المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413934
يتصفح الموقع حاليا : 313

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1628684644504.jpg

وحدة الوجود عقيدة كل الصوفية

إن كنت لم تقطع بـ(لا) عنق السِّوى                  في قصر (إلا الله) لستَ بواصل

عن أحمد الفاروقي السرهندي.

قبل البدء بقراءة هذا الفصل يجب استيعاب الفصلين السابقين، وهضمهما وتمثلهما، ليصبح القارىء ممتلكاً ناصية العبارة الصوفية، يفهمها كما يفهمها أصحابها وواضعوها، لا كما يحلو له أن يتوهم، أو كما يوهمونه.

إن الصوفيين كلهم، من أولهم إلى آخرهم، (إلا المبتدئين)، يؤمنون بوحدة الوجود، وما مضى، ومئات النصوص التالية هي أدلة وبراهين.

يقول أبو بكر الكلاباذي في التعرف:

قال الجنيد: المعرفة وُجودُ جهلك عند قيام علمه. قيل له: زدنا. قال: هو العارف وهو المعروف.

يفسر أبو بكر الكلاباذي هذا الكلام فيقول: (معناه: أنك جاهل به من حيث أنت، وإنما عرفته من حيث هو)([1]).

- قوله: (العارف هو المعروف)، واضح تماماً، فالعاوف (وهو مخلوق) هو نفس المعروف (الذي هو الله).

- وقول الكلاباذي: (أنك جاهل به من حيث أنت..)، فضمير المخاطب (أنت) يرمز به إلى (الفرق)، فهو يريد أن يقول: (إنك جاهل به) (أي: بالحق) من حيث تعتقد أنك (أنت) ولست (هو)، وإنما عرفته من حيث أنك (هو).

وبيت لابن الفارض قد يساعد على توضيح المعنى، يقول:

فقد رُفِعت تاء المخاطب بيننا               وفي رفعها عن فرقة الفرق رِفعتي

- هذا هو نفس المعنى الذي أراده الجنيد بقوله: (المعرفة وجود جهلك..).

وقال أيضاً (أي: الجنيد):

حقيقة التوكل: أن يكون لله تعالى كما لم يكن، فيكون الله له كما لم يزل([2]).

- قوله: أن يكون (أي: المتوكل الذي هو خلق)، كما لم يكن (أي: كأنه غير موجود كما كان سابقاً)، وهذا ما يسمونه (الفناء عن الخلق)، فيكون الله له كما لم يزل (أي: هو الموجود الوحيد ولا موجود غيره).

ويقول سهل بن عبد الله التّستري:

يا مسكين! كان ولم تكن، ويكون ولا تكون. فلما كنت اليوم صرت تقول: أنا وأنا!

كن الآن كما لم تكن، فإنه اليوم كما كان([3])...

- قول سهل هذا، هو نفس قول الجنيد، لكنه أكثر وضوحاً منه، وهو في الواقع لا يريد من جملته كلها إِلا قوله: (كان ولم تكن، وإنه اليوم كما كان)، وليس في باقي كلامه معنى يزيد على هذا.

- في هذه الأقوال وضوح قد يغيب عن بعض القراء، لكن بالرجوع إلى ما سبق من نصوص، وبملاحقة ما يأتي، يتبين المعنى تماماً؟ إنه «لا موجود إلا الله»، و«الكون هو الله».

ويقول أبو نصر الطوسي([4]) في (اللمع):

وبلغني عن أبي حمزة (الصوفي)([5]) أنه دخل دار حارث المحاسبي، وكان لحارث دار حسنة وثياب نظاف، وفي داره شاة مُرغية، فصاحت الشاة مرغية، فشهق أبو حمزة شهقة، وقال: (لبيك يا سيدي)، قال: فغضب الحارث وعمد إلى سكين، فقال: إن لم تتب من هذا الذي أنت فيه أذبحك. قال: فقال له أبو حمزة: أنت إذا لم تحسن هذا الذي أنت فيه فلِمَ لا تأكل النخالة بالرماد..

يعلق الطوسي على هذا الكلام فيقول: يريد (أبو حمزة) بذلك أن إنكارك عليّ يشبه أحوال المريدين والمبتدئين([6]).

- أي إن الشاة هي الله (أو جزء منه) وإن صوتها صوته (!) تعالى الله علواً كبيراً.

وتكلم أبو حمزة في جامع طرسوس فقبلوه، فبينا هو ذات يوم يتكلم، إذ صاح غراب على سطح الجامع، فزعق أبو حمزة، وقال: لبيك لبيك، فنسبوه إلى الزندقة، وقالوا: حُلولي زنديق، وبيع فرسه بالمناداة على باب الجامع: (هذا فرس الزنديق)([7]).

وأبو الحسين النوري([8]): سمع أذان المؤذن فقال: طعنة وشم الموت، وسمع نباح الكلاب، فقال: لبيك وسعديك([9]).

- وهذا يعني أن الله هو كل ما نرى (وما لا نرى) بما في ذلك (؟!) تعالى الله.

وقد مر معنا قول الشبلي، وهو يجيب الجنيد: (أنا أرى وأنا أسمع، فهل في الدارين غيري).

وهذا قول بعيد الإشارة بعض الشيء، على أن الشبلي يكون أكثر وضوحاً عندما يقول لبعض زواره عند خروجهم من عنده: أنا معكم حيثما كنتم، أنتم في رعايتي وكلاءتي([10]).

يقول الطوسي شارحاً: (أراد بقوله ذلك: إن الله تعالى معكم حيث ما كنتم وهو يرعاكم..).

ويقول الشبلي أيضاً:

كنت أنا والحسين بن منصور شيئاً واحداً، إلا أنه أظهر وكتمت([11]).

- وسنرى بعد قليل ما هي عقيدة الحلاج هذه التي كتمها الشبلي وأظهرها الحلاج فقُتل.

وعندما صُلب الحلاج ليُقتل، أرسل الشبلي امرأة متصوفة وأمرها أن تقول للحلاج: إن الله ائتمنك على سرٍّ من أسراره فأذعته؛ فأذاقك طعم الحديد([12]).

- ونحن نعرف الآن ما هو هذا السر، ومع ذلك فسنراه من أقوال الحلاج الصريحة.

ويقول إبراهيم بن محمد النصراباذي([13]):

إن كان بعد النبيين والصديقين موحدٌ فهو الحلاج([14]).

- نفهم مما سبق أن الشبلي والنصراباذي يوافقان الحلاج في عقيدته كل الموافقة، فعقيدته التي سنراها هي عقيدتهما. ويقول أبو سعيد الخزاز([15]): معنى الجمع: أنه أوجدهم نفسه في أنفسهم، بل أعدمهم وجود وجودهم لأنفسهم عند وجودهم له([16]).

يفسر الكلاباذي هذا الكلام بقوله: معناه قوله: (كنت له سمعاً وبصراً ويداً، فبي يسمع وبي يبصر..) الخبر.

- كلام الخراز أوضح من تفسير الكلاباذي، وفي الحقيقة، إن الكلاباذي لا يريد تفسير كلام الخراز، بل يريد دعمه بالحديث الشريف، الذي أورده مشوهاً، مع العلم أن هذا المعنى الذي يعتمده الصوفية لهذا الحديث هو معنى فاسد، وسيأتي تفصيله، وقوله: (أوجدهم نفسه في أنفسهم) واضح جدًّا.

* وقال فارس([17]):

سألت أبا عبد الله المعروف بشكثل([18]): (ما الذي منعك عن الكلام؟)، فقال: يا هذا، الكون توهمٌ في الحقيقة، ولا تصح العبارة عما لا حقيقة له، والحق تقصُرُ عنه الأقوالُ دونه! فما وجه الكلام؟ وتركني ومر([19]).

- إنه يصرح بكل وضوح أن الكون توهم لا حقيقة له باعتباره كوناً (أو خلقاً) وليس إلا الحق الذي تقصر عنه الأقوال دونه.

* ملحوظة:

كان يكفيه أن يقول: تقصر عنه الأقوال. أو: تقصر الأقوال دونه، ولكنه استعمل الكلمتين (عنه) و(دونه) للتعمية بالتعقيد.

ويقول أبو يزيد البسطامي:

غبتُ في الجبروت، وخضت بحار الملكوت، وحُجُبَ اللاهوت، حتى وصلتُ إلى العرش، فإذا هو خالٍ، فألقيت نفسي عليه، وقلت: سيدي أين أطلبك؟ فكشف، فرأيت أني أنا، فأنا أنا، أوّلي فيما أطلب، وأنا لا غيري فيما أسير([20]).

وقال عندما تجلى له هذا النور (أي: نور وحدة الوجود):

(سبحاني ما أعظم شأني)([21])!!

ويقول الحلاج:

وأي الأرض تخلو منك             حتى تعالوْا يطلبونك في السماء

تراهم ينظرون إِليك جهراً             وهم لا يبصرون من العماء([22])

- يريد بقوله: (ينظرون إليك جهراً)، أي: أن كل ما يرونه هو أنت.

ويقول:

يا عينَ عينِ وجودي يا مدى هممي           يا منطقي وعباراتي وإيمائي

يا كلَّ كلي ويا سمعي ويا بصري              يا جملتي وتباعيضي وأجزائي([23])

ويقول:

سبحان من أظهر ناسوته              سرّ سنا لاهوته الثاقب

ثم بدا في خلقه ظاهراً                في صورة الآكل والشارب

حتى لقد عاينه خلقُه                  كلحظة الحاجب بالحاجب([24])

ويقول:

رأيتُ ربي بعين قلب                  فقلتُ من أنت قال أنت

فليس للأين منك أينٌ                 وليس أينٌ بحيث أنت

في محواسمي ورسم جسمي                   سألتُ عني فقلتُ: أنت

أشار سري إليك حتى                 فنيت عني ودمتَ أنت([25])

ويقول:

عقد الخلائقُ في الِإله عقائداً                  وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه([26])

ويقول:

يا سر سر يدق حتى                            يحل عن وصف كل حي

وظاهراً باطناً تبدّى                              من كل شيء لكل شيء

إن اعتذاري إليك جهلٌ               وعظم شك وفرط عيْ

يا جملة الكل لست غيري                     فما اعتذاري إذاً إليْ([27])

ويقول: فالحقيقة، والحقيقهّ خليقة، دع الخليقة لتكون أنت هو، أو هو أنت من حيث الحقيقة([28]).

ويقول: وما كان في أهل السماء موحد مثل إبليس، حيث إبليس تغيّر عليه العين، وهجر الألحاظ في السير، وعبد المعبود على التجريد([29]).

- وكتب كتاباً هذه نسخته:

بسم الله الرحمن الرحيم، المتجلي عن كل شيء لمن يشاء. السلام عليك يا ولدي، ستر الله عنك ظاهر الشريعة، وكشف لك حقيقة الكفر، فإن ظاهر الشريعة كفر خفي، وحقيقة الكفر معرفة جليلة.

أما بعد، حمداً لله الذي يتجلى على رأس إبرة لمن يشاء، ويستتر في السماوات والأرضين عمن يشاء، حتى يشهد هذا بأن لا هو، ويشهد ذلك بأن لا غيره، فلا الشاهد على نفيه مردود، ولا الشاهد بإثباته محمود، والمقصود من هذا الكتاب أني أوصيك أن لا تغتر بالله ولا تيئس منه. وإياك والتوحيد، والسلام([30]).

ويقول:..إن بعض الناس يشهدون عليّ بالكفر، وبعضهم يشهدون لي بالولاية، والذين يشهدون علي بالكفر أحب إلي وإلى الله من الذين يقرون لي بالولاية.. لأن الذين يشهدون لي بالولاية من حسن ظنهم بي، والذين يشهدون علي بالكفر تعصباً لدينهم، ومن تعصب لدينه أحبُّ إلي ممن أحسن الظن بأحد([31])...

وقال: ...يا إِله الآلهة، ويا رب الأرباب، ويا من لا تأخذه سنة ولا نوم، رُدّ إلي نفسي لئلا يفتتن بي عبادك، يا من هو أنا وأنا هو، لا فرق بين أنّيتي وهويتك إلا الحدث والقدم([32])...

- هذه عقيدة الحلاج، عقيدة وحدة الوجود (الكون هو الله)، أو هو جزء من الله (!) سبحانك اللهم عما يصفون.

وسنرى أن هذا القسم المتعين (أي: المتشكل في أعيان) من اللاهوت، يسمى بلسان العارفين (الملكوت)، ويسميه المحجوبون أمثالنا (الملك)، أما القسم اللطيف من اللاهوت، الذي لم يتعين، فهو (الجبروت). وناقل الكفر ليس بكافر.

بمعرفتنا عقيدة الحلاج نعرف عقائد كثيرين من كبار الطائفة الذين يصرحون بولايته وصدِّيقيته. ومرت معنا أمثلة منها.

وقد درج كثير من كتابهم على ألا يذكروا اسمه صراحة، لئلا يفضحوا عقيدتهم، وإنما يقولون: (أحد الكبراء) أو (أحد كبار العارفين) أو ما شابه ذلك، وكمثل نورده: الكلاباذي في (التعرف) الذي يستعمل عبارة (بعض الكبار) بدلاً من اسمه الصريح، وقبل الانتقال إلى غير الحلاج، نورد له أمثله، تجري عباراتها على ألسنتهم وفي كتبهم.

يقول:

كن لي كما كنت لي                 في حين لم أكنِ([33])

إنه يسأل الله مقام (الفناء) أو (الجمع).

ويقول:

وأقبل الوجد يُفني الكلَّ من صفتي                    وأقبل الحق يُخفيني وأُبديه([34])

من هذا البيت نفهم معنى (الوجد) ومعنى (فناء الصفات).

ويقول: صفات البشرية لسان الحجة على ثبوت صفات الصمد، وصفات الصمدية لسان الِإشارة إلى فناء صفات البشرية، وهما طريقان إلى معرفة الأصل الذي هو قوام التوحيد([35]).

ويقول: نزول الجمع ورطة وغبطة، وحلول الفرق فكاك وهلاك([36]).

- مصطلحاً (الجمع والفرق) معروفان الآن، وأترك للقارىء أن يفسر لِمَ كان الجمع ورطة والفرق فكاكها؟ ولمَ كان الجمع غبطة والفرق هلاكاً؟

وللتوضيح: الجمع كفر بالنسبة للشريعة، والفرق كفر بالنسبة لعقيدة الصوفية.

* فقرة معترضة:

مع أني أتدرج بإيراد النصوص حسب التسلسل التاريخي، بدون دقة، مع ذلك أرى من المفيد إيراد نص كان مكانه بعد صفحات، أورده لأن فيه توضيحاً لبعض المصطلحات الصوفية الأساسية.

يقول شيخ مشايخ الِإسلام، مظهر الفيض القدوسي، الأستاذ السيد مصطفى العروسي:

...والعلم بكيفيته (أي: الفناء، أو الجمع، أوما يرادفه من ألفاظ) مختص بالله تعالى لا يمكن أن يطلع عليه إلا من يشاء من عباده الكمّل الذين حصل لهم هذا المشهد الشريف والتجلي الذاتي المفني للأعيان بالأصالة، كما قال تعالى: ((فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا...)) [الأعراف:143]، فإذا علمتَ ما قدمتُه لك علمتَ معنى الاتحاد الذي اشتهر، وعلمت اتحاد كل اسم من الأسماء مع مظهره وصورته، أو اسم مع اسم آخر، أو مظهر مع مظهر آخر؛ وشهودُك اتحادَ قطرات الأمطار بعد تعددها، واتحادَ الأنوار مع تكثرها، كالنور الحاصل من الشمس والكواكب على وجه الأرض، أو من السرج المتعددة في بيت واحد، وتبدُّل صور عالم الكون والفساد على هيولى واحدة، دليل واضح على حقيقة ما قلنا، هذا مع أن الجسم كثيف، فما ظنك بالخبير اللطيف الظاهر في كل المراتب، الخسيس منها والشريف.

والحاصلُ أن الاتحاد والحلول بين الشيئين المتغايرين من كل الوجوه شرك عند أهل الله؛ وذلك لفناء الأغيار عندهم بسطوع نور الواحد القهار، بل المراد أن الحق تعالى باعتبار أنه مصدر الكائنات جميعها، علويها وسفليها، مركبات أو بسائط أو مجردات، جواهر وأعراضاً، كليات أم جزئيات، واعتبار انفراده بالوجود الذاتي، وأن جميع الموجودات مستمدة من وجوده، فهو هي وهي هو، على معنى: لا هو إلا هو، كان الله ولا شيء معه ويبقى الله ولا شيء معه، وإنما الكائنات تعينات له مخصوصة في أزمنة مخصوصة، محكوم عليها بأحكام مخصوصة، ثم إليه يرجع الأمر كما بدا، لِحِكَم عليَّة، وأسرارٍ إِلهية، عَلِمها مَن علمها وجهلها من جهلها، بتدبيره تعالى وتقديره، لا يُسأل عما يفعل، فافهم ولا تك أسير النقل والتقليد([37])...

- ورد في هذا النص عدة عبارات، نراها مبثوثة في كتبهم، وهم يستعملونها دائماً مع غيرها طبعاً وقد شرحت هذه العبارات بوضوح، لذلك كان من المفيد جدّاً إعادة قراءة هذا النص مراراً حتى تنطبع عباراته في الذهن، مما يجعل النصوص الصوفية واضحة المدلول.

وأهمها العبارات التالية:

- التجلي الذاتي المفني للأعيان - الظاهر في كل المراتب - فناء الأغيار - سطوع نور الواحد القهار - انفراده بالوجود الذاتي - فهو هي وهي هو - لا هو إلا هو - كان الله ولا شيء معه ويبقى الله ولا شيء معه - الكائنات تعينات - إليه يرجع الأمر كما بدأ.

وهي كلها تعني (وحدة الوجود) أو تشير إليها وإلى سطوعها.

لكن يجب أن ننتبه بشكل خاص إلى قوله: (.. ولا تك أسير النقل والتقليد)! ما معناها؟

- وقال أبو الحسين النوري:

كان الله ولا أين، والمخلوقات في عدم، فكان حيث هو، وهو الآن حيث كان، إذ لا أين ولا مكان([38])...

وقال أيضاً:

عزّ ظاهر، وملك قاهر، ومخلوقات ظاهرة به وصادرة عنه، لا هي متصلة به ولا منفصلة عنه([39]).

إنه في قوله: (لا هي متَّصلة به) ينفي الاتصال؛ لأن كلمة (الاتصال وما اشتق منها) تعني وجود اثنين متصلين ببعضهما، لذلك فهو ينفي الاتصال نفياً لتوهم الاثنينية، ثم ينفي الانفصال لِإثبات الوحدة.

- وقال أبو سليمان الداراني:

...إنك لا تكون مخلصاً في عملك حتى لا ترى في الدارين أحداً غير ربك([40]).

- ويقول أبو طالب المكي([41]) (مفسراً):

...يعني أنه رجع إلى العبد في أوله، أي: يكون كما كان قبل أن يكون لقوله: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)) [الأعراف:172]، إذ كان ذلك قبل أن يكون، وهل أجابت إلا الأرواح الطاهرة المقدسة؟ بإقامة القدرة النافذة والمشيئة السابقة؟ فيكون العبد كما كان، وأيًّا كان، ولماذا كان، وكيف كان. وهذا غايته تحقيق توحيد الموحِّد للواحد، وهو أن يذهب كما لو لم يكن، ويتلاشى وتنمحي أوصافه وتبقى أوصاف الحق كما لم يزل، على معنى قوله: صرت سمعه وبصره ويده ورجله وقلبه يسمع به ويبصربه ويأخذ به ويعقل به([42]).

وقال أيضاً:

ظاهر التوحيد هو توحيد الله فى كل شيء، وتوحيده بكل شيء، ومشاهدة إيجاده قبل كل شيء، ولا نهاية لعلم التوحيد([43])...

- بشيء من التمعن ينكشف المعنى واضحاً في النصين.

ويقول أبو حيان التوحيدي في رسالة (كط):

...بل أنت الموجود في كل شيء، لا كما يوجد ما دام بك وافتقر إليك، ولكن كما توجد أنت وليس واجدُك سواك؛ واجدٌ لك وواجدٌ بك وواجد منك؛ فأما واجد بك فلأنه وجد عينه بك، وأما واجد لك فلأنه وجد وجده من أجلك، وأما واجد منك فلأنه وَجَدَ ما به وَجَدَ ما وجَدَ مِن جهتك، فأنت المحيط وأنت المشتمِل، إلا أن إحاطتك بالقدرة، واشتمالك بالمعونة، وكل ما لخلقك بالمجاز؛ فَلَكَ الحقيقة، وكل ما سواك بالأثر؛ فَلَكَ بالعين، والإشارة التي هي إليك هي منك، والذاكر الذي هُو لك هُو بك، والوجد الذي هو منك هو بك، والوجد الذي هو بك هو منك، ولم تختلف هذه الحروف إلا لحاجة الخلق إليها في التكور، وإلا فالمعنى واحد مؤتلف متفق، لا يرنّق عليه لبس، ولا يمربه جن ولا إنس([44])...

ويقول أيضاً، رسالة (يه):

أشرقت الأكوان بالأشباح، وشرفت الأعيان بالأرواح، وتجلت أسرار الحق فيها بين الافتراح والارتياح، وتناجت النفوس على بُعد الديار بما تتخافت فيه الأفواه على قرب المزار، ورُدَّت على الناظرين خوائن الأبصار، والتقت في الغيب سوانح الِإقرار والِإذكار...فعندها لَحَظَ اللاحظون بعين الصدق، ولفظ اللافظون بلسان الحق شنآن الحال، واضمحلال المقال، والتواء المنال، فناجوا في السرائر، وباحوا بالضمائر، ورفعوا رقوم البواطن والظواهر، وافترقوا عن الألفة، وتكثروا بالوحدة، وخيموا بين سواحل التجني وبلاغ التمني([45])... ومنها:

...فالأسماء مطروحة بالتوقيف، والمعاني مأخوذة بالتعريف، الأسماء مختلفة بكَدَر الخلق، والمعاني مؤتلفة بصفو الحق الأسماء مجموعة بلسان التفرقة، والمعاني مسموعة بلسان الجمع. الأسماء متنافية باللغات، والمعاني متصافية بحكم الصفات. أما تعلم أن الأنس بالمعاني على إيثار الحق، مقدم على الاستيحاش في الأسماء لتنافيها على إيثار الخلق. الأسماء محدودهً بالأفهام، والمعاني معدودة بالإلهام. فإياك أن تلحظ المعاني بعين الاسم فتعطب، وإياك أن تعطي الاسم ذات المعنى فتتعب، وإياك أن تعطي المعنى رسم الاسم فتكذب، وإياك أن تفرق بينهما فتتهم، وإياك أن تجمع بينهما فتُوهّم، ها هنا زلقت أقدام المتكلمين، وانتكست أعلام المتحذلقين؛ لأنهم (سعوا في آياته معاجزين)، ونظروا في الآية مستهزئين، وركنوا إلى عقولهم مفتخرين متعززين، فنكصوا على أعقابهم خائبين خاسرين([46]).

ويقول: رسالة (لد):

...وتحصّن من نفسك في نفسك، وتبرأ من جنسك في بني جنسك، واشهد الغيب وغب عن الشهادة، واحفظها عند بروز الحق الذي إذا بدا لك أباد، وإذا أحب أعاد وأفاد؛ وإياك وملابسة الكون فإنها تؤديك إلى الفرقة والبين، وعليك بالتجريد والتفريد، وعليك بهجران كل شيطان مريد([47]).

ويقول: رسالة (لح هـ):

تباركت خطراتي في تعالائي                  فلا إله إذا فكرت إلائي([48])

- نلاحظ أن أسلوب الوحيدي فيه جزالة ألفاظ وغموض يشعر أن هناك سرّاً تحاك حوله هذه الألفاظ، والهلع من ظهور السر متماثل بين السطور، وهو يستعمل عبارات قليلاً ما يستعملها غيره، ولكنها مستعملة على كل حال. وبشيء من التأني في القراءة والتكرار تتوضح الأسرار، وكلمة (تعالائي) من فعل الثناء (تعالى).

ويقول القشيري:

...فإذا فني عن توهم الآثارمن الأغيار، بقي بصفات الحق، ومن استولى عليه سلطان الحقيقة حتى لم يشهد من الأغيار ولا أثراً ولا رسماً ولا طللاً، يقال: إنه فني عن الخلق وبقي بالحق([49]).

ويقول:..ومن محاه الحق سبحانه عن مشاهدته (أي: مشاهدته لنفسه وأفعاله)([50])، أثبته بحق حقه، ومن محاه الحق عن إثباته به، ردّه إلى شهود الأغيار وأثبته في أودية التفرقة([51])..

* فقرة معترضة:

مر معنا ويمر هنا وفي كتبهم مصطلح (المشاهدة) والفعل منه (شاهد، يشاهد)، فماذا يعنون به؟

يقول القشيري: (...وتوهم قوم أن المشاهدة تشير إلى طرف من التفرقة؛ لأن باب المفاعلة في العربية بين اثنين، وهذا وهم من صاحبه، فإن في ظهور الحق سبحانه ثبور الخلق، وباب المفاعلة جملتُها لا تقضي مشاركة الاثنين، نحو: سافر، وطارق النعل، وأمثاله([52])...

- يفهمنا القشيري أن المشاهدة لا تكون بأن تشاهد الله سبحانه خارجاً عنك، فتكونا اثنين، لا، بل تشاهده في ذاتك، تشاهده أنك هو، إذن، منذ الآن، يجب أن نفهم مصطلح (المشاهدة ومشتقاتها) في كلام القوم حسب هذا المعنى. (مشاهدة الله تعني الاستشعار بالألوهية أو ذوق معنى الألوهية).

ويقول أبو حامد الغزالي (حجة الإسلام، الِإمام):

...فمن عرف الحق رآه في كل شيء، إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله، فهو الكل على التحقيق، ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه عرفه، ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، لا أنه سيبطل في ثاني الحال، بل هو الآن باطل([53])...

- يبين لنا الغزالي هنا كيف يفهمون الجملة (كل شيء ما خلا الله باطل)، والآية ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88]، ومنذ الآن يجب أن نعرف كيف يفهمونها، ولا نحاول التأويل واللف والدوران مثلهم.

ويقول: ...واعلم أن الطواف الشريف هو طواف القلب بحضرة الربوبية، وأن البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة التي لا تشاهد بالبصر، وهي عالم الملكوت([54])...

- يبين الغزالي هنا أن حضرة الربوبية هي عالم الملكوت! فما هو عالم الملكوت؟

يشرحه ابن عجيبة بقوله: (مراتب الوجود هي العوالم الثلاثة: الملك والملكوت والجبروت، وذلك أن الوجود له ثلاثة اعتبارات: وجود أصلي أزلي، وهو الذي لم يدخل عالم التكوين، ويسمى عالم الأمر، وعالم الغيب، وهو المسمى بعالم الجبروت. ووجود فرعي، وهو النور المتدفق من بحر الجبروت، وهو كل ما دخل عالم التكوين لطيفاً كان أو كثيفاً، ويسمى عالم الشهادة، وعالم الخلق، وهو المسمى بعالم الملكوت([55])..

- إذن فحضرة الربويية يعني بها (الكون)، وسنرى هذا في نص آت، وقول ابن عجيبة: (وهو النور المتدفق من بحر الجبروت)، هو نفس نظرية (الفيض) اليونانية، والعريقة في تاريخ الوثنيات.

ويقول الغزالي أيضاً:

...نعلم أن للقلب ميلاً إلى صفات بهيمية.. وإلى صفات سبعية.. وإلى صفات شيطانية.. وإلى صفات ربوبية.. فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع؟! ومعنى الربوبية التوحد بالكمال، والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال؛ فصار الكمال من صفات الإلهية، فصار محبوباً بالطبع للإنسان. والكمال بالتفرد بالوجود، فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة؛ فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها، فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصاً في حقها إذ لم تكن منفردة بكمال معنى الشمسية.

والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه، فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته، بل هو قائم به...وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصاناً في الشمس بل هو من جملة كمالها، وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى.. فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة.. فإذاً معنى الربوبية التفرد بالوجود، وهو الكمال...ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية: (ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله: ((أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)) [النازعات:24]، ولكنه ليس يجد له مجالاً، وهو كما قال([56])...).

- هذا النص مشحون، لكن أهم ما فيه هو:

1- استعمال الغزالي أساليب علم الكلام لإثبات أمر غيبي تتعذر معرفته إلا عن طريق الوحي.

2- قوله: (المنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه) يعني: أن الله جلت قدرته، لم يخلق شيئاً من العدم، إذ لو خلق شيئاً من العدم لكان هذا الشيء غير الله، ولكان مع الله موجود آخر غيره، لكن الحجة يقرر أن ليس مع الله موجود سواه، وهذه هي: (وحدة الوجود).

3- إعطاؤه لكلمة «الربوبية» معنى لم يرد عن خير البشر، ولا عن خير القرون، ولا عن تابيعهم.

4- إيراده القول الذي يعزوه إلى بعض مشايخ الصوفية والذي يفيد:

أ- إن فرعون رب في الباطن، وقد صرح بهذه الربوبية. لننتبه إلى كلمة (صرّح).

ب- هذه الربوبية هي في باطن كل إنسان، أي: أن كل إنسان هو رب في الباطن، لكنه لا يجد مجالاً لاستشعار هذه الربوبية أو للتصريح بها مثل فرعون.

5- تقرير الغزالي صحة هذا القول لقوله: (وهو كما قال).

ويقول الغزالي أيضاً:

...ومن ارتفع الحجاب بينه وبين الله تجلى صورة الملك والملكوت في قلبه، فيرى جنةً عرض بعضها السماوات والأرض، أما جملتها فأكثر سعة من السماوات والأرض؛ لأن السماوات والأرض عبارة عن عالم الملك والشهادة.. وأما عالم الملكوت، وهي الأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار، المخصوصة بإدراك البصائر، فلا نهاية له. نعم، الذي يلوح للقلب منه مقدار متناهٍ.. وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذ دفعة واحدة تسمى (الحضرة الربوبية) ؛ لأن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات، إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله؟ ومملكتُه وعبيدُه من أفعاله([57])...

- نحن الآن نعرف مما سبق ومما سيأتي من نصوص، أنه وأنهم يعنون بقوله وقولهم: (أفعال الله) أي: حركاته (سبحانه عما يصفون).

ويقول: ...والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار. والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين، وتسمِّيه الصوفية (الفناء في التوحيد)...والثالث: موحد، بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلًا واحداً إذا انكشف له الحق كما هو عليه، ولا يرى فاعلًا بالحقيقة إلا واحداً وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه، لا أنه كلَّف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة، فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين.. والرابع: موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد. وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد([58])...

ويقول: ...فإن قلت: كيف يتصوّر أن لا يشاهد إلا واحداً، وهو يشاهد السماء والأرض، وسائر الأجسام المحسوسة، وهي كثيرة؟ فكيف يكون الكثير واحداً؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات.. وهو أن الشيء قد يكون كثيراً بنوع مشاهدةٍ واعتبار، ويكون واحداً بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار، وهذا كما أن الِإنسان كثير إن التفتّ إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبارٍ آخر ومشاهدةٍ أخرى واحدٌ، إذ نقول: إنه إنسان واحد.. والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرقٌ بواحد ليس فيه تفريق، وكأنه في عين (الجمع) ؛ والملتفتُ إلى الكثرة في (تفرقة) فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحدٍ من الاعتبارات واحدٌ، وباعتبارات أخر سواه كثيرٌ...وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق، تارة تدوم، وتارة تطرأ كالبرق الخاطف، وهو الأكثر، والدوام نادر عزيز([59])...

* ملحوظة: أرجو الانتباه إلى كلمتى: (الجمع والتفرقة) اللتين يشرح معناهما بوضوح.

ويقول: ...فكذلك عقولنا ضعيفة، وجمال الحضوة الِإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة، وفي غاية الاستغراق والشمول، حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السماوات والأرض، فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان من احتجب بإشراق نوره، واختفى عن البصائر والأبصار بظهوره، ولا يُتعجب من اختفاء ذلك بسبب الظهور، فإن الأشياء تُستبان بأضدادها، وما عمّ وجوده حتى إنه لا ضدّ له، عسر إدراكه([60])...

ويقول بعد أن يذكر- إشارةً ورمزاً- صفة الذي لا يرى إلا الله: ...فهذا الذي يقال فيه: (إنه فني في التوحيد وفني عن نفسه)، وإليه الِإشارة بقول من قال: (كنا بنا ففنينا عنا فبقينا بلا نحن...ولذلك قيل:

لقد ظهرتَ فلا تخفى على أَحدٍ             إلا على أكمهٍ لا يعرف القمرا

لكن بطنتَ بما أظهرتَ محتجباً              فكيف يُعرف من بالعرف قد سُترا([61])

ويقول: (حقيقة الحقائق):..من هنا ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم، فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى، وأن ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88] لا أنه يصير هالكاً في وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلاً وأبداً، لا يُتصور إلا كذلك.. فإذن لا موجود إلا الله تعالى ووجهه، فإذن كل شيء هالك إلا وجهه أزلاً وأبداً...ولم يفهموا من معنى قوله: (الله أكبر) أنه أكبر من غيره، حاشا لله، إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه، بل ليس لغيره رتبة المعية، بل رتبة التبعية([62])...ويقول: (إشارة) العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة، اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق([63]). - نلاحظ أن أسلوب الغزالي فيه وضوح وصراحة، ونرى أنه عندما يريد التعمية، لا تساعده العبارة الإشارية، لذلك فهو يضيف جملاً موهمة، فمثلاً يقول: [إذ ليس في الوجود معه غيره...]، ثم يقول بعدها مباشرة: [بل ليس لغيره رتبة المعية...]!

فكيف ينفي وجود الغير في الجملة الأولى ثم يثبته في الثانية؟! في الواقع الغزالي غير متناقض مع نفسه وعقيدته في هذا النص أو غيره، فهذا أسلوبه في العبارة الملغزة الذي يحاول به مثل غيره من الصوفية التعمية على من هم غير أهله، وقد نجح في هذا الأسلوب.

والنصان الأخيران يوضحان معنى قولهم (أو قول بعضهم) أحياناً: (وحدة الشهود)، حيث نفهم منهما أن عبارة (وحدة الشهود) تعني بكل بساطة (مشاهدة وحدة الوجود). ويقول: ...لكن ينبغي أن يُعلم أن الحضرة الإلهية محيطة بكل ما في الوجود، إذ ليس في الوجود إلا الله وأفعاله، فالكل من الحضرة الإلهية، كما أن جميع أرباب الولايات في المعسكر -حتى الحراس- هم من المعسكر...فاعلم أن كل ما في الوجود داخل في الحضرة الإلهية([64])...(أفعال الله تعني حركاته سبحانه وتعالى).

ويقول في تائيته التي مطلعها:

بنور تجلي وجه قدسك دهشتي               وفيك على أن لاخفىً بك حيرتي

منها:

وهل أنا إلا أنت ذاتاً ووحدةً                   وهل أنت إلا نفس عين هويتي([65])

ومنها:

فكيف بشكري كل عضو وقوة               جعلت لنفعي عند تأليف بنيتي

وشكر التي قد حُجبت بي وإنها               لأظهرُ لي من نور شمس تبدت([66])

ومنها:

ملأت جهاتي الست منك فأنت لي           محيط وأيضاً أنت مركز نقطتي

فصرتُ إذا وجهت وجهي مصلياً               فرايض أوقاتي فنفسي كعبتي

فصار صيامي لي ونسكي وطاعتي             ونحري وتعريفي وحجي وعمرتي

وحولي طوافي واجبٌ وخلاله                  استلامي لركني من مناسك حجتي

وذكري وتسبيحي وحمدي وقربتي             لنفسي وتقديسي وصفو سريرتي

ولو همَّ مني خاطر بالتفاتة            لما كان لي إلا إليّ تلفُّتي

ولو لم أُؤدِّ الفرض مني إليَّ لم                 يصح بوجه لي ولم تَبرَ ذمتي([67])

ويقول: ...فإن الفاعل بالحقيقة واحد، فهو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد، ولم نقدر أن نذكر من مجاز التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد...وكل ذلك ينطوي تحت قول: (لا إله إلا الله)، وما أخف مؤنته على اللسان، وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب، وما أعز حقيقته ولبّه عند العلماء الراسخين في العلم، فكيف عند غيرهم.. فإن قلت: فكيف الجمع بين التوحيد والشرع؟ ومعنى التوحيد أن لا فاعل إلا الله تعالى، ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد، فإن كان العبد فاعلاً فكيف يكون الله تعالى فاعلًا؟ وإن كان الله تعالى فاعلًا فكيف يكون العبد فاعلًا؟...ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد، ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه! فقال تعالى في الموت: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ)) [السجدة:11]، ثم قال عز وجل: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) [الزمر:42]، وقال تعالى: ((أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ)) [الواقعة:63]، أضاف إلينا، ثم قال تعالى: ((أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا..)) [عبس:25-28]، وقال عز وجل: ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)) [مريم:17] وكان النافخُ جبريل عليه السلام، وكما قال تعالى: ((قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ)) [التوبة:14] فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه! والتعذيبُ هو عين القتل! بل صرح وقال تعالى: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)) [الأنفال:17]، وقال تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17] وهو جمع بين النفي والِإثبات ظاهراً، ولكن معناه: وما رميت، بالمعنى الذي يكون الرب به رامياً، إذ رميت، بالمعنى الذي يكون العبد به رامياً؛ إذ هما معنيان مختلفان. وقال الله تعالى: ((الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)) [العلق:4-5]، ثم قال: ((الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ)) [الرحمن:2] وقال: ((عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)) [الرحمن:1-4] وقال: ((إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)) [القيامة:19] وقال: ((أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)) [الواقعة:58-59]([68])...اهـ.

- أمثال هذا النص تتكرر كثيراً في كتب الغزالي، وخاصة في كتاب (إحياء علوم الدين).

ولقد رأينا في النصوص السابقة تصريح الغزالي بوحدة الوجود التي يسميها (التوحيد)، وهذا النص واضح، لكن بالنسبة لمن قرأ نصوص الغزالي السابقة واستوعبها معنى وألفاظاً وجملًا.

أما من يقرأ هذا النص لأول مرة، وهو خالي الفكر، فقد لا يستطيع ملحوظة فكرة (وحدة الوجود) الماثلة في كل جملة من جمله؛ لذلك كان من اللازم لمن يريد فهمه أن يرجع إلى نصوص الغزالي السابقة، خاصة، وإلى نصوص الصوفية عامة، ثم يعود إلى هذا النص ليرى (وحدة الوجود) واضحة كل الوضوح في ثنايا الكلام.

ولهذا النص فائدة كبيرة، لمعرفة كيفية فهمهم للنصوص القرآنية ولنصوص الحديث، وكيف يضعونها في سياق موهم، بحيث تظهر لأهل الأذواق وكأنها تحمل المعاني التي يريدونها! وكيف يلوون أعناقها ببراعة وانسياب تظهر وكأنها تتفق مع كشفهم وعقيدتهم؟!

إنه يقدم ما أورد من آيات في سياق الكلام عن (التوحيد) الذي يعني به توحيد الخالق والمخلوق في وحدة واحدة! يقدم هذه الآيات ليجعلها دليلاً على نظريته!

وهرباً من الِإطالة، نقدم توضيحاً لثلاث آيات، منها فقط:

1- الآية ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)) [مريم:17] يريد الغزالي أن يقول: (إن الله سبحانه أرسل (روحه) ؛ وروحه كما يتبادر إلى أذهاننا، هو جزء منه، وهذا الروح هو ملك كما تخبرنا آية ثانية، إذن فالملك هو روح الله، وهو بالتالي جزء منه! أو هو هو حسب تعابيرهم).

2- الآية: ((فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)) [القيامة:18] التي يتبعها بتفسيره حيث يقول: «معناه: إذا قرأه عليك جبريل..». فالله سبحانه يقول: ((قَرَأْنَاهُ)) بصيغة المتكلمين، بينما القارىء هو جبريل، إذن فجبريل هو الله، أو هو جزء منه!!. سبحانه وتعالى علوًا كبيراً عما يصفون.

3- الآية: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) التي يفسرها بقوله: (...وما رميت، بالمعنى الذي يكون الرب به رامياً، إذ رميت، بالمعنى الذي يكون العبد به رامياً...)، وهو كلام واضح جدّاً! إنه يقول: [معناه: وما رميت (يا محمد الرب) إذ رميت (يا محمد العبد) ولكن الله رمى]، إذن محمد هو الله، (تعالى الله علوّاً كبيراً).

ولونظرنا إلى بقية الآيات التي أوردها في هذا النص- وفي غيره في كتبه- لرأيناه يريد بها نفس المعنى الذي بيّنّاه في هذه الآيات الثلاث.

يورد الغزالي بعد كلامه الذي سجلناه حديثين، يوجههما لأداء نفس المعنى الذي يحاول تقريره.

يقول العراقي عن أولهما: (...في سنده جهالة، وقال ابن عدي: إنه منكر...). ويقول عن ثانيهما: (لم أجد له أصلاً). (ولم أوردهما تجنباً للِإطالة). ويورد أيضاً بعدها آيات أخرى، وأقوالاً لبعضهم وشعراً، نوردها دون تعليق الغزالي، ودون أي تعليق غيره؛ ليستطيع القارىء أن يفهم مرادهم من الآية حيثما مرت معه. يقول: ...وكذلك ذكر الله تعالى في القرآن من الأدلة والآيات في الأرض والسماوات، ثم قال: ((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) [فصلت:53] وقال: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) [آل عمران:18]، فبين أنه الدليل على نفسه...قال بعضهم: (عرفت ربي بربي ولولا ربي لما عرفت ربي)، وهو معنى قوله تعالى: ((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))، وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه المحيي والمميت، ثم فوّض الموت والحياة إلى ملكين، ففي الخبر (أن ملكي الموت والحياة تناظرا...)([69]) لذلك قال صلى الله عليه وسلم للذي ناوله التمرة: (خذها: لولم تأتها لأتتك)، أضاف الإتيان إليه وإلى التمرة...وأصدق بيت قاله الشاعر قول لبيد: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل)...فإذاً لا حق بالحقيقة إلا الحي القيوم...فهو الحق وما سواه باطل، فإنه قائم بذاته وكل ما سواه قائم بقدرته..)([70]).

هذه عبارات -أو بعض العبارات- التي يستعملونها يشيرون بها إلى وحدة الوجود، أوردها الغزالي متتابعة، وقد أورد غيرها الكثير في أماكن أخرى من (الِإحياء) وغير (الإِحياء)، مع التكرار لها في مواضع كثيرة.

وهذه صورة أخرى من صور العبارة الإشارية:

يقول ابن عطاء الله في حِكَمه:

متى جعلك في الظاهر ممتثلاً لأمره، ورزقك في الباطن الاستسلام لقهره، فقد أعظم عليك المنة([71]).

وقد أوردها محمود أبو الفيض المنوفي (القطب) على أنها تحمل نفس معنى قول أبي الحسن الشاذلي، الذي رأيناه: (ليكن الفرق بلسانك موجوداً...) وهي إشارة إلى مقام (الفرق الثاني).

ويقول ابن عطاء الله أيضاً في حكمه: (كن بأوصاف ربوبيتي متعلقاً، وبأوصاف عبوديتك متخلقاً، فإن تحققت بأوصافك أيدك بأوصافه)([72])، وهي كما يقرر المنوفي تحمل نفس معنى سابقتها، أي: (الفرق الثاني).

ويقول عبد القادر الجيلاني (قطب الأولياء الكرام):

الحمد لله الذي كيّف الكيف وتنزه عن الكيفية، وأيّن الأين وتعزز عن الأينية، ووُجد في كل شيء وتقدس عن الظرفية، وحضر عند كل شيء وتعالى عن العندية([73])...

ويقول:

...ثم قال لي: يا غوث الأعظم! ما أكل الِإنسان شيئاً وما شرب وما قام ولا قعد وما نطق وما صمت وما فعل فعلًا وما توجه لشيء وما غاب عن شيء إلا وأنا فيه، ساكنه ومتحركه. ثم قال لي: يا غوث الأعظم، جسم الِإنسان ونفسه وقلبه وروحه وسمعه وبصره ويده ورجله ولسانه وكل ذلك طهرت له نفس بنفس لا هو إلا أنا ولا أنا غيره([74]).

ويقول: ...فإذا تحقق عندكم العمل، رأيتم القدرة، فحينئذ يَجْعَلُ التكوين في أيدي قلوبكم وأسراركم، إذا لم يبق بينك وبين الله حجاب من حيث قلبك، قدّرك على التكوين وأطلعك على خزائن سره، وأطعمك طعام فضله، وسقاك شراب الأنس، وأقعدك على مائدة القرب منه، وكل هذا ثمرة العلم بالكتاب والسنة أعمل بهما ولا تخرج عنهما، حتى يأتيك صاحب العلم، الله عز وجل. فيأخذك إليه، إذا شهد لك معلم الحكم بالحذق في كتابه، نقلك إلى كتاب العلم، فإذا تحققت فيه أقيم قلبك ومعناك، والنبي في صحبتهما آخذ بأيديهما، ويدخلهما إلى الملك، ويقول لهما: ها أنتما ربكما([75]). اهـ [أرجو الانتباه إلى حدود العمل بالكتاب والسنة (حتى يأتيك صاحب العلم)].

ويقول: ...إذا قال لك القلب (لا) فهو حرام، وإن قال: (نعم) فهو حلال، وإن سكت فلم يقل: (نعم) ولا (لا) فهو شبهة، إن عدمت المألوفات وصبرت نفسك فهو القناعة، تدري كم عنده من الطاعات، والصوم والصلاة لا يعبأ بها، إنما مراده منك قلب صاف من الأقدار والأغيار([76]).

ويقول: ...بقي أبو يزيد البسطامي سبع مرات، لما سُمع منه من الكلام العجيب، يفتح إلى قلويهم أبواب القرب، لا يجمعهم مع الخلق سوى الصلوات الخمس ولقب الآدمية البشرية؛ وصورتهم صورة الِإنس، وقلوبهم مع القدر، وأسرارهم مع الملك([77]).

- يخبر عبد القادر الجيلاني عن أبي يزيد البسطامي أنه كان يفتح أبواب القرب (من الله وبه وإليه وفيه) إلى قلوبهم، أي إلى قلوب المريدين. إذاً فعبد القادر الجيلاني -في هذا النص- يزكي أبا يزيد، وبالتالي فهو يوافقه على أقواله التي مرت معنا آنفاً.

ويقول: قيل للحلاج حين صلب: (أوصني)، قال: نفسك إن لم تشغلها وإلا شغلتك([78]).

- يُظهر الحلاجَ هنا بمظهر المعلم الحكيم، المقصود، حتى عند الصلب، إذاً فالحلاج مزكىً عند الجيلاني، وهذا يعني أن الجيلاتي يتلقى أقوال الحلاج بالقبول، فهو يؤمن بأقواله وعقيدته، ونستطيع أن نرجع إليها حالاً، لتكون تذكرة وتعيها أذن واعية. ويقول: ...وإذا كان القطب اطّلع على أعمال أهل الدنيا وأقسامهم وما تؤول أمورهم إليه، ويطّلع على خزائن الأسرار، ولا يخفى عليه شيء في الدنيا من خير أو شر، لأنه مفرد الملك بطانته، نائب أنبيائه ورسله، أمين المملكة، فهذا هو العين القطب في زمانه([79])...

ويقول: ...يا عبدَ الهوى والطبع، يا عبدَ الثناء والحمد، ما جفّ به القلم وسبق به العلم من الأقسام، لا بد من استيفائهما، لكن الشأن هل يأخذها بك، أو به يوجدك، ويقعدك مع التوحيد...أطلب القرب من باب فنائك...ويكون (أي: العارف أو الواصل) نائب الرسول في المتابعة، يُترك ثم يؤخذ، ثم يُؤخذ، يَتْرُك المتروك ويأخذ المأخوذ، يضيء لك الأمر كفلق الصبح، يجدد على العبد ثوبَي الوجود تارة والفناء تارة، يُفْتقد، فيُقبل الحق عليه، وتارةً يوجد- فيخبر عن الحق (روى قلبي عن ربي)([80])...

- قبل الانتقال إلى كتاب آخر من كتب الشيخ، يجدر الانتباه إلى قوله: «يجعل التكوين في أيدي قلوبكم وأسراركم»، و«قدّرك على التكوين»، وقوله في نص سابق: «فإذا جاءت نوبة الحكم كانوا في صحن الحكم»، ثم عرض هذه الأقوال على الآية القرآنية الكريمة: ((...مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) [الكهف:26]، وقوله: (ها أنتما ربكما).

طبعاً! الأمر واضح، إن الذي يعتقد أن مخلوقاً ما، سواء كان إنساناً أو ملكاً، يمكن له (التكوين)، وأن يتصرف في الكون، إنما هو كافر؛ لأنه يناقض نص الآية الصريح.

- لكن! همسة أهمسها في أذن القارىء: إنهم يؤولون- كما يقول الِإمام الغزالي- النصوص المخالفة للكشف لتتفق مع كشفهم!! وعليه فهم يؤولون هذه الآية، ليصبح معناها: (إن كل من يحكم فهو الله)، لأن الله لا يشرك في حكمه أحداً، وبما أن هناك من يحكم ولو في أمر واحد، إذن فهو الله؛ لأن الحاكم هو الله وحده، ولأنه لا يشرك في حكمه أحداً؛ وطبعاً! هذه هي وحدة الوجود.. نعود إلى الشيخ.

يقول الجيلاني:

...ثم إذا لم يجد عند الخالق نصرَةً، استطرح بين يديه مديماً للسؤال أو الدعاء والتضرع والثناء والافتقار مع الخوف والرجاء، ثم يعجزه الخالق عز وجل عن الدعاء، ولم يجبه حتى ينقطع عن جميع الأسباب، فحينئذ يَنْفذ فيه القدر، ويفعل فيه الفعل، فيفنى العبد عن جميع الأسباب والحركات، فيبقى روحاً فقط، فلا يرى إلا فعل الحق، فيصير موقناً موحداً ضرورة، يقطع أن لا فاعل في الحقيقة إلا الله، لا محرك ولا مسكن إلا الله، ولا خير ولا شر ولا ضر ولا نفع ولا عطاء ولا منع ولا فتح ولا غلق ولا موت ولا حياة ولا عز ولا ذل إلا بيد الله...ويكون ولا حراك به في نفسه ولا في غيره، فهو غائب عن نفسه في فعل مولاه، فلا يرى غير مولاه وفعله، ولا يسمع ولا يعقل من غيره، إن بَصر وسمع([81])...اهـ.

- كل العبارات الدالة على وحدة الوجود في هذا النص، مرت معنا فيما سبق، مثل: (يفنى العبد عن جميع الأسباب..)، و(يصير موحداً)، و(لا فاعل إلا الله)، و(غائب عن نفسه في فعل مولاه).

لكن أمامنا الآن عبارة جديدة هي: (فيبقى روحاً فقط)، وكذلك المفردات المتلاحقة: (لا خير ولا شر ولا ضر...)، والتي يفهم الصوفي والمتمرس بعباراتهم إلى ماذا ترمز وتشير، وكذلك قوله: (فلا يرى غير مولاه وفعله).

ويقول: ...والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي -رحمه الله- لما رأى رب العزة في المنام، فقال: كيف الطريق إليك؟ قال: اترك نفسك وتعال، فقال: فانسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها([82])...

- في هذا النص تزكية واضحة لأبي يزيد البسطامي ولمكاشفته، وهذا يعني أنه يؤمن بعقيدة أبي يزيد، وبالتالي يمكننا أن نكون موقنين أنه يتبنى أقواله التي مرت فيما سبق، كما يتبنى قوله في هذا النص، الذي هو: (فانسلخت من نفسي...)، والذي نعرف بعد قراءتنا لهذا الركام من أقوالهم وإشاراتهم، أنه يعني به الانسلاخ من فكرة تفريق الخلق عن الحق ومن الشعور بها.

ويقول: ...فحينئذ يصير مَحْقاً من أهل الحقيقة...وإن كنت في حالة (حق الحق)، وهي حالة (المحو والفناء)، وهي حالة الأبدال المنكسري القلوب لأجله، الموحدين العارفين، أرباب العلوم والعقل، السادة الأمراء خفراء الخلق خلفاء الرحمن وأخلائهِ وأعيانه وأحبائه عليهم السلام([83])..

- ما يجب الانتباه إليه: قوله: (حق الحق، المحو، الفناء، الموحدين، العارفين، خفراء الخلق وما بعدها..)، ومن لم يعرف معناها ومرماها فعليه البدء بقراءة الكتاب من أوله بوعي وحفظ، ويقول: ...فحينئذ يسمع نداء من قبل الحق عز وجل من باطنه: اترك نفسك وتعال، اترك الحظوظ والخلق إن أردت الخالق، واخلع نعليك (دنياك وآخرتك)، وتجرد عن الأكوان والموجودات وما سيوجد والأماني بأسرها، وتعرّ عن الجميع وافْن عن الكل، وتطيب بالتوحيد، واترك الشرك، وصدّق الإرادة([84]).

ويقول: إلى متى المعاد؟ إلى متى الحق؟ إلى متى الهوى؟ إلى متى الرعونة؟ إلى متى الدنيا؟ إلى متى الآخرة؟!!! إلى متى سوى المولى؟ أين أنت من خالقك والأشياء؟

المكوّن الأول الآخر الظاهر الباطن، والمرجع والمصدر إليه([85]).

* ملحوظـات:

قوله: اخلع نعليك: (دنياك وآخرتك)، وقوله: إلى متى الآخرة؟! إذا خلعنا الآخرة! فماذا بقي لنا؟ وماذا نفعل بعشرات الآيات التي تأمرنا بالإيمان بالله واليوم الآخر؟!

وما معنى قوله سبحانه: ((لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ)) [الممتحنة:6]؟!

وما معنى قوله: ((وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى)) [النساء:77]؟!

وما معنى قوله: ((وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [الأنعام:32].

وما معنى قوله سبحانه: ((...وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ)) [الأنفال:67]؟!

وما معنى قوله سبحانه: ((وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)) [يوسف:57].

وما معنى قوله سبحانه: ((وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [الأعراف:169]، وقوله: ((وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [يوسف:109]، وقوله: ((وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ)) [النحل:30]، وقوله: ((وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) [الإسراء:19]، وقوله: ((وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) [العنكبوت:64]، وقوله: ((وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ)) [الأحزاب:29]، وقوله: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)) [الشورى:20]...وغيرها وغيرها من الآيات.

فهل حكمة الشيخ (الكشفية) تنسخ آيات الله؟!

وماذا في الأمر؟! فهؤلاء القوم هم المحبون المحبوبون العارفون المقربون الصديقون الواصلون الموحدون الذائقون المدللون الأولياء الصالحون الخلص أصحاب الأسرار الذين أشرفوا على عتبة أحوال الأنبياء، المتحققون بالأسماء والصفات والذات المتصرفون في الكون، الأقطاب الغيوث الطيبون الراضون المرضيون المقدسون القديسون المتقون الذاكرون المحفوظون السائرون السالكون العارجون الأوتاد الأبدال الأخيار الصفوة المخلصون المختارون المصطفون المختصون بالعلوم اللدنية الداخلون في بحار الأنوار الذائقون من معاني اسمه الصمد والقيوم والعزيز والجبار والمتكبر أي المتصفون بها والمتحققون بها والعارجون بها منها فيها إليها عليها حتى يصبحوا في الغاية: ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) [النجم:42]..

والأوصاف كثيرة تعجز عنها العبارات والإشارات والكلمات والحروف والجمل والسطور والمقاطع والصفحات والملازم والفصول والأبواب والكتب والمجلدات والمكتبات..

- فلا جرم! من كانت هذه نعوتهم وصفاتهم، فهم يستطيعون- ولهم الحق- التصرف والحكم بنسخ القرآن كله، وحديث -رسول الله صلى الله عليه وسلم- كله، ووجود الأنبياء كلهم، وأحكام الشرائع كلها، ورسالات النبيين كلهم، بجرة قلم، أو بقوله: [كن فيكون]!!

ولهم المنة والفضل والشكر والإحسان والحمد والثناء والنعمة والكرم والجود والحكم والتصرف والحكمة والعلم والكشف وما بعد الكشف، ما قبل الكشف وما فوق الكشف وما تحت الكشف، وكشف الكشف، وكشف كشف الكشف، والعلم اللداني، وما فوقه وتحته وأمامه وخلفه وحوله وقبله وبعده...إلخ.

- (هذا من عدوى العلوم اللدنية).

ويقول الشيخ: ...فبظاهره ينظر إلى ما في السوق، وبقلبه ينظر إلى ربه عز وجل، إلى جلاله تارةً وإلى جماله تارة أخرى([86]).

- عرفنا فيما سبق أن عبد القادر الجيلاني له أسلوب هو في القمة من حيث التعمية والإلغاز، وهذا نص يحمل نفس معنى الجملة التي مرت قبل صفحات: «إياك أن تقول: أناه، واحذر أن تكون سواه». وأترك للقارئ تحليلها مع العلم أن أسلوب عبد القادر الجيلاني في الرمز واللغز لا يفوقه إلا أسلوب تلميذه عمر السهروردي.

ويقول: ...ما ذُكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: ((وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)) [الجاثية:13]، فقال: في كل شيء اسم من أسمائه، واسم كل شيء من اسمه، فإنما أنت بين أسمائه وصفاته وأفعاله، باطن بقدرته وظاهر بحكمته، ظهر بصفاته وبطن بذاته، حجَب الذات بالصفات وحَجَب الصفات بالأفعال، وكشف العلم بالإرادة وأظهر الإرادة بالحركات، وأخفى الصنع والصنيعة، وأظهر الصنعة بالإرادة، فهو باطن في غيبه وظاهر في حكمته وقدرته، ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )) [الشورى:11].

ولقد أظهر في هذا الكلام من أسرار المعرفة ما لا يظهر إلا من مشكاة فيها مصباح أمره برفع يد العصمة: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل}([87]). اهـ.

1- نسبة هذا التفسير لابن عباس غير صحيح.

2- يريد الشيخ أن يجعل ابن عباس يفسر قوله سبحانه: ((مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)) [الجاثية:13] أن السماوات والأرض جميعاً هي من الله، بمعنى هي جزء منه!

لذلك جعله (ناقلاً) يقول: (في كل شيء اسم من أسمائه، واسم كل شيء من أسمائه)، ومعنى هذا واضح، فاسم (الشمس) مثلاً هو من أسماء الله! والقمر هو من أسمائه سبحانه، وكذلك كل ما في السماوات والأرض، مثل: المريخ، المشتري، الثريا، الهواء، التراب...ومنها الدنسيات (جل الله وعلا علوًا كبيراً).

وهنا نرى بوضوح أن هذه العبارات (في كل شيء اسم من أسمائه واسم كل شيء من أسمائه...) تحمل نفس معنى قول قائلهم: (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا)، وقول الآخر: (ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سنخ القدسية) وما ماثلها مما ورد في هذا الكتاب ومما لم يرد.

ثم جعله يقول: (فإنما أنت بين أسمائه وصفاته وأفعاله) وهذا واضح أيضاً. إنه يعني: إنك يا مخاطب بما أنك موجود بين الأشياء التي في الأرض، من هواء وماء وتراب وأحجار وغيرها وفي السماوات وبما أنها كلها أسماء الله وصفاته وأفعاله، إذاً فأنت بين أسمائه وصفاته وأفعاله!! (ولا ننسى أن عبارة (أفعال الله) يعنون بها حركاته جل وعلا).

وقوله: (ظاهر بصفاته...)، يعني أن كل ما يظهر لنا ونراه ونلمسه هو صفات الله! فهو ظاهر بها، فالحجر -مثلاً- يحمل صفة الحجرية التي نراها وهذه الصفة الحجرية تحجب عنا حقيقة كونه من الذات؟!

ويقول: يا هذا، الفناء إعدام الخلائق، وانقلاب طبعك عن طبع الملائكة، ثم الفناء عن طبع الملائكة، ثم لحوقك بالمنهاج الأول، وحينئذ يسقيك ربك ما يسقيك، ويزرع فيك ما يزرع([88])؟!

- يفسر كلمة (الفناء)، إنها إعدام الخلائق...ثم لحوقك بالمنهاج الأول، فما هو المنهاج الأول؟ إنه القول الذي يكررونه (كان الله ولا شيء معه) هذا هو المنهاج الأول! وسنراه فيما يأتي، وقد مر معنا فيما سبق.

وقال: ثم قال لي: يا غوث الأعظم، نم عندي لا كنوم العوام ترني! فقلت: يا رب! كيف أنام عندك؟ قال: بخمود الجسم عن اللذات.. في فناء ذاتك بالذات. ثم قال لي: يا غوث الأعظم، قل لأصحابك وأحبابك، من أراد منكم جنابي فعليه باختيار الفقر، ثم فقر الفقر، فإذا تم الفقر فلا ثمَّ إلا أنا([89]).

- ما يُنتبه له هو: (في فناء ذاتك بالذات)، و(فلا ثم إلا أنا) وهما واضحتان، فقد مرا فيما سبق بلفظهما أو بمعناهما.

ولكن معنا الآن عبارة جديدة، هي (فقر الفقر) التي يعني بها (إعدام فكرة الخلق) وكذلك عبارة (فإذا تم الفقر) أي: فإذا تمت الغيبة عن مشاهدة الخلق على أنهم خلق.

ومما ينسب له، من قصيدة (والعارفون كلهم ينسبونها له):

وسِرّي سرُّ الله سارٍ بخلقه                    فلذ بجنابي إن أردتَ مودتي

وأمري أمرُ الله إن قلتُ كن يكن            وكل بأمر الله فاحكم بقدرتي

وشاهدتُ ما فوق السماوات كلها                    كذا العرشُ والكرسيُّ في طي قبضتي

وجودي سَرى في سرّ سِر الحقيقة                     ومرتبتي فاقت على كل رتبة

ومطلع شمس الأفق ثُم مغيبها               وأقطار أرض الله في حال خطوتي

أقلّبها في راحتي ككورة            أطوف بها جمعاً على طول أحتي([90])

ويقول أحمد الرفاعي (الغوث):

...وراقبه في الخلوات والجلوات، واحمده واشكره على الفقر والغنى، واترك الأغيار، فما في الدار غيره ديار، وكن صوفيًّا صافياً([91]).

ويقول: الذكر حِفظُ القلب من الوسواس، وترك الميل إلى الناس، والتخلي عن كل قياس، وإدراك الوحدة بالكثرة، وحسنُ ملحوظة المعنى([92]).

ويقول: ...إن لله تعالى بعدد كل شيء خلقه أسماء([93]).

- علينا هنا أن نتذكر قول الجيلاني الذي مر آنفاً في هذا المعنى.

ويقول:

طلبتُ في الكون باقي كي أهيم به            غير الحبيب، فسرّ الحب وافاني

وقال لي: خل عنك الغير منخلعاً              عن السوى، فسوى من تَدْره فاني

فصرتُ منه لديه فيه عنه به           والغير راح بلا تَرْكي ونسياني([94])

ويقول: ...إذا أراد الله تعالى لعبد أن يؤهله لهذه المنزلة (الغوثية) وهذه الأحوال، أول ما يكلِّفه نفسه، فإذا داراها وأدبها وساسها واستقامت معه، كلَّفه أهله، فإذا داراهم وأحسن عشرتهم، كلَّفه جيرانه ومحلته، فإذا داراهم وأحسن إليهم وأقام بحقوقهم كلفه أمر بلده، فإذا أحسن إليهم وداراهم كلَّفه جهةً من الأرض، فإذا أقام بحقوقهم وأحسن إليهم كلفه جميع الأرض، وإذا سبقت له العناية الأزلية وأحسن إليهم وداراهم وأحسن سريرته مع الله تعالى فيهم، كلفه أمور الدنيا كلها، فإذا أقام بها كلَّفه ما بين السماء والأرض، فإن بينهما خلقاً كثيراً لا يعلمهم إلا الله تعالى، فإن هو داراهم وأحسن إليهم كلفه ما عدا بني آدم من المخلوقات، فإن هو داراهم وأحسن إليهم كلفه سماء بعد سماء إلى جميع السماوات، حتى ينتهي إلى مقام الغوثية، ثم يرفع منزلته حتى تصير صفته من صفات الحق سبحانه...فإذا صح لهذه الأمور، صار عينَ سرّ الله في أرضه، فيه ينزل الغيث، وبه يرفع البلاء، وبه تنزل البركات، حتى لا تنبت شجرة، ولا تخضر ورقة، ولا يَطَّلِعُ الله على خلقه إلا بنظره، ولا تقطر قطرة إلا بإذنه([95]).

ويقول أبو يعزى المغربي([96]):

من طلب الحق من جهة الفضل وصل إليه، ومن لم يكن بالأحد لم يكن بأحد([97]).

ويقول: لا يكون الولي وليّا حقّاً حتى يكون له قَدَمٌ ومقام وحال ومنازلة وسرٌّ، فالقدم ما سلكته من طريقك إلى الحق، والمقام ما أقرتك عليه سابقتُك في العلم الأزلي، والحال ما بعثك في فوائد الأصول لا من نتائج السلوك، والمنازلة ما خُصِّصتَ به من تحف الحضور بنعت المشاهدة لا بوصف الاستتار، والسر ما أُودِعتَه من لطائف الأزل عند هجوم الجمع، ومحق السوى، وتلاشي ذاتك، فحفظ حكم المقام يفيد الفقه في الطريق، ويفيد الاطلاع على خبايا معانيه، وحفظ حكم الحال يفيد بسطة في التصريف لله بالله([98]).

* ملحوظة: حبذا لو استظهر القارىء هذا النص، فكل جملة منه هي (عبارة) صوفية تحمل إشارة ورمزاً.

ويقول أبو مدين المغربي (الغوث):

من لم يصلُح لخدمته شَغَلَهُ بالدنيا، ومن لم يصلُح لمعرفته شَغَلَه بالآخرة([99])!!

- رأينا مثل هذا الكلام قبل صفحات: (إلى متى الدنيا، إلى متى الآخرة) والجواب عليه هناك.

ويقول: إذا ظهر الحق لم يبق معه غيره([100]).

- المعنى واضح، فالعارف الذي يظهر له الحق، يظهر له في كل شيء، فيرى كل شيء هو الحق، ولا شيء غيره؛ وما كان يظنه غيره يظهر على حقيقته أنه الحق، حيث تزول عنه الغيرية.

ويقول: علامة الِإخلاص أن يغيب عنك الخلق في مشاهدة الحق([101]).

ويقول: الفقر أمارةٌ على التوحيد، ودلالةٌ على التفريد، وحقيقة الفقر ألا تشاهد سواه([102]).

عبارتا أبي مدين الثانية والثالثة، يحملان نفس المعنى وبدقة.

 - مصطلح (التوحيد) شرحه لنا الغزالي بوضوح تام؛ إنه وحدة الوجود.

- والتفريد هو تفريد الله بالوجود، فليس معه غيره..

ويقول: الجمع ما أسقط تفرقتك، ومحا إشارتك، والوصول استغراقُ أوصافك، وتلاشي نعوتك([103]).

- المعنى واضح، إذ معنى (الجمع والتفرقة) أصبح معروفاً، وما بقي يمكن فهمه بسهولة.

ويقول:

فلا تلم السكران في حال سكره              فقد رُفع التكليف في سكرنا عنا

ويا عاذلي كرِّرْ عليَّ حديثهم                   فاعينُنا منهم وأعينُهم منا([104])

- وواضح ما يعني بضمير الغائبين في (حديثهم، منهم، أعينهم) إنها إشارة إلى الحق سبحانه.

ويقول:

فالكل دون الله إن حققته             عدمٌ على التفصيل والِإجمال

فالعارفون فنوا ولما يشهدوا                    شيئاً سوى المتكبر المتعال

ورأوا سواه على الحقيقة هالكاً                 في الحال والماضي والاستقبال([105])

- هذه الأبيات تذكرنا بأقوال الغزالي، فهي هي بحروفها وكلماتها، كما نفهم منها معنى (وحدة الشهود).

ويقول شهاب الدين السهروردي البغدادي:

...فقلب الصوفي مجرد عن الأكوان، ألقى سمعَه، وشهد بصرُه، فسمع المسموعات وأبصر المبصرات، وشاهد المشهودات، بتخلّصِه إلى الله تعالى، واجتماعه بين يدي الله، والأشياء كلُّها عند الله، وهو عنده، فسمع، وشاهد فأبصر، وسمع جملها، ولم يسمع ويشاهد تفاصيلها؛ لأن الجمل تدرك لسعة عين الشهود، والتفاصيل لا تدرك لضيق وعاء الوجود، والله تعالى هو العالم بالجمل والتفاصيل([106]).

ويقول: ...قال الله تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) [ق:37]، قال: ...قال بعضهم: لمن كان له قلب سليم من الأغراض والأمراض. قال الحسين بن منصور: (لمن كان له قلب لا يخطر فيه إلا شهود الرب)([107])...

- إنه يستشهد بالحلاج، وبتفسير الحلاج، وحكمة الحلاج، إذاً: فهو يؤمن بالحلاج وعقيدته وأقواله، وهذا واضح.

ويقول (في دعاء):

...يا دهريا ديهوريا ديهار، يا أبد يا أزل، يا من لم يزل ولا يزال ولا يزول، هو يا هو، لا إله إلا هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا يعلم ما هو إلا هو، يا كان يا كينان، يا روح، يا كائن قبل كل كون، يا مكوناً لكل كون، أهيا، أشراهيا، أدوناي، أصبؤت، يا مجلى عظائم الأمور([108])...

- الكلمات: (أهيا، أشراهيا...) هي كلمات عبرية، وفيها إشارة إلى أثر اليهودية في الصوفية.

وقال: ...وقال بعضهم: الروح (وهي غير الروح التي في الجسد) لطيفة تسري من الله إلى أماكن معروفة، لا يعبر عنه بأكثر من موجود بإيجاد غيره...) اهـ([109]).

- ما هي هذه الأماكن المعروفة؟ سنعرفها فيما بعد!

وقال: ...والصوفي صفا عن هذه البقية (رؤية الخلق) في طرفي العمل، والتركِ للخلق، وعَزْلِهم بالكلية، ورآهم بعين الفناء والزوال، ولاح له ناصية التوحيد، وعاين سرّ قوله: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88] كما قال بعضهم في بعض غلباته: ليس في الدارين غير الله...)([110]) اهـ.

- بالرغم من أن الأسلوب الِإشاري عند عمر السهروردي هو في القمة العليا من حيث الرمز واللغز، ولكن العبارة خانته في هذه الفقرة، فكانت وحدة الوجود فيها واضحة تماماً، كما أنها في الفقرات السابقة، واضحة لمن عرف لغة القوم.

ويقول عبد السلام بن مشيش([111]) (الغوث) في صلاته:

اللهم صل على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وتنزلت علوم آدم...

ولا شيء إلا وهو به منوط، إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط...اللهم إنه سرُك الجامع الدالّ عليك، وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك...وزُجّ بي في بحار الأحدية، وانشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أحس إلا بها([112])...

* ملحوظة:

يلاحظ هنا أنه يستعمل كلمة (التوحيد) بمعناها الِإسلامي (أي: توحيد الله) ويجعلها أوحالًا، وهو يصرح بالوحدة.

وقال مخاطباً تلميذه أبا الحسن الشاذلي:

يا أبا الحسن! حدّدْ بصر الِإيمان، تجد الله في كل شيء، وعند كل شيء، ومع كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وفوق كل شيء، وتحت كل شيء، وقريباً من كل شيء، ومحيطاً بكل شيء، بقربِ هو وصفه، وبحيطةٍ هي نعته، وعَدِّ عن الظرفية والحدود، وعن الأماكن والجهات، وَعن الصحبة والقرب في المسافات، وعن الدور المخلوقات، وامحق الكل بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو هو هو، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان([113]).

ويقول تاج العارفين أبو الوفاء([114]):

...الذكر ما غَيّبك عنك بوجوده، وأخذك منك بشهوده، فإن الذكر شهود الحقيقة وخمود الخليقة([115])...اهـ.

- يعني أبو الوفاء بكلامه أن الذكر لا يكون ذكراً إلا إذا أنتج ما بَيَّنه لك (...ما غيبك.. وأخذك...).

ويقول الشيخ عقيل المنبجي([116]):

...فإذا جاء الفضل، قل إلهي فَضْلُك لصنعك بلا أنا، فإذا شئتَ فقد حصل لك عند الخشوع عبودية، وعند الدلال توحيد، فعبوديتك بفقرك إليه، ودلاله أنه ما ثم غيره، فإذا جاءت الِإلهية (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)، فبمجاهدة الهوى تعرفه، وبخروجك عن الخلق توحده([117])...اهـ [لاحظ عبارة (فإذا جاءت الِإلهية)].

ويقول الشيخ علي بن الهيتي([118]):

كل من كوشف بالحقيقهّ.. أو شاهد الحق، أو اختُطِف عن مَشاهِدِهِ بوجود الحق، أو استُهلك في عين الجمع، أو لم يشهد سوى الحق تعالى، أو لم يحس سوى الحق، إلى آخر ما يعبَر عنه معبِّر، أو يشير إليه مشير، أو ينتهي إليه علم، فإنما هي شواهد الحق، وحق منْ الحق له، وكل ما بدا على الخلق فذاك مما يليق بالخلق([119])...

- وحدة الوجود واضحة في قول أبي يعزى (عند هجوم الجمع ومحق السوى وتلاشي ذاتك)، وفي قول المنبجي: (.. إنه ما ثَم غيره، فإذا جاءت الِإلهية...).

أما الهيتي فيورد عدةً من العبارات المرموزة التي تشير إلى وحدة الوجود، يقدمها للسالك الواصل ليستعملها في أحاديثه وكتاباته، وليتدرب على إنشاء العبارات المماثلة، ويجدر بالقارىء الكريم أن يستظهرها ليزداد تمرساً باللغة الصوفية.

ويقول عبد الرحمن الطفسونجي([120]):

...وينسى باستيلاء ذكر ربه عليه جميع الِإحساس، فيقال: انْدَرجَ في رؤية مذكوره، ويقال: فني عن نفسه، ويقال: فني بربه، ويقال: فني عن فنائه أي غفل عن ذكر غفلته عن نفسه باستيلاء ذكر ربه عليه، وصار ليس يشهد غيره، وهاهنا يكون مصطلماً عن مَشَاهِدِه، مختطَفاً عن نفسه، ممحوّاً عن جملته، فانياً عن كله، وما دام هذا الوصف باقياً فلا تمييز ولا إِخلاص ولا صدق، وهذا جمع الجمع، وعين الوجود، وهذا هو الوصول الذي يرد على أحوال التمييز والتكليف([121])...

- أقول: هذه عبارات أخرى مرموزة وملغزة تشير إلى وحدة الوجود، وتساعد على التمرس بلغة الصوفية.

ويقول الشيخ مطر الباذرائي([122]):

...ولذة الأرواح الشربُ بكأس المحبة من أيدي عرائس الفتح اللدني، في خلوة الوصل، على بساط المشاهدة والهيام، بين عالَم الكون، في نور العزة وقراءة ما كُتب على صفحات ألواح نسمات ذرات الوجود، بقلم التوحيد (كلا بل هو الله العزيز الحكيم)([123]) اهـ. (أي: إن ذرات الوجود هي الله العزيز الحكيم).

ويقول محيي الدين بن عربي (الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر):

...فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عينَ كل شيء([124]).

ويقول: ...والعارف المكمَّل من رأى كلّ معبود مجلى للحق يُعبد فيه، ولذلك سموه كلهم إلهاً مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك([125])...

ويقول: ...ولا يُشهَد، ولا تدركه الأبصار، بل هو يدرك الأبصار، للطفه وسريانه في أعيان الأشياء([126]).

ويقول (الشيخ الأكبر نفسه):

فإن الِإله المطلق لا يسعه شيء، لأنه عين الأشياء وعين نفسه، والشيء لا يقال فيه: يسع نفسه ولا لايسعها، فافهم([127]).

ويقول: ...((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) [ق:16]، وما خص إنساناً من إنسان، فالقرب الِإلهي من العبد لا خفاء به في الِإخبار الِإلهي، فلا قربَ أقربُ من أن تكون هوّيته (أي: هوية الله) عينَ أعضاء العبد وقواه، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى، فهو حقّ مشهود في خلقٍ متوهم، فالخلق معقول، والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود، وما عدا هاذين الصنفين، فالحق عندهم معقول والخلق مشهود([128])...

في هذا النص يفسر لنا الشيخ الأكبر معنى كلمة (القرب) عند الصوفية، وهذا يجعلنا نفهم بوضوح كل العبارات السابقة واللاحقة، والتي تمر معنا، والتي فيها كلمة (القرب) ونستطيع من هذا النص فهم كلمة (الوجود) الاصطلاحية.

ويقول: ...فمن عَرَف أن الحق عينُ الطريق، عَرَف الأمر على ما هو عليه، فإن فيه -جل وعلا- تسلُكُ وتسافر، إذ لا معلوم إلا هو، وهو عينُ الوجود، والسالكُ والمسافر([129])...

ويقول الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر أيضاً:

...وبالِإخبار الصحيح أنه عين الأشياء، والأشياء محدودة وإن اختلفت حدودها، فهو محدودٌ بحدِّ كل محدود، فما يُحَدُّ شيء إلا وهو حد الحق، فهو الساري في مسمَّى المخلوقات والمبدعات، ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود، فهو عينُ الوجود، فهو على كل شيء حفيظ بذاته، ولايؤوده حفظ شيء، فحفظهُ تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشيء غير صورته، ولا يصح إِلا هذا، فهو الشاهد من الشاهد، والمشهود من المشهود، فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبِّر له، فهو الِإنسان الكبير.

فهو الكون كله              وهو الواحد الذي

قام كوني بكونه             ولذا قلت يغتذي

فوجودي غذاؤه             وبه نحن نحتذي

فبه منه إن نظرت            بوجه تعوُّذي([130])

- في النصين الأخيرين يستعمل كلمة (الوجود) بمعناها اللغوي، وليس بمعناها الاصطلاحي، كما في النص الذي قبلهما.

ويقول: ...وإذا كان الحق وقايةً للحق بوجه، والعبدُ وقايةً بوجه، فقل في الكون ما شئت: إن شئت قلت هو الخلق، وإن شئت قلت هو الحق، وإن شئت قلت هو الحق الخلق، وإن شئت قلت لا حقَّ من كل وجه، ولا خلق من كل وجه، وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك([131])...

- هذا النص يساعدنا كثيراً على فهم عبارات مرت معنا، وستمر، مثل: (أفنِ الخلق، أو أفن من لم يكن يبق من لم يزل، أو الفناء عن الصفات، أو الفناء عن الأفعال الرديئة، أو الفناء عن الكون...) إذ بما أن الكون هو الحق في الحقيقة، وهو خلق، أو كون بالتوهم، فإذا أفنينا الخلق، أو الكون، أو الصفات (التي تعني الخلق) بقيت الصفة التي تعني (الحق) وهذا هو معنى (الفناء في الحق).

ويقول:

فلا تنظر العينُ إلا إليه ولا            يقعُ الحكم إلا عليه

فنحن له وبه في يديه                 وفي كل حالٍ فإنا لديه

لهذا يُنكَر ويُعرف وُينزَّه ويوصف، فمن رأى الحق منه فيه بعينه فذلك العارف، ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه فذلك غير العارف، ومن لم ير الحق منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل([132])...

- هذا النص يعيننا على فهم العبارات التي تمر معنا مثل: (له وبه وفي يديه ولديه)، و(منه فيه بعينه)، وما شابهها، كما يدلنا على معنى المعرفة [منه فيه بعينه (أي: بعين الله)].

ويقول: ...إن لله تجلِّيينْ: تجلّي غيبِ، وتجلي شهادة، فمن تجلي الغيب يُعطي الاستعداد الذي يكون عليه القلب، وهوَ التجلي الذاتي الذي الغيبُ حقيقتُه، وهو (الهوية) التي يستحقها بقوله عن نفسه (هو) فلا يزال (هو) له دائماً أبداً([133])...

- في هذا النص يشرح لنا بصراحة معنى مصطلح (الهوية)، ومصطلح (هو)، حيث نستطيع أن نفهم بوضوح تام ماذا يعنون بكلمة (هو) حيثما وردت، مثل قولهم: (لا هو إلا هو).

ويقول: ...التجلي الشهودي في الشهادة...ثم رفع الحجابَ بينه وبين عبده، فرآه في صورة معتقدِه، فهو عين اعتقاده، فلا يشهدُ القلب ولا العينُ أبداً إلا صورةَ معتقده في الحق.

فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورتَه، وهو الذي يتجلى له فيعرفه، فلا ترى العين إلا الحق الاعتقادي، ولا خفاء بتنوع الاعتقادات، فمن قيَّدَه (أي: في عقيدة واحدة) أنكره في غر ما قَيّدَه به، وأقرَّ به فيما قيَّده به إذا تجلى. ومن أطلقه عن التقييد لم ينكره وأقرّ به في كل صورة يتحول فيها، ويعطيه من نفسه قدر صورة ما تجلَّى له، إلى ما لا يتناهى، فإن صور التجلي ما لها نهاية نقف عندها([134]).

- يقول (الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر) في هذا النص: إن كل الاعتقادات صحيحة، وكل المعبودات حق...كما يفهمنا أن الكشف تابع للقناعات الفكرية المسبقة.

ويقول: ...فإذا نظرتَ في قوله: (كنتُ رجله التي يسعى بها، ويده التي يبطش بها، ولسانه الذي يتكلم به)([135])، إلى غير ذلك من القوى ومحلّها الذي هو الأعضاء، لم تفرق، فقلتَ: الأمر حقٌّ كله، أو خلق كله، فهو خلق بنسبةٍ، وهو حق بنسبة، والعينُ واحدة. فعينُ صورة ما تجلّى عينُ صورة من قبِل ذلك التجلِّي. فهو المتجلي والمتجلّى له. فانظر ما أعجب أمر الله من حيث هويته، ومن حيث نِسبتُه إلى العالَم في حقائق أسمائه الحسنى([136]).

ويقول:

فلولاه ولولانا                لما كان الذي كانا

فإنا أعبدٌ حقّا                وإن الله مولانا

وإنا عينُه فاعلم              إذا ما قلت إنساناً

فلا تُحجب بإنسان                   فقد أعطاك برهانا

فكن حقًّا وكن خلقاً                   تكن بالله رحمانا

وغذّ خلقَه منه               تكن رَوْحاً وريحانا

فأعطيناه ما يبدو             به فينا وأعطانا

فصار الأمر مقسوماً                   بإياه وإيانا

فكنا فيه أكواناً               وأعياناً وأزماناً([137])

ويقول: ...((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)) [الأنبياء:22]، وإن اتفقا، فنحن نعلم أنهما لو اختلفا تقديراً لنفذ حكم أحدهما، فالنافذُ الحُكْمِ هو الِإله على الحقيقة، والذي لم ينفذ حكمه ليس بإِله، ومن هنا نعلم أن كل حكم يَنْفُذ اليوم في العالم أنه حكم الله عز وجل، وإن خالف الحكْمَ المقرر في الظاهر المسمى شرعاً، إذ لا ينفذ حكم إلا لله في نفس الأمر، لأن الأمر والواقع في العالَم إنما هو على حكم المشيئة الِإلهية، لا على حكم الشرع المقرَّر، وإن كان تقريره من المشيئة، ولذلك نفذ تقريره خاصة، فإن المشيئة ليست لها فيه إلا التقرير، لا العمل بماجاء به، فالمشيئة سلطانها عظيم...فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع خارجاً عن المشيئة، فإن الأمر الِإلهي إذا خولف هنا بالمسمى (معصية) فليس إلا الأمْرَ بالواسطة، لا الأمر التكويني، فما خالف الله أحدٌ قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة، فَوَقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة، فافهم، وعلى الحقيقة، فأمر المشيئة إنما يتوجه على إيجاد عين الفعل، لا على من ظهر على يديه، فيستحيل ألا يكون([138])...

- أرجو من القارئ أن يتسلى بتحليل النص بهدوء.

ويقول: ...فإن العقل إذا تجرد لنفسه...وإذا أعطاه الله المعرفة بالتجلي، كملت معرفته بالله، فنزَّه في موضع وشبَّه في موضع، ورأى سريان الحق في الصور الطبيعية والعنصرية، وما بقيت له صورة إلا ويرى عينَ الحق عينَها. وهذه المعرفة التامة التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله، وحكمت بهذه المعرفة الأوهام كلها، ولذلك كانت الأوهام أقوى سلطاناً في هذه النشأة من العقول([139])...وبه جاءت الشرائع الِإلهية فشبهت ونزهت، شبهت في التنزيه بالوهم، ونزهت في التشبيه بالعقل، فارتبط الكل بالكل([140])...

- في هذا النص نتبين ماذا يعني الصوفية عندما يقولون: إن طريقهتم أو طرقهم مقيدة بالشريعة، فهم يفهمون الشريعة على هذا المنوال، كذلك يتبين لنا بوضوح ما معنى عبارتهم (الكل بالكل) عندما نسمعها في مثل قولهم: (فناء الكل بالكل، أو بقاء الكل بالكل، أو وجود الكل بالكل، أو ارتباط الكل بالكل...).

وبتوضيح: يقولون: إن طرقهم مقيدة بالشريعة على أساس المنهج التأويلي المبينَّ بعضه في هذا النص، وأرجو من القارىء أن يحلله بنفسه بهدوء؛ لأن تحليل بضعة نصوص تحليلاً صحيحاً يفيد في التمكن من العبارة الصوفية أكثر من قراءة بضعة كتب.

ويقول: ...ولما كان الاستواء الِإلهي على القلب من باب (وسعني)([141])، صارت الألوهية غيباً في الِإنسان، فشهادتُه إنسان، وغيبه إله، ولسريان الألوهية الغيبية في هذا الشخص الِإنساني، أدَّعى الألوهية بالاسم الإله، فقال فرعون: ((مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)) [القصص:38].. وصرح بالربوبية لكونها لا تقوى قوة الألوهية، فقال: ((أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)) [النازعات:24]، بخلاف من قالها عن الحال، من طريق الأمر بمساعدة المشيئة، فكان جمعاً، مثل أبي يزيد حين قال: (إنني أنا الله لا إله الا أنا فاعبدوني)، وقال مرة: (أنا الله)، فلم يكن للألوهية فيه موضع فراغ ترمي سهمها فيه لكمال السريان([142])...

- في هذا النص ردّ ملجم للذين حاولوا -ويحاولون- خداعاً، تأويل أقوال أبي يزيد البسطامي! وتصريحُ بعقيدة سريان الِإلهية في المخلوقات.

ويقول: ...ونحن من جانب الحقيقة في عين ((وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا)) [مريم:9]، و((لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)) [الإنسان:1]، فكأنا لم تكن، فلا أولية إذن ولا آخرية، إذ لا نحن فبقي هو خاصة وهو المطلوب([143]).

- هذه الفقرة تساعدنا وتوضح لنا معنى عبارتهم: (إذا كان كما كان قبل أن يكون)، و(كان ولم تكن وهو اليوم كما كان) و(أفن من لم يكن يبق من لم يزل) وما شابهها.

ويقول: لما كان مرِتبة الإمكان بما تحويه الممكنات غيباً، ولها الظلمة، وكانت الممكنات هي التي تتعين في النور الوجودي، ويظهر أحكام بعضها للبعض بالحق وفيه، وهو سبحانه لا قيدَ له ولا تميز، كان المثال بالواقع في الوجود مطابقاً للأصل، فالمداد مع الدواة نظير مرتبة الِإمكان وما حوته من الممكنات، من حيث إحاطة الحق بها وجوداً وعلماً، وحقائقُ الممكنات كالحروف الكامنة في الدواة، وإليه الِإشارة بقوله: (كان الله ولا شيء معه)([144])، ونحوه قولي.

وليس في الغيب الذاتي الِإلهي تعدد ولا تعين وجودي، والورق وما يُكتَب فيه كانبساط النور الوجودي العام الذي يَتعين فيه صور الموجودات، والكتابة سر الِإيجاد والِإظهار، والواسطة والآلة القلمُ الِإلهي، والكاتب الحقّ، من حيث كونه موجداً وخالقاً وبارئاً ومصوراً([145])...

- في هذا النص يتبين لنا مرادهم باستعمال الأسماء الحسنى (موجد، خالق، بارىء، مصور...وغيرها).

ويقول:

أنضِ الركابَ إلى رب السماوات            وانبذْ عن القلب أطوارَ الكرامات

واعكف بشاطىء وادي القدس مرتقباً                 واخلعْ نعاليك تحظى بالمناجاة

وغب عن الكون بالأسماء متصفاً            حتى تغيبَ عن الأوصاف بالذات([146])

- بعد أن وضح لنا ابن عربي كل السر، وأكثَرَ الأساليب التي يستعملونها، نستطيع أن نعرف، بوضوح أيضاً، في هذه الأبيات معاني العبارات الواردة فيها (أنض الركاب إلى رب السماوات) المرادفة لـ (السير إلى الله) و(العكوف بشاطىء وادي القدس)، وقد عرفنا آنفاً معنى (خلع النعلين)، ونعرف الآن ما معنى (الغياب عن الكون) و(الاتصاف بالأسماء) و(الغياب عن الأوصاف بالذات)، وعلينا أن نحفظها لأنها تستعمل كثيراً كثيراً، وكلها تعني (التحقق بالألوهية)، أو بوضوح أكثر: (العمل للوصول إلى الجذبة التي تجعلك تذوق شيئاً فشيئاً معاني الألوهية، حيث تعرف، بالذوق، أن الخالق هو نفس المخلوق)، وهو ما يُسمَّى: (وحدة الوجود).

ويقول ابن عربي أيضاً:

رأيتُ الحق في الأعيان حقًّا                  وفي الأسماء فلم أره سوائي

ولستُ بحاكم في ذاك وحدي               فهذا حكمه في كل رائي

وعند المثبتين خلافُ هذا                             هو الرائي ونحن له المرائي([147])

ويقول:

الخلق تقديرٌ وليس بكائنٍ                    والمبْدَعاتُ هي التي تتكون

الروح والكلمات شيء واحد                 والحق فيه هو الذي يتعينَّ([148])

ويقول:

تجسدتُ أسمائي فكنتُ كثيراً               ولم يرني غيري فكنت بصيرا

فيا قائلاً بالغير أين وجودُه؟                  وأين يكون الغير؟ كنتَ غيورا([149])

ويقول:

مَن ستر الحقَّ ولم يُفشه            فذلك الشخص الذي قد كَفَر

تبارك الله الذي لم يزل              يَظْهر فيما قد بدا من صور

فإنه منشئها دائماً                    في كل ما يَظْهر أو قد ظَهَر([150])

ويقول:

فليس إلا عينه بالخبر               وليس إلا غيره بالبصر

إن قيل هُوْ قيل لهم ليس هُوْ                لأنه مطلوبكم بالفِكَر

أو قيل ما هوْ. قيل هُوْ إنه                   عين الذي تشهده في البصر([151])

ويقول أيضاً:

وقد أتى في الصلاة حُكْم                   منه بتقسيمه المثاني

فقال بيني وبين عبدي              فمن رآه فقد رآني

فلست غير إله ولا هُوْ              لوحدتي في الوجود ثاني([152])

ويقول:

عِنْديَّة الحق عينُ ذاته               فهي لأشيائه خزائن

ينزل منها الذي يراه                 فهي لما يحتويه صائن

إنزاله لم يُزِله عنها                   لأنه أعينُ الكوائن([153])

وكل هذه الآبيات واضحة كل الوضوح فيما يخص عقيدة وحدة الوجود. ومعها أبيات أترك تحليلها للقارىء ليدرب نفسه على فهم نصوصهم أينما وردت.

ويقول أيضاً:

لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورة                 فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبةُ طائف            وألواحُ توراةٍ ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت                 ركائبه فالحب ديني وإيماني([154])

- وبدهي أن هذه العقيدة تنبثق من (وحدة الوجود)، ولنعلم أنه كان ينشر هذا الكلام في زخمة الحروب الصليبية.

ويقول جلال الدين الرومي([155])، مؤسس الطريقة المولوية:

نَفْسي، أيها النور المشرق، لا تَنْء عني لا تَنْءَ عني

حبي، أيها المشهد المتألِّق، لاتَنْءَ عني لاتَنْءَ عني

انظرْ إلى العمامة أحكمتُها فوق رأسي

بل انظر إلى زنار زرادشت حول خصري

أحملُ الزنار، وأحمل المخلاة([156])

لا بل أحمل النور، فلا تَنْءَ عني، لا تَنْءَ عني

مسلمٌ أنا، ولكني نصراني وبرهمي وزرادشتي

توكلتُ عليك أيها الحق الأعلى، فلا تَنْءَ عني لا تَنءَ عني

ليس لي سوى معبدٍ واحد، مسجداً كان أو كنيسة أو بيت أصنام

ووجهك الكريم فيه غاية نعمتي، فلا تَنْءَ عني لاتَنْء عني([157])

* ملحوظات:

- التشابه واضح بين هذا الكلام وكلام ابن عربي السابق، وعقيدة وحدة الوجود، هي التي ترى كل الأديان صحيحة؛ لأن كل المعبودات هي الله وكل شيء هو الله.

- ولنا أن ننتبه إلى قوله: (نفسي أيها النور المشرق لا تنء عني)، ثم سيره بخطابه لنفسه حتى يقول: (أيها الحق الأعلى لا تنء عني)، حيث نلاحظ أسلوباً جديداً في العبارة وتدرجها، ولننتبه إلى العبارة (لا تنء عني).

ويقول جلال الدين الرومي أيضاً:

مجهول أنا عند نفسي، بربك خبِّرني ما العمل

ولا بهذا الكون ولا ذاك، ولا في الجنة ولا النار موطني

ولا طردت من عدن ولا يزدان، ولا من آدم أخذت نسبتي

بل من مقام ما أبعده من مقام، وطريق خفي المعالم

تجردت عن بدني وروحي، فمن جديد أحيا في روح محبوبي([158]).

- ما يجب ملاحظته قوله: (من مقام ما أبعده من مقام، وطريق خفي المعالم)، وقوله: (فمن جديد أحيا في روح محبوبي).

ويقول أيضاً:

يظهر الجمال الخاطف كل لحظة في صورة، فيَحْمِلُ القلبَ ويختفي، في كل نفسٍ يظهر ذلك الصديق في ثوب جديد، فشيخاً تراه تارة وشاباً تارة أخرى... انظر إليه وقد خرج من طينة الفخار، وانتشر في الوجود، ظهر بصورة نوح وأغرق الدنيا بدعاء منه...وفي نهاية المطاف ظهر بصورة عربي، ودان له ملك العالم...ذلك الجميل فتان القلوب قد ظهر بصورة سيفٍ في كف علي، وأصبح البتَّار في زمانه، لا لا! بل هو الذي ظهر في صورة إنسان، وصاح أنا الحق، ليس (منصور) هو الذي صُلِبَ على الدار، ولو ظن الجاهلون خلاف ذلك([159])...اهـ. (منصور هو الحلاج).

ويقول: أنا سَرِقَة اللصوص، أنا ألم العصا، أنا السحاب وأنت الغيث، أنا الذي أمطرتُ في المروج([160])...

ويقول على لسان قطبٍ يخاطب البسطامي:

إن الله هو ما تراه فيَّ بعين قلبك؛ لأنه اختارني بيتاً له، فإذا رأيتَني فقد رأيته، وطفْتَ حول الكعبة الحنفية، وإذا عبدتَني فقد عبدتَه وسبَّحت له، فلا تظنَّ أنني شيء غيره([161]).

* ملحوظة: الكلام -وخاصة النص الأخير- واضح جدّاً.

ويقول الشيخ أرسلان الدمشقي([162]):

كلّك شرك خفي، ولا يبين توحيدك إلا إذا خرجتَ عنك، فكلما أخلصتَ يُكْشَفُ لك أنه هو، لا أنت، فتستغفر منك، وكلما وحّدْتَ بان لك الشرك، فتجدّد فى كل ساعة ووقتٍ توحيداً وإيماناً، وكلما خرجتَ عنهم زاد إيمانك، وكلما خرجتَ عنك قوي يقينك...اليقين الأقوم في غيبتك عنك ووجودك به، فكم بين ما يكون بأمره وبين ما يكون به، إن كنت قائماً بأمره خَضَعت لك الأسباب، وإن كنتَ قائماً به تضعضعت لك الأكوان...ما صلُحت لنا وفيك بقية لسوانا، فإذا حوّلتَ السّوى عنك، أفنيناك عنك، فصلُحْت لنا وأودعناك سرَّنا. إذا لم يبق عليكَ حركة لنفسك كمل يقينك، وإذا لم يبق لك وجودٌ عندك كمل توحيدُك...إذا أفناك عن هواك بالحكمة وعن إرادتك بالعلم صرتَ عبداً صرفاً لا هوى لك ولا إرادة، فحينئذ يكشف لك، فتضمحلَّ العبودية في الوحدانية، فيفنى العبد ويبقى الرب تعالى، الشريعة كلها قبض، والعلم كله بسط، والمعرفة كلها دلال...إذا زال هواك يكشف لك عن باب الحقيقة، فتفنى إرادتك، فيكشف لك عن الوحدانية، فتحققتَ به أنه هو، بلا (أنت معه)...إن جئت بلا (أنت) قَبِلَك، وإن جئت بك حجبك...الخلق حجاب، وأنت حجاب، والحق ليس بمحجوب، وهو محتجب عنك بك، وأنت محجوب عنك بهم، فانفَصِلْ عنك تشهده، والسلام([163]).

- في هذا النص، يبين الشيخ أرسلان أن التحقق بالألوهية لا يكون إلا بنسيان كل شيء على الإطلاق، حتى الإحساس بالذات، وهذا مثل قولهم: (اخلع نعليك)، وسيأتي شرح لبعض عباراته.

ويقول عمر بن الفارض:

فلم تهوني ما لم تكن في فانياً                 ولم تفن ما لم تجتلي فيك صورتي

- إنه يشرح معنى (الفناء) بقوله: (تجتلي فيك صورتي)، أي: تصير صورتك صورة الله!

أممت إمامي في الحقيقة فالورى               ورائي وكانت حيث وجهت وجهتي

يراها أمامي في صلاتي ناظري                 ويشهد في قلبي أمام أئمتي

ولا غرو أن صلى الإمام إلي أن                ثوت في فؤادي وهي قبلة قبلتي

وكل الجهات الست نحوي توجهت                    بما تم من نسك وحج وعمرة

لها صلواتي بالمقام أقيمها            وأشهد فيها أنها لي صلت

كلانا مصل واحد ساجد إلى                   حقيقته بالجمع في كل سجدة

وما كان لي صلى سواي ولم يكن             صلاتي لغيري في أداء كل ركعة

فأفنى الهوى ما لم يكن ثم باقياً               هنا من صفات بيننا فاضمحلت

فألفيت ما ألقيت عني صادراً                   إلي ومني وارداً بمزيدتي

خرجت بها عني إليها فلم أعد                 إلي ومثلي لا يقول برجعة

جلت في تجليها الوجود لناظري               ففي كل مرئي أراها برؤية

وأشهدت عيني إذ بدت فوجدتني             هنالك إياها بخلوة خلوتي

ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها                   وذاتي بذاتي إذ تحلت تجلت

فوصفي إذ لم تدع باثنين وصفها              وهيأتها إذ واحد نحن هيأتي

فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن            منادى أجابت من دعائي ولبت

وإن نطقت كنت المناجي كذاك إن            قصصت حديثاً إنما هي قصت

فقد رُفعت تاء المخاطب بيننا                 وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي

فإن لم يجوّز رؤية اثنين واحداً                 حجاك ولم يثبت لبعد تثبِّت

سأجلو إشاراتٍ عليك خفيةً                    بها كعباراتٍ لديك جلية

وما شان هذا الشأن منك سوى السوى                 ودعواه حقاً عنك إن تُمحَ تُثبت

كذا كنت حيناً قبل أن يكشف الغطا                   مناللبس لا أنفك عن ثنوية

أرح بفقد بالشهود مؤلِّفي             وأغدو بوجد بالوجود مشتَّتي

يفرقني لبّي التزاماً بمحضري                    ويجمعني سلبي اصطلاماً بغيبتي

ومن فاقتي سكراً غنيت إفاقة                  لدى فرقي الثاني فجمعي كوحدتي

فجاهد تشاهد فيك منك وراء ما              وصفت سكوناً عن وجود سكينة

وفارق ضلال الفرق فالجمع منتج             هدى فرقة بالاتحاد تحدت

وصرح بإطلاق الجمال ولا تقل               بتقييده ميلاً لزخرف زينة

من معاني البيت الأخير: كل شيء هو الله وكل العقائد صحيحة، وكل معبود هو الله..

وما زلتُ إياها وإياي لم تزل          ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت

وليس معي في الملك شيء سواء والـ         معية لم تخطر على ألمعيتي

نفي المعية في هذا البيت يوضح أنه لا يريد من كلمة (الاتحاد) حيثما أوردها إلا (الوحدة):

ولكن لصد الضد عن طعنه على               علا أولياء المنجدين بنجدتي

رجعت لأعمال العبادة عادة          وأعددت أحوال الإرادة عدتي

في البيتين الأخيرين اعتراف جريء من الشيخ بأنه كان قد قطع العبادة، ثم رجع إليها لتكون عادة لا عبادة، وليصد بها الأضداد (أهل الشريعة) عن الطعن على الأولياء مثله، وهذا مثل قول الغزالي الذي مر في صفحة سابقة تماماً:

وهذبت نفسي بالرياضة ذاهباً                  إلى كشف ما حجب العوائد غطت

متى حلت عن قولي (أنا هي) أو أقل                   وحاشا لمثلي (أنها فيَّ حلَّت)

منحتك علماً إن ترد كشفه فرد                 سبيلي واشرع في اتباع شريعتي

فنبع صداء من شراب نقيعه          لدي فدعني من سراب بقيعة

واضح أنه يعني بقوله: (سراب بقيعة) كل ما ليس من سبيله ولا من شريعته التي هي (وحدة الوجود) وبذلك تكون الشريعة الإسلام هي من (السراب البقيعة).

وكل الورى أبناء آدم غير أنـ          ـي حزت (صحو الجمع) بين أخوتي

ومن (أنا إياها) إلى حيث (لا إلى)            عرجت وعطرت الوجود برجعتي

وغيري على الأغيار يثني وللسوى             سواي يثني منه عطفاً لعطفتي

ومبدأ إبداها اللذان تسببا            إلى فرقتي والجمع يأبى تشتتي

هما معنا في باطن الجمع واحد               وأربعة في ظاهر الفرق عدت

- يبين في البيت الأخير وما قبله معنى الجمع والفرق.

ولم أَلهُ باللاهوت عن حكم مظهري          ولم أنس بالناسوت مظهر حكمتيي

قول:إنه في الحكم إله وفي المظهر إنسان، وإنه يعي ذلك ولم ينسه.

تحققت أنا في الحقيقة واحد                  وأثبت (صحو الجمع) محو التشتت

إذا ما أزال الستر لم تر غيره                   ولم يبق بالأشكال إشكال ريبة

فأشكاله كانت مظاهر فعله           بستر تلاشت إذ تجلى وولت

- يقول: إن فعل الله هو أشكاله التي يظهر بها والتي تتلاشى عندما يتجلى.

تنزهت في آثار صنعي منزهاً                   عن الشرك بالأغيار جمعي وألفتي

فبي مجلس الأذكار سمع مطالع               ولي حانة الخمار عين طليعة

وما عقد الزنار حكماً سوى يدي              وإن حل بالإقرار بي هي حلت

وإن نار بالتنزيل محراب مسجد               فما بار بالإنجيل هيكل بيعة

وأسفار توراة الكليم لقومه            يناجي بها الأحبار في كل ليلة

وإن خر للأحجار في البد عاكف              فلا وجه للإنكار بالعصبية

فقد عبد الدينار معنى منزه           عن العار بالإشراك بالوثنية

وما زاغت الأبصار من كلِّ ملةٍ                 وما زاغت الأفكار في كل نحلة

وما اختار من للشمس عن غرة صبا           وإشراقها من نور إسفار غرتي

وإن عبد النار المجوس وما انطفت            كما جاء في الأخبار في ألف حجة

فما قصدوا غيري وإن كان قصدهم           سواي وإن لم يظهروا عقد نيتي

- يقول: كل شيء حق، وكل العبادات حق، وكل العقائد حق، فعابد البد (أي: الصنم) وعابد النار والنصراني واليهودي والمسلم كلهم على حق، وعلينا أن نلاحظ أن هذه الأقوال قيلت في زخمة الحروب الصليبية.

ويقول ابن سبعين في الرسالة النورية مخاطباً تلميذه:

وجميع ما توجه الضمير إليه اذكره به ولا تبال، وأي شيء يخطر ببالك سمه به، من اسمه (الوجود) كيف يخص بأسماء منحصرة؟ هيهات! الله لا اسم له إلا الاسم المطلق أو المفروض، فإن قلت: نسميه بما سمى به نفسه أو نبيه، يقال لك: من سمى نفسه (الله) قال لك: أنا كل شيء، وجميع من تنادي أنا. وقد يصعب عليك هذا فعسى أن تسلم أنه معك بالعلم والفعل، فإذا سلمت هذا تسلم أن الذي استجاب لك هو الوجود، فإذا سلمت ذلك فعجل بذلك، ولا تكن كذلك فما يحق لك ذلك؛ يا هالك يا مالك انظر من حالك وقل بعد ذلك: يا حق يا أبد يا راحم يا أحد يا أكبر يا واجب الوجود، الذي الوجود ووحدته واحد، يا ماهية كل ماهية، يا آنية كل آنية.. لا شيء عندي إلا أنت.. لأن الكذب لا يجوز على الله ولا مع الله، ولا شيء أكذب من لسان الإضافة، ولا شرك أقبح من شركها... ولا يعتبر المحقق في ذلك إلا الله، وبد البد، والهو هو.

يعني بقوله: (لسان الإضافة) إضافة شيء إلى الله، مثل (عبد الله، أو مخلوقات الله...) أو إضافة الله إلى شيء، مثل: (خالق الكون..) لأن الإضافة تعني الاثنينية، أي وجود اثنين، خالق ومخلوق وهذا عند الصوفية كذب وشرك لأنه لا موجود إلا الله، والكون هو الله.

ويقول في إحدى رسائله:

... واضرب عن الوهم والحس والخيال والعادة، واخرج عن لواحقك ومحمولك وموضوعك... واطلب واحدك بوحدتك، واخرج عن وترك الخاص بك كما خرجت عن شفعك التابع لك، حتى يبقى الواحد. (أقول: هذا الكلام مثل كلام الشيخ رسلان).

وكان ابن سبعين يقول هو وأصحابه في ذكرهم: (ليس إلا الله) بدل قول المسلمين: (لا إله إلا الله).

ويقول في أحد الفصول التالية لـ(ملاحظات على بد العارف):

يا هذا، غض بصر إدراكك عن غير الله، ثم قل لنفسك: ياخسيسة المنزلة، متى ثبت سواه؟ حتى تستريبي فيه وتغضي بصرك عنه! هو الله.. فلا هو إلا هو ولا يمكن غير ذلك. اهـ.

- أرجو الانتباه والتدقيق في معنى العبارة الأخيرة: (... ولا يمكن غير ذلك).

ويقول: ...لو كان فيهما موجود غير الله لكان الله وبالوهم لفسدت...

ويقول:

كم ذا تموّه بالشعبين والعلم                   والأمر أوضح من نار على علم

وكم تعبر عن سلع وكاظمة            وعن زرود وجيران بذي سلم

ظللت تسأل عن نجد وأنت بها               وعن تهامة هذا فعل متهم

في الحي حي سوى ليلى فتسأله               عنها سؤالك وهم جر للعدل

ويقول:

ليس من فوه بالوصل له              مثل من سير به حتى وصل

لا ولا الواصل عندي كالذي                   قرع الباب وللدار دخل

لا ولا الداخل عندي كالذي                   سارروه وهو للسر محل

لا ولا من سارروه كالذي              صار إياهم فدع عنك العلل

فمحوه عنه فيهم فانمحى            ثم لما اثبتوه لم يزل

ذاك شيء علق القلب به             لو تجلى ذاك للخلق قتل

ويقول في (رسالة الإحاطة):

رب مالك وعبد هالك، ووهم حالك، وحق سالك، وأنتم ذلك! اختلط في الإحاطة الزوج مع الفرد، واتحد فيه النجو مع الورد، واتفق فيه السقر مع القر، وبالجملة السبت هو يوح الأحد، والموحد هو عين الأحد، ويوم الفرض هو يوم العرض، والذاهب من الزمان هو الحاضر، والأول في العيان هو الآخر، والباطن في الجَنَان هو الظاهر، والمؤمن في الجِنان هو الكافر، والغني هو الولي، والفقير هو الغني، وهذه وحدات حكمية، لا أحداث وهمية.

يريد بقوله: (عبد هالك) أي: لا وجود للعبد؛ والنجو هو الغائط.

ويقول في إحدى رسائله:

الله فقط، الله المستعان والمستعين، والإعانة معنى فيه في كونه معيناً ومستعيناً، والحمد لله في الأزل والأبد ولي المجد، ومن هو بهما عين الحامد والحمد... ولا حول ولا قوة إلا بالساري بذاته في أفعاله عن أسمائه بصفاته، أحب فتسمى بالحي، وأحاط فتسمى بالعالم... هو عين كل ظاهر، فحق له أن يتسمى بالظاهر، وهو معنى كل معنى فحق له أن يتسمى بالباطن.

ويقول في رسالة ثانية:

استمع لما يوحى ويستقرا... من أبصر مقصوده كف عن سواه لأنه سواه، وشرط من سري واستوى قطع وهم السوى، فمن قربه الله يقول: الله فقط... ويحرر قضيته البسيطة بإطلاق الهوية على الآنية.

- للتذكير: الهوية من قولهم: (هو) إشارة إلى الله سبحانه، والآنية إشارة إلى المخلوقات التي هي تعينات.

ويقول الششتري:

ما للحجاب مكان في وجودكم                إلا بسر حروف انظر إلى الجبل

أنتم دللتم عليكم منكم ولكم                 ديمومة عبرت عن غامض الأزل

عرفتم بكم هذا الخبير بكم                   أنتم هم يا حياة القلب يا أملي

ويقول (زجلاً):

لقد أنا شيء عجيب         لمن رأني                   أنا المحب والحبيب                ليس ثم ثاني

يا قاصداً عين الخبر                  غطاه أينك                 الخمر فيك والخبر                 والسر عندك

ارجع لذاتك واعتبر                   ما ثم غيرك

ويقول أيضاً:

لقد فشا سري بلا مقال               وقد ظهر عني في ذا المثال

ترى وجود غيري من المحال                   وكل ما دوني خيال في

متحد في كل شيء          أنا هو المحبوب وأنا الحبيب

والحب لي مني شيء عجيب                  وحدي أنا فافهم سري غريب

فمن نظر ذاتي رآني شيء            وفي حلا ذاتي طواني طي

صفاتي لا تخفى لمن نظر            وذاتي معلومة تلك الصور

أفنَ عن الإحساس ترى عبر                    في السر والمعنى خفيت كي

لأنه مني ستر علي([164])

يعلق ابن عجيبة على هذه الأشعار بعد شرحها، فيقول: وقد اتفقت على هذا المعنى، وهو سر الوحدة، مقالات العارفين، ومواجيد المحبين، وأشعارهم كل على قدر ذوقه وشربه، جزاهم الله عنا وعن المسلمين خيراً، ولا يفهم هذه العبارات إلا أهل الأذواق والإشارات([165])...

ويقول الششتري أيضاً:

محبوبي قد عم الوجود               وقد ظهر في بيض وسود

وفي النصارى مع اليهود              وفي الخنازير مع القرود

وفي الحروف مع النقط               أفهمني قط أفهمني قط

عرفته طول الزمان           ظهر لي في كل أوان

وفي المياه وفي الدلوان              وفي الطلوع وفي الهبوط

أفهمني قط أفهمني قط([166])

- قوله هنا: (وفي الخنازير مع القرود)، هو مثل قول قائلهم: (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا)([167])، ومثل قول ولي الله الدهلوي: ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سنخ القدوسية، ومثل قول ابن سبعين: واتحد فيه النجو مع الورد، ومثل قول مصطفى العروسي: الظاهر في كل المراتب، الخسيس منها والشريف، ومثل قول عبد القادر الجيلاني الذي ينسبه لابن عباس: في كل شيء اسمٌ من أسمائه واسم كل شيء اسمه، ومثل قول أحمد الرفاعي: إن لله تعالى بعدد كل شيء خلقه أسماء. وغيرهم وغيرهم.

- وقبل الانتقال إلى غيره، نستشير متصوفةً كباراً آراءهم بهذا الششتري، فمن أقوالهم فيه:

1- كان الششتري يذكر في أزجاله قوله: شيوخي هم شاذلية([168]). وكان ذلك في حياة أبي الحسن الشاذلي وتلميذه أبي العباس المرسي.

2- قَبِل الشاذليةُ إلى حد ما أشعاره في حضراتهم واحتضنوها([169]).

3- عبر ابن عباد الرتدي([170]) في رسائله الكبرى عن إعجابه بأزجال الششتري وموشحاته، وهو ينصح مريديه الشاذلية بقراءتها، ويقول عنها: وكلام الششتري عندي أقرب مأخذاً من كلام ابن سبعين، وأما أزجاله ففيها حلاوة وعليها طلاوة([171]).

4- شرح الشيخ أحمد زروق([172])، وهو من كبار الشاذلية، بعض أشعار الششتري ووصفه بقوله: الشيخ العارف، أحد الصوفية، من أبناء الملوك ثم صار من سادات الصوفية، كان يقرأ عليه القرآن والسنن، عارف بالحديث، وأما علم الأسرار والأنوار والحِكَم والأذواق، فحاز فيه قصب السبق([173])...

5- ويقول أبو العباس الغبريني([174]):

الشيخ الفقيه الصوفي الصالح العابد الأديب أبو الحسن علي النميري الششتري من الطلبة المحصلين، ومن الفقراء المنقطعين، له معرفة بالحكمة، ومعرفة بطريق الصالحين الصوفية، وله تقدم في علم النظم والنثر على طريق التحقيق، وشعره في غاية الانطباع والملاحة، وتواشيحه ومقفياته ونظمه الزجلي في غاية الحسن([175]).

6- ويقول عنه ابن عجيبة الحسني:

...وكذلك قصة الششتري رضي الله عنه مع شيخه ابن سبعين، لأن الششتري كان وزيراً وعالماً، وأبوه كان أميراً، فلما أراد الدخول في طريق القوم قال له شيخه: لا تنال منها شيئاً حتى تبيع متاعك وتلبس قشابة وتأخذ بنديراً وتدخل السوق، ففعل جميع ذلك، وقال له: ما نقول في السوق. فقال: قل: بدأت بذكر الحبيب، فدخل السوق يضرب بنديره ويقول: بدأت بذكر الحبيب، فبقي ثلاثة أيام، وخرقت له الحجب، فجعل يغني في الأسواق بعلوم الأذواق، ومن كلامه رضي الله عنه:

شويخ من أرض مكناس             في وسط الأسواق يغني

آش علي من الناس                  وآش على الناس مني([176])

إذن فالششتري من كبار القوم وشيوخهم وعارفيهم، يذكرون اسمه مصحوباً بـ(رضي الله عنه)، ويأخذون أقواله حكماً ونبراساً ومعارف، وما دام هو كذلك، فشهادته كافية لتزكية أي شخص عند القوم، وهو يزكي شيخه ابن سبعين، بل يقدسه ويدعوه بكعبة الحسن وكنز حياته وشمسها وبدرها ومحيي الرسم، وممد الذات، وذات الخير، وكمية السعادة، وإكسير الذوات، ومغناطيس النفوس([177]).

ويقول أبو الحسن الشاذلي:

إنا لننظر إلى الله ببصر الإيمان والإيقان، فأغنانا عن الدليل والبرهان، وإنا لا نرى أحداً من الخلق، فهل في الوجود أحد سوى الملك الحق، وإن كان ولا بد فكالهباء في الهواء، إن فتشتهم لم تجدهم شيئاً([178]).

- لنلاحظ أن أبا الحسن الشاذلي يصرح بالاستغناء عن الدليل والبرهان؟! وطبعاً يكون الدليل والبرهان من القرآن والسنة، والحق عنده هو ما يراه بالكشف! كما أن وحدة الوجود ظاهرة في النص.

ويقول: إذا أردت الوصول إلى الطريق التي لا لون فيها، فليكن الفرق في لسانك موجوداً والجمع في سرك مشهوداً([179]).

وقد مر هذا النص فيما سبق، ولننتبه إلى قوله: التي لا لون فيها.

ويقول: ...من الأولياء مَنْ يسكر من شهود الكأس ولم يذق بعد شيئاً، فما ظنك بعد ذوق الشراب وبعد الري؟ واعلم أن الري قل من يفهم المراد به، فإنه مزج الأوصاف بالأوصاف، والأخلاق بالأخلاق، والأنوار بالأنوار، والأسماء بالأسماء، والنعوت بالنعوت، والأفعال بالأفعال([180]).اهـ.

- أي: إن الري هو التحقق بالألوهية الكاملة بكل معانيها.

ويقول: أبى المحققون أن يشهدوا غير الله تعالى لما حققهم به من شهود القيومية وإحاطة الديمومية([181]). اهـ.

- من مثل هذا النص نعرف معنى عبارة (وحدة الشهود).

ويقول: لا يتزحزح العبد عن النار إلا إن كف جوارحه عن معصية الله، وتزين بحفظ أمانة الله، وفتح قلبه لمشاهدة الله، ولسانه وسره لمناجاة الله، ورفع الحجاب بينه وبين صفات الله، وأشهده الله تعالى أرواح كلماته([182]).

ويقول: العلوم التي وقع الثناء على أهلها، وإن جدت فهي ظلمة في علوم ذوي التحقيق، وهم الذين غرقوا في تيار بحر الذات، وغموض الصفات، فكانوا هناك بلا هُمْ، وهم الخاصة العليا الذين شاركوا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في أحوالهم([183]).

- يجب الانتباه إلى قوله: فكانوا هناك بلا (هُمْ)، الذي مر معنا مثله، وإلى العبارتين الجديدتين علينا: (غرقوا في تيار بحر الذات) و(وغرقوا في غموض الصفات). وفي النص السابق عبارة: رفع الحجاب بينه وبين صفات الله. وهي واضحة تماماً من حيث المعنى. ثم لننتبه إلى هذا الأسلوب في محاربة العلم: (العلوم...وإن جلت فهي ظلمة...).

ويقول: فإذا أمدَّه الله تعالى بنور ذاته، أحياه حياة باقية لا غاية لها، فينظر جميع المعلومات بنور هذه الحياة؛ ووجد نور الحق شائعاً في كل شيء، لا يشهد غيره([184])...

- لننتبه إلى قوله: (أحياه حياة باقية لا غاية لها)، فما هي هذه الحياة الباقية؟ المعنى واضح، ففي حياتنا الدنيا لا حياة باقية إلا لله، فيكون معنى (أحياه حياة باقية..)، أي: حققه بالألوهية، ونرى مثل هذه العبارة كثيراً في نصوصهم.

ويقول: ...فبينما هم كذلك، إذ ألبسهم ثوب العدم، فنظروا فإذا هم لا (هُمْ)، ثم أردف عليهم ظلمة غيبتهم عن نظرهم، فصار نظرهم عدماً لا علة له، فلا معرفة تتعلق به، اضمحلت المعلومات، وزالت المرسومات زوالاً لا علة فيه، وبقي من أشير إليه، لا وصف له ولا صفة ولا ذات، واضمحلت النعوت والأسماء والصفات، وكذلك فلا اسم له ولا صفة ولا ذات، فهنالك ظهر من لم يزد ظهوراً لا علة فيه، بل ظهر بسره لذاته في ذاته، ظهوراً لا أولية له، بل نظر من ذاته لذاته في ذاته، وهناك يحيا العبد بظهوره حياة لا علة لها، وصار أولاً في ظهوره، لا ظاهراً قبله، فوجدت الأشياء بأوصافه، وظهرت بنوره في نوره سبحانه وتعالى، ثم يغطس بعد ذلك في بحر بعد بحر إلى أن يصل إلى بحر السر، فإذا دخل بحر السر غرق غرقاً لا خروج له منه أبد الآباد، فإن شاء الله تعالى بعثه نائباً عن النبي صلى الله عليه وسلم، يحيي به عباده، وإن شاء ستره، يفعل في ملكه ما يشاء، فهذا عنبرة من طريقَي الخصوص والعموم. فتنبه([185]).

ويقول أبو العباس المرسي([186])، تلميذ أبي الحسن الشاذلي:

قال لي الشيخ أبو الحسن: يا أبا العباس، ما صحبتك إلا لتكون أنت أنا وأنا أنت([187]).

- هذا الكلام اعتراف من المرسي بأنه يسير على قدم أستاذه، فهما من عقيدة واحدة، وهذا بدهي.

ويقول: لو كان الحق سبحانه وتعالى يرضيه خلاف السنة، لكان التوجه في الصلاة إلى القطب الغوث أولى من التوجه إلى الكعبة([188]).

ويقول: لو كشف عن نور الولي لعبد من دون الله([189])!؟! (ولا تعليق).

ويقول ابن عطاء الله السكندري([190]) في حِكَمِه:

لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى يسير، والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل عنه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون، ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنْتَهَى)) [النجم:42]([191]).

- قوله: لا ترحل من كون إلى كون...ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون. هو تماماً مثل قول عبد القادر الجيلاني الذي مر معنا:..إلى متى الدنيا؟ إلى متى الآخرة؟ إلى متى سوى المولى؟.. إذ المعنى واحد تماماً، وكذلك هو مثل قوله: اخلع نعليك: دنياك وآخرتك..، لكن يزيد عليه إن الذي يبتغي الآخرة يكون كحمار الرحى (كانت الطواحين تدار بالحمير)، إذ إن حمار الرحى يدور، يدور ثم يرجع إلى مكانه، وهكذا طالب الآخرة عند السكندري؟!

ويقول: لا تترك الذكر لعدم حضور قلبك مع الله فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع غيبة عن ما سوى المذكور، وما ذلك على الله بعزيز([192]).

- في هذا النص يتضح لنا معنى المصطلح (حضور) ومعنى العبارة (غيبة عن ما سوى المذكور..)، وسنشاهدهما كثيراً في كتبهم.

ويقول: إنما أورد عليك الوارد لتكون به عليه وارداً([193]).

أورد عليك الوارد ليتسلمك من يد الأغيار وليحررك من رق الآثار([194]).

أورد عليك الوارد ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك([195]).

- في هذه النصوص، يتبين لنا معنى (الوارد). وبدهياً، أننا الآن نعرف بدقة معنى العبارات (لتكون به عليه وارداً، ليتسلمك من يد الأغيار وليحررك من رق الآثار، ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك). فهي كلها تعني (شهود وحدة الوجود)، ويعني بالآثار شهود الخلق.

ويقول: فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحُجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار([196]). مما يدلك على وجود قهره سبحانه أن حجبك عنه بما ليس بموجود معه([197]).

كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء([198])!

كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء([199])! كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر لكل شيء([200]). كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أظهر من كل شيء([201])! كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ليس معه شيء([202])!

- لنركيف يقدم ابن عجيبة (الذي يشرح حكم ابن عطاء الله) هذه التعجبات! إنه يقول: ...ثم استدل (أي: ابن عطاء الله) على بطلان وجود الحجاب في حقه تعالى بعشرة أمور، متعجباً من كل واحد، لظهوره مع خفائه، أي لشدة ظهوره عند العارفين، وشدة خفائه عند الغافلين الجاهلين، فأشار إلى الأول بقوله: كيف نتصور أن يحجبه شيء...، ومعنى هذا الكلام، أن الحجاب الذي يحجب الحق تعالى عن الغافلين الجاهلين هو الوهم فقط، لأن الحق ظاهر شديد الظهور، لكنه اختفى عن الغافلين بسبب غفلتهم وجهلهم. فهم يظنون أن المخلوقات هي غير الله. وهذا باطل عند العارفين.

- ويعلق ابن عجبية على قول ابن عطاء الله: وهو الذي أظهركل شيء، شارحاً فيقول: والظاهر هو الباطن، ما بطن في عالم الغيب هو الذي ظهر في عالم الشهادة، فحياض الجبروت متدفقة بأنوار الملكوت:

انظر جمالي شاهداً                   في كل إنسان

الماء يجري نافداً            في أس الأغصان

تجده ماءً واحداً             والزهر ألوان

يا عجباً كيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف([203])...

- ويشرح قوله:..وهو الذي ظهر بكل شيء، فيقول: بباء الجر، أي تجلى بكل شيء، فلا وجود لشيء مع وجوده، فكيف يحجبه شيء، والفرض أن لا شيء. قال صاحب العينية([204]) رضي الله عنه:

تجليت في الأشياء حين خلقتها             فها هي ميطت عنك فيها البراقع([205])

- ويشرح قوله: ...وهو الظاهر قبل وجود كل شيء، فيقول: فكل ما ظهر فمنه وإليه، فكان في أوله ظاهراً بنفسه، ثم تجلى لنفسه بنفسه، فهو الغني بذاته عن أن يظهر بغيره، أو يحتاج إلى من يعرفه غيره، فالكون كله مجموع، والغير عندنا ممنوع([206]).

- ويشرح قوله: ...وهو الواحد الذي ليس معه شيء، فيقول: لتحقق وحدانيته أزلاً وأبداً، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان، أإله مع الله، تعالى الله عما يشركون، أفي الله شك، فكل ما ظهر للعيان فإنما هو مظاهر الرحمن، قال صاحب العينية:

تجلى حبيبي في مرائي جماله                  ففي كل مرأى للحبيب طلائع

فلما تجلى حسنه متنوعاً              تسمى بأسماء فهن مطالع

فالحق تعالى واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، فلا شيء قبله ولا شيء بعده ولا شيء معه([207]).

- هذا النص الأخير يبين مرادهم من قولهم: توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال التي تعني كلها وحدة الوجود.

ويقول ابن عطاء الله:

ما حجبك عن الله وجود موجود معه، إذ لا شيء معه، ولكن حجبك عنه توهم موجود معه([208]).

من عرف الحق شهده في كل شيء، ومن فني به غاب عن كل شيء، ومن أحبه لم يؤثر عليه شيئاً([209]). إنما حجب الحق عنك شدة قربه منك، إنما احتجب بشدة ظهوره، وخفي عن الأبصار لعظيم نوره([210]).

قبل الانتقال من حكم (بل نقم) ابن عطاء إلى غيرها يجب أن نعرف قيمتها عند القوم.

يقول ابن عجيبة: سمع شيخ شيخنا مولاي العربي (أي: الدرقاوي) رضي الله عنه يقول: سمعت الفقيه البناني يقول: كادت حكم ابن عطاء الله أن تكون وحياً، ولو كانت الصلاة تجوز بغير القرآن لجازت بكلام الحكم أو كما قال([211]).

كما أنها تدرس في مساجد المسلمين، يدرسها علماء لهم شهرة، ويحمل بعضهم ألقاباً علمية.

ويقول ابن عطاء الله أيضاً:

..((قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)) [الإسراء:110]، وإن تعددت الأسماء، فالمقصود منها واحد، وهو الله، وكل الأسماء هي صفته ونعته، وهو أولها وأصلها، والأسماء كلها سرت في العالم سريان الأرواح في الأجساد، وحفت منه محل الأمر من الخلق، ولزمته لزوم الأعراض للجواهر، فإنه ما من موجود دق أو جل، علا أو سفل، كثف أو لطف، كثر أو قل، إلا وأسماء الله جل وعز ذكره محيطة به عيناً ومعنى، ومقتضى اسم الألوهية جامع لجميعها([212])...

* الملحوظة:

قوله: فإنه ما من موجود دق أو جل، علا أو سفل...إلى آخر النص، هو مثل ما مر في صفحة سابقة من قولهم: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا...وبقية العبارات. ويقول إبراهيم الدسوقي([213]):

من أُدخل دار الفردانية، وكشف له عن الجلال والعظمة، بقي هو بلا هو([214])....ويقول: وهي في الحقيقة لعامر بن عامر البصري، ولكن نوردها على أنها له احتراماً لكشف العارفين:

تجلى لي المحبوب في كل وجهة                    فشاهدته في كل معنى وصورة

وخاطبني مني بكشف سرائري               فقال: أتدري من أنا؟ قلت: منيتي

فأنت مناي بل أنا أنت دائماً                 إذا كنت أنت اليوم عين حقيقتي

وأنظر في مرآة ذاتي شاهداً                  لذاتي بذاتي وهي غاية بغيتي

وما شهدت عيني سوى عين ذاتها           وإن سواها لا يلم بفكرتي

بذاتي تقوم الذات في كل ذروة             أجدد فيها حلة بعد حلة

فليلى وهند والرباب وزينب                  وعلوى وسلمى بعدها وبثينة

عبارات أسماء بغير حقيقة                    وما لوحوا بالقصد إلا لصورتي([215])

- ومن المفيد إيراد النص التالي...

يقول: أنا موسى عليه السلام في مناجاته، أنا علي رضي الله عنه في حملاته، أنا كل ولي في الأرض خلعته بيدي ألبس منهم من شئت، أنا في السماء شاهدت ربي، وعلى الكرسي خاطبته، أنا بيدي أبواب النار غلقتها، وبيدي جنة الفردوس فتحتها، من زارني أسكنته جنة الفردوس([216])...(ولا تعليق)!

وكتب إلى بعض مريديه، بعد السلام؛ وإنني أحب الولد وباطني خليّ من الحقد والحسد، ولا بباطني شظا، ولا حريق لظى، ولا جوى من مضى، ولا مضض غضا، ولا نكص نصا، ولاسقط نطا، ولا ثطب غطا، ولاعطل حظا، ولا شنب سرى، ولا سلب سبا، ولا عتب فجا، ولا سمداد صدا، ولا بدع رضا، ولا شطف جوا، ولا حتف حرا، ولا خمص خيس، ولا حفص عفص، ولا خفض خنس، ولا حول كنس، ولا عنس كنس، ولا عسعس خدس، ولا جيقل خندس، ولا سطاريس، ولا عيطافيس، ولا هطامرش، ولا سطامريش، ولا شوش أريش، ولا ركش قوش، ولا سملاد نوس، ولا كتبا سمطلول الروس، ولا بوس عكمسوس، ولا انفداد أفاد، ولا قمداد أنكاد، ولا بهداد ولا شهداد([217])...وغيرها كثير من هذه الهذيانات التي يسمونها: (علماً لدنياً).

ويقول: أشهدني الله تعالى ما في العلى وأنا ابن ست سنين، ونظرت في اللوح المحفوظ وأنا ابن ثمان سنين، وفككت طلسم السماء وأنا ابن تسع سنين، ورأيت في السبع المثاني معجماً حار فيه الجن والإنس ففهمته، وحمدت الله تعالى على معرفته، وحركت ما سكن، وسكنت ما تحرك بإذن الله تعالى وأنا ابن أربع عشرة سنة([218]). ويقول داوُد الكبير بن ماخِلاّ([219]):

كلما جدد العبد المؤمن بالصدق حقيقة الإيمان، اقتضى تجديده ذلك فناء عوالم الأكوان([220]).

- الرجاء الانتباه إلى ربطه الإيمان بفناء عوالم الأكوان، (أي: وحدة الوجود).

ويقول: ما ظهر متلصص كون إلا عند غيبة حارس المعرفة، ولولاها ما لاح متلصص كون أبداً، وإن شئت قلت تنويعاً لمثل التوصيل: ما لاح كوكب كونٍ إلا عند غيبة شمس المعرفة، ومتى طلعت شمس المعرفة من مشارق التوحيد أفلت كواكب الآثار وغابت نجوم الأغيار([221])...

- عبارات جديدة نراها في هذا النص: (متلصص كون) يعبر بها عن التفرقة، وكأنه يقول: إن الذي يعتقد أن الكون شيء خارج عن الوحدة، إنما هو لص يسرق الكون من الوحدة، وعبارة حارس المعرفة التي يعني بها مقام الجمع. وكذلك بقية العبارات. ويقول: ...فلسان اللسان هواء عن هواء، ولسان القلب داع إلى هدى، ولسان الغيب يشير إلى عالم المحق والفناء، وانطوى الفرع الأدنى في الأصل الأعلى([222]).

- الفرع الأدنى هو المخلوق، أو هو الإنسان، هنا، أو هو السالك، إذا أردنا التخصيص، والأصل الأعلى هو الحق سبحانه.

ويقول: إنما صد الناس عن العارف المحقق، وجود شركهم، لأن العارف يدفع بهم في حضرات الجمع والتفريد، فتفر نفوسهم من حر نار الأنوار إلى ظل ظلال الأغيار([223]). ويقول: لو زال منك (أنا) للاح لك من أنا([224]).

- يعني بكلمة (أنا) الأولى، ما يسمون في مصطلحهم بالأنية، أي الشعور بالذات كمخلوق، ويعني بـ (أنا) الثانية، ضميراً عائداً على أي متكلم كان (أو على الحق). وكان يقول:

كلما وجه العبد قلبه إلى الله تعالى انجمع، وكلما وجه قلبه إلى الخلق تفرق([225]). كل سبب فرقك فقد أفناك وأماتك، وكل سبب جمعك فقد أحياك وأثبتك([226]).

ويقول محمد وفا([227]) الشاذلي الغوث مؤسس الطريقة الوفائية:

قال لي الحق: أيها المخصوص، لك عند كل شيء مقدار، ولا مقدار لك عندي، فإنه لا يسعني غيرك، وليس مثلك شيء، أنت عين حقيقتي، وكل شيء مجازك، وأنا موجود في الحقيقة، معدوم في المجاز، يا عين مطلعي، أنت الحد الجامع المانع لمصنوعاتي، إليك يرجع الأمر كله، وإلي مرجعك، لأنك منتهى كل شيء، ولا تنتهي إلى شيء، طويت لك الأرضين السبع في سبع من الحب والنوى، المتنوعة بالفعل إلى أصناف من نبات شتى، فإذا شئت على نشرها، أوْلجت فيها جواهر السماء، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ((إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [فصلت:39]([228]).

- هذا العارف محمد وفا يتبع في تصريحه وتبيانه للحقيقة في هذا النص، أسلوب الحلاج والبسطامي وابن عربي وابن الفارض وغيرهم، لكن بشكل معكوس، فالحلاج قال: أنا الله، والبسطامي: أنا أنا، أو سبحاني، وهذا يقول: قال لي الحق، فالحق -سبحانه وتعالى عما يصفون- هو الذي يقول لمحمد وفا: ليس مثلك شيء، أنت عين حقيقتي، يا عين مطلعي، إليك يرجع الأمركله.

ويقول لسان الدين بن الخطيب:

...وإنما وقعت الكثرة بالتفصيل، والأمر في نفسه حقيقة واحدة وما ثم غيرها، الغدير إذا امتلأ عند المطر ملأ جباباً، ثم لم يكن غير الغدير صباباً([229]).

ويقول: ...وأول مراتب العلم هو عين الذات، المعبر عنه بحقيقة الحقائق الكلية، وسريانه في كل اعتبار، ففي الإلهية إلهياً، وفي الكونية كونياً، والكل مظاهره...وهو قسمان: ذاتي وحداني، يلازمه الغنى، معناه شهود الذات نفسه من حيث الواحدية، التي هي مظهر للأحدية بجميع الاعتبارات والشئون، معنويها ومثاليها وحسيها، دنيا وبرزخاً وآخرة، دفعة واحدة، من حيث الكل في شهود الحق عيناً واحدة([230]).

ويقول علي وفا([231]) (ابن محمد وفا) وهو غوث أيضاً:

...لا يصح لأحد أن يقول في استفتاحه ((وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [الأنعام:79] إلا حتى لا يرى غيره، ولا المصلَّى، ولا القبلة، ولا المناجي، فاجعل ربك مشهودك دون غيره([232]).

من أعجب الأمور قول الحق تعالى لسيدنا موسى عليه السلام: ((لَنْ تَرَانِي)) [الأعراف:143]، أي مع كونك تراني على الدوام، فافهم([233]). ((وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)) [العنكبوت:45] وهو شهود ذاته وحده لا شريك له، لم يكن شيء غيره فافهم([234]).

- قوله: لا يصح لأحد أن يقول: ((وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [الأنعام:79] حتى لا يرى غيره، هو مثل قولٍ للغزالي أرجو من القارئ أن يتسلى بالبحث عنه.

- وكان يقول في قوله: ((أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)) [فصلت:54]: أي كإحاطة ماء البحر بأمواجه معنى وصورة، فهو حقيقة كل شيء، وهو ذات كل شيء، وكل شيء عينه وصفته، فافهم([235]).

وكان يقول في حديث: {أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني} أي: مهما تصورني به من الصور، كنت ممده من أفق تلك الصورة بحكمها، فافهم([236]).

وكان يقول: ما عبد عابد معبوداً إلا من حيث رأى له وجهاً إلهياً([237]).

وكان يقول في حديث: {فإذا أحببته كنت سمعه. وفي رواية: كنته} ليس المراد به معنى الحدوث في نفس الأمر! لأنه كذلك بالذات، وإنما ذلك ليكون الشهود مرتباً على ذلك الشرط الذي هو المحبة، فمن حيث الترتيب الشهودي جاء الحدوث لا من حيث التقرير الوجودي، فافهم([238]).

- قوله: ما عبد عابد معبوداً إلا من حيث رأى له وجهاً إلهياً، يذكرنا بقول الغزالي الذي مر معنا سابقاً وبقول محيي الدين بن عربي..

والحديث: {كنت سمعه} هو من حديث مشهور يستغله الصوفية أبشع استغلال، يحرفون معناه ويعطونه معنى هو في نظر الإسلام كفر.

وكان يقول -وهي عبارات تشير إلى وحدة الوجود يقدمها بين يدي القوم-:

ما عبد الله أحد إلا على الغيب، لكن فتح لك الشرع الذوقي، في الذوق الشرعي المحمدي باباً إلى الجمع، بأن تشهد كل شيء من معبودك، حتى عبوديتك، فتراه هو الذي يجري الأحكام عليك، ويقيمها فيك بقيوميته، فتصير عند شهودك هذا تعبده كأنك تراه، لأنك لو رأيته، رأيته وجودك القائم بجميع صفاتك، وسمى اللسان المحمدي هذا الشهود مقام الإحسان، وليس بعده إلا مقام الإيقان، وهو العيان([239])، فافهم. (أرجو الانتباه إلى معنى: الإحسان، عندهم).

وكان يقول في معنى حديث: {كنت كنزاً لا أعرف...}، يعني: مرتبة التجرد... {فأحببت أن أعرف فخلقت خلقاً...}، أي: قدرت أعياناً تقديرية، {وتعرفت إليهم ودللتهم على كل منها بكل منها، ...فبي عرفوني}، أي: لأني أنا الكل، هذا حقيقة هذا الكلام في التحقيق، وله في الفرقان من معان أُخر، وكل من عند الله، فافهم([240]).

وكان يشير أن يكون صدر كل كتاب هو: (بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه...أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وهو هو بما هو، سيدي وربي، وهو مولاي وحسبي، ليس إلا هو)([241])...

وكان يقول:

...فهو تعالى ذات كل موجود، وكل موجود صفته، وليس لها مبدأ أول إلا هو، إذ ليس بعده إلا العدم، والعدم لا يكون مبدأ، سيما لموجود([242]).

* ملحوظة هامة:

هذا الكلام ينفي عن الله سبحانه قدرة الإيجاد من العدم! وهو واضح للمتأمل.

وقوله: (هو ذات كل موجود) هو مثل قول الآخر: (وما الكلب والخنزير...أو اجتمع فيه النجو مع الورد، وغيرها).

وكان يقول:

من هو بكل شيء محيط، لا يسعه شيء، هذا ومعه شيء! فكيف بمن هو كل شيء؟ ولم يكن شيء غيره، ويكفيك هذا فاصبر نفسك في جدك أو أثبت التجريد([243]).

ويقول عبد الكريم الجيلي:

صفات الله فرقان            وذات الله قرآن

وفرق الجمع تحقيق                  وجمع الفرق وجدان([244])

نعرف الآن أنهم يعنون بعبارة (صفات الله، أو أسمائه) أنها هي المخلوقات بجميع أشكالها وأنواعها.

والجيلي هنا، يعني بكلمة (فرقان) أي مقام التفرقة، أو الفرق، وهو كما نعلم (التفريق بين الخالق والمخلوق). ويعني بكلمة (قرآن) مقام الجمع، وهو جمع الخالق والمخلوق في وحدة، هي الله، وحيثما وردت في كلام القوم عن الحقائق فيريدون بها هذا.

ويقول:

عجباً لذاك الحي كيف يهمه                 قحط السنين وأحمد نيسانه

أوج التعاظم مركز العز الذي                 لِرحى العلا من حوله دورانه

ملك وفوق الحضرة العليا على الـ           ـعرش المكين مثبثِ إمكانه

ليس الوجود بأسره إن حققوا                 إلا حباباً طفحته دنانه

الكل فيه ومنه كان وعنده                   تفنى الدهور ولم تزل أزمانه

فالخلق تحت سما علاه كخردل            والأمر يبرمه هناك لسانه

والكون أجمعه لديه كخاتم                  في إصبع منه أجل أكوانه

والملك والملكوت في تياره                 كالقطر بل من فوق ذاك مكانه

وتطيعه الأفلاك من فوق السما              واللوح ينفذ ما قضاه بنانه

هو نقطة التحقيق وهو محيطه               هو مركز التشريع وهو مكانه([245])

- يظهر في هذه الأبيات، وكأن الجيلي يجعل محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله، ولكن حقيقة الأمر ليست كذلك؟ بل هي عقيدة يؤمن بها كل الصوفية دون استثناء! ويسمونها (الحقيقة المحمدية) ويقولون: إن محمداً هو المجلي الأعظم للذات الإلهية، وبتعبير أوضح: هو أعظم جزء في الذات الإلهية، والمسيطر على بقية الأجزاء، سبحانك اللهم.

وظن بعض الباحثين أن (الحقيقة المحمدية) هي عقيدة بعض الصوفية دون بعضهم الآخر، وأخطئوا، فكلهم يعتقدون نفس العقيدة! وسيأتي بيان ذلك، وهي عندهم جزء من عقيدة وحدة الوجود.

ويقول:

الواحدية مظهر للذات                تبدو مجمعة لفرق صفات

الكل فيها واحد متكثر                فاعجب لكثرة واحد بالذات

هذاك فيها عين ذا وكمثل ما                   نباك في حكم الحقيقة هاتي

فهي العبارة عن حقيقة كثرة                    في وحدة من غير ما أشتات

كل بها في حكم كل واحد                    فالنفي في ذا الوجه كالإثبات

فرقان ذات الله صورة جمعه                    وتعدد الأوصاف كالآيات

فاتلوه واقرأ منك سر كتابه           أنت المبين وفيك مكنوناتي([246])

ويقول (من العينية):

خبتني فكانت فن عني نيابة أجل عوضاً بل عين ما أنا واقع فكنت أنا هي، وهي كانت أنا وما لها في وجود مفرد من ينازع بقيت بها فيها ولا تاء بيننا وحالي بها ماض كذا ومضارع وشاهدتني حقاً بعين حقيقتي فلي في جبين الحسن تلك الطلائع فأوصافها وصفي وذاتي ذاتها وأخلاقها لي في الجمال مطالع واسمي حقاَ اسمها، واسم ذاتها لي اسم، ولي تلك النعوت توابع([247]). ومنها:

فما ثم من شيء سوى الله في الورى                  وما ثم مسموع وما ثم سامع

هو العرش والكرسي والمنظر العلي                    هو السدرة اللاتي إليها المراجع

هو الأصل حقاً والرسوم مع الهوى                    هو الفلك الدوار وهو الطبائع

هو النور والظلماء والماء والهوى            هو العنصر الناري وهو الطبائع

هو الشمس والبدر المنير مع السها                  هو الأفق وهو النجم وهو المواقع

هو المركز الحكمي والأرض والسما                  هو المظلم العتام وهو اللوامع

هو الدار وهو الحي والأثل والغضا                   هو الناس والسكان وهو المرابع

هو الحكم والتأثير والأمر والقضا            هو العزو والسلطان والمتواضع

هو اللفظ والمعنى وصورة كل ما            يجول من المعقول أو هو واقع

هو الجنس وهو النوع والفصل إنه                    هو الواجب الذاتي والمتمانع

هو العرض الطاري نعم وهو جوهر                    هو المعدن الصلدي وهو الموائع

هو الحيوان الحي وهو حياته                هو الوحش والإنس وهو السواجع

هو القيس بل ليلى([248]) وهو بثينة                    أجل نشرها، والخيف وهو الأجارع

هو العقل وهو النفس والقلب والحشا                هو الجسم وهو الروح والمتدافع

هو الموجد الأشيا وعين وجودها            وعين ذوات الكل وهو الموانع

حقائق ذات في مراتب حقه                  تسمى باسم الخلق والخلق واسع

ونزهه عن حكم الحلول فما له              سوى، وإلى توحيده الأمر راجع

فيا أحدي الذات في عين كثرة              ويا موجد الأشياء، ذاتك شائع

تجليت في الأشياء حين خلقتها             فها هي ميطت عنك فيها البراقع

قطعت الورى من ذات نفسك قطعة                  ولم يك موصولاً، ولا فصل قاطع

فأنت الورى حقاً وأنت إمامنا                 وإنك ما يعلو وما هو واضع

وما الخلق في التمثال إلاكثلجة              وأنت بها الماء الذي هو نابع

فما الثلج في تحقيقنا غير مائه               وغير انِ في حكم دعته الشرائع

ولكن يذوب الثلج يرفع حكمه              ويوضع حكم الماء والأمر واقع

تجمعت الأضداد في واحد البها            وفيه تلاشت فهو عنهن ساطع

فكل بهاء في ملاحة صورة                   على كل قدٍّ شابه الغصن يافع

وكل اسوداد في تصافيق طرة                وكل احمرار في الطلائع صانع

وكل كحيل الطرف يقتل صبه                بماضٍ كسيف الهند حالٌ مضارع

وكل اسمرار في القوائم كالقنا               عليه من الشعر الوسيم شرائع

وكل مليح بالملاحة قد زها                   وكل جميل بالمحاسن بازع

وكل لطيف جل أو دق حسنه                وكل جليل وهو باللطف صادع

محاسن مَنْ أنشاه ذلك كله                 فوحّد ولا تشرك به فهو واسع

وإياك لا تلفظ بغيرية البها                    فما ثم غير وهو بالحسن بادع

وأطلق عنان الحق في كل ما ترى           فتلك تجليات من هو صانع

وشاهده حقاً فيك منك فإنه                 هويتك اللاتي بها أنت دالع

ففي، أينما، حقاً، تولوا وجوهكم            فما ثم إلا الله، هل مَنْ يُطالع

ودع عنك أوصافاً بها كنت عارفاً            لنفسك فيها للإله ودائع

فقد صح في متن الحديث تخلقوا                    بأخلاقه ما للحقيقة مانع

وها هو سمع بل لسان أجل بدا             لنا هكذا بالنقل أخبر شارع

فعم قوانا والجوارح كونه           لساناً وسمعاً ثم رجلاً تسارع

ويكفيك ما قد جاء في الخلق أنه                    على صورة الرحمن، آدم واقع([249])

في الأبيات الأخيرة، نرى كيف يفسرون الآية: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) [البقرة:115]، والحديث: {تخلقوا بأخلاق الله}، وهو حديث موضوع، وكيف يفسرون الحديث: {...فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به ويدَه التي يبطش بها...} كما نرى في الأبيات التي قبلها تقرير الشاعر أن كل شيء هو الله، ونرى استعمالهم لعبارة: دع عنك أوصافاً...أي: دع أوصافك...

ويقول: ثم كتب (أي: الحق سبحانه) على جناح الطير الأخضر، بقلم مداد الكبريت الأحمر، أما بعد؛ فإن العظمة نار، والعلم ماء، والقوى هواء، والحكمة تراب، عناصر بها يتحقق جوهرنا الفرد، ولهذا الجوهر عرضان؟ الأول: الأزل، والثاني: الأبد. وله وصفان؟ الوصف الأول: الحق، والوصف الثاني: الخلق، وله نعتان؟ النعت الأول: القِدَم، والنعت الثاني: الحدوث. وله اسمان، الاسم الأول: الرب، والاسم الثاني: العبد([250])...

ويقول: اعلم أن جميع حقائق الوجود، وحفظها في مراتبها، تسمى الألوهية، وأعني بحقائق الوجود: أحكم المظاهر مع الظاهر فيها، أعني الخلق والحق، فشمول المراتب الإلهية، وجميع المراتب الكونية، وعطاء كل حقه من مرتبة الوجود، هو معنى الألوهية([251])...

ويقول:.. واعلم أن الرب في كل موجود وجهٌ كامل، وذلك الوجه على صورة ذلك الموجود، وروح ذلك الوجود على صورة محسوسة وجسد، وهذا الأمر للرب أمر ذاتي...وإلى ذلك الإشارة في قوله: {خلق آدم على صورة الرحمن}، وقوله: {خلق آدم على صورته}، وهذان الحديثان، وإن كانا يقتضيان معاني قد تحدثنا عليها، فإن الكشف أعطانا أنهما على ظاهر اللفظ([252])...

ويقول محمد ين سليمان الجزولي([253]) مؤلف دلائل الخيرات: ...اللهم صل على محمد وعلى آله، بَحْرِ أنوارك ومعدن أسرارك...وإمام حضرتك([254]).

...اللهم صل على من فاضت من نوره جميع الأنوار([255])......اللهم صل على سيدنا محمد...إنسان عين الوجود، والسبب في كل موجود، عين أعيان خلقك([256])...اللهم صل على سيدنا محمد نور الذات، وسره الساري في جميع الأسماء والصفات،صلى الله عليه وسلم([257])...اللهم صل على محمد الذي هو قطب الجلالة([258])...

- هذة العبارات هي صور عن (الحقيقة المحمدية) واضحة المعنى، ووحدة الوجود واضحة فيها.

ويقول: ...ووفقني لاتباعه.. واجمعني عليه...وارفع عني العلائق والعوائق والوسائط والحجاب([259])...يا هو، يا من لا هو إلا هو، لا إله إلا هو([260])...

- لقد مرت هذه العبارات في الصفحات السابقة وشرحت هناك. إنها كلها تعني (وحدة الوجود).

ويقول زكريا الأنصاري([261]) (شيخ الإسلام):

...قالوا: والفناء على ثلاثة أوجه: فناءٌ في الأفعال: (لا فاعل إلا الله)، وفناء في الصفات: (لا حي ولا عالم ولا قدير ولا مريد ولا سميع ولا بصير ولا متكلم على الحقيقة إلا الله (وفناء في الذات): (لا موجود على الإطلاق إلا الله)، وأنشدوا في ذلك:

فيفنى ثم يفنى ثم يفنى              فكان فناؤه عين البقاء([262])

* ملحوظة: قول الأنصاري هذا، هو أوضح ما قالوه في تعريف الفناءات.

ويقول شارحاً:

...وسئل الجنيد عن هذا، أعني عن قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فأنشد جواباً للسائل:

طوارق أنوار تفوح إذا بدت                  فتظهركتماناً وتخبر عن جمع

أي: المقامات، أولها طوارق تلوح إذا ظهرت، ونهايتها أنها إذا قويت بعد ظهورها، أظهرت الجمع وكمال الحال وكتمان السر، فأول المقام طوارق، ونهايته جمع، وكمال حال، وكتمان سر، فأشار بالأول إلى مقام الأبرار، وبالثاني إلى مقام المقربين([263])!

ويقول عبد الرحمن العيدروس([264]) في مقدمة كتابه لطائف الجود في مسألة وحدة الوجود([265]):

باسم الله بداية ونهاية، والحمد لله رواية ودراية، وأصلي وأسلم على الأول والآخر والباطن والظاهر وعلى آله وأصحابه الراتعين في بساتين المظاهر.

أما بعد، فهذه لطائف تتعلق بمسألة الوحدة، القائل بها أهل المعارف.

* ما يلاحظ:

قوله: وأصلي وأسلم على الأول والآخر والباطن والظاهر.

نعلم أن الأول والآخر والباطن والظاهر هي من صفات الله تعالى، لكنه هنا جعلها صفات للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو ما يسمونه الحقيقة المحمدية إذ يعتبرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو المجلي الأعظم للذات الإلهية، أي إن أعظم ظهور لله سبحانه هو في شخص محمد صلى الله عليه وسلم.

والملحوظةالثانية قوله: ...بمسألة الوحدة، القائل بها أهل المعارف، حيث يبين لنا ماذا يعنون بمصطلح (العارف) كما يبين أن أهل المعارف يدينون بوحدة الوجود.

وهو تصريح يشكر عليه.

ويقول في نفس الكتاب (اللطيفة الثالثة):

قال الشيخ الأكبر -نفع الله به- في الباب الثامن والأربعين والمائة من (الفتوحات المكية): الحق خلق، وما الخلق حق!

قال أهل المعرفة -نفع الله بهم-: ذلك لأن الإطلاق الحقيقي ذاتي للحق، فلا تقيده الأكوان بظهور تعيناتها في تجلية المنبسط عليها.

والخلق مقيد، والقيد ذاتي له، لأن الخلق عبارة عن تعين خاص في الوجود المنبسط، اقتضته ماهيته الثابتة.

فلو ارتفع القيد لم يكن خلق، فلا يصح أن يقال: الخلق عين الحق، لأن المقيد الذي يكون القيد ذاتياً له، لا يكون عين المطلق الذي يكون الإطلاق ذاتياً له. بخلاف أن يقال: الحق عين الخلق، فإنه صحيح، لأن المطلق الحقيقي لا تقيده الأكوان، فتجليه فيها لا ينافي التنزيه بـ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11].

- وهكذا أخضعوا الله- جل وعلا- وصفاته لعلم الكلام.

ويقول في نفس الكتاب: (اللطيفة السادسة: علمُ وحدة الأفعال، ووحدة الصفات، ووحدة الذات، من غير مباشرة ذلك ذوقاً وكشفاً وشهوداً، ليس لغير الخاصة، وأما الخواص فلهم مباشرة ذلك كشفاً.

...وإذا كان السالك في مباشرة (وحدة الأفعال) قَدِرَ على طي الأرض واختراق الهواء والمشي على الماء والإشباع بالقليل مكان الكثير والارتواء بالقليل، ونحو ذلك.

وإذا كان في مباشرة (وحدة الصفات) سمع في تجلي صفة السمع له جميع الأشياء ناطقة، من جماد ونبات وحيوان، لأنه بالحق يسمع لا بنفسه، وكذلك يبصر في (تجلي صفة البصر له) جميع المُبْصَرات، ولا يحجبه شيء عن شيء، لأنه بالحق يبصر، وكذا جميع بواقيه (أي: بواقي الحديث) كما ورد: فبي يبصر وبي يسمع وبي يبطش إلى آخره.

وإن كان في مباشرة (وحدة الذات) كان بحسبها، لأنها تعود الأسماء الذاتية عنده كالملونة لون إنائه، فيتصف به (أي: بالله) بقبول الألوان كلها؟ فلا يدري العبد من هو لشهود الحق بالحق بلا نسبة شهود له، بل كـ ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) [آل عمران:18] و((وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) [النساء:79] و((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) [المجادلة:6]، فتتصل الشاهد بالشاهد في جميع المشاهد والشواهد. اهـ.

- وحدة الأفعال: أي ليس في الوجود إلا فاعل واحد، وكل فعل، كائناً ما كان، فهو فعل الواحد الذي لا فاعل غيره، وقد مر معنا معنى مصطلح (فعل الله) عندهم، يعني حركته.

- وحدة الصفات: لا يوجد إلا حي واحد وسميع واحد وبصير واحد ومتكلم واحد...فجميع الذين يتصفون بالحياة والسمع والبصر والكلام و...و...هم واحد، وهو الله.

- وحدة الذات: وهي أن يرى كل الممكنات هي من ذات الحق، ويشرحها عبد الرحمن العيدروس شرحاً أوضح عندما يقول: كـ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) [آل عمران:18].. أي إن الواصل يشهد أنه هو نفسه الله الذي لا إله إلا هو. ويشهد وحدة ذاته وذات كل شيء مع الذات الإلهية مثل: و((وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) [النساء:79]، أي لا شهيد غيره.

ويقول محمد بن عبد الله بن شيخ العيدروس([266]):

...فانتبه لنفسك أيها الأخ، وتقرب إلى مولاك بالصدق، تر العجائب فيما بينك وبين الوقوف على كنه الأشياء والاطلاع على أسرارها، إلى أن تنطلق من أسر هواك، وتتجرد عن علائق نفسك، فهناك تشرق عليك أنوار القبول، وتلوح عليك آثار الوصول، فإذا كنت كذلك:

بدا لك سر كان منك اكتتامه                  ولاح صباح كنت أنت ظلامه

وكنت حجاب القلب عن سر غيبه             ولولاك لم يطلع عليك ختامه

فمذ غبت عنه حل فيك وطنبت               على موكب الكشف المصون خيامه

وجاء حديث لا يمل سماعه                   شهي إلينا نثره ونظامه([267])

ويقول عبد القادر ابن شيخ العيدروس([268]):

السائر إلى الله تعالى تتجلى له في أثناء سلوكه أنوار وتبدو له أسرار، فإن أرادت همته أن تقف عندما كشف لها من ذلك، لاعتقاده أنه وصل إلى الغاية القصوى، والنهاية من المعرفة، نادته هواتف الحقيقة: المطلوب أمامك فجد في السير، وإن تبرجت له ظواهر المكونات بزينتها، فمال إلى حسنها وجمالها، نادته حقائقها الباطنة: إنما نحن فتنة فلا تكفر؟ وغض عينيك عن ذلك. وأن إلى ربك المنتهى.

فلا تلتفت في السير غيراً وكل ما            سوى الله غيرٌ فاتخذ ذكره حصناً

وكل مقام لا تقم فيه، إنه           حجاب فجد السير واستنجد العونا

ومهما ترى كل المراتب تجتلى              عليك، فحلْ عنها فعن مثلها حلنا

وقل ليس لي في غير ذاتك مطلب                   ولا صورة تجلى ولا طرفة تجنى([269])

قال الجنيد: أدركتُ سبعين عارفاً كلهم يعبدون الله على ظن ووهم، حتى أخي أبا يزيد منهم لو أدرك صبياً من صبياننا لأسلم على يديه. قال سيدي أبو العباس المرسي رضي الله عنه في قوله: يعبدون الله على ظن ووهم. وإنما ذلك أنهم ظنوا أنه من المقامات ما لا يصلح أن يكون فوقه مقام، وليس كذلك، فلو أنهم تحققوا لعلموا أن فوق ذلك المقام مقاماً، إلى ما لا نهاية.

قوله لأسلم على يديه أي: لأنقاد له؟ والإسلام الانقياد، فليكن المريد عالي الهمة والنية حتى لا يكون له التفات إلى غير الله، وتكون النية إلى هذا المقام بإرشاد الشيخ العارف الرداد:

ولو كان لي ما كان في الكون كله                   وكانت لي الأكوان بالأمر ساجدة

لما نظرت عيني إليها وما رأت               إذا لم تكن ذاتي لذاتك واحدة

ولسيدي الحبيب الوالد شيخ بن عبد الله العيدروس في المعنى:

لا ترتضِ بالاسم دون مسمه                 إن كنت يا ندمان صباً عاشقاً

واعكف على حب الحبيب وذكره                    في جمع جمع الجمع لا تتفرقا

وإذا نأى لك قرنه من دونه                   لا ترضها وارحل ولا تتعوقا

فهناك نادتك الحقائق لا تقف               فأمامك المطلوب دُم متشوقاً([270])

وقال عبد الله بن أبي بكر العيدروس([271]):

...فمن فني عن أفعال نفسه فهو باقٍ بأفعال الله، ومن فني عن صفاته فهو باقٍ بصفات الله تعالى، ومن فني عن ذاته فهو باقٍ بذات الله تعالى، كما قال بعضهم:

وقوم تاهوا في أرض بقفر                    وقوم تاهوا في ميدان حبه

فأفنوا ثم افنوا ثم أفنوا              وأبقوا بالبقاء بقرب ربه

فالأول كما قالوا: فناء صفاته لبقاء صفات الحق، ثم فناؤه عن صفات الحق بشهود الحق، ثم فناؤه عن شهود فنائه باستهلاكه في وجود الحق، وهو فناء الذات في الذات، وهذه حقيقة ((قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ...)) [الأنعام:91] الآية([272]).

وقال: فصل في حقيقة عالم التوحيد المبني على التفريد بعد أداء حق التجريد:

وهو أن يفردك الحق بفردانيته، عند استيلاء سلطان الذكر، حتى تخرج من قشور الحروف والصوت، فتفنى بسطوة بقية وجودك الذاكر، وبقية سلطنة إثباته، فثبوت المذكور عن الذكر بدوام الذكر على مقتضى قوله: ((فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)) [البقرة:152]، فيصير حينئذ الذاكر مذكوراً والمذكور ذاكراً، ويستبدل الأين بالعين، والمباينة بالمعاينة، والأنية بالوحدانية، وفني عن نفسه وعن غيره بالكلية في عين جمع الجمعية، فشاهد الذات الحقيقة الصمدية المنزهة عن الجسمية الكثيفة واللطيفة وتوابعها ولوازمها بالكلية، ولا يرى إلا الواحد الحق أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) [الشورى:11] هذا توحيد خواص الخواص.

...فالجذبة تبعده عن أنانيته وتقربه لهويته، إلى أن تورث الجذبة المشاهدة، فالمشاهدة أحضرته معه وغيبته عنه، إلى أن ظهر بالعيان، فالعيان يسحقه والعين تمحقه، ثم يحققه الحق ويزهق باطله، فيكاشف بأنوار غيب الغيب، فيطالع أسرار الملك والملكوت، ويتيه في تيه العظموت والجبروت، حتى تتجلى له شمس الربوبية عن سماء العبودية، فأشرقت أرض البشرية بنور ربها، ويرقى في المقام إلى تلألؤ نور الألوهية المستفاد من الله تعالى: ((اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [النور:35]، ثم نفحة الألطاف الربوبية، وانفتح في عين الشمس باب الهوية، وانغمس فيه المنغمس، ثم لا تسأل:

قد كان ما كان مما لا أفوه به               فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر

فاستضاءت الآفاق الجسدانية بضوء الشريعة، وظهرت المشكاة النفسانية بلوامع الطريقة، وتنورت الزجاجة القلبية بأنوارحقيقة الروحانية، وأشرق الصباح الروحية بنار نور الألوهية، وبدت شجرة الوحدانية، ونودي موسى السر: ((أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [القصص:30]، فانمحت الجهات، وتلاشت الصور، وانطمس الأبعاض، وانعدمت الأجزاء، وسطعت عزة الوحدانية بتجلي نور الصمدانية الربانية، فتدكدك جبل الإنسانية الروحانية صعقاً، فاحترقت الغيرية بنار الغيرة، وارتفعت الشركة وبقيت الوحدة، متعززاً برداء الكبرياء والعزة، متزراً بإزار العلاء والعظمة، وحده لا شريك له، ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [القصص:88]، هذا أوان ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17]، وهذا وقت ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)) [النجم:3] وهو سر {كنت له سمعاً وبصراً ولساناً، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق}، ولعمري إن هذا الحال من كوشف بأسرار {كنت كنزاً مخفياً} فلما كشف الغطاء، وذهب الجفاء، ودام اللقاء فـ ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)) [النجم:11]، وللقلب ما زوى، فرعى في رياض المعرفة...إذ تجافى عن المحاط المطلق المحاط به غيب الغيب المحيط المطلق، فتحقق له: ((أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)) [فصلت:54].

أبان الحق ليس به خفاء              وباح السر وانكشف الغطاء

فنفسي زائل والروح نادت            فلم يبق التكبر والصفاء

بقاء الحق أفنانا فأفنى                بقاء فنائنا، ذاك البقاء

تجلت سطوة الجبروت حتى                   فنينا ثم إذ فني الفناء

هذا مقام المعرفة بمشاهدة الحقيقة([273])...

* ملحوظات:

- هناك أخطاء مطبعية، نقلتها على شكلها الصحيح الذي يجب أن تكون عليه أنبه.

- الجملة: (ويستبدل الأين بالعين...والأنية بالوحدانية)، وردت في الكتاب: (.. و.. والأينية بالوحدانية)، وهي غلطة مطبعية.

- (المنزهة عن الجسمية الكثيفة واللطيفة)، وردت: (الكشفية واللطيفة..).

- (فالجذبة تبعده عن أنانيته وتقربه لهويته)، وردت: (...تبعده عن إنابته..).

- (فاحترقت الغيرية بنار الغيرة..)، وردت: (.. بنار الغيرية).

- (متزراً بإزار العلاء..)، وردت: (.. مترزاً..).

- (هذا أوان ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)) [الأنفال:17])، وردت: (هذا وإن رميت إذ رميت..). - (فلما كشف الغطاء..)، وردت: (فلما كوشف الغطاء..).

ويبرز لنا في هذا النص ما يلي:

أ- دور الجذبة في الصوفية، وأنها هي المطلب.

ب- ما يظهر للسالك أثناء الجذبة، وأن المشاهدة هي في الجذبة.

ج- وحدة الوجود التي يشاهدها في الجذبة.

د- عبارات تشير إلى وحدة الوجود وهي من عباراتهم التي يستعملونها.

هـ- كيف يفسرون بعض الآيات والأحاديث.

والرجاء من القارئ أن يتسلى بتحليل عبارات النص التي تشير كلها إلى وحدة الوجود.

ويقول مجدد الألف الثاني أحمد الفاروقي السرهندي([274]):

...وإذا قال هؤلاء الصوفية بنفسهم بأن ذات الحق سبحانه وتعالى لا يُحكم عليها بحكم؟ يكون الحكم عليها بالإحاطة والسريان مخالفاً لهذا القول، والحق أن ذاته تعالى ليس كمثله شيء، لا سبيل لحكم من الأحكام إليها أصلاً، بل في ذلك الموطن الحيرةُ الصرفة والجهالة المحضة، فكيف يتطرق السريان والإحاطة إليها؟ ويمكن الاعتذارمن جانب الصوفية القائلين بهذه الأحكام بأن مرادهم بالذات هو التعين الأول، فإنهم لما لم يقولوا بزيادة ذلك التعيين على المتعين، قالوا لذلك التعين عين الذات، وذلك التعين الأول المعبر عنه بالواحدية سارٍ في جميع الممكنات([275])...

- لتسهيل التحليل، يعني بالإحاطة قولهم: الله محيط بكل شيء، أو بالممكنات، ويشيرون بها إلى وحدة الوجود، وبالسريان قولهم: الله سار في كل الممكنات، أو الأشياء، ويعنون بها وحدة الوجود أيضاً. وطبعاً القول بالإحاطة هو حكم، وكذلك القول بالسريان هو حكم أيضاً، لذلك لا يقولون بها، لأن ذات الحق لا يحكم عليها بحكم. ويعنون بكلمة (المتعين) الجزء من الله (جل الله وعلا)، الذي تشكل أو تعين بالمخلوقات، ويقرر المجدد أنهم لم يقولوا بزيادة التعين (أي: الخلق) على المتعين. فهو هو. والمتعين الأول هو محمد صلى الله عليه وسلم.

وطبعاً، هذا أسلوب جديد يقدمه المجدد لتقرير وحدة الوجود بأسلوب موهم فيه شيء من التعقيد، أرجو من القارئ أن يحلله بهدوء ليزداد تمرساً باللغة الصوفية، وليتأكد أن العقيدة عندهم التلاعب بالألفاظ.

ويقول الشيخ عبد الغني النابلسي([276]) في شرح رسالة الشيخ أرسلان:

واعلم أن الشرك الجلي هو أن يظهر للعبد أو لغيره منه اعتقاد أن مع الله تعالى رباً آخر يستحق العبادة من الخلق، أو مع الله تعالى غيره موصوفاً بصفة مثل صفاته تعالى، أوله فعل كأفعاله تعالى، أو اسم كأسمائه، أوحكم كأحكامه.

والشرك الخفي، هو خفاء شيء، من ذلك على العبد، وهو فيه بسبب استيلاء الغفلة على قلبه، فترى الغافل عن معرفة نفسه جازماً أنه مشارك لله تعالى في الوجود، وفي جميع الصفات التي منها السمع والبصر والعلم والحياة والقدرة والإرادة وغير ذلك، وفي جميع الأسماء التي منها الحليم والكريم واللطيف والعليم إلى آخره، وفي جميع الأفعال كالإيجاد للعبادات والإعدام للمخالفات ونحو ذلك، وفي جميع الأحكام كالجزم بالحرام والحلال على الأمور الداخلة بانفرادها وتشخصها تحت أحكام القرآن والسنة؟ ومع ذلك هو غافل عما هو فيه، غير منتبه لأمره، قاطع بأنه موجود آخر مع الله تعالى، موصوف بأوصافٍ، مسمى بأسامي، له فعال وأحكام تصدر منه([277])....اهـ.

* تبيين:

قوله: إن الشرك الجلي هو:..اعتقاد أنه.. مع الله تعالى غيره موصوفاً بصفة مثل صفاته...يعني: من صفات الله، مثلاً أنه يسمع ويرى، والإنسان كذلك يسمع ويرى، فمن اعتقد أن الإنسان هو غير الله، فقد جعل لله شريكاً في السمع والرؤية، وهكذا بقية الأسماء والصفات، ومنها الوجود، ويجعل هذا شركاً جلياً.

ويجعل من الشرك الخفي أن يكون هذا الاعتقاد بسبب الغفلة.

ويجعل من الشرك الخفي مثلاً، أن يظن إنسان -بسبب الغفلة- أنه مشارك لله في الوجود، فمن ظن أن الإنسان هو غير الله، فقد جعل لله شريكاً في الوجود.. وكذلك من اعتقد أن الأوثان التي تعبد هي غير الله فقد جعل لله شريكاً غيره يعبد.

ويقول عبد الغني النابلسي أيضاً شارحاً لقول الشيخ أرسلان: فكلما أخلصت يكشف لك أنه هو لا أنت: فكلما أخلصت، أي: في خروجك عنك بأن خرجت عن هذا الخروج أيضاً...يكشف لك - بالبناء للمفعول- أي يكشف الله تعالى لك، بأن يظهر فيك وتجده في نفسك المعدومة، وهذا الانكشاف ليس كانكشاف الأشياء المغطاة...

قال أحد العارفين:

توهمت قدماً أن ليلى([278]) تبرقعت                   وأن حجاباً دونها يمنع اللثما

فلاحت فما أن ثم والله حاجب              سوى أن طرفي كان من حسنها أعمى

أي: هو كشف، لكنه ليس كما يكشف الغطاء عن الآنية، أو الستر عن الباب، بل هو أمر إذا ظهر يرى العبد أن ذلك لم يكن مستتراً بشيء، وإنما الإدراك كان ضعيفاً عن الوصول إليه، فقواه الحق، فأدرك ما كان ظاهراً: أنه...هو، أي: الله سبحانه وتعالى الموجود وحده فقط، بالوجود القديم الخاص به (لا أنت)، أي: لا وجود لك بالكلية، بل أنت عدم محض حينئذ، وإن كنتَ عند ذلك على ما كنت عليه قبل ذلك، من غير تغيير، إلا أن بصيرتك قويت فأدركت ما لم تكن تدرك من قبل([279]).. ويقول أيضاً:

قد بالغ في الظهور والكتمان                حتى حارت به أولو العرفان

والسر على التحقيق كالإعلان               قد أودعه في هذه الأكوان([280])

ويقول عبد الغني النابلسي أيضاً:

أنا كل الوجود والكائنات             أنا كل الأرواح كل الذوات

أنا كل العقول بل كل شيء                   في جميع الأزمان والأوقات

ليس كل الوجود إلا أسامي                    والمسمى بكل ذلك ذاتي

والتباسي عليك حيث لباسي                   كل شيء يلقيك في الآفات([281])

- وسيتسلى القارىء بتحليل هذه النصوص، وهي واضحة تماماً.

ويقول الشيخ أحمد الدردير([282]) في صلواته:

...وزج بي في بحار الأحدية، وانتشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها([283])...

- هذه الفقرة هي جزء من الصلاة المشيشية، والشيخ الدردير يتبناها، ويضعها في أول صلواته، التي هي من الأوراد الخلوتية، إذن فيمكن اعتبارها، وكأنها له.

ويقول (حرف التاء):

...وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأنعم علينا بتجلي الأسماء والصفات، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأغرقنا في عين بحر الوحدة السارية في جميع الموجودات، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأبقنا بك لابثاً في جميع اللحظات...وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأذقنا لذة تجلي الذات، وأدمها علينا ما دامت الأرض والسماوات([284]).

ويقول في منظومة أسماء الله الحسنى:

وهب لي أيا رباه كشفاً مقدساً                 لأدري به سر البقاء مع الفنا

وجُد لي بجمع الجمع فضلاً ومنة             وداوِ بوصل الوصل روحي من الضنا

ومن علينا يا ودود بجذبة             بها نلحق الأقوام من كان قبلنا([285])

يشرح الشيخ أحمد الصاوي هذا الكلام، فيقول:

لما كان جمع الجمع ووصل الوصل أعلى من الفناء والبقاء، ترقى إليهما بقوله: وجد لي.. إلخ، واعلم أن لهم مقاماً يقال له: الفناء، ومقاماً يقال له: البقاء والجمع والفرق، ومقاماً يقال له: جمع الجمع، ومقاماً يقال له: الفرق الثاني، ومقاماً يقال له: الوصل، ومقاماً يقال له: وصل الوصل.

فأما المقام الأول الذي هو الفناء، فهو استغراق العبد في الله، حتى لا يشهد شيئاً سوى ذات الله، ويقال لصاحبه: غريق في بحار الأحدية.

وأما المقام الثاني، وهو البقاء، فهو الرجوع بعد الفناء إلى ثبوت الآثار، بشهود ذات وصفات المؤثر فيها، ويقال لصاحبه: غريق في عين بحر الوحدة، فمُشاهد الأحدية مشاهد للذات دون الأسماء والصفات وآثارها، وهو الفاني، ومشاهد الوحدة مشاهد للذات متصفة بالأسماء والصفات، مثبتاً للآثار، جامعاً بين الحق والخلق، وهذا هو الكمال بعينه، فلذلك قالوا: لا بد لكل فناء من بقاء، ومقام البقاء هذا، هو المسمى بـ (الجمع والفرق)، فجمعه شهوده لربه، وفرقه شهوده لصنعه، وأما جمع الجمع فهو مقام أعلى من البقاء وهو أن يأخذه الحق بعد بقائه، فيسكره في شهود ذاته تعالى، فيصير مستهلكاً بالكلية عما سوى الله تعالى، فمنهم من يبقى بهذه السكرة إلى الموت، كالسيد البدوي رضي الله عنه، ولذلك قال العارفون: إنه جُذب جذبة استغرقته إلى الأبد، ومنهم من يرد إلى الصحو عند أوقات الفرائض والقيام بأمور الخلق، كالسيد الدسوقي وأضرابه، والمؤلف أي الشيخ الدردير رضي الله عنهم، فيكون رجوعاً لله بالله لا للعبد بالعبد، هذا الرجوع يسمى (الفرق الثاني)؟ وأما (الوصل) فهو تلذذ القلب بشهود الحق بعد زوال الحجب الظلمانية والنورانية، فإن دام له الشهود يقال له: (وصل الوصل)، أي الوصل الكامل، كقولهم: (سر السر وعين العين) مبالغة في كمال الشيء([286])...

ويقول الشيخ الدردير:

...فإذا أدركته العناية الإلهية، واستند إلى شيخه بالكلية، ولازم المجاهدة حتى تمكن من الصفات المحمودة، وانقطع عنه عِرْق الرياء، وصارت نفسه ذليلة، واستوى عنده المدح والذم، ودخلت (أي: نفسه) في مقام الفناء، ورضيت بكل ما يقع في الكون من غير اعتراض أصلاً، سميت راضية...

ولكن رؤية الفناء والإخلاص ربما أوقع في شيء من الإعجاب فيرجع به القهقرى، فليستعذ بالله من ذلك، مع مداومة الذكر والالتجاء إلى الله، وملحوظة أنه لا يتم له الخلاص إلا بمدد الشيخ، فإذا فني عن الفناء، خلص من رؤية الإخلاص، وتجلى عليه الرضا، وعفا عن كل ما مضى، وتبدلت سيئاتها (أي: النفس) حسنات، وانفتح لها أبواب الأذواق والتجليات، فصارت غريقة في بحار التوحيد...ولذا سميت (مرضية)...إلا أن صاحب الهمة العلية لا يرضى بالوقوف عند هذه المقامات وإن كانت سنية، بل يسير من الفناء إلى البقاء، ويطلب (وصل الوصل) بتمام اللقاء، فتناديه حقائق الأكوان، ((إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)) [البقرة:102]، ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) [النجم:42] فإذا سار إلى منازل الأبطال وخلف الدنيا وراء ظهره، ناداه بأحسن مقال: ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي)) [الفجر:27، 30]...اهـ([287]).

* الملحوظات:

- نلاحظ في هذا النص ما يلي:- الدور الأساسي للشيخ في السير وفي الوصول.

- الأوصاف التي يطلقونها على الجذبة وما بعدها (الصفات المحمودة، انقطاع عرق الرياء...).

- دور مداومة الذكر.

- عبارة (صارت غريقة في بحار التوحيد) التي تشير إلى الاستشعار الدائم لوحدة الوجود، أو للألوهية.

- عدم الوقوف عند هذه المقامات، أي الغرق في التوحيد الذي هو مقام الفناء، بل يسير منه إلى البقاء بمداومة الذكر ومدد الشيخ.

- يشير إلى وجوب هذا الانتقال بالعبارة (فتناديه حقائق الأكوان: ((إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)) [البقرة:102].

ونعرف الآن أن العقيدة الصوفية هي أن الأكوان ليست شيئاً غير الله سبحانه وتعالى، إذن فحقائقها هي أنها تعينات إلهية، أو هي الله جل وعلا، التي تناديه: ((إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)) [البقرة:102]، والنداء هنا مجازي طبعاً، ويجعل الشيخ الفتنة مشيرة إلى استشعار الألوهية حيث يبهت الواصل ويقول: (أنا الله، سبحاني...) إلخ، فيحكمون عليه بالكفر.

والجديد في هذا النص هو فهمهم للآية: ((ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ....)) [الفجر:28] ((فَادْخُلِي فِي عِبَادِي...)) [الفجر:29] أوردها مشيراً بها إلى مقام البقاء الذي يستشعر فيه العارف أنه الله (جل الله وعلا)، ويشاهد بنفس الوقت العبودية، وجملة: ((فَادْخُلِي فِي عِبَادِي)) [الفجر:29] يجعلونها مشيرة إلى رؤية العبودية (أو الفرق)، والجمع مع الفرق هو مقام البقاء.

- ويقول ابن عجيبة([288]) شارحاً قول ابن عطاء الله السكندري: الحق ليس بمحجوب عنك، إنما أنت المحجوب عن النظر إليه، إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر، وكل حاصر لشيء فهو قاهر له، وهو القاهر فوق عباده، يقول: ...قلت: الحق تعالى محال في حقه الحجاب.. فلا يحجبه شيء، لأنه ظهر بكل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، فلا ظاهر معه، ولا موجود في الحقيقة سواه، فهو ليس بمحجوب عنك، وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه، لاعتقادك الغيرية، وتعلق قلبك بالأمور الحسية، فلو تعلق قلبك بطلب المولى، وأعرضت بالكلية عن رؤية السوى، لنظرت إلى نور الحق ساطعاً في مظاهر الأكوان، وصارماً كان محجوباً عنك بالوهم في حق الشهود والعيان، ولله در القائل:

لقد تجلى ما كان مخبى              والكون كله طويت طي

مني علي دارت كئوسي               من بعد موتي تراني حي

فالناس كلهم يشاهدون ولا يعرفون، وكلهم في البحر ولا يشعرون، وسمعت شيخنا رضي الله عنه يقول: والله ما حجب الناس عن الله إلا الوهم، والوهم أمر عدمي لا حقيقة له([289]).

ويقول ابن عجيبة أيضاً:

...واعلم أن هذه الأوصاف البشرية التي احتجبت بها الحضرة، إنما جعلها الله منديلاً لمسح أقذار القدر (كالنفس والشيطان والدنيا)، فجعل الله النفس والشيطان منديلاً للأفعال المذمومة، وجعل البشرية منديلاً للأخلاق الدنيئة، وما ثم إلا مظاهر الحق وتجليات الحق، وما ثم سواه([290]).

ويقول: ...فإذا تكامل إشراق نور الإيقان، وغطى وجود الأكوان، ووقع العيان على فقد الأعيان، ولم يبق إلا نور الملك الديان، كما أشار (أي: ابن عطاء الله) إلى ذلك بقوله: ما حجبك عن الله وجود موجود معه، إذ لا شيء معه، ولكن حجبك عنه توهم موجود معه.

قلت: الحق تعالى ظاهر، ونوره للبصائر باهر، وإنما حجبه مقتضى اسمه الحكيم واسمه القاهر، فما حجبك عن شهود الحق وجود شيء معه: ((أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [النمل:63]، ولكن حجبك عن شهوده توهم وجود موجود معه، ولا شيء معه، وكما كان ولا شيء، بقي ولا شيء([291]).

- أرجو أن ينتبه القارىء إلى كيفية تفسيرهم للآية: ((أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ)) [النمل:63].

ويقول: واعلم أن سر الخصوصية الذي جعله الله في بواطن أوليائه، وستره بظهور وصف بشريتهم، قد يظهره عليهم على وجه خرق العادة، فقد يظهر على وليه من قدرته وعلمه وسائر كمالاته ما تحار فيه العقول، وتذهل فيه الأذهان، لكن لا يدوم ذلك لهم، بل يكون على سبيل الكرامات وخرق العادات، يشرق عليهم شموس أوصافه، فيتصفون بصفاته، ثم يقبض ذلك عنهم فيردهم إلى حدودهم، فنور الخصوصية، وهي المعرفة، ثابت لا يزول، ساكن لا يحول؛ وسرها، وهو كمالاته تعالى، تارة يشرق على أفق بشريتهم فيستنير بأوصاف الربوبية، وتارة ينقبض عنهم فيردون إلى حدودهم وشهود عبوديتهم، فالمعرفة ثابتة، والواردات مختلفة، والله تعالى أعلم([292]).

ويقول: ...وقال سيدي علي رضي الله عنه، على قول الشيخ أبي الحسن الشاذلي في شأن الخلق: أراهم كالهباء في الهواء، إن فتشتهم لم تجدهم شيئاً، قال: بل إن فتشتهم وجدتهم شيئاً، وذلك الشيء ليس كمثله شيء يعني: وجدتهم مظاهر من مظاهر الحق، أنواراً من أنوار الملكوت فائضة من بحر الجبروت([293]).

- نرى في هذا النص أن عبارات عارفيهم ليست دائماً موافقة لما يريدون، فقد يُخْطِئون ويُخَطِّئون.

ويقول ابن عجيبة أيضاً:

...والتحقيق ما قدمناه من أن التعلق بأوصاف الربوبية يكون في الباطن، والتحقق بأوصاف العبودية يكون في الظاهر، فالحرية في الباطن على الدوام، والعبودية في الظاهرعلى الدوام، فحرية الباطن هي شهود أوصاف الربوبية، وهو معنى التعلق بها؛ لكن إن كان مجاهدةً فهو تعلق، وإن كان طبيعة وغريزة فهو تحقق.

...والحاصل أن عظمة الربوبية ظهرت في مظاهر العبودية، فمن نظر للعظمة صرفاً تحقق بعظمة الربوبية، ومن نظر بظاهر المظهر تحقق بأوصاف العبودية، والكامل ينظر لهما معاً، فيتحقق بعظمة الربوبية في الباطن، ويتحقق بأوصاف العبودية في الظاهر، فيُعطي كل ذي حق حقه. فالتجمع في باطنه مشهود، والفرق في ظاهره موجود([294])...ويقول: ...اعلم رحمك الله ووفقك للتسليم لأوليائه، أن الحرية إذا تحققت في الباطن، لا بد من رشحات تظهر على الظاهر، فكل إناء بالذي فيه يرشح...ولذلك نجد أهل الباطن رضي الله عنهم، جلهم أقوياء في الظاهر، فربما تصدر منهم مقالات تستخرجها القدرة منهم، فيظن الجاهل بحالهم أن ذلك دعوى وظهور! وليس كذلك. وإنما ذلك رشحات من قوة الباطن لا قدرة لهم على إمساكها، منها ما يكون تحدثاً بالنعم، ومنها ما يكون نصحاً للعباد ليعرفوا حالهم فينتفعوا بهم في طريق الإرشاد، ومن هذا الأمر رفضهم كثير من أهل الظاهر المتعمقون في العبادة أو المتجمدون على ظاهر الشريعة([295])...

- يوضح ابن عجيبة في هذا النص سبب تصريح العارفين بمعارفهم وطبعاً، صار القارئ الآن يعرف معنى عبارة (الحرية)، فهي ضد العبودية، وتحققها في الباطن يعني استشعار السالك أنه ليس عبداً بل هو الله.

ويقول: ...وقال في لطائف المنن: وأشبه شيء بوجود الكائنات إذا نظرت إليها بعين البصيرة وجود الظلال...ومن هاهنا تبين لك أن الحجاب ليس أمراً وجودياً بينك وبين الله تعالى، ولو كان بينك وبينه حجاب وجودي للزم أن يكون أقرب إليك منه! ولا شيء أقرب من الله، فرجعت حقيقة الحجاب إلى توهم الحجاب([296])...

ويقول (معلقاً على قول ابن البنا السرقسطي):

حتى إذا جاء بطور القلب            خوطب إذ ذاك بكل خطب

فقيل لو عرفتني بكوني               قيل إذن فاخلع نعال الكون

يقول: إذا وصل النور، من ناحية المذكور، إلى جبل الطور، وهو قلبك المستور، بحجاب هيبة المذكور، رفع عنه الستور، وخاطبه حينئذ بكل أمر جليل، وسر جليل، فلا تعلم نفس ما خصص به من المساررة، والمصافاة، والمكالمة، والمناجاة، فيناديه لسان الملكوت مترجماً عن عالم الجبروت: يا أيها العبد الشائق إلى حضرتي، لتعاين سر قدرتي، هلا عرفتني بكوني، وقنعت بذلك مني؟ فيقول العبد المشتاق إلى حضرة التلاق: لا أريد إلا وجهك الكريم، ومشاهدة سرك العظيم، فيقول له الحق جل جلاله: إن أردت هذا الخطب الجسيم، والأمر العظيم، فاخلع عنك نعال الكونين، وتخط بقدم همتك نعيم الدارين، فإذا خلعت عنك الحظوط والهوى، فأنت بالوادي المقدس طوى([297]). ويقول: ...فأوصاف الربوبية رفيعة القدر عظيمة الشأن، وأوصاف العبودية خسيسة القدر دنيئة المقدار، فلا مناسبة بينهما في القدر، مع تلازمهما في المحل بتحقيق الوحدة، فهما متلازمان في القيام، متضادان في الأحكام([298])...

- هذا القول مثل قولهم: واتحد فيه النجو مع الورد، وقولهم: وفي الخنازير مع القرود.. وغيرها..

ويقول: إذا حققت أن الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، علمت علم يقين أن الأكوان والمكان والزمان لا وجود لها، وأن الحق كما كان وجوده وحده ولا أين ولا مكان، بقي كذلك، لا أين ولا مكان ولا زمان، نورُ أحديته محى وجود الأكوان، فانتفى بوجوده الزمان والمكان، ولم يبق إلا الواحد المنان([299])...

ويقول: ...ثم قال أي ابن البنا السرقسطي:

أو قال بالظهور والحلول             فبدعة يقدح في الأصول

قلت -القائل ابن عجيبة-: مراده بالظهور: ظهور الذات العالية لبصر الحس، حتى تدرك بالبصر الحسي، وقد قال تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) [الأنعام:103]، وإنما تدركه البصيرة، فإذا انفتحت وقوي نورها، استولت على البصر، فصار الحكم لها، فالبصر لا يرى إلا الحس، والبصيرة لا ترى إلا المعنى؟ وقد يتلطف الحس فيصير كأنه معنى، فيكون ما تراه البصيرة في حق العيان، وهو محل الشهود، إذ الحس لا يفارق المعنى، وأما الحلول، فمعناه: إثبات السوى وحلول الألوهية فيه، وهو كفر صراح، فمن ادعى شيئاً من الظهور والحلول فارفضه، فقد أتى ببدعة تقدح في أصول إيمانه والعياذ بالله من الزلل.

ثم قال (أي: السرقسطي):

وقوله أنا الذي أهواه                  قبل الفنا عنه فما أقصاه

إذا قال الفقير: أنا من أهوى ومن أهوى أنا، قبل تحقق فنائه، فما أبعده عن الصواب، وإذا تحقق فناؤه، فلا يقول ذلك إلا مع من يصدقه في حاله، وإلا تعرض لقتله([300])...

* تعليق:

يعني بالظهور: الرؤية بالعين المجردة (الحاسة البصرية)، وقد مر معنا معنى الحلول عندهم، وقد يعبرون، في عصرنا هذا، عن الحلول بقولهم: التلبس، وقد سمعت من يقول: إن الولي يتلبسه الله، وفي هذه الحالة، عندما يتكلم الولي، فالمتكلم حقيقة هو الله..، وطبعاً قائل هذا القول هو إنسان جاهل بالصوفية، فالحلول عندهم كفر، وكذلك الاتحاد! لأن هذا وذاك لا يكون إلا بين اثنين، ولا يوجد إلا واحد.

والتعليقات كثيرة، أتركها للقارئ.

ويقول ولي الله الدهلوي([301]):

والفناء إما شفاهي، وإما حجابي، أما الشفاهي فانصباغٌ بحقيقة الذات، لا تجلياته، انصباغاً قوياً تاماً، ويختص برجل شديد، فصوْرة مزاجه لا تنقهر إلا بتكرار التجليات، قوي جذبه لا يغادرحالاً ولا شيئاً إلا غلبه وقهره، ولا يدعه حتى يبلغ الدرجة القصوى.

...وذلك لأنه ربما لم يتحقق الفناء الشفاهي، وحينئذ تظهر النفس في صورة الربوبية، فيعسر زواله، ويعقب خلافه خزياً شديداً في الحياة الدنيا([302]).اهـ.

- قوله: فصورة مزاجه، أي: فصورة مزاج الفناء...

- وقوله: ...فيعسر زواله، أي: يعسر زوال ظهور صورة الربوبية، فيبقى الولي يقول عن نفسه: أنا الحق....

- وقوله: ويعقب خلافه خزياً شديداً...، نعلم ما هو هذا الخزي؟ إنه التكفير...والقتل.

ويقول: وأما الخاص، فكل فناء في حضرة الذات، كان مع الصورة المزاجية...وأصل مذهبهم أن يتجشموا عملاً نيرنجياً، وذلك العمل أن يتلطفوا من أنفسهم، فينقدح لهم سر عظيم الشأن، على درجاته.

فأول ما ينقدح استناد الأفعال إلى الله سبحانه، فهناك يتوكل على الله ولا يخاف إلا إياه، وهذا ظَهْرُ السر في الدرجة الأولى، وأما بطنها، فأن يُرى اللهُ سبحانه في عين كل فعل على أن الفعل من أستاره وتقيداته. ووجه أوليتها أن الأفعال على شرف العدم في نفس الأمر، وإنما الموطن العلمي من تمثلات هذا الموطن، وهذه هي (المحاضرة) عندهم.

وثانياً: ينقدح لهم استناد الصفات بأجمعها إليه، فيرى أن كل بصره فهو من بصره، وكل سمع فهو من سمعه، إلى غير ذلك؟ ولعلك حرور باقتناص بطنها ووجه ثانويتها، فهذه هي المكاشفة.

وثالثاً: ينقدح استناد الذوات، فيرى أن كل ذات فهو من ذاته، فإذا انتقل إلى بطنها، وهو أن الواجبَ جَلَّ مَجْدُه سَنْخٌ كلِّ موجود، وأن كلَّ موجودٍ مُفاضٌ منه إفاضةً مقدسة، ثم السير إلى الله، وهذه هي (المشاهَدة)، ثم إن جذبات الله تعالى تجاذبه حيناً فحيناً حتى ترتفع الحجب والتقيدات ولا يبقى إلا ذو الجلال والإكرام في وحدته وكبريائه، ويكون المدرَك عين المدرِك، فلا يعلم بالعلم الحضوري إلا الله سبحانه([303])...اهـ.

- مر هذا النص في معناه أكثر من مرة في الصفحات السابقة، ملخصه أن السالك في سيره إلى المعرفة، أي إلى معرفة وحدة الوجود، يمر في ثلاث مراحل:

أولاً: معرفة وحدة الأفعال، حيث يشاهد الواصل ذوقاً واستشعاراً أن كل الحركات التي تجري في الكون هي حركات الواحد وأفعاله، وهذه هي المحاضرة.

ثانياً: معرفة وحدة الصفات حيث يشاهد الواصل أن الصفات جميعها التي يراها المحجوبون صفات لمخلوقات، مثل: سميع، بصير، طويل، عريض، أحمر، أخضر، شجاع، جبان.. هي صفات للواجب جل مجده (حسب تعبير الدهلوي) تظهر فى تعيناته التي يظنها المحجوبون غيره، وهذه هي المكاشفة.

ثالثاً: وحدة الذات، أو وحدة الوجود، وهذه هي المشاهدة، وفي واقع الأمر إن الأصل هو وحدة الوجود، وما وحدة الأفعال ووحدة الصفات إلا نتائج لها.

ويجب أن نعرف أن هذا الترتيب قد يحصل لواصل وقد لا يحصل، وهو تابع، إلى حد ما، لتوجيهات الشيخ وإيحاءاته.

ويقول ولي الله الدهلوي أيضاً:

ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سَنْخ القدوسية على سبيل الظهور والتمثل، فإنه لكل متدنس قدوسية هي أقرب من حبك وريده، وهو أبعد منها بما هو هو كبعد المشرقين([304])...اهـ.

- هذه المقولة هي مثل مقولة ابن سبعين: واتحد فيه النجو مع الورد. ومثل مقولة الششتري: وفي الخنازير مع القرود. ومقولة ابن عجيبة: متلازمان في المقام متضادان في الأحكام.

ومثل قول قائلهم: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا. وغيرها من الأقوال المماثلة التي مرت والتي ستمر.

ويقول أيضاً مقرراً:

قال الشيخ صدر الدين القونوي([305]): الحق سبحانه من حيث وحدة وجوده، لم يصدر عنه إلا الواحد، لاستحالة إظهار الواحد وإيجاده- من حيث كونه واحداً- غير الواحد، وذلك الواحد عندنا هو الوجود العام المفاض على أعيان المكونات ما وجد منها وما لم يوجد مما سبق العلم بوجوده، وهذا الوجود مشترك بين القلم الأعلى الذي هو أول موجود، المسمى بالعقل الأول أيضاً، وبين سائر الموجودات، ليس كما يذكره أهل النظر من الفلاسفة، فإنه ليس ثمة عند المحققين إلا الحق، والعالم ليس بشيء زائد على معلومه لله تعالى أولاً، المتصفة بالوجود ثانياً([306])...اهـ.

* الملحوظات:

نلاحظ في هذا النص ما يلي:

1- وضوح عقيدة وحدة الوجود.

2- إيمان قطبين كبيرين بها: القونوي صاحب النص، والدهلوي الذي أورده مقراً بما فيه.

3- العقيدة الإسماعيلية التي هي أصلاً من اليونانيات: الصدور والفيض والعقل الأول...

4- محاولتهم التوفيق بين الإسلام واليونانيات عندما جعلوا العقل الأول (وهو من اليونانيات) هو القلم الوارد في الحديث الشريف.

5- يخالفون أصحاب اليونانيات (أهل النظر من الفلاسفة) الذين يقولون: إن العقل الأول انفصل عن الحق سبحانه وصار كأنه غيره رغم أنه صدر عنه بالفيض، بينما يقرر المحققون (أي: الصوفية) أنه ليس ثمة إلا الحق، حيث لا وصل ولا فصل ولا غيره. وللعلم: القلم الأعلى الذي هو أول موجود، المسمى بالعقل الأول، هو محمد صلى الله عليه وسلم عندهم.

ويقول الدهلوي أيضاً مقرراً:

قال مولانا عبد الرحمن الجامي([307])- بعدما فضل القول في تسويغ كون الوجود العام المنبسط على هياكل الموجودات عين الواجب جّل مجده بهذه الألفاظ-: الصوفيون القائلون بوحدة الوجود، لما ظهر عندهم أن حقيقة الواجب هو الوجود المطلق، لم يحتاجوا إلى إقامة الدليل على توحده ونفي الشريك عنه (أي: الشريك في الوجود)، فإنه لا يمكن أن يتوهم فيه اثنينية وتعدد من غير أن يُعتبر فيه تعين وتقيد([308])...اهـ.

- في هذا النص يظهر إيمان الجامي والدهلوي بوحدة الوجود، وكلاهما من الأقطاب.

ويقول أحمد زيني الدحلان([309]):

...قال أهل المعرفة: إن تجلّي الحق سبحانه وتعالى على الدوام، ولا يمنع من ظهور أنوار التجلي إلا الاشتغال بالسِّوَى والإقبال على الغير، فلذلك يأمر الأشياخ المريدين بذكر لا إله إلا الله، لأنها مكنسة الأغيار، فإذا ذهب السِّوَى ظفر بالمولى، فالحق سبحانه وتعالى ليس بغائب، إنما الغائب أنت لاشتغالك بسواه، فأحضر قلبك تكن كأنك تراه، وهذا هو مقام الإحسان، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

وهاهنا نكتة ذوقية في قوله صلى الله عليه وسلم: {فإن لم تكن تراه فإنه يراك}، فَهِمها بعض العارفين حيث قال: (تكن): تامة بمعنى توجد، أي: فإن لم توجد، بأن فنيت فيه، فإنك تراه، أي إذا تحققت بمقام الفناء، نلت مقام الشهود، وهو الرؤية القلبية التي تصير في الآخرة بصرية؛ ولا يُشْكل على ذلك أن مقتضى هذا المعنى أن يكون (تراه) جواب الشرط، ومقتضى قواعد العربية حذف الألف من (تراه) لأنه مجزوم جواباً للشرط. لأنا نقول: إن بعض العرب يبقي مثل هذه الألف في الفعل المجزوم، فلا مانع أن يخرج ذلك على تلك اللغة لإفادة هذا المعنى اللطيف؟ ويكون قوله: (فإنه يراك): كلاماً مستأنفاً.

والحاصل أن الأصل في ذلك كله التحلي بالتوحيد، ومعرفة أن الأشياء كلها صادرة منه سبحانه وتعالى، ومستمدة من فضله، فلو أنك لا تصل إليه إلا بعد فناء مساويك ومحو دعاويك لم تصل إليه أبداً.

ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه غطى وصفك بوصفه، ونَعْتَك بنعته، وأوصلك إليه بما مِنْه إليك، لا بما مِنْك إليه، عناية بك([310]). اهـ.

- نحن في هذا النص، أمام أسلوب جديد ومبتكر في تفسير الحديث، ولا حاجة بنا للتعليق، لأنه من البدهي أن الذي يحرف كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد مواضعه، يكون منحدراً في منزلقٍ سحيق.

وقد أصبحت -الآن- العبارات: (الأشياء كلها صادرة منه ومستمدة من فضله)، و(فناء مساويك ومحو دعاويك)، مفهومة تماماً لدينا، فالعبارتان الأوليان تعنيان الوحدة، والثانيتان تعنيان: الفناء عن الأغيار، أي عدم شهود الخلق، فلا خلق موجود، ويقول: ...فالسالك سائر عن عالم الطبيعة إلى عالم الملكوت، ومنه إلى عالم الجبروت، ومنه إلى عالم حضرة اللاهوت، حضرة تمحى فيها العبارة والإشارة، وتذهب الأسماء والرسوم، ولا يبقى هناك مشهود إلا الحي القيوم، فإذا ظهرت شمس المعرفة ذهبت نجوم التفرقة، فلا يشهد المنتهي إلا مولاه، ولا يظهر له فعل ولا وصف ولا وجود إلا لله، فمن عرف الله شهده في كل شيء، فلا يتوحش من شيء ويستأنس به كل شيء، ويستأنس هو من كل شيء، ويشهد معنى قوله تعالى: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88] عياناً، ويفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم:} أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل.....................

وتشرق على قلبه لمعة من قوله تعالى: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)) [الحديد:3]، ويتجلى له: ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) [البقرة:115]، ويرتفع عنه اشتباه معنى: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) [ق:16]، وينطق بالحق، لأن الحق يكون حينئذ سَمْعَه وبَصَرَه ولسانَه، كما في الحديث القدسي: {فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به وبصرَه الذي يبصر به ولسانَه الذي ينطق به}.

والحاصل أن العارف يصل إلى حالة يفنى فيها عن أفعاله وأوصافه وذاته، فلا يشهد إلا فعل مولاه وأوصافه وذاته، وهذا يسمى جمعاً، ومع ذلك لا يحجبه هذا عن فرقه. فالعارف لا يحجبه جَمعه عن فرقه، ولا فرقه عن جَمعه، ولا صحوه عن سكره، ولا سكره عن صحوه.. ويوضح لك شَمَّة من ذلك قولُه تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17]، فنفى عنه الرمي أولاً بقوله: (وما رميت)، وهو عين الجمع، وأثبته ثانياً بقوله: (وإذ رميت)، وهو عين الفرق، ثم قال: (ولكن الله رمى)، أي إن الرمي منسوب إلى الله([311]).

ويقول مصطفى العروسي([312]) شيخ مشايخ الإسلام:

الحمد لله الذي عين الأعيان بفيض نوره الأقدس، وقدرها بعلمه في ذاته على وجه الحكمة الأنفس...فسبحانه من إله قد تجلى بذاته لذاته، فأبدع آدم وأودعه مظاهر أسمائه المنعوتة (بالعالَم)، وأجمل فيه جميع الحقائق وألهم، فجعله مظهر اسمه الجامع لما تأخر وتقدم، وجعل له من نعوت التلوين ما قد يكون بغير التمكين مزلة للقدم، ومنحه سر العليم الأعلم، فهو العالم([313]) والعلم والمعلَّم والحاكم والمحكوم عليه والحكم([314])، والمسمى بالأسماء الحسنى، ومرآة درج الكمال الأسنى...كيف لا وهو الإنسان الكامل والطلسم المعمى على سائر الأواخر والأوائل...مَنْ قيل فيه لولاك ما خلقت الأفلاك...سيدنا ورسولنا أبو القاسم، جمع الجوامع، وسر الأسرار، مَنْ كان من نوره سائر الأنوار، فهو الاسم الأعظم، الناطق بلسان: {أنا سيد ولد آدم}، أول التعينات الإلهية، وآخر الدلالات الإرشادية المبعوث إلى كافة الأرواح والأجسام، من المجردات والمركبات، من أول التعيين إلى آخر الختام([315]). اهـ.

- الجديد في هذا النص هو قوله: المبعوث إلى كافة الأرواح والأجسام من المجردات والمركبات!! وهذا الكلام يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى القرود والذئاب والهررة والفئران والكلاب والخنازير!! كما أنه مبعوث رسولاً إلى المزابل والحجارة والتراب، وإلى الهيدروجين والأكسجين والآزوت والحديد والنحاس..! لكن ما هي رسالته لهؤلاء؟!

الكشف أعلم!! لأن الكشف يعلم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويعلم ما لم يعلمه رسل الله ولا كتبه -والمشتكى إلى الله-.

- كما نرى العبارة: أول التعينات الإلهية وآخر الدلالات الإشارية. التي تعني:

أول تشكل صدر عن ذات الله وخاتم الرسل، وقد عرف المقربون الصديقون الأولياء العارفون هذا الأمر من حديث موضوع، وضعه أحد الكذابين الضالين المضلين، ولكن كشفهم صحح هذا الحديث، وإذا قال الكشف فصدقوه! فإن القول ما قاله الكشف!!

ويقول: ...وهذه الحضرة، أي حضرة الذات الأحدية، أو حضرة العماء، أو الحضرة الواحدية، تتعين بالتعين الأول، لأنها محل الكثرة، ومظهر ظهور الحقائق والنسب الأسمائية، وكل ما تعين فهو مخلوق، فهي العقل الأول...القائل بهذا القول يسمي هذه الحضرة بحضرة الإمكان، وحضرة الجمع بين أحكام الوجوب والإمكان، والحقيقة الإنسانية، وكل ذلك من قبيل المخلوقات، ويعترف بأن الحق في هذه الحضرة متجل بصفات الخلق...ويوضح قولنا: يُشار بالألف إلى الحضرة الأحدية. أن الحقيقة إن أُخذت بشرط أن لا يكون معها شيء، فهي المسماة بالمرتبة الأحدية المستهلكة فيها جميع الأسماء والصفات، وتسمى أيضاً: (جمع الجمع)، و(حقيقة الحقائق)، و(العماء)، وإن أخذت بشرط شيء: فإما أن تؤخذ بشرط جميع الأشياء اللازمة لها، كلياتها وجزئياتها المسماة بالأسماء والصفات، فهي المرتبة الإلهية المسماة عندهم (بالواحدية)، و(مقام الجمع)، وهذه المرتبة باعتبار الإيصال لظاهر الأسماء التي هي للأعيان والحقائق، إلى كمالاتها المناسبة لاستعداداتها في الخارج، تسمى مرتبة: (الربوبية)، وإن أخذت لا بشرط شيء، ولا بشرط لا شيء، فهي المسماة بـ: (الهوية السارية في جميع الموجودات)، وإن أخذت بشرط ثبوت الصور العلمية فيها، فهي مرتبة (الاسم الباطن المطلق، والأول، والعليم، ورب الأعيان الثابتة)، وإن أخذت بشرط كليات الأشياء فقط، فهي مرتبة الاسم: (الرحمن، ورب العقل الأول المسمى بلوح القضاء، وأم الكتاب، والقلم الأعلى)، وإن أخذت بشرط أن الكليات فيها جزئيات مفصلة ثابتة من غير احتجابها عن كلياتها، فهي مرتبة الاسم (الرحيم، رب النفس الكلية المسماة بلوح القدر، وهو اللوح المحفوظ، والكتاب المبين)، وإن أخذت بشرط أن تكون الصور المفضلة جزئية متغيرة، فهي مرتبة الاسم (الماحي والمثبت والمحيي، رب النفس المنطبعة في الجسم الكلي، المسمى بلوح المحو والإثبات)...ومرتبة الإنسان الكامل عبارة عن جميع المراتب الإلهية والكونية، من العقول والنفوس الكلية والحسية، ومراتب الطبيعة إلى تنزلات الوجود، وتسمى بالمرتبة العمائية أيضاً، فهي مضاهية للمرتبة الإلهية، ولا فرق بينهما إلا بالربوبية والمربوبية، فلذلك صار خليفة الله سبحانه وتعالى([316]). اهـ.

* الملحوظات:

نلاحظ في هذا النص الطويل (وقد حذفت منه كثيراً) ما يلي:

1- يُظهرأن الأسماء الحسنى هي مظاهر الكون، ويضيف إلى الأسماء الحسنى، أسماء ابتدعها القوم على أنها من أسماء الله، مثل: (الهوية السارية..).

2- يوفق بين الفلسفة اليونانية (الأفلاطونية الحديثة) التي تبناها الإسماعيلية، وبين العقيدة الإسلامية، وفي هذا دليل على أن في الصوفية نُسُغاً يونانياً.

3- يبين عقيدة القوم بالإنسان الكامل، وأفكار غيرها يراها القارئ.

ويقول: ...وظلُّ الإلهِ هو الإنسان الكامل المتحقق بالحضرة الواحدية، والعالم الذي هو علامة على وجود موجده (الظل الثاني)، إذ ليس إلا الوجود الحق الظاهر بصور الممكنات كلها، فلظهوره بتعيناتها سُمي باسم السوى والغير، وذلك باعتبار إضافته إلى الممكنات، إذ لا وجود للممكنات إلا بمجرد هذه النسبة، وإلا فالوجود عين الحق، فالممكنات ثابتة على عدميتها...فالعالَم صورة الحق، والحق هوية العالَم وروحه([317])..

ويقول: ...وإن جميع الموجودات مستمدة من وجوده، فهو هي، وهي هو، على معنى: (لا هو إلا هو)، كان الله ولا شيء معه، ويبقى الله ولا شيء معه، وإنما الكائنات تعينات له مخصوصة في أزمنة مخصوصة محكوم عليها بأحكام مخصوصة، ثم إليه يرجع الأمر كما بدا، الحِكَمُ عَليَّة، وأسرار إلهية علمها من علمها وجهلها من جهلها بتدبيره تعالى وتقديره، لا يسأل عما يفعل فافهم، ولا تك أسير النقل والتقليد([318]).

ويقول الشيخ عبد الرزاق القاشاني([319])...

...أي كل خلق تراه العين فهو عين الحق.. ولكن خيال المحجوب سماه خلقاً لكونه مستوراً بصورة خلقية، محتجباً بها، وإن كان متجلياً لم يعرفه([320])...

* الملحوظة:

نلاحظ مخالفة للقاشاني، فهو هنا يشرح (فصوص الحكم) لابن عربي، وابن عربي يقول: الحق خلق وما الخلق حق، وقد شرحها العيدروس فيما مر قبل صفحات، بقوله بعد شرح: ...فلا يصح أن يقال: الخلق عين الحق...بخلاف أن يقال: الحق عين الخلق، فإنه صحيح....بينما نرى القاشاني يقول: كل خلق، فهو عين الحق، وهو اختلاف في أسلوب التعبير فقط.

ويقول: ...فمن عرف علم الطريق، وأنه ليس إلا الحق، إذ لا شيء غيره عليه، عرف أن أسفل سافلين لا يخلو عن الحق، فعلم أن الجهنميين في القرب وإن توهموا البعد([321])..

ويقول: ...وإن تعلقت مشيئته بإرادة الرزق لنا من لدنه، فهو المراد أن يكون لنا رزقاً، من حيث إنه الوجود الحق، فيوجدنا كما يشاء، ويختفي فينا، ويُظهرنا كالغذاء بالنسبة إلى المغتذي؟ فإنا نقوش وهيئات وشئون وتعينات لا وجود لنا ولا تحقق، فهو المتعين بنا، ومظهرنا، وغذاؤنا بالوجود، كما نحن غذاؤه بالأحكام([322])...

ويقول أحمد الصاوي المالكي الخلوتي([323]) في شرح الصلوات الدرديرية: بتجلي الأسماء والصفات، أي: بظهور أسمائك العظيمة وصفاتك الكريمة بحيث لا نشهد حادثاً من الحوادث، ولا كوناً من الأكوان، إلا بشهود الأسماء والصفات قبله، لكون الأكوان آثارها، وهو معنى قولهم: العارف يرى الله في كل شيء، وقول بعض العارفين:

وفي كل شيء له آية               تدل على أنه واحد

ومعنى قول سيدي عبد الغني النابلسي:

كل شيء عقد جوهر               حلية الحسن المهيب

ومعنى حديث: {لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها ورجلَه التي يمشي بها..} الحديث. أي كنت مسموعَه عند سمعه الحوادث، مبصورَه عنده إبصاره الحوادث، وحولَه وقوتَه عند بطشه ومشيه، أي يشهدُني كذلك، لأنها آثاري وهي ظاهرة بي على حد قول بعض العارفين:

الله قل وذر الوجود وما حوى                إن كنت مرتاداً بلوغ كمال

فالكل دون الله إن حققته                    عدمٌ على التفصيل والإجمال

من لا وجود لذاته من ذاته                   فوجـوده لـولاه عين محال

وهذا المقام هو المسمى بوحدة الوجود، ولا يدركه الشخص إلا بعد الفناء في الأحدية الذي قال فيه ابن بشيش: وزج بي في بحار الأحدية. ووحدة الوجود هذه يسمى صاحبها في مقام البقاء ويسمى غَرقان في بحر الوحدة التي هي شهود المولى من حيث قيام الأسماء والصفات به([324]).

ويقول الشيخ حسن رضوان([325])، من منظومته (روض القلوب المستطاب):

وتنجلي الرقائق المطوية            في لفظة والحكمة المنوية

لا سيما ما كان في العقائد                   فإنه من أعظم المقاصد

وحسبه من ذلك المقصود                   إشراق نور وحدة الوجود

وكل ما سواه نجم آفل              بل في شهود العارفين باطل

فليس إلا الله والمظاهر             لجملة الأسماء وهو الظاهر

فمن صفت مرآته تحققا            بما من الأسما عليه أشرقا

وشاهد المَشَاهد المصونة                   وأدرك المواهب المكنونة([326])

- قوله:

وكل ما سواه نجم آفل                بل في شهود العارفين باطل

هي شهادة واضحة وجريئة من (عارف) أن العقيدة الإسلامية باطلة في شهود (العارفين)، لأنها لا تؤمن بوحدة الوجود، ولأن القرآن الكريم يحكم على القائلين بوحدة الوجود بالكفر المبين، ((وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ)) [الزخرف:15].

- وقوله: فليس إلا الله والمظاهر، يذكرنا بالذكر: ليس إلا الله، الذي استعمله جماعة منهم بدلاً من (لا إله إلا الله) كما مر آنفاً.

ويقول أيضاً:

إذا مَنَّ الحق تعالى على عبد من عباده، وصافاه بصفاء نفسه من كدورة التعلق بما سواه، وطهره من جنابات غفلته ورعونات شهوته، حتى أفناه به فيه حق اليقين، وبلغ بذلك مرتبة (جمع الجمع)، ولحقت نفسُه بعالمها العلوي الأصلي، قامت به حينئذ رقيقة لطيفة ذاتية حقية، مفاضة من جانب الحق تعالى بفيض رحمانيته، ينكشف له به سريان الوجود الحق في جميع ذرات الممكنات، وسر تجليات الأسماء والصفات، وظهوره في كل مظهر بحسب استعداده، كشفاً إيمانياً، وذوقاً روحانياً، فيرى الحق في الخلق، والخلق بالحق؟ وهذا هو مشهد كمل العارفين المحققين([327]). اهـ.

- قبل الانتقال إلى غيره، لا بأس من إيراد شهادة تزكية للشيخ حسن رضوان من لفةٍ كبرى في الجامع الأزهر، يقول زكي مبارك: وقد حدثني الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق (وكان شيخ الجامع الأزهر الأكبر)، أن البلد الذي أقام فيه الشيخ حسن رضوان، كثر فيه العلماء والمدرسون، فهو من الهداة الصالحين([328]).

ويقول الشيخ محمد مهدي الرواس (قطب الغوث):

...قلنا: لَزِم الشكر والاعتبار، وطرحُ الدنيا عن الأفكار، والاشتغال بالمؤثر عن الآثار، إذ ما في الدار غيره ديار([329]).

ويقول: وبويعت في الحضرة، على دوام الحضور بالانفراد الطوري من حيث مشهد القلب إلى الله تعالى، منقلباً عن مشاهدة الأكوان، ومنسلخاً عنها انسلاخ مقيم مع مراقبته، محترزاً من انتقاد مراقبه، فإن الناقد بصير، والأمر المقصود خطير، وإلى الله تصير الأمور([330]).

- إن العبارة عند محمد المهدي الصيادي تذكرنا بالعبارة عند عبد القادر الجيلاني، فهي في القمة من حيث الأسلوب الإشاري الرمزي، وهذا النص الأخير واضح بالنسبة للمتمرس بالأساليب الصوفية، أما حديث العهد بها فيرى نفسه أمام كلام غير مفهوم. ويقول: ...وطرْحُ هياكل الأكوان، هو عبارة عن التحقق بالتوحيد الخالص، والعلم بأن الخلق والأمر لله سبحانه، ألا له الخلق والأمر([331]). اهـ.

* الملحوظة:

التوحيد في الإسلام لا يحتاج إلى طرح هياكل الكون لا كثيراً ولا قليلاً، ولا جملة ولا تفصيلاً. أما عند الصوفية، فطرحها هو الأساس، لأن هياكل الكون لا حقيقة لها باعتبارها هياكل، لأن حقيقتها هي الحق.

ويقول: المادة الثانية والتسعون من المائة الثانية: طرح هياكل الأكوان تحققاً بالتوحيد، مع حفظ الآثار، وإرجاع التأثير الذي يصدر عن الكل إلى الله تعالى([332]).

- يعبر في هذا النص عن مقام (الفرق الثاني)، وأترك تحليله للقارئ.

ويقول:

آمنت بالله الوجود كله                سواه يفنى وهو باقٍ لم يزل([333])

فطهِّر القلب لقدسه وكن             ممتثلاً كتابه كما نزل

ويقول:

ولدى الأمرين حقاً                  ليس إلا الله فاعل

ثق به واترك سواه                    واربطنْ فيه الوسائل

وخذ الهادي إماماً                   فهو برهانٌ الدلائل

واتبع القوم فمنهم                   كل مقبول وواصل

عَرَفوا الله وحقاَ             ما خلا الله فباطل([334])

ويقول:

وغب عن جميع الحادثات لربها             ولا تتخذ فيها سوى شغله شغلا

وإن وهبوك العرش والفرش والفضا           برمشة عين ضمن حُجب فقل لا

وسر سيرتي واسلك بنهج طريقتي            إلى الله لا تشهد لدى غيره فعلاً

وجردك من كل الوجودات واضطجع                 على حُصُر التسليم يا من سما عقلاً

- يشير بهذه الأبيات إلى (وحدة الأفعال).

ولا تر للمخلوق حولاً وقوة                  فلا قوة للخلق طراً ولا حولا

وخذ حلْوَ أمر الله في الدين مشرباً                    فلن ترى من مجلى مشاربه أحلى

- البيتان يشيران إلى (وحدة الصفات):

ومَن قاد للأغيار فاهجر سبيله               ورافقْ محب الله إن قل أو جلا([335])

- هذا البيت الأخير يشير إلى (وحدة الذات).

- في البيتين: (وإن وهبوك العرش..)، و(وخذ حلو أمر الله..)، في الشطر الثاني من كل منهما خلل في الوزن.

ويقول: من صلوات له:

اللهم اجمعنا بك عليك، وارددنا منك إليك، وأرشدنا في حضرة جمع الجمع، حيث لا فرقة ولا منع، إنك أنت المانح الفاتح، تمنح ما شئت من مواهب ربانيتك لمن شئت([336]).

ويقول: من نفس الصلوات.

اللهم صل على المتخلق بصفاتك، المستغرق في مشاهدة ذاتك، رسول الحق، المتخلق بالحق، حقيقة مدد الحق ((أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)) [يونس:53]، اللهم إنا قد عجزنا من حيث إحاطة عقولنا، وغاية أفهامنا، ومنتهى إرادتنا، وسوابق هممنا، أن نصلي عليه من حيث هو، وكيف نقدر على ذلك، وقد جعلت كلامك خلقه، وأسماءك مظهره، ومنشأ كونك منه([337]). اهـ.

- نحن الآن نعرف كثيراً من مصطلحات القوم، ومنها (المشاهدة) وقد مرت قبل صفحات، إذن، فالعبارة: المستغرق في مشاهدة ذاتك واضحة المعنى، أترك للقارئ البحث عنها وتحليلها.

وما يجب أن نلاحظه بشكل متميز، هو إدراجه للجملة: ((أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)) [يونس:53]، التي توهم الساذج أنه يعني بها المعنى المعروف في كتب التفسير، أي إن كلمة (حق) تعني الصدق، لكن بشيء من التروي لمن تمرس بأسلوب القوم، يرى أنه يستعمل كلمة (حق) على أنها اسم من أسماء الله الحسنى، فهو يقول: أمحمد هو الله قل إي وربي إنه الله. ثم لننتبه إلى قوله: وأسماءك مظهره، وإلى قوله: ومنشأ كونك منه، وكل هذا داخل فيما يسمونه (الحقيقة المحمدية) التي هي جزء من عقيدة (وحدة الوجود).

أما قوله: (ومنشأ كونك منه)، فهو أكثر وضوحاً من قول البوصيري في البردة:

فإن من جودك الدنيا وضرتها                  ومن علومك علم اللوح والقلم

ويقول (من نفس الصلوات):

اللهم بك توسلت...أن تصلي عليه صلاة أبدية ديمومية قيومية إلهية ربانية، تصفينا بها من شوائب الطبيعة الآدمية، بالسحق والمحق، وتطمس بها آثار وجودنا الغيرية عنا في غيب غيب الهوية، فيبقى الكل للحق في الحق بالحق، وترقينا بها في معاريج شهود وجود ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)) [فصلت:53]([338]). - السحق: ذهاب تركيبك تحت القهر (ابن عربي في اصطلاح الصوفية)، ويفسره الدكتورعبد المنعم الحفني: هو الاضمحلال، أي ذهول العبد تجاه قهر الحق.

- المحق: فناء وجود العبد في حضرة الحق، أو فناء وجود العبد في ذات الحق، أو فناؤك في عينه.

- وسياق الكلام يُظْهِر المعنى الذي يشيرون إليه من الآية: ((حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)) [فصلت:53]، فهو يعني أن محمداً هو الحق، بجعل الهاء من (أنه) عائدة على محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل (الحق) من أسماء الله الحسنى.

- وهذا الكلام يدور- كما هو واضح- حول الحقيقة المحمدية، وبالتالي وحدة الوجود.

ويقول:

قد حاول الجمعَ أقوامٌ فأرجعهم             موتى وهم بِطَنين الظن أحياء

فالعارفون بباب الفَرْق موقفهم               والأنبياء العرانين الأجلاء

قال اتحاداً أناسُ والحلول حكوا             والكل صدْمتُهم في الدين دهماء

لو حل فيهم على فرض المحال لما                  منهم تحلل بالتحويل أجزاء([339])

- يقول في البيت الأول: إن أقواماً حاولوا الوصول إلى مقام الجمع، ولكنهم فشلوا ورجعوا خائبين موتى ويظنون أنفسهم أحياء، وطبعاً يقول هذا الكلام ليقارنهم مع نفسه والمقام الذي وصل إليه.

- وفي البيت الثاني يقول: إن العارفين، وهم الذين وصلوا إلى مقام الفرق الثاني (أو صحو الجمع..)، وكذلك الأنبياء، يقفون بباب الفرق، بمعنى أنهم يظهرون للناس العبودية لله، ويكتمون سر (الجمع).

- يهمنا من هذه الأبيات، البيتان الأخيران، لأنه ينفي بهما الاتحاد والحلول، ونعرف أن الاتحاد لا يكون إلا بين اثنين يتحدان ببعضهما. وكذلك الحلول يحتاج إلى اثنين يحل أحدهما في الآخر.

ويقول في نفس القصيدة:

وقائل الحق لم تُقْلَب حقيقته                وإن ترنَّم بالتبديل ورقاء

سرُّ تكاتمه أهل القلوب فخذ                منه الرموز وما للسر إفشاء

الفرق بين نماط الجمع متسق               والجمع يَشْهَدُه لطفٌ وإنطاء

يُسِفُّهُ الحق سفَّاً ثم يرجعه                    فرقاً وفي الأمر تجريد وإكساء([340])

- في الواقع، ليس هنا مكان هذه الأبيات، والتي قبلها، فمكان هذه في فصل سابق، ومكان التي قبلها في ما يلحق، وقد أوردتها هنا من أجل القارئ الذي يريد الرجوع إلى كتب الرواس - مَن نحن في حضرته الآن - فإنه سيجد في كتبه كلاماً يوهم لأول وهلة بـ (الفرق)، وقد يوهم بـ (الحلول) أو بـ (الاتحاد)، وكل ذلك هو من الأسلوب الإلغازي، أو (العبارة) ومن التقية.

ولتوضيح ذلك، لا بأس من نظرة سريعة على الأبيات الأخيرة.

في البيت الأول: وقائل الحق لم تقلب حقيقته...، يقول: إن الذي يقول الحق، أو العارف لا يتغير، ولا تُقلب حقيقته، أو حقيقة أنه عارف، إذا ترنم بالتبديل، أي إذا بدل القول، وقال بعكس الحقيقة.. فإنه يبقى على حقيقته.

- وفي البيت الثاني يشرح سبب ذلك، فيقول: إنه السر الذي يتكاتمه أهل القلوب - وهم طبعاً الصوفية - ويطلب من المخاطَب الذي يعنيه هو، يطلب منه أن يأخذ من الكلام الرموز، لأنه لا يفشي السر.

- وفي البيت الثالث: الفرق بين نماط الجمع..، يقول: إنه يذكر في كلامه (الفرق) الذي هو التفريق بين الخالق والمخلوق، أو العبودية، متسقاً مع الجمع، أي إنه يذكر الجمع ثم الفرق ثم الجمع ثم الفرق، وهكذا...وأن الجمع يَشْهَدُه اللطف في البحث والتمعن به.

- والبيت الرابع واضح جداً.

ويقول علي اليشرطي([341]):

الوجود، هو الكتاب، والأنبياء سوره، وأكابر المسلمين والكفار آياته، وعامة الخلق كلامه، والوجود الناقص حروفه، والمجموع هو الله([342]).

ويقول: انظر لمن يقرأ القرآن، كل إنسان يقرأ بسورته، فالوجود كله فرقان، فمن جاوز قرآنُه فرقانَه، كمل إيمانه وعرفانه([343]).

- لعلنا نذكر، من النصوص السابقة، أنهم يعنون بـ (القرآن) مقام (الجمع)، وبـ (الفرقان) مقام (الفرق).

ويقول: قارئ القرآن مناجي الحق، قارئ القرآن ترجمان الحق، والقرآن حضرة الجمع([344]).

وقال: متى استوى الجمع في بطن الفقير، تتفجر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، وتظهر الأسرار والأنوار، وعلى هذه الحالة كان مَنْ قُتل وعُذِّب في مقام الجمع، أما صاحب الفرق الثاني، فهو يسري في الممكنات سريان الماء بالعود الأخضر([345]).

وقال: من استوى جمعه، صار قيومَ كل ذرة من ذرات الوجود([346]).

وقال: إذا كان الإنسان في حالة جمعه سائراً لله، شهد الله في كل شيء، فيكون في مقام الواحدية؛ فإذا تم جمعه، سار به الحق، وما رأى شيئاً طلبه إلا أنكره، ويكون ذلك الإنكار من جملة مطلوبه، ويكون الوجود الحق، وهذا مقام الأحدية، فهي أصل لظهور الممكنات التي هي أرض العبودية([347]).

- كلمة (الممكنات) وشرحها في النص الأخير يوضح مراد الشيخ من قوله: فهو يسري في الممكنات...في النص السابق.

وقال: اجعل ظاهرك عبودية، وباطنك أحدية، وميز ومهد([348]).

هذا القول هو نفس قول الجيلاني، فبظاهره ينظر إلى ما في السوق، وبقلبه ينظر إلى ربه، ونفس قول أبي الحسن الشاذلي: اجعل الفرق في لسانك موجوداً والجمع في جنانك مشهوداً، وقول ابن عجيبة: إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه.. وقد مرت معنا ومر غيرها أيضاً بنفس المعنى.

وقال: يصل الفقير إلى مقام يقول فيه للشيء: كن فيكون. ثم تابع حديثه فقال: والبعض عند الخاطر([349]).

- ويعني بقوله: عند الخاطر، أي يحصل الشيء عندما يمر بخاطره فقط، دون أن يقول له: كن.

وقال: ما زال العبد يذكر الله، حتى يستولي عليه الاسم، ومتى استولى عليه الاسم، انطوت العبدية بالربية، وظهرت عليه صفات الرب، ولذة الرب تغيَّب العبد عن وجوده حساً ومعنى([350]).

وقال: ...ومَن يرحم الفقير ربي يحسن إليه، وهذه وحدة الوجود لا يحصل عليها أي إنسان، فهي للأصفياء والأنبياء([351]).

وقال: مر سائح كان يبحث عما يقربه إلى الله تعالى، ثم إذا هو بامرأة تحمل ولدها على منكبها فقالت له: ألم تر ولدي فقد فقدته؟! فنظر إليها وقال: هو ذا الولد على منكبيك وتسألين عنه! فقالت: يا عجباً هو معنا وندور نبحث عنه! فانتبه الرجل لحاله وقال لها: جزاك الله عني خيراً([352]).

وقال: ما في فراق (أي: الفرق غير موجود)، ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) [البقرة:115]، الفراف من هذا القفص، ومتى خرجت منه تنظر جميع العوالم متصلة بك([353]).

- يعني بالفراق: الفرق، وبالقفص: الجسد.

وقال: العبد قابل لظهور تجليات الحق([354]).

- هذا القول ظاهر المعنى، ومع ذلك فالنصوص التالية تزيده ظهوراً.

يقول محمد بهاء الدين البيطار([355]):

...فاعلم أيدك الله وإيانا بروح القدس، وأراك آياته في الأفاق وفي النفس، أن لله أسماء، وأسماء الأسماء، فأما أسماء الأسماء فهي التي يعلمها عموم الناس من الأسماء الرقمية أو اللفظية أو الذهنية، فهي في الحقيقة أسماء للأسماء وليست عين الأسماء، والأسماء الحقيقية هي أعيان العالم وصور حقائق المعاني، إذ من المعلوم أن اسم الله المميت مثلاً ليس المؤثر منه بالموت هذه الحروف التي هي الألف واللام والميمان والياء والتاء، وإنما المؤثر بالموت معنى هذه الحروف الذي هو الحقيقة العزرائيلية، وليس المميت عزرائيل([356]) فقط، بل عزرائيل مظهر من مظاهر الاسم المميت وصورة من صوره، ومعلوم أن صُوَرَه لا تتناهى، فكل ما أمات فهو صورة للاسم (المميت)، فصورة الاسم تفنى، وأما جوهر الاسم وعينه فلا تفنى، لأنها عين الوجه الباقي، وكل شيء هالك إلا وجهه. فأسماء الله على الحقيقة أعيان العالم وحقائقه، ومظاهر الأسماء هي صور العالم، فلكل اسم إلهي من الصور ما لا يتناهى، فكل ما أمات، مثلاً، من ثعبان أو سيف أو رصاص أو حجر أو عصا فهو صورة من صور الاسم المميت، ومعنى المميت شأن من شئون الذات الإلهية، وهو عين الذات، ومن هنا يفهم قوله تعالى: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)) [الأنفال:17]، فتارة ينسب الله تعالى الإماتة إلى عزرائيل، فيقول: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ)) [السجدة:11]، وتارة إلى الملائكة مطلقاً، فيقول: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ)) [النحل:28]، وتارة إلى البشر، فيقول: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)) [التوبة:5]، وتارة يقول: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ)) [الزمر:42]، فإذا فهمت ذلك، وعلمت أن المظاهر صور الظاهر، والظاهر حقيقة واحدة، وهو وجود مطلق أحدي العين، تجلّى في صور مختلفة، فأنت بالخيار، فإن شئت فانسب إلى الصورة الظاهرة مراعاة للأسباب، وإن شئت فانسب لحقيقة الصور كلها، والتي هي وجود الله تعالى، إذ الصور كلها مندرجة في وجود الله اندراج أمواج البحر، فالأمواج هالكة في البحر، وهي عينه، فالمظاهر عين الظاهر، فليس إلا الله بلا مزج ولا حلول ولا اتحاد، بل القوم بريئون من جميع ذلك والله على ما نقول وكيل. وإذا فهمت ذلك، فخذ جميع أسماء الله على هذا المنوال، فالرزاق والحفيظ والسميع والبصير إنما هي المظاهر القائمة بهذه المعاني، فهي الأسماء لا الكلمات المؤلفة من بسائط حروف هذه الأسماء، لأن حروف الرزاق لا ترزق، ولا لفظ الرزاق، وكذلك لفظ السميع ليس هو السميع، هكذا، بل هذه الكلمات أسماء الأسماء لا عين الأسماء، كما حققه شيخنا الأكبر في الفتوحات المكية، سأل مريد أستاذه عن الاسم الأعظم، فضربه بحصاة، فكان هذا الضرب هو الجواب! يشير له، أنك أنت الاسم الأعظم، إن عرفت نفسك وأقمت الجدار عنك، فيظهر لك كنزك، وينكشف لك سر قوله صلى الله عليه وسلم:} من عرف نفسه عرف ربه {، إذا تحققت ذلك وتيقنته وسلمه قلبك بالإيمان القطعي. قال الشيخ الأكبر قُدس سره في كتاب (بلغة الغواص): قال تعالى: ((إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ)) [النمل:30] يعني سليمان ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) [النمل:30]؛ فجعل سليمان عليه السلام عين ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) [النمل:30]، وإذا فهمت التفصيل المتقدم بين الأسماء وأسماء الأسماء، سهُل عليك فهمُ هذا. فإن الكامل في وقته مظهرُ هذه الأسماء الثلاثة التي هي: الله والرحمن والرحيم، بك مظهر أسماء الله على الكمال، القائم بحقيقة الجمال والجلال. قيل لبعضهم: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أحيي وأميت وأنا على كل شيء قدير([357])...

ويقول: نحمدك اللهم يا من صلى على محمد بفيض ذاته، فكان مجلى له في جميع تجلياته...وأشهد أن لا إله إلا الله ولا موجود في هذا الوجود إلا إياه، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنسان عين ذاته وسر إمداداته([358])...

ويقول: ...ورد في الحديث القدسي: {العظمة إزاري والكبرياء ردائي} فإزاره عينه، ورداؤه عينه، فالمظهر عين الظاهر، والاسم عين المسمى، فهو المحيط بذاته بإحاطة هي عين ذاته، فكل ما تحيط به ذاته هو عين ذاته، فكل شيء له الكمال الذاتي المشار له بقوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام: ((مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [هود:56]، فصراطه ذاته، فهو الآخذ بناصية كل شيء بذاته لذاته، والمأخوذ عين ذاته، فهو عين الصراط المستقيم الأحدي، وهو الذي عليه، فما على هذا الصراط إلا هو، وكل شيء عليه، فهو ذات كل شيء، وحقيقة النور والظل والفيء، ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) [النجم:42]، فالأول عين الآخر، والظاهر عين الباطن، فالوجود واحد، كان الله ولا شيء معه، فهو تعالى كائن لا يزول، وأسماؤه لا تزول، كل يوم هو في شأن، فالشمس تجري لمستقر لها، ولا مستقر لها سواها، وهاهنا كنز مطلسم([359])...

ويقول: ...فما الأمر إلا هو، فكل أمرٍ عين الهو، وواقعٌ على الهو، وأوله هو، وآخره هو، وظاهره هو، وباطنه هو، وحقيقته هو، وذاته هو، قال الله تعالى: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص:1]، غير أن هذه الهوية لها وجهان، كل منهما مرآة الآخر في عين واحدة([360])...

- في هذا النص يتوضح لنا معنى كلمة (الهوية) التي مرت معنا في نصوص سابقة، ولننتبه إلى تفسيرهم لـ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص:1].

ويقول: (جَمَع الجمع، وفَرَّق الفرق، من حيث لا جمع ولا فرق)([361])، أي إن الجمع والفرق حُكمان اعتباريان معقولان، وما ثَم إلا عين واحدة، هي المخبَّر عنها بالحي القيوم، فلا حي سواها، ولا قيوم سواها، كان الله ولم يكن شيء غيره، أي: (لا غير)، وهذا الحكم مستمرٌّ أزلاً وأبداً، كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون، فمن رأى الأشياء معه فقد جهل، فإن الله تعالى دفع هذا الوهم بقوله: ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) [البقرة:115]، فأين الأشياء؟ إلا أن الكاملين يَسْتُرون هذا الوجه بأسماء الأشياء([362]).

ويقول محمود أبو الفيض المنوفي([363]):

وكذلك كل ما يبزغ أو يبدو في الكون من حياة أو وعي أو إرادة تنجلي كلها لكفاياتنا العليا، كأنها نعوت وخصائص أصلية لذلك الكائن الأسمى، الذي يبدو أنه مطلق يشمل اقتداره وإبداعه وجودنا ووجود غيرنا من الكائنات، وما وراءها من كائنات معجبة بأفعالها الخفية، ودليل ذلك أن الوجود في شموله - مع ما يبدو فيه من كثرة وتعدد- يمثل لإدراكنا الذاتي وحيرتنا النفسية الوجدانية وحدة شاملة مؤتلفة الروابط والعلائق، وإن تفاوتت فيها النسب والأوضاع والكيفيات والوظائف، لدى الحس والحواس والعقل والمعقولات، مما يدلك دلالة صريحة موجبة لليقين قاطعة للشك، على أن أصلها سبب إلهي مبدع لأسباب أولى الكائنات وعللها القريبة التي تصدر عن مشيئته، وهو ضرورة يدرك ما يفعل قبل أن يفعل وبعد أن يفعل، وتصير إليه أيضاً في النهاية نتيجة ما أراد وما فعل، وهو نفسه، فهو يقيناً ذلك الكائن الغيـبي الذي نظم الكون ما علا منه وما سفل، بسماواته وأراضيه، وقد طبعها جميعها على أسلوب يجعلها كمَّاً واحداً متناغم الوحدات مترابط الحلقات، إن صانعها ومبدعها واحد أحد، وقد جعل الكائنات كلها تتطور وتترقى إلى هدف خاص بالمجموع، كما لو كان هذا المجموع الكلي كائناً واحداً يهدف إلى حقيقة لا يُدرك لها غور ولا نهاية، وما ذلك إلا لأن مبدع الكل كائن مطلق، ومتوحد في وجوده المتسامي([364]).

* الملحوظات:

نحن الآن أمام ظاهرة في الكتابة الصوفية، فيها شيء من الجدة، هذا الشيء هو العبارة الخائنة، التي خانت قائلها فأظهرته بمظهر التناقض الصارخ، وإليك النص التالي الذي هو أكثر وضوحاً من هذا السابق.

يقول: ...وقد أقاموا -أي الذين يهاجمون التصوف- أنفسهم بمعارفهم الضئيلة حكاماً قساة على أولياء الله وعارفيه، بدون مبرر يبرر نظرياتهم لا من الشرع ولا من العقل، حالةَ أنهم لم يتذوقوا من مشارب القوم وعلومهم ومعارفهم ومواجيدهم فيما بينهم وبين ربهم، وكذلك في نظراتهم السامية العميقة لهذا الوجود! وأول ما يرمون التصوف به من كذب عظيم اتهام جميع شيوخ التصوف بوحدة الوجود، فما وحدة الوجود يا ترى؟ هل هي الجمع بين وجودين أزليين أبديين أو واقعيين؟! هو المستحيل أو بين حادث وقديم وهو مستحيل أيضاً، والقوم أهل توحيد، أو يريدون بالحقيقة جعلها اثنينية بين خالق ومخلوق؟ وهذا باطل ينفيه التصوف الحق([365]).

* التعليق على هذا الكلام:

- يقول: وقد أقاموا أنفسهم بمعارفهم الضئيلة..، فنجيبه:

وقال السها للشمس أنت ضئيلة            وقال الدجى للظهر لونك حائل

لكن تقريراً للحقيقة: إن هذه العبارة تعني معارفهم الضئيلة بالصوفية، وهو بهذا صادق، لأن كل الذين هاجموا التصوف كانوا لا يعرفون عنه إلا أموراً سطحية، فمعارفهم به كانت ضئيلة.

وقوله: ...حكاماً قساة على أولياء الله وعارفيه بدون مبرر...، فنجيبه:

أ- الذي يحكم بالقرآن والسنة لا يكون حاكماً قاسياً، والذي يتهمه لذلك يخرج من الإيمان: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [النساء:65].

ب- يقول:.. على أولياء الله..، فمن قال لك يا هذا أنكم (أولياء الله)، أوَلَمْ تقرأ الآية الكريمة: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:49، 50].

ج- أما قوله: بدون مبرر!!، فجوابنا: بل المبرر موجود وموجود وموجود، وهو من الشرع، ومن القرآن، ومن السنة، وهو فرض لا سنة، إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

- ويقول: وكذلك في نظراتهم السامية العميقة لهذا الوجود..، فنجيبه: قرر مشايخ الصوفية وكبارهم وعارفوهم والمكاشفون والمشاهدون أن الحقيقة هي زندقة بالنسبة للشريعة، فإن كانت نظرات (أهل الحقيقة) سامية وعميقة! فكيف تكون نظرات الشريعة المناقضة لها؟؟ طبعاً ستكون بعكس ذلك! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

- ويقول: وأول ما يرمون به التصوف من كذب عظيم اتهام جميع شيوخ التصوف بوحدة الوجود...فنجيبه:

لقد أفحمتنا يا شيخ؟! لأن القول بأن اتهام جميع شيوخ التصوف بوحدة الوجود هو كذب عظيم!! هذا القول هو مفحم جداً!! بل وجداً جداً أيضاً!! ولا يسعنا أمام ما يأتي به هؤلاء الأولياء العارفون من صدق عظيم وجرأة عظيمة وفصاحة أعظم إلا أن نقول: اللهم إنا نشكو إليك هذا البلاء العظيم الذي دمر الأمة الإسلامية، والذي يصر أقطابه على السير في طريقهم للقضاء على ما تبقى لهذه الأمة من عقيدة إسلامية وأخلاق ووجود، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

- ثم يقدم التساؤلات: فما وحدة الوجود يا ترى؟! هل هي الجمع بين وجودين أزليين أبديين أو واقعيين؟ ويجيب نفسه: وهو المستحيل.

ونقول: نعم، هو مستحيل، ولم يقل أحد إن هذه هي وحدة الوجود، ونعجب من شيخنا كيف يورد هذا التساؤل الذي لم يرد!! ولكنه الأسلوب الماهر.

ويواصل شيخنا تساؤله: أو بين حادث وقديم؟! وهو مستحيل أيضاً.

ونجيبه نعم، إن الصوفية لا تقول بهذا، لأنه هو ما يسمى بالحلول أو الاتحاد، والصوفية بريئة من كليهما، والإسلام بريء من الجميع.

ويقول: والقوم أهل توحيد.

فنجيبه: نعم، إنهم أهل توحيد، وقد رأينا توحيدهم في أكثر من مائة نص سابق، وعرفنا ما هو، إنه توحيد الوجود.

ثم يقول: أو يريدون بالحقيقة جعلها اثنينية بين خالق ومخلوق؟! وهذا باطل ينفيه التصوف الحق.

فنجيبه:

نعم، نعم، الاثنينية بين الخالق والمخلوق، أي وجود خالق ووجود مخلوق، حيث يكون في الوجود اثنان، خالق ومخلوق فهذا مرفوض عند الصوفية، وقولك يا شيخنا: هذا باطل ينفيه التصوف الحق، هو صحيح تماماً. فالتصوف الحق لا يؤمن بوجود خالق ومخلوق، وإنما يؤمن بوجودٍ واحد فقط هو الحق، وما الخلق منه إلا كموج البحر من البحر، وهي هي نفسها (وحدة الوجود).

ونقول: يا شيخنا، هاأنت تقرر وحدة الوجود عندما ترفض الاثنينية، إذن، فلم اتهمت (الذين يرمون شيوخ التصوف بوحدة الوجود؟!)، لم اتهمتهم بالكذب العظيم؟ وهم لا يرمونكم إلا بما أنتم عليه.

وللإيضاح: يقول النص: ...اتهام جميع شيوخ التصوف، وهذا يعني أن قسماً من شيوخه لا يؤمنون بوحدة الوجود، وسنرى فيما يأتي أن الذين لا يؤمنون بالوحدة هم الدخلاء على التصوف الذي يدعون المشيخة دون ذوق أو معرفة (ومن تشبه بقوم فهو منهم).

ويقول في نص آخر:

إنما ترجحت هذه الطائفة من حيث ارتفاع معارفها، لأن من تحقق عنده العلم بانفراد الله سبحانه بالفعل والصفة والذات وقيام مآثر الموجودات بما يخلقه لهم وفيهم من الصفات والحياة، قاده ذلك إلى جمع الهمة عليه وعكوفها لديه، وتصفو هذه المعرفة في ميدان الفناء عن ذكر غيره ورؤية سواه، وإذا فني العبد عن الأغيار، كملت معرفته لبقائه مع الحق، وقلت غفلاته عنه، وهو علم البقاء، وإذا وصل من المعرفة إلى هذا الحد من التمكن، شارف عين الجمع، أي الحقيقة، وصار الجمع له حالاً، فَعَينُ الجمع بخلاف علم الجمع الخاص بذلك، (والجمع هنا جمع معنوي خالص لجمع الروح على خالقها ونافخها دون حلول أو اتحاد أو اتصال أو انفصال، كما يحدث في المحسات وهو الحلول([366]).

* تعليق:

الأسلوب فيه شيء من الجدة كما قلنا. فهو يقول: انفراد الله سبحانه بالفعل والصفة والذات، بدلاً من قولهم: وحدة الأفعال والصفات والذات، ولكنه يضيف عبارة جديدة هي انفراده سبحانه بـ (قيام مآثر الموجودات) التي هي لا تخرج عن معنى وحدة الوجود، ولكن فيها شيء من الغموض يساعد هذا العارف على إضاعة القارئ العادي، خاصة عندما يضيف الجملة: بما يخلقه لهم وفيهم من الصفات والحياة التي تعني الفرق. ويعني بعبارة جمع الهمة عليه وعكوفها لديه: مقام الجمع، وهو واضح.

على أننا لو قبلنا جملته الأخيرة حسب ظاهرها الذي يمكن أن يفهمه القارئ العادي لكان النص كله تفاهة وسخافة، بل لكان كتابه كله كذلك.

ويشرح لنا كلمتين يستعملونهما كئيراً وهما: (اتصال وانفصال) ويقرر أن ذلك هو الحلول.

وتوضيح ما يريده هو أن الاتصال يقتضي وجود اثنين متصلين ببعضهما، وهو الحلول، والانفصال يقتضي وجود اثنين أيضاً منفصلين عن بعضهما، وبما أن الاثنينية مرفوضة، إذن فلا اتصال ولا انفصال، بل وحدة، والجمع هو الإحساس بهذه الوحدة ذوقاً واستشعاراً.

ويقول: وأما المرحلة السابعة، فهي مرحلة السعادة الأبدية التي يقول الله سبحانه وتعالى في وصفها بحديثه القدسي: {ما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه، وما زال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعَه وبصرَه ويدَه ولسانَه} إلى آخره، وهي المرحلة التي قيل فيها أيضاً: (وهناك ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) وهي المرحلة التي قلنا فيها من قصيدتنا الوجدانية:

فلما قرعتُ الباب قصدَ لقائها                 خلعتُ لها جاهي وعلمي ودعوتي

وحققتُ وصفي وهو ذلي لعزها                وعاديت فيها حظ نفسي وعادتي

فلما رأتْ ذلي وعجزي وفاقتي                تجلت إلى قلبي بمكنون حكمتي

وقربني الساقي لحان شرابها                             فكان بها سكري وصحوي ونشوتي

ولما بدتْ من طُور ليلاي نارها                رأيت بها منها إليها هدايتي

وصارت تناجيني بحُلْوِ خطابها                 فشاهدتُها لكن بعين بصيرتي

وأبصرتُ أسراراً تسامت بذاتها                 وإني أرى شرحي لها فوق طاقتي

فإني إذا ما بحتُ يوماً بسرها                  لقيت حمامي بعد تمزيق مهجتي

ولستُ على سرٍّ أميناً إذن ولا                  حظيت بقرب عند أهل مودتي

وفي مثل هذا المقام يقول الإمام الغزالي رضي الله عنه حيث بلغه ووصل إليه من طريق الشهود:

وكان ما كان مما لست أذكره                  فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر([367]) اهـ.

- اعتدنا أن نسمع من القوم قولهم: تحققت بأوصافها. وما شابه ذلك، أما هنا، فيعكس الأسلوب زيادة في التعمية، حيث يقول: وحققت وصفي، إذن فهو بعد كل الجهد الطويل والرياضات المملة والخلوة والجوع والسهر، وبعد تأليف الكتب، ما زاد على أن حقق وصفه فقط!! وبكل هذه البساطة. مع العلم أن كل ما يدب على الأرض محقق وصفه الذي هو ذله لعزها، دون هذه الفلسفة، لأنه فطر على تحقيق وصفه: ((فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)) [الروم:30]. ولكن، نقول للقارئ، إنه الإمعان في التقية! ولنوضح الأمر:

في مراحل من تاريخ المسلمين، وصلت المجتمعات الإسلامية بمساعي الصوفية وجهودهم المستمرة إلى أحط دركات الجهل والغفلة، حيث أخذ الأولياء العارفون الصديقون المقربون الطاهرون المطهرون الأبرار الواصلون المحققون المصطفون المحبوبون المؤيدون العالمون الموحدون خواص الخواص...، حيث أخذوا حريتهم الكاملة في البيان، وأرخوا لعباراتهم العنان، وباحوا بالسر المصان.

وقد رأينا قول بعضهم: وحسبه.. إشراق نور وحدة الوجود.

ولعل النص التالي يغني عن الإطالة وإيراد نصوص أُخَر.

يقول الشيخ عبد الرزاق القاشاني:

وبعد، فإن الزمان تقاصرت أذياله، وكادت ترتفع بانكشاف الحق أسباله، ونطق الحق على لسان الخلق بأسراره، وزهق الباطل بتشعشع أنواره، واقتضت الحقيقة أن تُهْتَك أستارها، وطفقت في كل سمعٍ يُحدث أخبارُها، أقبل علي جماعة من إخوان الصدق والصفا، وأرباب الفتوة والوفا، من أهل العرفان والتحقيق، ومَن أيدته العناية بالتوفيق، خصوصاً كالصاحب المعظم العالم العارف الموحد المحقق، شمس الملة والدين، قدوة أرباب اليقين...أن أشرح لهم كتاب فصوص الحكم...شارطين علي أن لا أكتم شيئاً من جواهركنوزه([368])...اهـ.

- والكتب الصوفية التي ألفت في القرن الثالث عشر الهجري وعدة قرون قبله، تحمل كلها، أو جلها، طابع التصريح الكامل بوحدة الوجود، وما يدور حولها من عقائد وفلسفات.

وجاء القرن الرابع عشر، وتوسعت الثقافة، وزاد فهم بعض المسلمين للإسلام، ولبعض أعداء الإسلام، ولبعض أمراض المسلمين، وفهموا، بسبب الكتب التي ألفت في القرون السابقة، الكثير عن هذا السرطان الخبيث، وخطره ومكره، وأخذوا ينبهون عليه.

فأسرع (العارفون الصديقون الصادقون) إلى تقيتهم ورموزهم وألغازهم، وكلما توسع الوعي الإسلامي قليلاً، كلما زادوا في التعمية والغموض.

والنصوص الأخيرة صور من هذه التقية الجديدة، التي أخذت تمعن في الغموض والتعمية، حتى وصلت إلى حد الكذب الجريء.

كان القوم يستعملون فيما سبق العبارة والرمز واللغز والإشارة، أما في حاضرنا، فأخذوا يستعملون الإنكار؟!

وماذا عليهم؟ فالمهم هو (جلب الزبائن)، حتى إذا خضع الزبون للشيخ، وقام بالرياضات والمجاهدات والخلوات، التي تحقنه بالإيحاء الذاتي حقناً يملأ كل خليةٍ في جسمه، وطبق عليه شيخه الإيحاء الخارجي المستمر، حتى يصل إلى الجذبات، وتتجلى عليه التجليات، ويذوق من معاني الألوهية، أو يذوق على الأقل معنى اسم من أسماء الحق، عندئذ يُمْسون عاروين، ولات حين؟؟

والذين لا يصلون، من الذين وقعوا في الشبكة، يُمْسون، بتأثير الإيحاءات، أنصاراً مغفلين متحمسين، يدافعون عن الشيخ العارف، وعن الطريقة المجيدة، وعن السالك المريد...ويمهدون المنزلقات إلى الهاوية، ويغطونها بالألفاظ المنمقة، والأكاذيب الجريئة المزوقة...انتظاراً لصيد جديد، في يوم جديد.

وقد تطور هذا الأسلوب أكثر وأكثر، وصار أكثر جدة.

وهذا الأسلوب الجديد، لا يخرج على القاعدة التي وضعها سيد الطائفة الجنيد، عندما قرر: لا يكون الصديق صديقاً حتى يشهد له في حقه سبعون صديقاً أنه زنديق، وفي رواية: ألف صديق...

ولا يخرج على قاعدة الجنيد عندما أفتى هو والشبلي بقتل الحلاج، وهما يعلمان أنه في الحقيقة ولي الله حقاً.

ولا يخرج على القاعدة التي وضعها أقطابهم وعارفوهم، والتي هي شرح لقاعدة الجنيد، والتي تقول: إن الصديق يعطي الظاهر- أي الشريعة- حكم الظاهر، ويعطي الباطن- أي حقيقتهم- حكم الباطن، وبالتعبير الآخر لا يلبس بالباطن على الظاهر ولا يلبس بالظاهر على الباطن.

كما لا يخرج على القانون الأساسي للطائفة: إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه.

وكما قلنا: المهم هو جلب الزبائن، وبعد ذلك يأتي التسليك، ثم يأتي الباقي.

ويقول عبد القادر عيسى([369]):

اختلف علماء النظر في موقفهم من العارفين المحققين القائلين بوحدة الوجود، فمنهم من تسرع باتهامهم بالكفر والضلال وفهم كلامهم على غير المراد([370])...

- إذن، فالعارفون المحققون يقولون بوحدة الوجود، وهذا اعتراف كامل من عارف محقق، كما يعترف أن من علماء النظر من يتهمهم بالكفر والضلال، لكنه يتهم المتهمين بالتسرع، وعدم فهم كلامهم. فهل صحيح أنهم لم يفهموا كلامهم؟ مع أنه يقرر بوضوح أن العارفين المحققين يقولون بوحدة الوجود، فكيف ذلك؟

يتمم كلامه، قيقول:

...ومنهم من لم يتورط بالتهجم عليهم، فتثبت في الأمر، ورجع إليهم ليعرف مرادهم، لأن هؤلاء العارفين، مع توسعهم في هذه المسالة، لم يبحثوا فيها بحثاً يزيل إشكال علماء النظر، لأنهم تكلموا في ذلك ودونوا لأنفسهم وتلاميذهم، لا لمن لم يشهد تلك الوحدة من غيرهم، لذلك احتاج الأمر للإيضاح، لتطمئن به قلوب أهل التسليم من علماء النظر([371]).

- تقرير جديد؛ إن غيرهم لم يشهد تلك الوحدة! إذن فهم شهدوها.

يتمم: ومن العلماء الذين حققوا في هذه المسألة وفهموا المراد منها، السيد مصطفى كمال الشريف، حيث قال: الوجود واحد لأنه صفة ذاتية للحق سبحانه وتعالى، وهو واجب فلا يصح تعدده، والموجود هو الممكن، وهو العالم، فصح تعدده باعتبار حقائقه. وقيامه إنما هو بذلك الوجود الواجب لذاته، فإذا بقي الوجود كما هو، فالموجود غير الوجود، فلا يصح أن يقال: الوجود اثنان: وجود قديم ووجود حادث، إلا أن يراد بالوجود الثاني (الموجود) من إطلاق المصدر على المفعول، فعلى هذا لا يترتب شيء من المحاذير التي ذكرها أهل النظر على وحدة الوجود القائل بها أهل التحقيق...

...إلى أن قال: الحس لا يرى إلا الهياكل -أي: الموجود- والروح لا تشهد إلا الوجود، وإذا شهدت الموجود فلا تشهده إلا ثانياً، على حد من قال: ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله. وأراد بهذه الرؤية الشهودَ، لا رؤية البصر، لأن الرؤية من خصائص البصر، والشهود من خصائص البصيرة، لذلك ورد: أشهد أن لا إله إلا الله، ولم يرد (أرى) بل ولا يصح أن يقال: (أرى)([372]). اهـ.

- إذن فقد قُتل الحلاج وأبو حمزة وابن برّجان والسهروردي وغيرهم، واستتيب من الكفر الجنيد والشبلي والبسطامي وأبو حيان وغيرهم، وكُفِّرَ وكُذِّبَ الغزالي وأحرق كتابه إحياء علوم الدين، وكذلك ابن عربي وغيره وغيره...من أجل إطلاق الاسم الوجود على المخلوق الموجود من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول!!

أي قالوا: الوجود بدلاً من أن يقولوا: الموجود.

من أجل استعمال المصدر بمعنى اسم المفعول، صُنع بهؤلاء المساكين الأبرياء ما صُنع! ومن أجل هذا تسرع علماء النظر باتهامهم بالكفر والضلال! (يا حرام).

على أنه يعود فيعترف أن الموجود هو الهياكل فقط، أي الأشكال والصور التي تُرى بالبصر، وهي في حقيقتها إنما هي الوجود، أي الحق سبحانه، وهذا لا يشاهده إلا الروح.

وهناك ملحوظة هامة جداً، إنها تفسيره لمعنى (أشهد)، فنحن نعرف أن معناها لغةً وشرعاً: أعترف وأقر، وكذلك فهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمها عنه أصحابه وتابعوهم وكل المسلمين المسلمين.. بينما يفسرها هنا بمعنى (شهود البصيرة) وهو الذي يكون أثناء (الجذبة)!! وإلى الله المشتكى.

يتمم: وهكذا شأن العلماء المنصفين، يغارون على الشريعة الغراء، ويتثبتون في الأمور، دون أن يتسرعوا بتكفير أحد من المؤمنين، ويرجعوا في فهم كل حقيقة إلى أهل الاختصاص بها([373]).

- الجواب على هذا الكلام:. ((...يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)) [البقرة:9].

- يا هؤلاء، ما دام علماء النظر يكفرون أهل هذا الاختصاص، فكيف تطلبون منهم أن يرجعوا إليهم؟! ثم، هل الغيرة على الشريعة الغراء تكون بالتسليم للكفر وقبوله، واستفتاء أهله ليحكموا على أنفسهم؟! عجيب والله! إن الله سبحانه يقول: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59]، وأنتم تطلبون من الآخرين أن يردوه إليكم لتقولوا لهم: إن كلمة الوجود هي من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول!

وكفى الله المؤمنين القتال! وصار الكفر إسلاماً والضلال إيماناً وحقيقتكم شريعة غراء. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ويقول: ...وهكذا تحقق السادة الصوفية بأعلى مراتب التوكل، فقلوبهم مطمئنة بالله تعالى، معتمدة عليه، واثقة به، متوجهة إليه،- مستعينة به، لأنه لا فاعل في الوجود سواه([374]).

* تنبيه: أرجو من القارئ الذي عرف لغة القوم أن ينتبه إلى المراد من هذه العبارات، ويقول: ...ولذا طَرَق السادة الصوفية باب شكر الله تعالى على جميع أحوالهم، وحمدوا الله تعالى في سائر شئونهم، وشهدوه الفاعل المطلق والمنعم المتفضل والبر الرحيم([375])...

- قد مر معنا عشرات الأمثلة على معنى قولهم: (لا فاعل إلا الله)، وهنا يزيد المعنى توكيداً وتوضيحاً بقوله: (لا فاعل في الوجود سواه)، و(شهدوه الفاعل المطلق)، أي أضاف في الأولى عبارة: (في الوجود)، وفي الثانية: (المطلق)، وهذا زيادة في التوضيح.

ويقول: قالوا: وإنما السماع حقيقةٌ ربانية ولطيفةٌ روحانية، تسري من السميع المُسْمع إلى الأسرار بلطائف التحف والأنوار، فتمحق من القلب ما لم يكن، ويبقى فيه ما لم يزل، فهو سماع حق بحق من حق([376]).

- وطبعاً، نحن نعرف الآن تماماً ما معنى: (فتمحق ما لم يكن، ويبقى ما لم يزل) و(سماع حق بحق من حق)، وإن وُجد من لا يعرف معناها بعد مئات الأمثلة السابقة فلن يكون هذا ذنبنا.

ويقول: ويختلف الواصلون في وصولهم إلى الله تعالى، كل على حسب مقامه وهمته:

فمنهم من وصل في سيره إلى وحدة الأفعال ذوقاً وشهوداً، ويفنى فعله وفعل غيره، ويتذوق معنى قوله تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17]، وهذه رتبة في الوصول.

ومنهم من يصل في سيره إلى وحدة الصفات ذوقاً وشهوداً، فيتذوقون معنى قوله تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)) [الإنسان:30]، ويتذوقون معنى الحديث القدسي: {فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به وبصرَه الذي يبصر به}، وهذه رتبة في الوصول. ومنهم من يترقى إلى مقام الفناء في الذات، فيشهد عرضية كل شيء مقابل وجود الحق عز وجل، وتفيض عليه أنوار اليقين ولسان حاله يقول:

وُجودي أن أغيبَ عن الوجود                  بما يبدو علي من الشهود

ويتذوق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أصدق كلمة قالها الشاعركلمة لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل([377])}.

- الكلام واضح واضح، ونعرف الآن تماماً ماذا يريدون عندما يوردون قوله سبحانه: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ...)) [الأنفال:17]، وقوله: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)) [الإنسان:30]، فقد مرت كثيراً في الأمثلة السابقة مع شروحها التي قدموها، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: {..كنتُ سمعه..}، وقد مر شرحها أيضاً.

ولكن الملاحظ هنا، أن الشيخ استعمل عبارة (وحدة الأفعال) و(وحدة الصفات)، حتى إذا وصل إلى الذات لم يستعمل العبارة التي استعملها أسلافه في مثل هذا التسلسل، وهي عبارة (وحدة الذات) بل لاص عنها ليستعمل عبارة تحمل نفس المعنى، استعملها العارفون الصديقون المقربون في أقوالهم ويستعملونها، وهي: (الفناء في الذات) ووضوحها كافٍ.

ونُضيف: إن كل من يأخذ أقوال شخص ما على أنها أقوال حكيمة يُطلب تطبيقها، ثم يقدس هذا الشخص، فلا يذكر اسمه إلا مصحوباً بـ (سيدي) يتبعها بالدعاء له، إن كل من يفعل مثل هذا مع شخص ما فهو لا يفعله إلا إن كان يؤمن بعقيدته وسلوكه إيماناً كاملاً.

وهذه نبذ من كتاب عبد القادر عيسى المسمى: (حقائق عن التصوف)، يورد فيها أسماء متصوفة مرت معنا أقوالهم في وحدة الوجود، ورأينا مدى صراحتها ووضوحها.

يقول تحت عنوان: أقوال العارفين بالله من رجال التصوف..([378]).

أبو حامد الغزالي:

قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي([379]):

وقد أورد اسمه في الكتاب متمثلاً بأقواله ومستشهداً بها وداعياً إليها، تسعاً وثلاثين مرة.

- ومرت معنا أقوال الغزالي، فليرجع إليها القارئ ليرى ما فيها مما يغضب وجه الله.

ويقول: قال سيد الطائفتين الجنيد([380])..

- وقد مرت معنا أقوال الجنيد في وحدة الوجود، وورد اسمه في الكتاب سبعاً وعشرين مرة.

- وورد اسم ابن عطاء الله السكندري تسع عشرة مرة. جاء في المرة الأولى بقوله: يقول ابن عطاء الله السكندري([381]).

وقد مرت أقواله الصريحة في وحدة الوجود.

ويورد اسم ابن الفارض وأقوالاً له ست مرات، جاء فيها في المرة الأولى النص التالي: ...وما علموا كيف كانت بداية ابن الفارض من حيث مجاهدته لنفسه، وإليك بعض كلامه يصف مجاهداته في سيره، مما يدل على أهمية المجاهدة، مع العلم أنه ابتدأ سيره إلى الله تعالى من نفسٍ لوامة، لا أمارة بالسوء، ويبين أن السالك الذي - لا مجاهدة له، لا سير له، ولا محبة له...([382]).

- ونعرف إعلان ابن الفارض إيمانه بوحدة الوجود وتصريحه بذلك.

- وممن يورد أسماءهم مع أقوال لهم مشفوعة بالتقديس والدعاء: أبو الحسن الشاذلي في خمسة عشر موضعاً، أبو حمزة البغدادي في ثلاثة مواضع، أبو القاسم القشيري في خمسة عشر موضعاً، أبو يزيد البسطامي في خمسة مواضع، إبراهيم الدسوقي في موضع واحد، ابن عجيبة في ثلاثين موضعاً، أحمد زيني الدحلان في أربعة مواضع، زكريا الأنصاري في خمسة مواضع، عبد الكريم الجيلي في ثلاثة مواضع...وغيرهم الكثير مما مر معنا ومما لم يمر.

وقد رأينا أقوال هؤلاء العارفين في وحدة الوجود، وإيراد عبد القادر عيسى لهؤلاء الصوفية المشهورين هو دليل أكثر من كافٍ على إيمانه بما كانوا يؤمنون به، وهو وحدة الوجود ولا يبقى على الذين يخادعون إلا أن يكفوا عن مخادعتهم.

ويقول آية الله الخميني:

واعلم أن الأسماء والصفات الإلهية كلها كامل، بل نفس الكمال...وأكمل الأسماء هو الاسم الجامع لكل الكلمات، ومظهره الإنسان الكامل المستجمع لجميع الصفات والأسماء الإلهية ومَظْهَرُ جميع تجلياته([383])...

ويقول: فالإنسان الكامل جميعُ سلسلةِ الوجود وبه يتم الدائرة، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو الكتاب الكلي الإلهي([384])...

ويقول: الموجودات كلها أسماء إلهية.

ولعلك بعد التدبر في روح الاسم، والتفكر في حقيقته ومطالعة دفتر سلسلة الوجود وقراءة أسطره، ينكشف لك بإذن الله وحسن توفيقه أن سلسلة الوجود ومراتبها ودائرة الشهود ومدارجها ودرجاتها كلها أسماء إلهية([385])...

- هذا مثل قول قائلهم: واجتمع فيه النجو مع الورد وغيرها مما مر.

ويقول تحصيل إشراقي: فإذا بلغ السالك إلى الله والمجاهد في سبيله إلى ذاك المقام، وتجلى عليه الحق في مظاهر الخلق، مع عدم احتجاب عن الحق والخلق، بنحو الوحدة في ملابس الكثرات، والكثرة في عين الوحدة، ينفتح عليه أبواب من المعرفة والعلوم والأسرار الإلهية([386])...- أقول: سنرى فيما يأتي من الفصول قيمة هذه المعرفة والعلوم الكشفية.

ويقول سعيد حوى:

...وبشكل عام، فإن السائر إلى الله ليصل إلى مقام الإحسان، فإنه يمر على ما يسميه الصوفية (الفناءات)، والفناء في الأفعال بأن يحس الإنسان أن كل شيء فعلُ الله، والفناء في الصفات بأن يستشعر الإنسان صفات الله عز وجل، والفناء في الذات، وهو أن يستشعر الإنسان أولية الذات الإلهية وصمدانيتها. ومتى استقر في هذا المقام أحس بمقام الإحسان، ويحاولون في هذه الحالة أن ينقلوه إلى مقام (المشاهدة مع رؤيته الخلق)، وهذا الذي يسمونه مقام (البقاء)، وقد تكون النقلة سريعة إلى الفناء في الصفات مباشرة، أو قد تكون إلى الفناء في الذات مباشرة، ثم يبدأ السالك يستشعر ما سوى ذلك([387])؟

- النص واضح جداً، مر معنا أمثاله. وفيه بعض العبارات الغامضة:

فعبارة: ...أولية الذات الإلهية يعني بها: كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما كان عليه، فأولية الذات الإلهية هي: كان ولا شيء معه، ويستشعر بها، أي: يستشعر أنها على حالها كما كانت، وهو الآن على ما كان عليه.

وعبارة: ...وصمدانيتها: للاسم الصمد معنيان؟ أحدهما: الذي يُصمد إليه، أي: يُرجع إليه ويُتوجه إليه في كل شيء. ومعنى صمدانية الذات الإلهية عند الصوفية هو نفس معنى الآية: ((إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)) [العلق:8] عندهم، ونفس معنى: ((ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)) [الفجر:28] عندهم.. وقد مر معنا كيف يفهمون الآيتين.

إذن، فمعنى قوله: يستشعر الإنسان أولية الذات الإلهية وصمدانيتها هو: أنه يستشعر وحدة الوجود. وهذا المعنى واضح تماماً لكل من فهم عباراتهم وتذوق معانيها. أما من لم يستطع بعدُ فهمها، رغم مئات الأمثلة والنصوص السابقة! فلا حيلة لنا معه.

وأمامنا أيضاً العبارة: ...أن ينقلوه إلى مقام المشاهدة مع رؤيته الخلق، وهذا...مقام البقاء.

إذن فمقام البقاء -ونعرفه سابقاً- هو المشاهدة يضاف إليها رؤية الخلق. وبالرغم من أننا الأن نعرف معنى مصطلح (المشاهدة) ولكن النص يزيدنا إيضاحاً، فالمشاهدة هي رؤية الحق بدون خلق، أي: رؤية الله، جل وعلا، في كل شيء، بحيث لا يرى الواصل خلقاً، بل يرى كل شيء هو الحق، وهذا هو مقام الفناء في الذات، لكن الشيخ ينقله إلى مقام (المشاهدة مع رؤيته الخلق)، وهو مقام (البقاء) أو الفرق الثاني، أو صحو الجمع...أو...وهو المقام الذي يقول فيه أبو الحسن الشاذلي: اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً. ويقول فيه الجنيد: لا بد من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه. ويقول فيه ابن عجيبة: إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه، وهو المقام الذي يتواصون به منذ مقتل الحلاج وغيره.

وأترك للقارئ تحليل قوله: (ثم يبدأ السائر يستشعر ما سوى ذلك) ليزداد تمرساً بفهم النصوص الصوفية.

ويقول سعيد حوى أيضاً:

ولئن كان جزء السير التحقق بأسماء الله، ولئن كانت مراحل السير تتم بالانتقال من فناء إلى فناء، فإن الذكر هو وسيلة ذلك كله([388]).

- معنى (التحقق بأسماء الله) واضح، ومر كثيراً في النصوص السابقة، ومع ذلك أورد أمثلة تساعد على التوضيح أكثر:

لو قال قائل: فلان متحقق باسم الشجاع فإن كل من يسمع هذا القول يعرف أن فلاناً شجاع بكل معنى الشجاعة.

ولو قال: فلان متحقق باسم الفيلسوف، لفُهم مباشرة أن فلاناً فيلسوف ضالع.

ولو قال القائل: فلان متحقق باسم الصوفي لعُرف دون تردد أن فلاناً صوفي. وهكذا.. عندما يقول القائل: إن السائر إلى الله، تحقق باسم من أسماء الله، وليكن مثلاً: الرب، فكل من يسمع هذا القول يعرف أن فلاناً تحقق بالربوبية، أي: صار رباً.

وهكذا بالنسبة للاسم (الرحمن)، وفي آخر الطريق بالنسبة للاسم (الله). ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ويقول سعيد حوى أيضاً:

...ومع أنني في سيري إلى الله أذاقني الله من فضله مِن معاني اسمِهِ الصمد جل جلاله وهو المقام الذي زل به هؤلاء([389]).

- لو سمعت قائلاً يقول: فلان ذاق معنى الوزارة فماذا تفهم من ذلك؟ إن أي إنسان يسمع هذا الكلام يفهم منه بدهياً أن فلاناً صار وزيراً، فذاق معنى الوزارة. وكذلك قول الشيخ هنا: أذاقني...مِن معاني اسمه الصمد، أي مرت به حال صار فيها صمداً، أو استشعر من الألوهية الاسم الصمد.

وقد رأينا فيما سبق من نصوص أن الواصل يذوق معنى الأسماء الإلهية، أو يتحقق بها بالتدريج، اسماً بعد اسم، حتى يصل إلى الاسم (الرب)، ثم يصل إلى الاسم الأعظم (الله) حيث يصير هو هو، ويقول حينئذ: أنا أنا أو كما قال ابن البنا السرقسطي في المباحث الأصلية:

ثم امتحى في غيبةِ الشهود                   فاطلق القولَ أنا معبودي

ويقول سعيد حوى أيضاً:

نحن نعلم أن هناك حالات للسالك يحس فيها بأحدية الذات الإلهية، ويستشعر فيها اسم الله الصمد، وهي حالة يستشعر فيها السالك فناء كل شيء، ولكن هذا الشعور لا بد أن يرافقه الاعتقاد بأن الله خالق، وأن هناك مخلوقاً، وأن الخالق غير المخلوق([390]).

- إذن فالسالك يحس بأحدية الذات الإلهية، وقد مر معنا ماذا يعنون بعبارة أحدية الذات الإلهية، مرت في نصوص يمكن أن يقال عنها: كثيرة، وكذلك يستشعر السالك أيضاً في تلك الحالات اسم الله الصمد، أي يستشعر الصمدانية، أو الألوهية، فالمدلول الأخير للصمدانية والألوهية واحد، ويفسر استشعار الاسم الصمد، باستشعار فناء كل شيء، أي لا يشعر إلا بالله وحده في كل شيء ومع كل شيء وبكل شيء، وهذه هي وحدة الوجود.

ولكنه يقرر بأن هذا هو إحساس واستشعار، وذوق كما يقول في مكان آخر: ولكن لا بد أن يرافقه الاعتقاد بأن الخالق غير المخلوق.

وهكذا أوصلنا إلى مقام الفرق الثاني، الذي هو مقام الكمَّل من الرجال (الإنسان الكامل)، مع ملحوظة نبهنا إليها، كانوا فيما سلف من القرون يطلبون من الواصل أن يقول بلسانه: إن الخالق غير المخلوق، بينما في قلبه، يجب أن يعتقد بأنه هو هو، أما الآن فالشيخ يطلب من الواصل الاعتقاد- المرافق للشعور بالوحدة- أن الخالق غير المخلوق، وهذا تطور في التقية، على أننا لو تفحصنا الكلام بهدوء، لرأينا أن النتيجة واحدة.

لنأت إلى مَثَل (الماء والثلج)، فالذائق لكليهما يحس ويستشعر ويذوق أن الثلج هو نفس الماء تكثف عنه، فهو هو، ولكن لا بد أن يعتقد أن الماء غير الثلج، فمظهرهما مختلف، ودرجة حرارتهما مختلفة، وهذا مائع وهذا جامد، إذن، فالاعتقاد بأن هذا غير هذا تؤكده عدة ظواهر، وكذلك الوجود، فالملكوت غير الجبروت وبينهما عدة فروق في المظاهر، لكن الحقيقة واحدة، هي أحدية الذات الإلهية، وهي هي وحدة الوجود. وقد يقول قائل: إن هذا الاستنتاج فيه توجيه معين!

لكن لو نظرنا في كلام الشيخ لرأينا الأمر واضحاً، فهو يقول: يحس أحدية الذات الإلهية، ويستشعر الاسم الصمد، ويذوق معنى الاسم الصمد، وهذا التصريح واضح بأن الواصل يستشعر وحدة الوجود، حيث لا شيء إلا الله، ثم يقول: لا بد من الاعتقاد بأن الخالق غير المخلوق! فكيف التوفيق بين المتناقضين؟ مع العلم أن الوحدة شيء يحسه ويستشعره ويذوقه ويتحقق به، وهذا ما يسمونه حق اليقين، بينما اعتقاد الغيرية هو شيء مفروض فرضاً (لا بد منه)! كيف التوفيق؟؟! نترك الأمر للقارئ.

ثم لننتبه إلى قول الشيخ: وهو المقام الذي زل به هؤلاء...وماذا تعني هذه العبارة؟ وأترك تحليلها للقارئ الكريم ليتسلى بها، وهي سهلة المتناول.

* وأخيراً، هذه نصوص دامغة من أقوالهم من كتبهم المعتمدة لديهم، بدءاً من الجنيد وعصره، حتى يومنا هذا، وهي غيض من فيض، فلو حاولنا جمع أقوال عارفيهم ومحققيهم في (وحدة الوجود) لاحتجنا إلى ألوف الصفحات، على أن في ما أوردناه كفاية وأكثر من كفاية.

إذن، فالصوفية كلهم يؤمنون بوحدة الوجود، مع العلم أن بعضهم لم يسمعوا بعبارة: وحدة الوجود، وإنما يعرفون أن المخلوقات هي الله، وأنه يجب كتم هذه المعرفة عن العامة، ولا تقال إلا للخاصة.

ونحن، في عرضنا للصوفية، نواجه نوعين من الناس: خبثاء وبسطاء.

والبسطاء يرددون أقوال الخبثاء بسلامة صدرٍ وحسن نية.

ومن جملة ما سيقوله لنا كلا النوعين في هذا المقام: إن الصوفيين الحاليين لا يعرفون هذه الأمور! أو: إنهم الآن لا يفهمون ذلك! أو: إن هذا شيء انتهى! أو.. أو.. وما أكثر ما عندهم من اعتراضات كلها باردة وليس فيها شيء من الحق.

فسداً لذرائع أمثال هؤلاء، نورد نصوصاً معتمدة لدى الطرق الصوفية، من أورادهم وصلواتهم التي يتعبدون بها في خلواتهم واجتماعاتهم، يطبعونها في كتب يوزعونها، ويحفظون نصوصها:

* من أوراد الطريقة القادرية وقد يستعملها الآخرون:

...الاسم الثالث (هو)، عدد تلاوته أربعة وأربعون ألفاً وستمائة مرة، وتوجهه: يا من هو الله لا إله إلا أنت هو هو هو، إلهي حقق باطني بسر هويتك، وأفن مني أنانيتي إلى أن تصل إلى هوية ذاتك العلية، يا من ليس كمثله شيء، أفنِ عني كل شيء غيرك، وخفف عني ثقل كثائف الموجودات، وامحُ عني نقطة الغيرية لأشاهدك ولا أدري غيرك، يا هو يا هو يا هو، لا سواك موجود، لا سواك مقصود، يا وجود الوجود([391])...

* ومن أوراد الطريقة القادرية أيضاً:

الحمد لله الذي كيَّف الكيْف، وتنزه عن الكيفية، وأيَّن الأيْن وتعزز عن الأينية، ووُجد في كل شيء وتقدس عن الظرفية، وحضر عند كل شيء وتعالى عن العندية([392])...

* ومنها:..يا أول كل شيء، ويا آخر كل شيء، ويا ظاهر كل شيء، ويا باطن كل شيء([393])..

- أقول: هذا مثل قولهم: (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا)، و(ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سنخ القدوسية)، وغيرها.

* ومنها:..إلهنا فطهر قلوبنا من الدنس لنكون محلاً لمنازلات وجودك، وخلصنا من لوث الأغيار لخالص توحيدك، حتى لا نشهد لغير أفعالك وصفاتك وتجلي عظيم ذاتك([394])...

* ومنها:..رباه رباه غوثاه، يا خفياً لا يظهر، يا ظاهراً لا يخفى، لطُفَتْ أسرار وجودك الأعلى فتُرى في كل موجود، وعلت أنوار ظهورك الأقدس فبدت في كل مشهود([395])...

- وهذا أيضاً مثل قولهم: (ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سنخ القدوسية) وما شابهها.

* ومنها: ..رب أشهدني مطلق فاعليتك في كل مفعول حتى لا أرى فاعلاً غيرك، لأكون مطمئناً تحت جريان أقدارك، منقاداً لكل حكم ووجود عيني وغيـبي وبرزخي، يا نافخاً روح أمره في كل عين، اجعلني منفعلاً فى كل حال لما يحولني عن ظلمات تكويناتي، وألحق فعلي وفعل الفاعلين في أحدية فعلك([396])...

* ومن أوراد القادرية أيضاً:

إلهي عم قِدَمُك حَدَثي ولا أنا، وأشرق سلطان نور وجهك فأضاء هيكل بشريتي فلا سواك، فما دام مني فبدوامك، وما فني مني فبرؤيتي إليك، وأنت الدائم لا إله إلا أنت، أسألك بالألف إذا تقدَّمَتْ، وبالهاء إذا تأخرت، وبالهاء مني إذا انقلبت لاماً، أن تفنيني بك عني، حتى تلتحق الصفة بالصفة، وتقع الرابطة بالذات([397])...

- أقول: (الألف إذا تقدَّمَتْ، والهاء إذا تأخرت، والهاء مني إذا انقلبت لاماً)، هذا لغز أرجو من لقارئ أن يتسلى بحله قبل قراءة هذا الحل في السطور التالية.

الحل: أمامنا في هذا اللغز ثلاثة عناصر: الألف المتقدمة، والهاء المتأخرة، واللام (المنقلبة عن الهاء منه)؟

بما أن الألف متقدمة والهاء متأخرة، إذن، فاللام متوسطة بينهما، ويكون اللغز هو كلمة (إله).

ويحوي هذا اللغز لغزاً آخر هو قوله: (والهاء مني)، التي يعني بها: الهاء من الضمير (هو) العائد عليه. وأترك للقارئ التسلي بتحليله وإلى ماذا يشير؟

* ومن أورادهم: ...يا هو يا الله (ثلاثاً) لا إله غيرك، أسقنا من شراب محبتك، وأغمسنا في بحار أحديتك، حتى نرتع في بحبوحة حضرتك، وتقطع عنا أوهام خليقتك([398])...

* ومنها: اللهم صل وسلم على من له الأخلاق الراضية...الأنيس بك والمستوحش من غيرك، حتى تمتع من نور ذاتك، ورجع بك لا بغيرك، وشهد وحدتك في كثرتك([399])...

* ومنها: ...وطهِّرنا من قاذورات البشرية، وصفّنا بصفاء المحبة الصديقية من صدأ الغفلة ووهم الجهل، حتى تضمحل رسومنا بفناء الأنانية ومعاينة الطمسة الإنسانية في حضرة الجمع، والتحلية، والتحلي بألوهية الأحدية، والتجلي بالحقائق الصمدانية في شهود الوحدانية، حيث لا حيث ولا أين ولا كيف، ويبقى الكل لله وبالله ومن الله وإلى الله ومع الله غرقاً بنعمة الله في بحر منة الله([400])...

* ومنها: ...صلاةً هو لها أهل، صلاة تفرّج بها عنا هموم حوادث عوارض الاختيار، تمحو بها عنا ذنوب وجودنا بماء سماء القربة، حيث لا بين ولا أين ولا جهة ولا قرار، وتفنينا بها عنا في غياهب غيوب أنوار أحديتك، فلا نشعر بتعاقب الليل والنهار، وتحولنا بها سماح رياح فتوح حقائق بدائع جمال نبيك المختار، وتلحقنا بها أسرار ربوبيتك في مشكاة الزجاجة المحمدية، فتضاعف أنوارنا بلا أمد ولا حد ولا إحصار([401]).

* ومن أورادهم:

...وأيدني اللهم عند شهود الواردات بالاستعداد والاستبصار، وأفض علي من بحار العناية المحمدية والمحبة الصديقية ما أندرج به في ظُلَم غياهب عيون الأنوار، واجمعني واجعل لي بين سرِّك المكنون الخفي والاستظهار، واكشف لي عن سر أسرار أفلاك التدوير في حواشي التصوير، لأدبركل فلك بما أقمته من الأسرار، واجعل لي الحظ الخطير الممدود القائم بالعدل بين الحرف والاسم، فأحيط ولا أُحاط، بإحاطة: ((لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)) [غافر:16]([402]).

- الرجاء الانتباه بإمعان إلى الجملة (فأحيط ولا أُحاط..)! وبأي إحاطة؟! بإحاطة: ((لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)) [غافر:16]!! وفهمكم كفاية.

- ومن الجدير بالملحوظةأن الطريقة القادرية (بل كل الطرق الصوفية) تتبنى عينية عبد الكريم الجيلي، التي مر أبيات كثيرة منها، يتبنونها على أنها من نظم عبد القادر الجيلاني. ولا يهمنا نسبتها لهذا أو لذاك، وإنما الذي يهمنا هو تبنيهم لها، ويستطيع القارئ الرجوع إليها في صفحات سابقة، ولا بأس من إيراد بيتين منها:

وما الخلق في التمثال إلا كثلجة              وأنت لها الماء الذي هو نابع

وما الثلج في تحقيقنا غير مائه                 وغيران في حكمٍ دعته الشرائع

* ومن أوراد الطريقة الرفاعية (ويستعملها غيرهم):

...فكفى به برهان عين علمك المكنون، ببحر سر معنى (ن)، ودقيقة أمرك المصون، بتجلي بهاء إشارة كُن فيكون، واسطة الكل في مقام الجمع، ووسيلة الجمع في تجلي الفرق، رحمة للعالمين قبل العالمين([403])..

* ومن أوراد الرفاعية من (صلاة الأنس):

...اللهم صل على ألف إنس إنسان الأزل، بحكمة باء برهان من لم يزل، أصل الأشياء الكلية، آدم في حقيقة البداية، أثر السر في آثار خفايا المظاهر الخفية، أول الكل في أول الأولوية...المتجلّي في سماء المعرفة بظهور مظهر شهادة الرحمن، محمدي الذات، المدلي إلى قاب الوحدة بتجلي موكبَي العناية والإحسان...أصل السبب في الإيجاد، فالكل منه والكل إليه، خزانة الأسرار، فالوارد والذاهب عنه وإليه([404])...

* ومن أورادهم:

اللهم صل على المتخلق بصفاتك، المستغرق في مشاهدة ذاتك، رسول الحق، المتخلق بالحق، حقيقة مدد الحق: ((أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)) [يونس:53]...وقد جعلت كلامك خلقه، وأسماءك مظهره، ومنشأ كونك منه([405])...

* ومنها: اللهم اجمعنا بك عليك، واردُدْنا منك إليك، وأرشدنا في حضرة جمع الجمع، حيث لا فرقة ولا منع([406])...

* ومنها: اللهم بك توسلت.. أن تصلي عليه صلاة أبدية ديمومية قيومية إلهية ربانية، تصفينا بها من شوائب الطبيعة الآدمية بالسحق والمحق، وتطمس بها آثار وجودنا الغيرية عنا في غيب غيب الهوية، فيبقى الكل للحق في الحق بالحق([407])...

* ومن الأدعية التيجانية (ويستعملها غيرهم):

اللهم حققني بك تحقيقاً يسقط النسب والرتب والتعيينات والتعلقات والاعتبارات والتوهمات والتخيلات، حيث لا أين ولا كيف ولا رسم ولا علم ولا وصف ولا مساكنة ولا ملاحظ، مستغرقاً فيك بمحو الغير والغيرة بتحقيقي بك من حيث أنت كما أنت وكيف أنت، حيث لا حس ولا اعتبار إلا أنت بك لك عنك منك، لأكون لك خالصاً وبك قائماً وإليك آيباً وفيك ذاهباً بإسقاط الضمائر والإضافات([408])...

* ومن أدعيتهم (ياقوتة الحقائق):

الله الله الله، اللهم أنت الله الذي لا إله إلا أنت العالي في عظمة انفراد حضرة أحديتك. التي شئت فيها بوجود شئونك، وأنشأت من نورك الكامل نشأة الحق، وأنطقتها وجعلتها صورة كاملة تامة تجد منها بسبب وجودها من انفراد أحديتك قبل نشر أشباحها، وجعلت منها فيها بسببها انبساط العلم، وجعلت من أثر هذه العظمة ومن بركاتها شبحة الصور كلها، جامدها ومتحركها، وأنطتها بإقبال التحريك والتسكين، وجعلتها في إحاطة العزة من كونها قبلت منها وفيها ولها، وتشعشعت الصورُ البارزة بإقبال الوجود، وقدرت لها وفيها ومنها ما يماثلها مما يطابق أرقام صورها، وحكمت عليها بالبروز لتأدية ما قدرته عليها، وجعلتها منقوشة في لوحها المحفوظ الذي خلقت منه ببركته، وحكمت عليها بما أردت لها وبما تريد بها، وجعلت كل الكل في كلك، وجعلت هذا الكل من كلك، وجعلت الكل قبضة من نور عظمتك روحاً لما أنت أهل له([409])...

* وفي الطريقة النقشبندية:

مر معنا قول الشيخ سلامة العزامي([410]) واصفاً شيخه أمين الكردي:

...وكان يرى أن القول بوحدة الوجود من سُكر الوقت وغلبة الحال، يعذر صاحبه إذا كان مغلوباً، ولا يصح تقليد غيره له([411])...

ويقول محمد بن سليمان البغدادي الحنفي النقشبندي([412]):

...الإسراف السابق لا ينافي الجذب اللاحق، لأن كثيراً من الأولياء الأكابر جذبتهم الواردات الإلهية وهم في الإسراف والمعصية، وأما الإسراف اللاحق، إذا لم يغلب على الخير، بل كان الأمر بالعكس، فلا يُحْكَم به على هلاك صاحبه جزماً والطعن في حاله...واعلم أن الجذب وحده من غير سلوك في الطريق المستقيم بامتثال أوامر الحق تعالى والاجتناب عن نواهيه لا نتيجة له أصلاً...وكذلك السلوك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي من غير جذب إلهي لا نتيجة له غير الدخول في حيز العلماء والعباد من أهل الظاهر([413])...

- وطبعاً، الجذبة هي التجلي الإلهي، وفيها يحصل التحقيق بالأسماء الإلهية، والاستشعار بالاسم الصمد، أو بالألوهية.

* ومن أذكار النقشبندية (ذكر النفي والإثبات) أي: (لا إله إلا الله) جاء في آدابه:

...ضارباً بلفظ الجلالة على القلب منفذاً إلى قعره، بقوةٍ يتأثر بحرارتها جميع البدن، مع ملحوظة معنى هذه الجملة، وهو أنه لا مقصود إلا ذات الله تعالى، وينفي بشق النفي (لا إله) جميع المحدثات الإلهية، وينظرها بنظر الفناء، ويثبت بشق الإثبات (إلا الله) ذات الحق تعالى، وينظره بنظر البقاء...ويقول بقلبه قبل إطلاق كل نَفَس: إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي،... فإذا انتهى العدد إلى أحد وعشرين، تظهر له نتيجة هذا الذكر المبارك، وهي النسبة المعهودة عند سادتنا النقشبندية من الذهول والاضمحلال والاستغراق في شهود المذكور تبارك وتعالى([414])...

- والنقشبندية ينبهون إلى ما يلي: مَن كان مستعداً لتقدم الجذبة على السلوك، لقنه الشيخ الذكر الأول (الله الله..)، ومَن كان مستعداً لتقدم السلوك على الجذبة، لقنه الذكر الثاني (لا إله إلا الله)([415])...ومن أصولهم: (الأصل الرابع: المراقبة):

اعلم أيها الأخ أن المراقبة هي عِلمُ المريد وتحققه باطلاع الله عليه، واستغراقه بمشاهدة الحق، واستهلاكه بالحضور الإلهي، وملازمة القلب لذلك، فإذا انتهى أمر السالك في المراقبة إلى انتفاء علمه بنفسه وبالأكوان، حصل له مبادي الفناء، وحينئذ يليق له أن يذكر باللسان: لا إله إلا الله، مع التدبر الحقيقي، وأقله خمسة آلاف في اليوم والليلة، فإذا فني عن فنائه، وهو المسمى: بالفناء التام، أو مبادي البقاء، حصل له أول درجة من درجات الولاية الصغرى، فإذا تم له البقاء تشرف بالولاية الكبرى([416])...

- نصوص النقشبندية هذه توضح لنا معنى الولاية، وعلاقة (ذوق معنى الأسماء الإلهية) بالجذبة، وعدم علاقة الجذبة بالأعمال الصالحة ولا بالسلوك.

* ومن الأوراد الشاذلية (وغيرهم يستعملها): مر معنا قولهم في الصلاة البشيشية- أو المشيشية-: وزج بي في بحار الأحدية وانشلْني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أحس الا بها([417])...

* ومما جاء في الوظيفة الشاذلية (الممزوجة بصلاة سيدي عبد السلام بن بشيش، وتقرأ صباحاً ومساءً):

 ...اللهم صل وسلم بجميع الشئون، في الظهور والبطون، على مَن منه انشقت الأسرار الكائنة في ذاته العلية ظهوراً.. وفيه ارتقت الحقائق منه إليه، وتنزلت علوم آدم به فيه عليه.. ولا شيء إلا وهو به منوط، وبسره الساري محوط.. اللهم إنه سرك الجامع لكل الأسرار، ونورك الواسع لجميع الأنوار...اللهم ألحقني بنسبه الروحي.. وعرفني إياه معرفة أشهد بها محياه وأصير بها مجلاه...وسر بي في سبيله القويم وصراطه المستقيم إلى حضرته المتصلة بحضرتك القدسية...وزج بي في بحار الأحدية المحيطة بكل مركبة وبسيطة، وانشلني من أوحال التوحيد إلى فضاء التفريد المنزه على الإطلاق والتقييد، وأغرقني في عين بحر الوحدة شهوداً، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها نزولاً وصعوداً، كما هو كذلك لن يزال وجوداً...وأيدني بك لك بتأييد من سَلَك فملك، ومن ملك فسلك، واجمع بيني وبينك، وأزل عن العين غينك، وحل بيني وبين غيرك.. الله، منه بدأ الأمر، الله، الأمر إليه يعود، الله، واجب الوجود وما سواه مفقود([418])...

* ومن أورادهم (مناجاة ابن عطاء الله وتُقرأ وقت السحر):

...إلهي كلما أخرسني لؤمي أنطقني كرمك، وكلما أيأستني أوصافي أطمعتني منتك.. وتردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك...أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعُدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك...وحققني بحقائق أهل القرب واسلك بي في مسالك أهل الجذب.. أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك، وأنت الذي أزلت الأغيار من أسرار أحبائك...يا من أذاق أحبّاه حلاوة مؤانسته فقاموا بين يديه مؤتلفين، ويا من ألبس أولياءه ملابس هيأته فقاموا بعزته مستعزين...فاطلبني برحمتك حتى أصل إليك، واجذبني بمنتك حتى أُقْبلَ عليك...وأنت تعرفت لي في كل شيء فرأيتك ظاهراً في كل شيء...ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار([419])...

* ومن حزب الفتح لسيدي أبي الحسن الشاذلي:

.. ونسألك الإحاطة بالأسرار.. وجلّت إرادتك أن يوافقها أو يخالفها شيء من الكائنات، حسبي الله (ثلاثاً) وأنا بريء مما سوى الله..([420]).

- يُرجى من القارئ أن ينتبه لقوله: (وأنا بريء مما سوى الله) في معنييها، الظاهر والصوفي، وأن يلاحظ مدى شمول البراءة في المعنى الظاهر!!

* ومن حزب اللطيف لسيدي أبي الحسن الشاذلي قدس سره:

...إلهي لطفك الخفي ألطف من أن يُرى، وأنت اللطيف الذي لطفت بجميع الورى، حجبت من سريان سرك في الأكوان فلا يشهده إلا أهل المعرفة والعيان، فلما شهدوا سر لطفك بكل شيء أَمنوا به من سوء كل شيء..([421]).

* ومن الأوراد الخلوتية من (الدرة الشريفة) للعارف بالله الشيخ عبد الرحمن الشريف:

...صل اللهم عليه أكمل صلوات بدوام التنزيلات العارية عن السوى، وأَبْدِا التنقلات المخبآت عن من التوى، ما بَطَنَ الباطنُ بانطوائه في الوجود، وبدأ الظهور فعم بصائرأهل الشهود...وبجلال صولة عنايتك القهرموتية، صفِّ بواطننا من الأغيار، وظواهرنا من الأكدار، صفاءً صفّته يدُ جذباتك، ففاز بمعالي قرباتك، حتى نخرج من وبال عضال أطوار البشرية، ونراقبك من دون غيرية، ونشهد حضرتك من غير معية...([422]).

* ومن أورادهم من الصلوات الدرديرية:

...وأنعم علينا بتجلي الأسماء والصفات، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأغرقنا في عين بحر الوحدة السارية في جميع الموجودات، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأبقنا بك لا بنا في جميع اللحظات، وأذقنا لذة تجلي الذات، وأدمها علينا ما دامت الأرض والسماوات([423]). للعلم: الصلوات الدرديرية هي صلوات (بشكل أوراد) متفرقة لمتصوفة سابقين، جمعها أحمد الدردير وتبناها وأضاف إليها؟ وهي بذلك مثل دلائل الخيرات..

* ومن ورد السحر، للعارف بالله الشيخ مصطفى البكري: اللهم رقق حجاب بشريتي بلطائف إسعاف من عندك، لأشهد ما انطوت عليه من عجائب قدسك...([424]).

* ومنه: إلهي! صرِّفنا في عوالم الملك والملكوت، وهيئنا لقبول أسرار الجبروت، وأفض علينا من رقائق دقائق اللاهوت([425]).

* ومنه: إلهي! نحن الأسارى فمن قيودنا فأطلقنا...نسألك بأهل عنايتك الذين اختطفتهم يد جذباتك، وأدهشتهم سناء تجلياتك، فتاهوا بعجيب كمالاتك...([426]).

* ومن أورادهم (الخلوتية):

"...اللهم افتح لنا أقفال قلوبنا بمفاتيح عنايتك...اللهم جذبة من جذباتك تكشف حجات الوهم عن عين اليقين، ونفحة من نفحاتك نلتمس بها مراتب أهل الرسوخ والتمكين...([427]).

* ومنها:

ندعوك يا الله بالآيات والذ           كر الحكيم بمظهر الأسماء

بالسكر بالغيبات من صحوٍ                    كذا بالشرب والري العلي ثناء

بالزاجرات وأهلها ومقامهم            وبسيرهم من عالم الأشياء

وبوحدة الذات العلي ووصفها                 وبوحدة الأفعال يا مولائي

وبوحدة الأسما الكثيرة خصنا                  بالجمع ثم بجمعه الأسماء

بالفرق رب وفرقه زل غيننا            عن عين حقك يا بديع سماء

وأنلنا معرفة اليقين وعينه              بالحق وامح الغير من أحشائي

بالرؤية اللاتي بكم منكم لكم                  وبوجد أهل الله دم لي هنائي

بفنائهم وصفائهم أفنِ الفؤاد                   عن السوى واجعلنا أهل صفاء

واجعلنا من أهل الرسوخ بجمعنا               وأدم سلوك عبيدك الضعفاء

بهوية السريان في كل الورى                   بالمحق امحق يا إلهي شقائي

بالهو والتجريد جردنا عن الـ                    أغيار وأفردنا بكل علاء

بالهوت واللاهوت والملكوت والـ             ـجبروت صف السير من وعثائي

بالجذب ثم بأهله اشقِ الفتى                  من فيض سر قد سما ببهاء

بالصحو أرجعنا إلى الإحساس من             بعد الهباء وغيبة النزلاء([428])

- تبلغ القصيدة اثنين وأربعين بيتاً، تحتوي اصطلاحات الصوفية، أو أهمها، وهي أدعية، كما نرى، يطلب بها الوصول إلى الجذب وما يستشعره المجذوب ويذوقه من الوحدة. والشاعر الذي قال هذه القصيدة ضعيف باللغة والشعر! فكشفه لم يسعفه!

* ومن أورادهم:

وهب لي أيا رباه كشفاً مقدساً                 لأدري به سر البقاء مع الفنا

وجد لي بجمع الجمع فضلاً ومنة             وداوِ بوصل الوصل روحي من الضنا

وسر بي على النهج القويم موحداً             وفي حضرة القدس المنيع أحلنا

ومن علينا يا ودود بجذبة             بها نلحق الأقوام من سار قبلنا([429])

* ومن أوراد الطريقة الرشيدية (الصلوات الإدريسية): ...وتجل لي يا إلهي باسم الذات، الاسم الله، مرجع الصفات والأسماء الحفية توحيداً صرفاً، تجلياً ينسف بصرصر عظمته وكبريائه جبال الخيالات الخَلْقية في نظري نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً، فتزول غشاوة عمش الأغيار عن بصري وبصيرتي، بل وعن ذاتي كلها، حتى تكون ذاتي كلها عيناً ذاتية إلهية من جميع الوجوه، وأكون كلي وجهاً واحداً إلهياً لا أعلم من جميع جهاتي ولا أشهد ولا أرى في (إياي) وفي كل شيء وفي لا شيء إلا إياك..([430]).

* ومنها: اللهم صل على مظهر العظمة الإلهية([431])، جمعية عيون الحقائق الرحموتية([432])، سر ملكوت الأسماء المعبر عنه بالعماء قبل خلق أرض وسماء([433])، ساذج الذات الإحاطية الوجود، نقطة دائرة الكمال الإلهي في الغيب والشهود السذاجة الصرافة([434])، غيب هو([435])، فصل اللهم عليه بهُوَ، في هُوَ، كله هُوَ..([436]).

* ومن الصلوات الإدريسية (الرشيدية) أيضاً:

...أن تصلي على النور الذاتي، والمنظر الصفاتي، مجلِّي الحقائق القرآنية، صورة مادة التجليات الفرقانية([437])، الحاجز بين خلقك وسبحات وجهك، كل الكل، في سر تجلي كل الكل([438])، حيث الكل للكل فيوض الجمال والجلال والكمال، من حيث لا حيث إلى حيث لا حيث في حيث لا حيث، فصل اللهم عليه وسلم من حيث لا حيث إلى حيث لا حيث في حيث لا حيث كما أنت حيث لا حيث...([439]).

* ومنها: اللهم صل على الذات الكنه، قبلة وجوه تجليات الكنه([440])، عين الكنه في الكنه، الجامع لحقائق كمال كنه الكنه، القائم بالكنه في الكنه للكنه، صلاةً لا غاية لكنهها دون الكنه، وعلى آله وصحبه وسلم، كما ينبغي من الكنه للكنه، اللهم إني أسألك بنور الأنوار الذي هو عينك لا غيرك([441])..

* ومنها الصلاة السادسة:

اللهم صل على أم الكتاب، كمالات كنه الذات، عين الوجود المطلق، الجامع لسائر التقييدات([442])، صورة ناسوت الخلق، معاني لاهوت الحق، الناظر بالكل في الكل من الكل للكليات والجزئيات، كوثر سلسبيل منهل حوض مشارب جميع التجليات([443])، الملتذ بصورة نفسه في جنة فردوس ذاته بنظره به منه إليه فيه([444])....روح ذات الوجود، مجمع حقائق اللاهوت المشهود([445])...مبدأ الكل ومرجع الكل وهو الكل في الكل بلا بعض ولا كل..([446]).

* ومنها الصلاة العاشرة:

اللهم صل على سلطان حضرة الذات([447])، مالك أزمة تجليات الصفات، قطب رحا عوالم الألوهية([448])...جمع الجمع وفرق الفرق من حيث لا جمع ولا فرق([449])...

- الصلوات الإدريسية هذه هي من أوراد الطريقة الرشيدية، وتظهر فيها وحدة الوجود مع الحقيقة المحمدية بوضوح تام، والحقيقة المحمدية هي الجزء الأهم في عقيدة وحدة الوجود.

* وفي الطريقة الأويسية (منتشرة في إيران):

يقول الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا، مخاطباً شيخ الطريقة مولانا محمد صادق عنقا([450]):

...ومن ناحية أخرى، فإني أدركت من خلال دراسة كتبكم وتفحيصها، وأيقنت من ثنايا تتبع خطكم الفكري، أنكم تؤمنون بأن الحقيقة واحدة، ولكنها تنطق في كل زمان بلسان مختلف، وأن الله واحد والوجود كله ناطق بكلماته، وأن ذات الموجودات هي ذات الحق، وأن الشيء الذي كان يظن أولاً أنه ذات مغايرة لذات الحق، ليس شيئاً في الحقيقة، بل ليس ثم شيء إلا ذات الحق كما يقول ابن طفيل([451]).

أخيراً..

إن في هذه النصوص الوحدوية المقدمة حتى الآن، كفاية وكفاية، وأكثر من الكفاية، للدلالة على أن وحدة الوجود هي عقيدة القوم التي تقوم عليها الصوفية، فالصوفية هي وحدة الوجود مغلفة بالتقية، ووحدة الوجود المغلفة بالتقية هي الصوفية.

وهناك كتاب لا يكاد يخلو منه مسجد ولا بيت، يكاد يكون مقدساً لدى كل الطرق الصوفية، إنه كتاب: دلائل الخيرات، لمؤلفه محمد بن عبد الرحمن بن سليمان الجزولي السملالي.

إن كتاب (دلائل الخيرات) معتبر لدى كل الطرق الصوفية، يقرأ صباحاً ومساءً كل يوم، بل هو معتبر عند كثير ممن لا ينتمون إلى الصوفية. ومما جاء فيه:

...وفقني لاتباعه والقيام بآدابه وسننه، واجمعني عليه، ومتعني برؤيته، وأسعدني بمكالمته، وارفع عني العلائق والعوائق والوسائط والحجاب، وشنِّف سمعي معه بلذيذ الخطاب([452])...

- أنبه هنا إلى أن الذي يحتاج إلى توضيح معاني هذه العبارات، بعد مئات الصفحات السابقة، مثل هذا الإنسان عليه أن يشكو حاله إلى الله جل شأنه.

ومما جاء فيه:

...الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، يا هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا إله إلا هو([453])...

ومما جاء فيه أيضاً (صلوات الذات):

اللهم صل على سيدنا محمد نور الذات، وسره الساري في جميع الأسماء والصفات([454])...

- نكتفي بهذا القدر من النصوص الوحدوية، ففيه، كما قلنا، كفاية وكفاية، وأكثر من الكفاية.

وهذه النصوص، رغم كثرتها، ما هي إلا جزء ضئيل من عباراتهم المشيرة إلى وحدة الوجود، والتي لو جمعت لملأت ألوفاً من الصفحات.

وكثير من أقوالهم ونصوصهم الوحدوية التي أهملتُها، هي أكثر وضوحاً من بعض ما أوردته على صفحات هذا الكتاب؛ لكني أهملت تلك، وأوردت هذه، لأقدم للقارئ أكثر ما يمكن من أنواع عباراتهم ورموزهم وإشاراتهم وألغازهم.

البحر لا شك عندي في توحده             وإن تعدد بالأمواج والزبد

فلا يغزنك ما شاهدت من صور             فالواحد الرب ساري العين بالعدد

(التلمساني)

النتيجة:

من كل ما سبق نستنتج ما يلي:

- الصوفية هي وحدة الوجود والطريقة التي توصل السالك إلى ذوقها واستشعارها.

- يعلمون أن وحدة الوجود هي كفر وزندقة بالنسبة للشريعة، لذلك يتواصلون بكتمانها عن غير أهلها.

- كلهم يؤمنون بها من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، عارفهم وأميهم، مشهورهم ومجهولهم، لكنهم يكتمونها عن المبتدئين حتى يتأكدوا من إخلاصهم.

- عندما نسمع بعبارة (الصوفية الحقة)، فهي تعني شيئاً واحداً ليس غير، إنها تعني (وحدة الوجود)، والطريق المؤدية إليها، ثم كتمانها عن غير أهلها.

- من أجل التعمية على أهل الظاهر -أهل الشريعة- أوجد لهم سيدهم الجنيد مصطلحات خاصة بهم، يسجلون بها أوهامهم في كتبهم وينقلونها إلى مريديهم.

- وزيادة في التزوير والخداع، اخترعوا أحاديث على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ليؤيدوا بها عقيدتهم.

- وزيادة في التزوير والخداع، أولوا بالباطل آيات القرآن وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ليؤيدوا بالتأويل الباطل عقيدتهم.

- وزيادة في التزوير والخداع، ومن أجل التلبيس على البسطاء والسذج نشروا بين الناس أن عقيدتهم تعتمد على القرآن والسنة، وأنها لا تناقض القرآن والسنة، وأنها مؤيدة بالقرآن والسنة؟

- وزيادة في التزوير والخداع الذي لا حدود له، قالوا: إن طريقتهم هي الزهد وتربية النفس، وأنها السير إلى الله والعروج إليه.

- وبإيحاء شياطينهم وأوهامهم، سموا أنفسهم بأسماء فيها من الجرأة على الله سبحانه، وتحدي قرآنه وسنة رسوله ما تجاوز كل حد وكل ذوق، حتى جعلوا أنفسهم يتصرفون في الكون، وحتى جعلوا أنفسهم أو جعلوا الواصلين منهم، متحققين بالاسم الأعظم (الله) أي: أن الواصل هو الله.

فهم العارفون الصديقون الصادقون المقربون الأولياء الصالحون الأتقياء الأنقياء، رغم جهلهم وضلالهم وكذبهم وبعدهم عن الشريعة الإسلامية، وتوليهم الشيطان وممارستهم طقوساً لا تمت إلى الإسلام بصلة، وتأليههم البشر والقبور والحجارة والشجر، وهم يطبقون هذا التأليه عملياً وينكرونه نظرياً أمام أهل الظاهر (أهل الشريعة)، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

وللحقيقة. إنهم كلهم مشايخهم ومريديهم (إلا النادر من المبتدئين) يؤمنون بأنهم على حق فيما هم عليه، وأنه هو ما يسمونه: مقام الإحسان، وعندما يكذبون ويتاقون فهم يرون أن هذا هو الحكمة الإلهية، التي أرادها الله لعباده!

ومن العجب أن هذه الحكمة مفروضة فقط على متصوفة المسلمين، أما الهندوس والبوذيون والطاويون والجينيون فليست مفروضة عليهم، لأنهم يقولون بوحدة الوجود بكل صراحة، والفرق بين المتصوفة وبين أهل تلك الأديان، أن المتصوفة يكذبون ويجعلون الله سبحانه وتعالى مثلهم، بحجة أنه يغار على السر (جل وعلا علواً كبيراً).

* لا حلول ولا اتحاد:

يتردد بين كثير من العلماء، وفي بعض الكتب، أن المتصوفة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم يؤمنون بالحلول، وقسم يؤمنون بالاتحاد، وقسم يؤمنون بوحدة الوجود. ويجعلون الحلاج مثلاً للحلوليين، وعمر بن الفارض مثلاً للاتحاديين.

* ومعنى الحلول: أن الله سبحانه وتعالى عما يصفون خلق الخلق، وحل فيه، كما يحل الإنسان في الثوب الذي يلبسه، أو كما يحل الماء في التراب عند مزجه، فيكونان بذلك اثنين متماسَّين تعالى الله.

* ومعنى الاتحاد: أنه سبحانه خلق الخلق واتحد به، وضرب بعضهم مثلاً لذلك: اتحاد الماء بالخمر، مع أن هذا هو حلول في حقيقته وليس اتحاداً، وأصح منه مثلاً: اتحاد الكلور مع الصوديوم حيث يشكلان ملح الطعام. فيكونان بذلك متحدين، أومتماسَّين بالاتحاد.

* أما وحدة الوجود: فقد عرفناها جيداً من النصوص السابقة، إنها تعني أنه ليس في الوجود إلا واحد هو الله، وكل ما نرى هو أجزاء منه تتعين بأشكال مختلفة، بما في ذلك أنا وأنت وهو وهي وهما وهم وهن، والأرض والشمس والقمر والنجوم والملائكة والجن، بما في ذلك الشياطين والحيوانات والحشرات.

والحقيقة، أن هذا التقسيم وهم لا حقيقة له في الواقع، فجميع متصوفة المسلمين من أولهم إلى آخرهم هم على مذهب (وحدة الوجود)، وكل ما مر هو براهين على ذلك، نضيف إليه قولاً للحلاج ينفي الاثنينية، وآخر لعمر بن الفارض ينفي به الاثنينية أيضاً، وأقوالاً لبعضهم تنفي الحلول والاتحاد.

يروى عن عبد الودود بن سعيد بن عبد الغني الزاهد قال:

...قلتُ له (أي: للحلاج): كيف الطريق إلى الله تعالى؟ قال: الطريق بين اثنين، وليس مع الله أحد. فقلت: بيِّن! قال: مَن لم يقف على إشارتنا لم ترشده عبارتنا، ثم قال:

أأنت أم أنا هذا في إلهين            حاشاك حاشاك من إثبات اثنين([455])

ويقول عمر بن الفارض:

وما شانَ هذا الشأْنَ منك سوى السوى               ودعواه حقاً عنك إن تُمْحَ تثبت

كذا كنت([456]) قبل أن يُكشف الغطا                من اللبس لا أنفك عن ثنوية

متى حلتُ عن قولي (أنا هي) أو أقل                 -وحاشا لمثلي- (أنها فيَّ حلَّت)

وسرُّ (بلى)([457]) لله مرآةُ كشفها                      وإثباتُ معنى الجمع نفيُ المعية([458])

وأقوالهم في استنكار الحلول والاتحاد ونفي وجود من يؤمن بهما كثيرة، نكتفي منها برشفات:

يقول الطوسي، صاحب اللمع (عنواناً لباب في كتابه): باب في ذكر غلط الحلولية وأقاويلهم، على ما بلغني، فلم أعرف منهم أحداً، ولم يصح عندي شيء غير البلاغ([459]).

ويقول محمود أبو الفيض المنوفي:

...فمَنْ مِن الصوفية يا ترى يعتقد أن الذات الإلهي العظيم المقدس المنزه الذي لا يحيط به شيء، ولا يحتويه شيء من المكان على سعته، ولا الزمان على امتداده، يتحد أو يحل بشيء من مخلوقاته، إلا أن يكون جاهلاً بالتصوف وبالإسلام، أومدعياً أو متطفلاً على التصوف والإسلام، وإذن فلْيَكُفَّ المتخرصون الجاهلون عن تخرصهم بغير علم عن التصوف الحق وأهل التصوف، وليدعوا أمر الخالق الذي له في خلقه الكثير من الشئون([460]).

* ملحوظة: لقد أحسن عندما فرق بين التصوف والإسلام.

ويقول ابن عجيبة:

...فلا وجود للأشياء مع وجوده، فانتفى القول بالحلول، إذ الحلول يقتضي وجود السوى حتى يحل فيه معنى الربوبية، والفرض أن السوى عدم محض فلا يُتصور الحلول..:

ونزهه في حكم الحلول فما له                سوى وإلى توحيده الأمر راجع

فقد تقرر أن الأشياء كلها في حيز العدم، فانتفى القول بالاتحاد، إذ معنى الاتحاد هو اقتران القديم مع الحادث، فيتحدان حتى يكونا شيئاً واحداً، وهو محال، إذ هو مبني أيضاً على وجود السوى، ولا سوى، وقد يطلقون الاتحاد على الوحدة كقول ابن الفارض:

وهامت بها روحي بحيث تمازجا               اتحاداً ولا جرم تخلله جرم([461])

ويقول محمد بهاء الدين البيطار:

...فالمظاهر عين الظاهر، فليس إلا الله بلا مزج ولا حلول ولا اتحاد، بل القوم بريئون من جميع ذلك والله على ما نقول وكيل([462]).

الملحوظات:

نلاحظ في هذه النصوص (وكثير غيرها) ما يلي:

1- ينفون وجود من يؤمن بالحلول أو بالاتحاد، لأن ذلك يقتضي أن في الوجود موجودين، خالقاً ومخلوقاً، أو حسب تعبيرهم، الحق والسوى، وبما أنهم كلهم يؤمنون أن السوى لا وجود له، إذن فلا يوجد فيهم من يؤمن بالحلول أو الاتحاد.

2- الحلاج يتبرأ من الاثنينية وينزه الخالق عن إثبات اثنين، إذن فهو لا يقول بالحلول.

3- ينفي ابن الفارض الاثنينية([463])، وينفي وجود المعية مع الحق، إذن فهو لا يقول بالاتحاد، وفي شعره يردد كلمة (الاتحاد) وهو يعني بها وحدة الوجود، ولا شيء غير ذلك.

* الخلاصة:

الصوفية مذهب واحد، لا يوجد فيهم من يؤمن بالحلول ولا الاتحاد ولا المزج ولا الوصل ولا الفصل، بل كلهم كلهم يؤمنون بوحدة الوجود، وقد غلط العلماء الذين قالوا: إن في الصوفية حلوليين واتحاديين، وكانوا واهمين.

جملة يتسلى القارئ بتحليلها:

يقول أحدهم: ...وفي الحقيقة، لا فصل ولا وصل، ولذلك قيل:

ولا عن قلىً كان القطيعة بيننا                كنه دهرٌ يُشتّ ويَجْمع


 

 

([1]) التعرف لمذهب أهل التصوف، باب: (22)، (ص:66).

([2]) التعرف، باب: (44)، (ص:101).

([3]) إحياء علوم الدين: (4/222).

([4]) أبو نصر الطوسي مؤلف (اللمع)، الكتاب الأم في التصوف، مات سنة: (378هـ).

([5]) قُتل على الزندقة، ولم أقف على تاريخ قتله، وهو من أقران الجنيد.

([6]) اللمع، (ص:495)، وقد أورد القصة أيضاً عبد الفتاح أبو غدة في ترجمته للحارث المحاسبي في (رسالة المسترشدين)، (ص:23).

([7]) تلبيس إبليس، (ص:169).

([8]) أحمد بن محمد النوري، بغدادي من أقران الجنيد، مات سنة: (295هـ)..

([9]) اللمع، (ص:492).

([10]) اللمع، (ص:478).

([11]) من كتاب (الحلاج) لـ (طه عبد الباقي سرور)، وهو شيخ الصوفية في مصر، معاصر، (ص:104).

([12]) الفكر الصوفي، (ص:62).

([13]) أبو بكر النصراباذي من نيسابور، صحب الشبلي، وخرج في آخر حياته إلى مكة، ومات فيها عام: (367هـ).

([14]) تلبيس إبليس، (ص:172).

([15]) أحمد بن عيسى الخزاز (لسان التصوف) من أهل بغداد، صحب ذا النون المصري وغيره، مات سنة: (277هـ).

([16]) التعرف، (ص:121).

([17]) لم أقف على ترجمتهما، ويفهم من أقوال الكلاباذي أنهما معاصران له.

([18]) لم أقف على ترجمتهما، ويفهم من أقوال الكلاباذي أنهما معاصران له.

([19]) التعرف، (ص:148).

([20]) شطحات الصوفية، (ص:164).

([21]) إيقاظ الهمم، (ص:156).

([22]) أخبار الحلاج، (ص:125)، وفي ديوانه.

([23]) أخبار الحلاج، (ص:115)، وفي الديوان أيضاً.

([24]) الديوان وأخبار الحلاج، (ص:127).

([25]) الديوان، (ص:16)، والأبيات هنا غير متتابعة، وأوائلها موجود في (طاسين النقطة).

([26]) الديوان، (ص:76)، وينسب أيضاً لابن عربي، وهو الأصح.

([27]) أخبار الحلاج، (ص:78).

([28]) طاسين الصفاء.

([29]) طاسين الأزل والالتباس.

([30]) أخبار الحلاج، (ص:50).

([31]) أخبار الحلاج، (ص:26).

([32]) أخبار الحلاج، (ص:30).

([33]) ديوان الحلاج، (ص:90).

([34]) ديواد الحلاح، (ص:94).

([35]).

([36]) أخبار الحلاج، (ص:44).

([37]) حاشية العروسي: (2/20).

([38]) إيقاظ الهمم، (ص:46).

([39]) إيقاظ الهمم، (ص:46).

([40]) علم القلوب، (ص:157).

([41]) محمد بن علي بن عطية الحارثي المكي، من كبار القوم، مات سنة: (358هـ).

([42]) علم القلوب (ص:95).

([43]) علم القلوب، (ص:104).

([44]) الِإشارات الِإلهية: (1/224).

([45]) الِإشارات الِإلهية: (1/139).

([46]) الإشارات الإلهية: (1/140).

([47]) الإشارات الإلهية: (1/259).

([48]) الإشارات الإلهية: (1/388).

([49]) الرسالة القشيرية، (ص:37).

([50]) الجملة بين القوسين من شرح الرسالة في هامش حاشية العروسي: (2/76).

([51]) الرسالة القشيرية، (ص:39).

([52]) الرسالة القشيرية، (ص:40).

([53]) إحياء علوم الدين: (1/254).

([54]) إحياء علوم الدين: (1/242).

([55]) الفتوحات الإلهية حاشية إيقاظ الهمم، (ص:109).

([56]) إحياء علوم الدين: (3/243).

([57]) إحياء علوم الدين: (3/13).

([58]) إحياء علوم الدين: (4/212).

([59]) الِإحياء: (4/213).

([60]) الإِحياء: (4/276).

([61]) الإحياء: (4/276، 277).

([62]) مشكاة الأنوار، (ص:55).

([63]) مشكاة الأنوار، (ص:57).

([64]) إلجام العوام عن علم الكلام، (ص:32).

([65]) النفحات الغزالية، (ص:173)، معارج القدس، (ص:195).

([66]) النفحات الغزاليه، (ص:183)، ومعارج القدس، (ص:199).

([67]) معارج القدس، (ص:202، 203).

([68]) الإحياء: (4/221).

([69]) الحديث مكذوب.

([70]) الإحياء: (4/222).

([71]) جمهرة الأولياء، (ص:78).

([72]) جمهرة الأولياء، (ص:80).

([73]) الفيوضات الربانية، (ص:41).

([74]) الفيوضات الربانية، (ص:5). وتبرز هنا ملحوظة هامة، هي أنه لا يهمنا إن كان كل ما في كتاب (الفيوضات الربانية) صحيح النسبة للجيلاني أم لا؛ لأن الذي يهمنا هو أن هذا الكتاب هو عقيدة عشرات الملايين من الذين ساروا على نهج الطريقة القادرية طيلة قرون طويلة.

([75]) الفتح الرباني، (ص:217).

([76]) الفتح الرباني، (ص:357).

([77]) الفتح الرباني، (ص:360).

([78]) الفتح الرباني، (ص:367).

([79]) الفتح الرباني، (ص:354).

([80]) الفتح الربايى، (ص:355).

([81]) فتوح الغيب، (ص:8، 9).

([82]) فتوح الغيب، (ص:25).

([83]) فتوح الغيب، (ص:28).

([84]) فتوح الغيب، (ص:127).

([85]) فتوح الغيب، (ص:144).

([86]) فتوح الغيب، (162).

([87]) فتوح الغيب، (165).

([88]) فتوح الغيب، (ص:170).

([89]) الفيوضات الربانية، (ص:8).

([90]) الفيوضات الربانية، (ص:48، 49، 50).

([91]) قلادة الجواهر، (ص:151).

([92]) قلادة الجواهرة، (ص:148).

([93]) قلادة الجواهر، (ص:191).

([94]) قلادة الجواهر: (ص:232).

([95]) قلادة الجواهر، (ص:195).

([96]) يلنّور بن ميمون الهزميري، أستاذ أبي مدين، مات بالطاعون سنة: (572هـ).

([97]) طبقات الشعراني: (1/137).

([98]) طبقات الشعراني: (1/137).

([99]) من كتاب (أبو مدين الغوث)، (ص:59).

([100]) من كتاب (أبو مدين الغوث)، (ص:59).

([101]) أبو مدين الغوث، (ص:60).

([102]) أبو مدين الغوث، (ص:60).

([103]) أبو مدين الغوث، (ص:84).

([104]) أبو مدين الغوث، (ص:111).

([105]) أبو مدين الغوث، (ص:112).

([106]) عوارف المعارف هامش الِإحياء: (1/217).

([107]) العوارف: (1/213).

([108]) العوارف: (4/19).

([109]) العوارف: (4/182).

([110]) العوارف: (1/324).

([111]) أبو محمد عبد السلام بن مشيش، أو بشيش، أحد الأئمة العارفين، كان يسكن مغارة في رأس جبل في المغرب، مات عام: (622هـ)، ومن تلامذته أبو الحسن الشاذلي.

([112]) النفحة العلية في أوراد الشاذلية، (ص:16).

([113]) إيقاظ الهمم، (ص:40، 201).

([114]) كردي عراقي من أهل النصف الأول من القرن السادس الهجري.

([115]) طبقات الشعراني: (1/135).

([116]) شيخ شيوخ الشام في وقته، ولد في قرية في الشرق، وانتقل منها (طيراناً) إلى منبج، ومات فيها، ولم أقف على تاريخ وفاته، لكن من الذين تخرجوا بصحبته عدي بن مسافر، فيكون من أهل النصف الأول من القرن السادس.

([117]) الطبقات الكبرى للشعراني: (1/136).

([118]) نسبة إلى هيت على الفرات، من أكابر مشايخ العراق، يشب إلى القطبية العظمى، سكن رزيران ومات بها عام: (564هـ).

([119]) الطبقات الكبرى للشعراني: (1/145).

([120]) نسبة الى طفسونج، بلدة بأرض العراق، من أكابر مشايخ العراق وأعيان العارفين وصدور المقربين، مات بطفسونج مُسناً، ولم أقف على تاريخ وفاته، ولكنه معاصر لعبد القادر الجيلاني.

([121]) طبقات الشعراني: (1/146)..

([122]) من أجل مشايخ العراق وسادات العارفين، من الأكراد، سكن (باذراء) قرية من أعمال النجف، وبها مات، ولم أقف على تاريخ وفاته، ولعله في الربع الأخير من القرن السادس الهجري.

([123]) طبقات الشعراني: (1/148).

([124]) فصوص الحكم (فص حكمة إمامية في كلمة هاوونية)، (ص:192).

([125]) الفصوص، (ص:195).

([126]) الفصوص، (ص:196).

([127]) الفصوص (فص حكمة فردية في كلمة محمدية)، (ص:226).

([128]) الفصوص (فص حكمة أحدية في كلمة هودية)، (ص:108).

([129]) الفصوص، (ص:109).

([130]) الفصوص، (ص:111).

([131]) الفصوص، (ص:112).

([132]) الفصوص، (ص:113).

([133]) الفصوص، (فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية)، (ص:120).

([134]) الفصوص، (ص:121).

([135]) جزء من حديث مشهور يستغله الصوفية في غير معناه الحقيقي.

([136]) الفصوص، (فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية)، (ص:121).

([137]) الفصوص، (فص حكمة نبوية قي كلمة عيسوية)، (ص:143).

([138]) الفصوص، (فص حكمة وحودية في كلمة داودية)، (ص:165).

([139]) الفصوص، (فص حكمه إيناسية في كلمة إلياسية)، (ص:181).

([140]) الفصوص، (فص حكمه إيناسية في كلمة إلياسية)، (ص:181).

([141]) إشارة إلى الحديث القدسي الذي يقول فيه (...ووسعني قلب عبدي المؤمن).

([142]) رسائل ابن عربي، (كتاب الجلالة)، (ص:5).

([143]) رسائل ابن عربي، (كتاب الجلالة)، (ص:5).

([144]) رسائل ابن عربي، (رسالة الشيخ إلى الإمام الرازي)، (ص:12).

([145]) رسائل ابن عربي، (رسالة الشيخ إلى الإمام الرازي)، (ص:12).

([146]) رسائل ابن عربي، (كتاب الِإسرا)، (ص:36).

([147]) الفتوحات المكية: (3/549).

([148]) الفتوحات: (3/553).

([149]) الفتوحات: (3/361).

([150]) الفتوحات (3/375).

([151]) الفتوحات: (3/376).

([152]) الفتوحات: (3/535).

([153]) الفتوحات: (3/193).

([154]) ديوان ترجمان الأشواق، ومحاضرة الأبرار، (ص:402).

([155]) مؤسس الطريقة المولوية، بلخي انتقل إلى سيواس، ثم إلى تركيا، ومات في قونية سنة: (672هـ).

([156]) جملة (وأحمل المخلاة) يشير بها إلى الهندوسية، لأن البراهمة منهم يحملون المخلاة للاستجداء.

([157]) في التصوف الاسلامي وتاريخه، (ص:94).

([158]) في التصوف الِإسلامي وتاريخه، (ص:95).

([159]) في التصوف الِإسلامي وتاريخه، (ص:105)، (106).

([160]) فىِ التصوف الِإسلامي وتاريخه، (ص:152).

([161]) في التصوف الِإسلامي وتاريخه، (ص:157).

([162]) مات في دمشق سنة: (541هـ).

([163]) مقتطفات من رسالة الشيخ أرسلان من كتاب (شروح رسالة الشيخ أرسلان).

([164]) إيقاظ الهمم، (ص:42).

([165]) إيقاظ الهمم، (ص:43).

([166]) إيقاظ الهمم، (ص:43).

([167]) النفحات الأقدسية، (ص:338).

([168]) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:174).

([169]) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:174).

([170]) محمد بن إبراهيم بن أبي بكر.. ابن عباد النفري الرندي، من رندة جنوبي الأندلس من شيوخ الشاذلية توفي سنة (792هـ)، ممن تأثربه، القديس يوحنا الصليبي من صوفية المسيحيين.

([171]) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:174).

([172]) الشيخ أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي الشهير بزروق، كان قطباً غوثاً، توفي سنة (899هـ).

([173]) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:174).

([174]) المؤرخ الفقيه صاحب عنوان الدراية، توفي سنة (714هـ).

([175]) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:170).

([176]) إيقاظ الهمم، (ص:28).

([177]) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:172).

([178]) إيقاظ الهمم، (ص:44).

([179]) طبقات الشعراني (2/7).

([180]) طبقات الشعراني (2/8).

([181]) طبقات الشعراني (2/9).

([182]) طبقات الشعراني (2/10).

([183]) طبقات الشعراني (2/11).

([184]) طبقات الشعراني (2/12).

([185]) طبقات الشعراني (2/12).

([186]) مرت ترجمته، مات عام (686هـ).

([187]) طبقات الشعراني (2/14).

([188]) طبقات الشعراني (2/14).

([189]) إيقاظ الهمم، (ص:156)، ولطائف المنن، (ص:95).

([190]) مرت ترجمته توفي سنة (707هـ).

([191]) إيقاظ الهمم، (ص:72).

([192]) إيقاظ الهمم، (ص:79).

([193]) إيقاظ الهمم، (ص:86).

([194]) إيقاظ الهمم، (ص:86).

([195]) إيقاظ الهمم، (ص:86).

([196]) إيقاظ الهمم (ص:40).

([197]) إيقاظ الهمم (ص:41).

([198]) إيقاظ الهمم (ص:43).

([199]) إيقاظ الهمم (ص:43).

([200]) إيقاظ الهمم (ص:43).

([201]) إيقاظ الهمم (ص:44). موجودة كلها في حاشية لطائف المنن (ص:603).

([202]) إيقاظ الهمم (ص:44). موجودة كلها في حاشية لطائف المنن (ص:603).

([203]) إيقاظ الهمم (ص:43).

([204]) هو عبد الكريم الجيلي المتوفي سنة (805هـ).

([205]) إيقاظ الهمم (ص:43).

([206]) إيقاظ الهمم (ص:44).

([207]) إيقاظ الهمم (ص:44).

([208]) إيقاظ الهمم، (ص:199).

([209]) إيقاظ الهمم، (ص:235).

([210]) إيقاظ الهمم، (ص:236).

([211]) إيقاظ الهمم، (ص:4).

([212]) القصد المجرد، (ص:33).

([213]) إبراهيم بن أبي المجد بن قريش بن الحسين بن أبي طالب، مات في مصر عام (676هـ).

([214]) طبقات الشعراني، (1/167).

([215]) طبقات الشعراني، (1/182).

([216]) طبقات الشعراني (1/181).

([217]) طبقات الشعراني (1/168).

([218]) طبقات الشعراني (1/183).

([219]) الشيخ داوُد الكبير من ماخلا، شيخ محمد بن وفا الشاذلي، كان شرطياً في بيت الوالي بالإسكندرية في أوائل القرن الثامن الهجري.

([220]) طبقات الشعراني (1/191).

([221]) طبقات الشعراني (1/191).

([222]) طبقات الشعراني (1/192).

([223]) طبقات الشعراني (1/193).

([224]) طبقات الشعراني (1/149).

([225]) طبقات الشعراني (1/196).

([226]) طبقات الشعراني (1/196).

([227]) محمد وفا، من أكابر العارفين، خاتم الأولياء، صاحب الرتبة العلية، مات سنة (765هـ) في القاهرة.

([228]) طبقات الشعراني: (2/22).

([229]) روضة التعريف، (ص:611).

([230]) روضة التعريف، (ص:581).

([231]) هو وأبوه من سلسلة الخرقة الشاذلية، مات في مصر سنة (801هـ) حسب طبقات الشعراني، و(807هـ) حسب جمهرة الأولياء وشذرات الذهب وغيرها.

([232]) طبقات الشعراني: (2/23).

([233]) طبقات الشعراني: (2/23).

([234]) طبقات الشعراني: (2/23).

([235]) طبقات الشعراني: (2/23).

([236]) طبقات الشعراني: (2/32).

([237]) طبقات الشعراني: (2/32).

([238]) طبقات الشعراني: (2/24).

([239]) طبقات الشعراني: (2/27).

([240]) طبقات الشعراني: (2/32).

([241]) طبقات الشعراني (2/40).

([242]) طبقات الشعراني: (2/45).

([243]) طبقات الشعراني: (2/42).

([244]) الإنسان الكامل: (1/113).

([245]) الإنسان الكامل: (1/73).

([246]) الإنسان الكامل: (1/43).

([247]) الإنسان الكامل (1/61).

([248]) ليستقيم الوزن يجب أن تكون: (بل ليلاه).

([249]) فتوح الغيب، (ص:203- 207).

([250]) الإنسان الكامل: (1/24).

([251]) الإنسان الكامل: (1/37).

([252]) الإنسان الكامل: (2/6).

([253]) أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن...ابن سليمان الجزولي السملالي مات سنة (870هـ).

([254]) دلائل الخيرات، (ص:76، 99).

([255]) دلائل الخيرات، (ص:90).

([256]) دلائل الخيرات، (ص:100).

([257]) دلائل الخيرات، (ص:233).

([258]) دلائل الخيرات، (ص:214).

([259]) دلائل الخيرات، (ص:15).

([260]) دلائل الخيرات، (ص:223).

([261]) زكريا الأنصاري الخزرجي، مات في مصر سنة (926هـ).

([262]) هامش الرسالة القشيرية، (ص:28)، وهامش حاشية العروسي: (2/3).

([263]) هامش حاشية العروسي (2/33).

([264]) عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس، ولد في مدية (تريم) في حضرموت، تنقل ثم استقر في مصر، ومات فيها سنة (1192هـ).

([265]) كتاب من (14 صفحة) فقط، والكتابة في أكثر صفحاته لا تتجاوز الصفحة.

([266]) محمد بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس، ولد بمدينة (تريم) بحضرموت، وتخرج بوالده في طريق القوم، ورحل إلى الهند شاباً حيث مات ببندرسوت عام (1031هـ) حسب الإيضاح، أو سنة (1005هـ) حسب أعلام الزركلي.

([267]) إيضاج أسرار علوم المقربين، (ص:31)، والشعر لابن العريف صاحب الطريقة العريفية.

([268]) قطب العارفين، غوث الواصلين، محيي الدين، عم محمد بن عبد الله السابق، لم أقف على تاريخ وفاته.

([269]) الأبيات من قصيدة للششتري.

([270]) غاية القرب من مجموعة إيضاح أسرار علوم المقربين، (ص:85).

([271]) إمام أئمة الأولياء العارفين، مؤسس الطريقة العيدروسية، من مدينة (تريم) في حضرموت، مات فيها سنة (865هـ).

([272]) الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر من مجموعة (إيضاح أسرار علوم المقربين)، (ص:76).

([273]) الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر، من مجموعة (إيضاح أسرار علوم المقربين)، (ص:76، وما بعدها).

([274]) مؤسس الطريقة المجددية النقشبندية، هندي مات سنة (1034هـ).

([275]) المنتخبات من المكتوبات، (ص:10).

([276]) دمشقي، توفي في دمشق سنة (1143هـ).

([277]) شرح رسالة الشيخ أرسلان، (ص:75، 76).

([278]) يشير بكلمة (ليلى) إلى الحق سبحانه عما يصفون.

([279]) شرح رسالة الشيخ أرسلان، (ص 80، 81).

([280]) شرح رسالة الشيخ أرسلان، (ص:107).

([281]) شرح رسالة الشيخ أرسلان، (ص:175، 176).

([282]) أبو البركات أحمد بن محمد بن أحمد العدوي المالكي الشاذلي الخلوتي الملقب بالدردير مات في القاهرة سنة (1201هـ).

([283]) كتاب الأوراد الخلوتية (الصلوات الدرديرية).

([284]) كتاب الأوراد الخلوتية (الصلوات الدرديرية).

([285]) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية، (ص:125، وما بعدها).

([286]) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية، (ص 125، وما بعدها).

([287]) حاشية العلامة الصاوي شرح الخريدة، (ص:134).

([288]) أحمد بن عجيبة الدوريس الشاذلي الفاسي، توفي سنة (1224هـ).

([289]) إيقاظ الهمم، (ص:64، 65).

([290]) إيقاظ الهمم، (ص:66).

([291]) إيقاظ الهمم، (ص:199).

([292]) إيقاظ الهمم، (ص:157).

([293]) إيقاظ الهمم، (ص:166).

([294]) إيقاظ الهمم (ص:184).

([295]) إيقاظ الهمم (ص:186).

([296]) إيقاظ الهمم، (ص:201).

([297]) الفتوحات الإلهية، (ص:342).

([298]) إيقاظ الهمم، (ص:419).

([299]) إيقاظ الهمم، (ص:297).

([300]) الفتوحات الإلهية، (ص:455، 456).

([301]) أبو الفياض ولي الله أحمد بن أبي الفيض عبد الرحيم الدهلوي (نسبة إلى دهلي) شيخ محدثي الهند في القرون الأخيرة، توفي سنة (1176هـ).

([302]) الخير الكثير، (ص:106).

([303]) الخير الكثير، (ص:104، 105).

([304]) الخير الكثير، (ص:21).

([305]) صدر الدين محمد بن إسحاق القونوي تلميذ ابن عربي وابن زوجته، له مكاتبات مع نصير الدين الطوسي وزير هولاكو، مات في قونية سنة (673هـ-1275م).

([306]) الخير الكثير، (ص:37).

([307]) نور الدين، عبد الرحمن بن أحمد الجامي، ولد في جام من بلاد ما وراء النهر، وتوفي في هراة سنة (898هـ-1492م).

([308]) الخير الكثير، (ص:38).

([309]) شيخ مشايخ الإسلام ورئيس العلماء الأعلام، شيخ الفريقين وإمام الطريقين أحمد بن زيني الدحلان، ولد في مكة وتوفي في المدينة سنة (1304هـ-1886م).

([310]) تقريب الأصول لتسهيل الوصول، (ص:216، 217).

([311]) تقريب الأصول لتسهيل الوصول، (ص:266).

([312]) شيخ الجامع الأزهر حتى سنة (1870م)، مات سنة (1876م) الموافق لـ(1293هـ).

([313]) وردت في الكتاب (فهو العلم والقلم والمعلَّم) وهي غلطة مطبعية كما هو واضح.

([314]) وردت في الكتاب (المحكم)، وهي غلطة مطبعية كما هو واضح.

([315]) حاشية العروسي، (ص:2).

([316]) نتائج الأفكار القدسية، (حاشية العروسي)، (ص:5).

([317]) نتائج الأفكار القدسية: (1/8).

([318]) نتائج الأفكار القدسية (2/20).

([319]) الأستاذ الفاضل والعالم الكامل الشيخ عبد الرزاق القاشاني، توفي بعد سنة (730هـ)، وكان محله أن يرد في مكان سابق حسب تاريخ وفاته، لكني أوردته هنا لأنني لم أعثر على ترجمة له، ولم أعرف تاريخ وفاته، وظننت أنه من أحياء القرن الثالث عشر هجري، فأوردته هنا، ثم عثرت على كتاب آخر له هو رشح الزلال في شرح الألفاظ المتداولة بين أرباب الأذواق والأحوال، وقد ذكر المحقق في مقدمته أنه توفي بعد سنة (730هـ)، وهو شيعي (حسب الصوفية بين الأمس واليوم (ص:136)، وكتبه مقدسة عند جميع المتصوفة السنة والشيعة.

([320]) شرح فصوص الحكم للقاشاني (ص:152).

([321]) شرح الفصوص للقاشاني، (ص:156).

([322]) شرح الفصوص للقاشاني، (ص:288).

([323]) من شيوخ الطريقة الخلوتية عاش في مصر وأخذ عن الدردير، مات في سنة (1241) في مصر.

([324]) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية، (ص:60).

([325]) الشيخ حسن رضوان من كبار القوم، مصري توفي عام (1310هـ)، ومنظومته هذه كما يقول زكي مبارك، تقرب من اثني عشر ألف بيت، وربما كانت أعظم منظومة في قواعد التصوف.

([326]) من كتاب التصوف الإسلامي لزكي مبارك: (1/260).

([327]) التصوف الإسلامي لزكي مبارك: (1/265).

([328]) التصوف الإسلامي لزكي مبارك (10/260).

([329]) فصل الخطاب. (ص:224).

([330]) فصل الخطاب: (ص:54).

([331]) فصل الخطاب: (ص:62).

([332]) المجموعة النادرة، (ص:225).

([333]) المجموعة النادرة، (ص:291).

([334]) المجموعة النادرة، (ص:303).

([335]) المجموعة النادرة، (ص:289 و290).

([336]) بوارق الحقائق، (ص:328).

([337]) بوارق الحقائق، (ص:326).

([338]) بوارق الحقائق، (ص:340).

([339]) بوارق الحقائق، (ص:110).

([340]) بوارق الحقائق، (ص:109).

([341]) الشيخ علي نور الدين اليشرطي، مغربي هاجر إلى عكا، وأسس الطريقة الشاذلية اليشرطية، مات عام (1316هـ).

([342]) نفحات الحق، (ص 69).

([343]) نفحات الحق، (ص 70).

([344]) نفحات الحق، (ص:97، 98).

([345]) نفحات الحق، (ص:98).

([346]) نفحات الحق، (ص:98).

([347]) نفحات الحق، (ص:98، 99).

([348]) نفحات الحق، (ص:99).

([349]) نفحات الحق، (ص:99).

([350]) نفحات الحق، (ص:110).

([351]) نفحات الحق، (ص:134).

([352]) نفحات الحق، (ص:163).

([353]) نفحات الحق، (ص:225).

([354]) نفحات الحق، (ص:235).

([355]) محمد بهاء الدين البيطار الشامي الميداني، من شيوخ الطريقة الرشيدية، مات سنة (1314هـ).

([356]) الاسم: عزرائيل لم يرد في قرآن ولا في سنة صحيحة، وقد عبر إلى كتب المسلمين من اليهودية بواسطة المتصوفة.

([357]) النفحات الأقدسيه، (ص:5، 6).

([358]) النفحات الأقدسية، (ص:3).

([359]) النفحات الأقدسية، (ص:113).

([360]) النفحات الأقدسية، (ص:280).

([361]) هذه الجملة بين الحاصرتين هي من الصلوات الأحمدية الإدريسية التي هي من أوراد الطريقة الرشيدية.

([362]) النفحات الأقدسية، (ص:281).

([363]) مؤسس الطريقة الشاذلية الفيضية في مصر، أسس الكلية الصوفية عام (1927م)، وبقيت حتى عام (1933م)، ثم أصدر مجلة البهلول.

([364]) معالم الطريق إلى الله، (ص:43).

([365]) معالم الطريق إلى الله، (ص:404).

([366]) معالم الطريق إلى الله، (ص:262).

([367]) بداية الطريق إلى مناهج التحقيق، (ص:66). والواقع أن نص الغزالي هذا مسروق، أو منقول نقلاً شبه حرفي من كتاب: قوت القلوب، وكذلك نصوص كثيرة غيره.

([368]) شرح القاشاني، (ص:4).

([369]) شيخ الطريقة الشاذلية الدرقاوية في حلب.

([370]) حقائق عن التصوف (ص:552)، وللعلم، يقال: إن كتاب (حقائق عن التصوف) هو من تأليف أحد تلاميذ الشيخ، نسبه إلى شيخه طلباً للقربى والوصول.

([371]) حقائق عن التصوف، (ص:552).

([372]) حقائق عن التصوف، (ص:552، 553).

([373]) حقائق عن التصوف، (ص:553).

([374]) حقائق عن التصوف، (ص:380).

([375]) حقائق عن التصوف، (ص:393).

([376]) حقائق عن التصوف، (ص:209).

([377]) حقائق عن التصوف، (ص:280، 281).

([378]) حقائق عن التصوف، (ص:59).

([379]) حقائق عن التصوف، (ص:60).

([380]) حقائق عن التصوف، (ص:14).

([381]) حقائق عن التصوف، (ص:66).

([382]) حقائق عن التصوف، (ص:127).

([383]) شرح دعاء السحر، (ص:78).

([384]) شرح دعاء السحر، (ص:67).

([385]) شرح دعاء السحر، (ص:84).

([386]) شرح دعاء السحر، (ص:113).

([387]) تربيتنا الروحية، (ص:298).

([388]) تربيتنا الروحية، (ص:303).

([389]) تربيتنا الروحية، (ص:317).

([390]) تربيتنا الروحية، (ص:79).

([391]) الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية، (ص:16).

([392]) الفيوضات الربانية (عقيدة الغوث الأعظم)، (ص:41).

([393]) الفيوضات (ورد الصبح)، (ص:115).

([394]) الفيوضات (ورد العشاء)، (ص:138).

([395]) الفيوضات (ورد الاثنين)، (ص:143).

([396]) الفيوضات (ورد الاثنين)، (ص:144).

([397]) الفيوضات (ورد الأربعاء)، (ص:145).

([398]) الفيوضات (ورد صلاة الكبرى)، (ص:158).

([399]) الفيوضات (ورد صلاة الكبرى)، (ص:158).

([400]) الفيوضات (ورد صلاة الكبرى)، (ص:167).

([401]) الفيوضات، (ص:177).

([402]) الفيوضات، (حزب الحفظ)، (ص:183، 184).

([403]) قلادة الجواهر، (ص:251).

([404]) قلادة الجواهر، (ص:263).

([405]) بوارق الحقائق، (ص:326).

([406]) بوارق الحقائق، (ص:328).

([407]) بوارق الحقائق، (ص:340).

([408]) ميزاب الرحمة الربانية، (ص:23).

([409]) الميزاب، (ص:25).

([410]) أحد علماء الأزهر، عاش إلى ما بعد سنة (1343هـ)، ولم أقف على أكثر من هذه المعلومات، إلا أنه كان خليفة الشيخ أمين الكردي.

([411]) تنوير القلوب، ترجمة المؤلف، (ص:42).

([412]) بغدادي، من خلفاء الخالدية، نسبة إلى الشيخ خالد النقشبندي، توفي سنة (1234هـ).

([413]) الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية، (ص:107).

([414]) السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية، (ص:34).

([415]) السعادة، (ص:34، 35).

([416]) السعادة، (ص:35).

([417]) النفخة العلية في الأوراد الشاذلية، (ص:16).

([418]) النفحة العلية، (ص:18).

([419]) النفحة العلية، (ص:24، 25، 26).

([420]) النفحة العلية، (ص:144).

([421]) النفحة العلية، (ص:155).

([422]) مجموع أوراد الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية، (ص:3).

([423]) مجموع أوراد الخلوتية، (حرف التاء).

([424]) مجموع أوراد الخلوتية، (حرف الراء).

([425]) مجموع أوراد الخلوتية، (حرف الصاد).

([426]) مجموع أوراد الخلوتية، (حرف النون).

([427]) مجموع أوراد الخلوتية، (حزب السين).

([428]) مجموع أوراد الخلوتية، (حرف الهمزة).

([429]) مجموع أوراد الخلوتية (منظومة أسماء الله الحسنى).

([430]) النفحات الأقدسية، (ص:16، 17).

([431]) النفحات الأقدسية، (ص:58).

([432]) النفحات الأقدسية، (ص:61).

([433]) النفحات الأقدسية، (ص:62).

([434]) النفحات الأقدسية، (ص:63).

([435]) النفحات الأقدسية، (ص:66).

([436]) النفحات الأقدسية، (ص:69).

([437]) النفحات الأقدسية، (ص:76).

([438]) النفحات الأقدسية، (ص:79).

([439]) النفحات الأقدسية، (ص:80).

([440]) النفحات الأقدسية، (ص:102).

([441]) النفحات الأقدسية، (ص:104).

([442]) النفحات الأقدسية، (ص:106).

([443]) النفحات الأقدسية، (ص:107).

([444]) النفحات الأقدسية، (ص:109).

([445]) النفحات الأقدسية، (ص:118).

([446]) النفحات الأقدسية، (ص:125).

([447]) النفحات الأقدسية، (ص:227).

([448]) النفحات الأقدسية، (ص:231).

([449]) النفحات الأقدسية، (ص:281).

([450]) كان هذا في لقاء بينهما عام 1974م في قرية (صوفي آباد) وهي لا تبعد كثيراً عن طهران.

([451]) من الفكر الصوفي الإيراني المعاصر، (ص:68). وابن طفيل فيلسوف أندلسي مشهور، وهو مؤلف كتاب: حي بن يقظان.

([452]) دلائل الخيرات، (ص:15).

([453]) دلائل الخيرات، (ص:223).

([454]) دلائل الخيرات، (ص:233).

([455]) أخبار الحلاج، (ص:57).

([456]) ليستقيم الوزن يجب أن تكون (كذا كنت قدماً أو حيناً)...

([457]) كلمة (بلى) يشير بها إلى الآية: ((وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى...)) [الأعراف:172].

([458]) الأبيات، التائية الكبرى.

([459]) اللمع، (ص:541).

([460]) معالم الطريق إلى الله، (ص:410).

([461]) إيقاظ الهمم، (ص:45، 46).

([462]) مرت في صفحة سابقة.

([463]) مر هذا في الأبيات المنقولة من تائيته في صفحة سابقة.

  • الاربعاء PM 03:24
    2021-08-11
  • 12813
Powered by: GateGold