، ونقرأ في الكتب عن العارف بالله علان، كما نرى مكتوباً على أبواب بيوت الأوثان المنتشرة في بلاد المسلمين طولاً وعرضاً: هذا مقام العارف بالله....

وليس لهذه العبارة (العارف بالله) مدلول واضح في أذهان كثيرين! وإنما تبعث في النفوس صوراً شاحبة لنوع ما من التزكية على الله تزكية عريضة وغامضة مبهمة، هذا هو الشعور الذي تبعثه هذه العبارة في الأكثرية من الناس، الذين يعطونها تفاسير انطباعية غير موضوعية، تتناسب مع هوى المفسر ونفسيته ومستواه العلمي.

فما هو معنى هذا المصطلح؟ وماذا يريدون به وله وفيه ومنه وعليه وإليه وعنه؟

الجواب، بكل بساطة، العارف بالله هو من عرف أن الله هو الكون!! وأن كل ما نرى ونسمع ونحس، بما في ذلك أنا وأنت وهو وهي وهم وهن ونحن وأنتم وأنتن - ونسيت أن أذكر (أنتما) - وبما في ذلك الحيوانات والحشرات والنباتات والجمادات، والأرض والشمس والقمر والنجوم والكواكب...كل هؤلاء هم أجزاء من الله! مع العلم أن بعض القوم لا يجيزون أن يقال: (أجزاء من الله) لأن الله كل لا يتجزأ، إنه وحدة غير قابلة للتعدد ولا للتجزؤ، ((سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)) [المؤمنون:91]، فالعارف، وبكل بساطة، هو من توصل إلى معرفة وحدة الوجود بالذوق والمشاهدة. قال الجنيد: المعرفة وجود جهلك عند قيام علمه. قيل له: زدنا، قال: هو العارف وهو المعروف([1]).

وسئل الجنيد أيضاً عن العارف، فقال: لون الماء لون الإناء([2]).

وسئل الحسين بن علي بن يزدانيار: متى يكون العارف بمشهد الحق؟

قال: إذا بدا الشاهد وفني الشواهد، وذهب الحواس، واضمحل الإحساس([3]). معنى: بدا الشاهد: يعني شاهد الحق. وفناء الشواهد: بسقوط رؤية الخلق عنك. وذهاب الحواس: هو معنى قوله: {فبي ينطق وبي يبصر}([4]).

وسئل ذو النون عن نهاية العارف فقال: إذا كان كما كان حيث كان قبل أن يكون([5]).

وسئل الشبلي: متى يكون العارف بمشهد من الحق؟

قال: إذا بدا الشاهد، وفنيت الشواهد، وذهبت الحواس، واضمحل الإحساس بالسوى، ولم يبق إلا شعور الذات بالذات([6]).

ويقول الشبلي كذلك: المعرفة أولها الله وآخرها ما لا نهاية له([7]).

وسئل أبو يزيد البسطامي عن صفة العارف؟ فقال: إن لون الماء من لون إنائه([8]).

- يلاحظ أن قول ابن يزدانيار هو نفس قول الشبلي إلا قليلاً، وقول الشبلي أكمل منه وأوضح. كما أن قول البسطامي هو نفس قول الجنيد؛ ولا غرو! فمن البدهي أن يأخذوا عن بعضهم الأقوال والأفعال. وأظن أن معاني أقوالهم صارت الآن مفهومة تماماً للقارئ.

ويقول الغزالي:

...فمن عرف الحق رآه فى كل شيء، إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله، فهو الكل على التحقيق..([9]). ثم يلوك الغزالي بعد هذا الكلام كلاماً يقصد به التمويه على غير أهل الحقيقة.

ويقول: ...العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة، اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق، ولكن منهم من كان له هذه الحالة عرفاناً علمياً، ومنهم من صار له ذوقاً وحالاً، وانتفتْ منهم الكثرةْ بالكلية، واستغرقوا بالفردانية المحضة، فلم يبق عندهم إلا الله، فسكروا سكراً وقع دونه سلطان عقولهم! فقال بعضهم: أنا الحق، وقال الآخر: سبحاني ما أعظم شاني، وقال الآخر: ما في الجبة إلا الله([10]). ويقول: ...من هنا ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم، فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى([11])...ويقول: ...قال العارفون: ليس خوفنا من نار جهنم، ولا رجاؤنا للحور العين، وإنما مطالبنا اللقاء، ومهربنا من الحجاب فقط([12])...

- بتأمل النص الأخير، نلاحظ أن الغزالي يريد أن يقول: ...ولا رجاؤنا للجنة؛ لكنها كانت ستكون شديدة الوقع على سمع المسلم وعلى عقيدته، (فشلبنها) لتكون أخف وقعاً وقال: ولا رجاؤنا للحور العين، والمعنى واحد طبعاً.

ويقول ابن عربي (الشيخ الأكبر):

...فإن العارف مَنْ يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء([13])...

..والعارف المكمَّل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه، ولذلك سموه كلهم إلهاً مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو فلك([14]).

...فمن رأى الحق فيه بعينه (أي: بعين الحق) فذلك العارف، ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه فذلك غير العارف، ومن لم ير الحق منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل([15])....(أرجو التمعن جيداً).

ويقول شهاب الدين السهروردي البغدادي:

...فلما صح تعرفه صح تصرفه، وهذا أعز في الأحوال من الكبريت الأحمر([16])...

ويقول عبد الكريم القشيري:

...وعند هؤلاء القوم، المعرفة صفة مَن عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته...

ثم تنقى عن أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم طال بالباب وقوفه، ودام بالقلب اعتكافه، فحظي من الله تعالى بجميل إقباله...وانقطع عن هواجس نفسه، ولم يُصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره، فإذا صار من الخلق أجنبياً، ومن آفات نفسه برياً...وصار محدثاً من قبل الحق سبحانه، بتعريف أسراره فيما يجريه من تصاريف أقداره، يسمى عند ذلك: عارفاً، وتسمى حالته: معرفة([17]).

ومما أورده اليافعي للقشيري:

...لا يُسمى العبد في هذه الطريقة عارفاً حتى يحصل بينه وبين الله تعالى أحوال زائدة على العلم، من فنون الكشوفات وصنوف التعريفات.. والعارف يبدو في قلبه في ابتداء التعريف لوائح، ثم لوامع، ثم كشوفات وبصائر وطوالع([18])...

- أقول: القشيري هنا حذر يستعمل الرمز، لكن عن مدى غير بعيد.

ويورد القشيري أيضاً في الرسالة:

قال ذو النون المصري: معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى! يحتملك ويحلم عنك تخلقاً بأخلاق الله عز وجل([19])...

ومما يورده:

...قال الحسين بن منصور (أي: الحلاج): إذا بلغ العبد إلى مقام المعرفة، أوحى الله تعالى إليه بخواطره وحرس سره أن يسنح فيه غير خاطر الحق([20]).

ويقول ابن عطاء الله السكندري:

...والمعرفة رؤية لا علم، وعين لا خبر، ومشاهدة لا وصف، وكشف لا حجاب، ما هُمْ هُمْ، ولا هُمْ بإياهم، كما قال تعالى: ((إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)) [الزخرف:59]. {فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً}([21])....

- يظهر من القراءة الساذجة لهذا النص أن فيه تنافراً بين جمله! لكن هذا يزول إذا تذكرنا أنهم يعنون بعبارة: (أنعمنا عليه)، أي: بالولاية والقرب. وعبارة: (كنت له سمعاً وبصراً)، أي: جعلته يستشعر ويتحقق أنه أنا. وأن (هو) من الأسماء الحسنى.

ويقول أيضاً:

إن ما سوى الله تعالى عند أهل المعرفة، لا يوصف بوجود ولا فقد، إذ لا يوجد معه غيره، لثبوت أحديته، ولا فقد لغيره؛ لأنه لا يفقد إلا ما وجد، ولو انهتك حجاب الوهم، لوقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطى وجود الأكوان([22])....

ويقول لسان الدين بن الخطيب:

ومحصول السعادة عندهم أن ينكشف الغطاء، وتظهر للعارف إنِّيَّة الحق، وأنه عين إنية كل شيء، ويعقل إنية ذاته وما هي عليه، ومن عرف نفسه عرف ربه([23])...

- كلمة (إنية) منحوتة من قول القائل: إني إني..

ويقول ابن خلدون:

...ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام، إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة، التي هي الغاية المطلوبة للسعادة([24]).

وقال داوُد الكبير بن ماخلا (أو باخلا):

...ما لاح كوكبُ كونٍ إلا عند غيبة شمسِ المعرفة، ومتى طلعت شمس المعرفة من مشارق التوحيد أفلت كواكب الآثار، وغابت نجوم الأغيار([25])...

...أولاً: تسمع، ثانياً: تفهم، ثالثاً: تعلم، رابعاً: تشهد، خامساً: تعرف..([26]).

ويقول ابن عجيبة:

...وأما العارفون فقد ظفروا بنفوسهم ووصلوا إلى شهود معبودهم، فهم يستأنسون بكل شيء، لمعرفتهم في كل شيء، يأخذون النصيب من كل شيء، ويفهمون عن الله في كل شيء، فإذا مُدِحوا انبسطوا بالله، لشهودهم المدح من الله وإلى الله، ولا شيء في الكون سواه([27]).

...فإذا تطهر من الأغيار ملئ بالمعارف والأسرار، فالمعارف هي العلوم، والأسرار هي الأذواق، فمَنْ رآها وذاقها يقال له: عارف، ومن لم يصل لهذا المقام وكان من أهل الدليل يقال له: عالم([28])...

...وحقيقة العارف هو الذي فني عن نفسه وبقي بربه، وكَمُل غناه في قلبه؛ لا يحجبه جمعه عن فرقه، ولا فرقه عن جمعه، يعطي كل ذي حق حقه، ويوفي كل ذي قسط قسطه([29])...

ويقول عبد العزيز الدباغ([30]) (قطب الواصلين):

...إن الله تعالى لا يحب عبداً حتى يعرفه به، وبالمعرفة يطَّلع على أسراره تعالى، فيقع له الجذب إلى الله تعالى([31]).

ويقول مصطفى العروسي:

...العارف: هو مَن أشهده الله تعالى ذاته وصفاته وأفعاله، إذ المعرفة حالة تحدث عن شهود، والعالم من أطلعه الله على ذلك لا عن شهود، بل عن يقين مستند إلى دليل وبرهان، والعلماء بهذا المعنى هم العامة في اصطلاح الصوفية([32])...

ويقول محمود أبو الفيض المنوفي:

وحاصل المعرفة: أن الله هو النبع السامي لكل شيء، وليس شيء من الأشياء جميعها هو الله([33]).

- يقول: وليس شيء من الأشياء جميعها هو الله؛ لأن الله في عقيدتهم هو جميع الأشياء لا شيء واحد منها فقط. وهو يستعمل هنا لفظ الجلالة (الله) بمعناه الكلي. بينما ذاك الذي قال: (أنا الله) استعمل لفظ الجلالة (الله) من باب إطلاق اسم الكل على الجزء. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وسبحان الله عما يصفون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ولو أراد باحث أن يجمع أقوالهم في العارف ومعنى المعرفة لاحتاج إلى مئات الصفحات. وفي القدر الذي مر كفاية لسد الطرق أمام مراوغاتهم، التي تخلو من الحياء والمنطق والعقل السليم، بل وتخلو من الخوف من الله!

وزيادة في التوضيح، نذكر نصاً لابن عطاء الله في حِكَمه (بل نقمه) مع شرح عليه لابن عجيبة، يقول ابن عطاء الله:

...إن كانت عين القلب تنظر أن الله واحد في منته، فالشريعة تقتضي أن لا بد من شكر خليقته، وأن الناس في ذلك على أقسام ثلاثة:

غافلٌ منهمك في غفلته، قويت دائرة حسه، وانطمست حضرة قدسه، فنظر الإحسان من المخلوقين، ولم يشهده من رب العالمين، أما اعتقاداً فشرك جلي، وأما استناداً فشرك خفي.

وصاحب حقيقة غاب عن الخلق بشهود الملك الحق، وفني عن الأسباب بشهود مسبب الأسباب، فهذا عبد مواجه بالحقيقة، ظاهر عليه سناها، سالك للطريقة، قد استولى على مداها، غير أنه غريق الأنوار، مطموس الآثار، قد غلب سكره على صحوه، وجمعه على فرقه، وفناؤه على بقائه، وغيبته على حضوره.

وأكمل منه عبد شرب فازداد صحواً، وغاب فازداد حضوراً، فلا جمعه يحجبه عن فرقه، ولا فرقه يحجبه عن جمعه، ولا فناؤه يصده عن بقائه، ولا بقاؤه يصده عن فنائه، يُعطي كل ذي قسط قسطه، ويوفي كل ذي حق حقه([34]).

ومن شرح ابن عجيبة لهذه الحِكَم الضلالية:

...عينُ القلب هي البصيرة، ومن شأنها أن لا ترى إلا المعاني دون المحسوسات، كما أن البصر لا يرى إلا المحسوسات دون المعاني، والحُكْمُ للغالب منهما، فمن غلب بصره على بصيرته لا يرى إلا الحس، وهو الغافل؛ ومن غلبت بصيرته على بصره لا يرى إلا المعاني، وهي معاني التوحيد وأسرار التفريد؛ فالبصيرة لا ترى إلا نور الحق دون ظلمة الخلق، لكن لا بد من إثبات الحكمة، وقد تقدم قوله: الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فلا بد من إثباتها قياماً بالحكمة ونفيها قياماً بالوحدة...(وأن الناس في ذلك على أقسام ثلاثة)، إما واقف مع الحس ناظر للأسباب، أو غائب عن الحس وعن رؤية الأسباب، أو جامع بينهما؛ أو تقول: إما عامة أو خاصة أو خاصة الخاصة...الحقيقة هي شهود نور الحق في مظاهر الخلق، أو شهود نور الربوبية في قوالب العبودية، فصاحب الحقيقة هو الذي يغيب عن الخلق بشهود نور الملك الحق، ويفنى عن الأسباب بشهود مسبب الأسباب، فإن كان مع مراعاة الحكمة فهو كامل، وإن كان من غير مراعاة الحكمة، فإن كان غائباً مصطلماً، فهو معذور...(ظاهر عليه سناها)، أي: نورها، فلما دهته الأنوار سكر وأنكر الحكمة؛ فهو باعتبار ما قبله، كامل لاستغراقه في بحر الوحدة، وهو معذور في نفيه الحكمة لغلبة وجده وظهور سكره، وباعتبار ما بعده ناقص لقصور نفعه على نفسه([35])...

- بين هنا حالة الفناء، بأنها تعتبر كمالاً بالنسبة لما قبلها الذي هو حالة الفرق، أي: التفريق بين الخالق والمخلوق، وهي نقص بالنسبة لما بعدها، وهو الحال الذي يسمونه: الفرق الثاني: أي الاعتقاد بالوحدة وبالحكمة، والحكمة عندهم هي وجود التعينات التي يجب أن نسميها (خلقاً) أو (عبودية) مراعاة للحكمة!

- وواضح أن هذا الكلام هو اتهام لله سبحانه وشريعته بالكذب والمتاقاة.

ويقول ابن عجيبة متمماً كلامه:

...فمن الناس من يكون صدره ضيقاً فلا يحتمل تلك الأنوار، ولا يطيق مشاهدة تلك الأسرار، فيغيب في شهود الوحدة، وينكر الحكمة، ومن الناس من يكون واسع الصدر قوي النور، فإذا أشرقت عليه أنوار الحقيقة لم تغلبه عن القيام بالحكمة، وصار برزخاً بين حقيقة وشريعة، هكذا يكون سيره بين فناء وبقاء، حتى يتمكن فيهما ويعتدل أمره بينهما، وهذه حالة الأقوياء...([36]).

- إذن فالكامل هو بين فناء (أي: في الوحدة)، وبين بقاء (أي: يحس بالحكمة)، وهي أن في الوجود تعينات يجب أن يقول: إنها خلق، ويجب أن يرى نفسه ويراها عباداً لله، لتتم الحكمة. فهو غارق في الوحدة ومتظاهر بالفرق. وهذا هو العارف.

- حتى يقول:

...الجمع رؤية الحق بلا خلق، والفرق رؤية الخلق بلا حق، فإن كان بعد الجمع فهو رؤية الخلق والحق، والحاصل أن أهل الجمع لا يشهدون إلا الحق، وأهل الفرق لا يشهدون إلا الخلق، ويستدلون على الحق، وأهل الفرق في الجمع يشهدون الخلق والحق، أعني يشهدون الواسطة والموسوط من غير فرق بينهما([37])...

- في هذا النص شرح لمصطلحات (الجمع، والفرق، والفرق في الجمع).

فـ(الجمع) هو رؤية الحق بلا خلق، وأهله هم الذين يقولون: (أنا الله، وسبحاني...).

و(الفرق) هو رؤية الخلق بلا حق، أي: أنهم ليسوا هم الحق، وهؤلاء هم المحجوبون.

وأهل الفرق في الجمع هم الذين يعرفون أنهم هم الله، وأن الكون هو الله، وأن الواسطة هي نفس الموسوط لا فرق بينهما، ولكنهم مع ذلك يعترفون بالعبودية، ويقولون: إنهم خلق وعبيد، وهؤلاء هم العارفون.

ومثله قول سعيد حوى:

نحن نعلم أن هناك حالات للسالك يحس فيها بأحدية الذات الإلهية، ويستشعر فيها اسم الله الصمد، وهي حالة يستشعر فيها السالك فناء كل شيء، ولكن هذا الشعور لا بد أن يرافقه الاعتقاد بأن الله خالق، وأن هناك مخلوقاً، وأن الخالق غير المخلوق([38]).

- هذا قول واضح في تعريف الصوفي الكامل، الذي يسمونه: العارف، ويسمونه أسماء كثيرة، منها: الولي، والصديق، والمقرب...وغيرها وغيرها مما مر معنا، ومما لم يمر، وعلى رأسها (الإنسان الكامل) أي: الواصل إلى مقام الفرق الثاني.

ويجب أن نلاحظ الاستدراك الذي يستدركه على توضيحه للحقيقة، التي عبَّر عنها بقوله: يحس أحدية الذات، يستشعر اسم الله الصمد، يستشعر فناء كل شيء، ثم استدرك ليلتزم بالقاعدة التي يتواصون بها، فقال: ولكن...يجب أن يرافقه الاعتقاد بأن الله خالق وأن هناك مخلوقاً، وأن الخالق غير المخلوق، هذا الاستدراك صريح (بشيء من التأمل) في أن تلك الحالات التي يحس بها أحدية الذات الإلهية ينعدم فيها فكرة الخالق والمخلوق، فالكل واحد، وهذا ما يعبرون عنه بأحدية الذات، واستشعار اسم الله الصمد، وفناء كل شيء وقد مرت كل هذه التعابير؛ كما أن هذا الاستدراك ما هو إلا التزام بالقاعدة القائلة: (اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً)، مع تطوير لها.

إذ معنى قوله هنا هو: إن وحدة الوجود هي واقع الوجود، وإن الواصل يحس بها ويذوقها ويستشعرها وبالتالي سيعتقد بها، لكن يجب عليه أن يعتقد بالنقيضين معاً! يجب عليه أن يعتقد أن الخالق هو المخلوق، وأن يعتقد معها أن الخالق غير المخلوق! انظر إليه يقول:.. ولكن هذا الشعور لا بد أن يرافقه.

الشعور بماذا؟ بأحدية الذات الإلهية، باستشعار الصمدانية، باستشعار فناء كل شيء، أي: باستشعار وحدة الوجود.

وبدهي أن الإنسان إذا استشعر شيئاً وذاقه وأحس به فسيعتقد به اعتقاداً جازماً.

ومع ذلك، فالشيخ يطلب من السالك أن يعتقد مع هذا الاعتقاد (أن يرافقه) نقيضه، أي أن يعتقد النقيضين معاً! وهذا منطق جديد وتطوير جريء للعقيدة الصوفية وعبارتها.

* النتيجة:

من كل ما تقدم، ومما يمكن أن يملأ مئات الصفحات مما لم يتقدم، يظهر بوضوح تام أن معنى المعرفة عند القوم: هو معرفة وحدة الوجود، وأن العارف عندهم: هو الذي يعرف أن الكون هو الله ذوقاً واستشعاراً، أي يذوق الألوهية ويستشعرها ويحس بها ويتحقق بها.

* خلاصة كل ما تقدم:

- الصوفية مذهب واحد فقط، فقط، فقط.

- هذا المذهب هو سر يجب كتمانه، وهم يقولون بقتل من يبوح به لغير أهله.

- هذا السر هو (وحدة الوجود)، أي: أن الله هو الكون، والخالق هو عين ما نتوهم أنه المخلوق.

- لهم أسلوب خاص للتعبير عن هذا السر بين بعضهم، بحيث لا يفهمه إلا من كان منهم، ويسمون هذا الأسلوب: (العبارة)، وهي تشمل الإشارة والرمز واللغز، أي إنهم يعبرون في كلامهم عن وحدة الوجود بالإشارة والرمز واللغز، من أجل التعمية على غيرهم. وكلما كانت العبارة أكثر إيغالاً في الإشارة والرمز واللغز، كلما كانوا أكثر تقديساً لها وأكثر إعجاباً بصاحبها، ونجد قمة العبارة عند شهاب الدين السهروردي البغدادي، ثم عند أستاذه عبد القادر الجيلاني والجنيد وأفراد غيرهم.

- كلهم يؤمنون بوحدة الوجود، لكنهم يكتمونها، حسب القاعدة، ويتظاهرون أنهم يؤمنون بالمخلوقية والعبودية، ويسمون ذلك: (الفرق الثاني) أو (الفرق في الجمع) أو (صحو الجمع) أو (الصحو بعد المحو)...كما يطلقون على وحدة الوجود اسماً آخر هو: (وحدة الشهود)، وكثيراً ما يستعملون الاسم الثاني: (وحدة الشهود) للمغالطة، ويتقيدون بالشريعة من أجل ستر حقيقتهم، ويعتقدون أن الله سبحانه هو الذي يريد هذه المخادعة التي يسمونها: (الحكمة).

- كلهم يؤمنون بالحقيقة المحمدية، التي تعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو المجلِّي الأعظم للذات الإلهية، وأن كل التعينات (أي: الأشياء) تصدر عنه ثم تعود إليه، يقول شاعرهم:

فإن من جودك الدنيا وضرتها                  ومن علومك علم اللوح والقلم

- للتصوف غاية واحدة فقط، ولا يوجد في التصوف أية غاية أخرى غيرها على الإطلاق، وهذه الغاية هي الوصول إلى الجذبة التي يذوقون بها وحدة الوجود، أي يذوقون الألوهية.

وحسبه من ذلك المقصود            إشراق نور وحدة الوجود

وما يقولونه: من أن الغاية هي الزهد والتوكل والورع وأخواتهن، ما هو إلا أسلوب دعائي لا أكثر ولا أقل، يخادعون به الله والذين آمنوا. ولنتذكر قول الجيلاني: الزهد عمل ساعة، والورع عمل ساعتين، والمعرفة عمل الأبد.

- والعارف: هو من وصل إلى معرفة وحدة الوجود، يذوق الألوهية واستشعارها والتحقق بها ومشاهدتها، لا بالدليل والبرهان.

وحجة الكلام كلام حجة الإسلام، الإمام الهمام، بل أكثر من خمسين ألف ألف إمام، بدر التمام، أبي حامد، بل أبي المحامد الغزالي، يقول:

...حتى إن مشايخ الصوفية صرحوا ولم يتحاشوا، وقالوا: من يعبد الله لطلب الجنة أو للحذر من النار فهو لئيم، وإنما مطلب القاصدين إلى الله أمر أشرف من هذا، ومن رأى مشايخهم وبحث عن معتقداتهم وتصفح كتب المصنفين منهم، فهم هذا الاعتقاد من مجاري أحوالهم على القطع...([39]).

هذه هي الصوفية، ومئات الصفحات السابقة هي براهين من أقوالهم على ذلك، وكل من يقول خلاف ذلك، إن كان منهم فهو مراوغ مخادع، وإن كان من غيرهم فهو جاهل بالصوفية، جاهل بالصوفية.

ونسأل الذين يزكون بعض المتصوفة مثل الجنيد وغيره، نسألهم: هل كان الجنيد صوفياً أم لا؟ إن كان صوفياً فهذه هي الصوفية ولا شيء غيرها، وإن تجرأ متجرئ ونفى عنه الصوفية! نقول له: إن كل الذين كتبوا عن الجنيد كتبوا عنه على أنه صوفي. ويتوصلون إلى هذه الغاية بالطريقة.

فما هي الطريقة؟

لا وصول للحقيقة إلا بعد سلوك الطريقة (ابن عجيبة)

 

 

 

([1]) التعرف، (ص:66).

([2]) التعرف، (ص:138).

([3]) التعرف، (ص:136).

([4]) من شرح الكلاباذي في التعرف، (ص:136).

([5]) التعرف، (ص:137).

([6]) معالم الطريق إلى الله، (ص:113).

([7]) طبقات الشعراني: (1/104).

([8]) معالم الطريق إلى الله، (ص:113).

([9]) الإحياء: (1/254).

([10]) مشكاة الأنوار، (ص:122).

([11]) مشكاة الأنوار، (ص:55).

([12]) الإحياء (4/22).

([13]) الفصوص، (فص حكمة إمامية في كلمة هارونية)، (ص:192).

([14]) نفسه ونفس الفص، (ص:195).

([15]) الفصوص، (فص حكمة أحدية في كلمة هودية)، (ص:113).

([16]) عوارف المعارف في هامش الإحياء: (2/150).

([17]) الرسالة القشيرية، (ص:141).

([18]) نشر المحاسن الغالية، (ص:69).

([19]) الرسالة القشيرية، (ص:142).

([20]) الرسالة القشيرية، (ص:142).

([21]) القصد المجرد، (ص:86).

([22]) كشف الأسرار لتنوير الأفكار، (ص:139).

([23]) روضة التعريف بالحب الشريف، (ص:611).

([24]) مقدمة ابن خلدون، (علم التصوف).

([25]) طبقات الشعراني: (1/191).

([26]) طبقات الشعراني: (1/194).

([27]) إيقاظ الهمم، (ص:215).

([28]) الفتوحات الإلهية، (ص:412).

([29]) الفتوحات الإلهية، (ص:413).

([30]) الشيخ عبد العزيز بن مسعود بن أحمد الدباغ، مغربي من فاس، ولد سنة (1095هـ)، وتوفي سنة (1132هـ).

([31]) الإبريز، (ص:217).

([32]) حاشية العروسي: (1/8).

([33]) معالم الطريق إلى الله، (ص:115).

([34]) إيقاظ الهمم، (ص:385، وما بعدها)، والكتاب شروح وتعليقات لابن عجيبة على الحكم العطائية.

([35]) إيقاظ الهمم، (ص:385- 387).

([36]) إيقاظ الهمم، (ص:388).

([37]) إيقاظ الهمم، (ص:388).

([38]) تربيتنا الروحية، (ص:79). والكتاب هو اقتباسات وتفريعات وزيادات على كتابي ابن عجيبة: (إيقاظ الهمم، والفتوحات الإلهية).

([39]) ميزان العمل، (ص:16).

  • الاربعاء PM 03:52
    2021-08-11
  • 1972
Powered by: GateGold