المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413675
يتصفح الموقع حاليا : 216

البحث

البحث

عرض المادة

تقويض الأيديولوجية الصهيونية من خلال الاستهلاكية (والأمركة والعولمة والخصخصة والعلمنة)

تقويض الأيديولوجية الصهيونية من خلال الاستهلاكية (والأمركة والعولمة والخصخصة والعلمنة)
Erosion of Zionist Ideology through Consumerism (and Americanization, Globalization, Privatization, and Secularization)
تسبَّبت الأزمة الصهيونية في ظهور أزمة أيديولوجية عميقة، فعبد أن طرح الصهاينة فكرة اليهودي الخالص، كما أسلفنا، وجدوا أن يهود المنفى شخصيات مريضة شاذة غير سوية. وهذا الشذوذ، ومن وجهة نظرهم، له مظهران أساسيان: أحدهما اقتصادي والآخر سياسي. أما المظهر الاقتصادي فيتضح في عدم إنتاجية اليهود واشتغالهم بأعمال السمسرة والمضاربات والأعمال الهامشية غير المنتجة مثل التهريب والأعمال المالية والعقارات وتجارة الرقيق الأبيض. أما المظهر السياسي، فيتلخص فيما يُطلَق عليه إشكالية العجز بسبب افتقاد السلطة أو السيادة. فالصهاينة يرون أنه بعد تحطيم الهيكل الثاني عام 70 ميلادية، أصبح اليهود جماعات مشتتة تشتغل بالتجارة والربا وتُوجَد خارج نطاق مؤسسات صنع القرار دون أن تساهم في صياغته، وتفتقر إلى أية سيادة سياسية مستقلة، الأمر الذي كان يعني ـ من وجهة نظر الصهاينة ـ توقُّف مسار التاريخ اليهودي.


وقد طرح الصهاينة رؤيتهم للمجتمع اليهودي المثالي (أي التجمُّع الصهيوني) كجزء من مشروع حضاري متكامل يهدف إلى تطبيع الشخصية اليهودية (وهذا في واقع الأمر أول استخدام للمصطلح في الأدبيات الصهيونية). والتطبيع هنا يعني الشفاء من عقلية الاستجداء الاقتصادي من الغير أو الأغيار ومن الاعتماد السياسي عليهم، كما يعني عدم الانغماس في أعمال اسمسرة والمضاربات والأعمال الهامشية غير المنتجة والتحول إلى شعب يهودي منتج بمعنى الكلمة يسيطر على كل مراحل العملية الإنتاجية، وبالتالي على مصيره الاقتصادي والسياسي. وقد عبَّر بوروخوف عن القضية نفسها بقوله إن الحل الصهيوني هو أن يقف الهرم الإنتاجي على قاعدته فيتركز اليهود في العمليات الإنتاجية (في قاعدة الهرم)، ويعملون بأيديهم، وتصبح أغلبيتهم من العمال والفلاحين. أما المهنيون والعاملون في القطاعين التجاري والمالي، فإنهم يصبحون قلة على قمة الهرم، شأنهم في هذا شأن أي مجتمع آخر. وهذا ما يُطلَق عليه اصطلاحًا «العمل العبري» و«غزو الأرض والعمل والحراسة والإنتاج»، أي أن يستولي الصهيوني على الأرض ويعمل فيها بيده ويسيطر على مراحل الإنتاج كافة، وهو إن فعل هذا يكن قد أنجز الثورة الصهيونية الحقة، فاستولى على الأرض وزرعها، وعلى الهيكل الاقتصادي وعمل فيه، وعلى الهيكل السياسي وتَحكَّم فيه، وتحوَّل هو نفسه من شخصية هامشية إلى شخصية منتجة، أي أنه يكون قد تم تطبيعه تمامًا. ومن هنا، يكون الاستيطان الإحلالي (الاستيلاء على الأرض وطرد سكانها والعمل فيها) لا فعلاً خارجيًا يحمل مدلولاً محدودًا وإنما هو فعل شامل ذو أبعاد سياسية وقومية، وفي نهاية الأمر نفسية، وهو أيضًا يحل مشكلة المعنى بالنسبة للصهاينة ويعقلن وجودهم في فلسطين التي تلفظهم ويقاتل أهلها ضددهم.

لكن، وبعد مرور ما يقرب من خمسين عامًا على تأسيس الدولة الصهيونية، يمكن القول بأنها أبعد ما تكون عن قصة النجاح الموعود. أما على مستوى السيادة السياسية، فالمستوطن الصهيوني يضطر دائمًا نتيجة وضعه للاعتماد على قوة خارجية تضمن له البقاء والاستمرار من خلال الدعم العسكري والسياسي المستمرين، وهو ما يفرغ مفهوم السيادة من مضمونه تمامًا.

والدعم الاقتصادي للدولة الصهيونية يحل مشاكلها الاقتصادية ولكنه تذكير يومي للمواطن الإسرائيلي بأن الصهيونية لم تنجح في تطبيع اليهود وفي شفائهم من أمراض المنفى. فالمُستوطن الصهيوني أصبح شخصية استهلاكية، ولم يتحول إلى شخصية منتجة يعمل بيديه ويتواجد في مختلف المراحل الإنتاجية. فإنتاجية العامل الإسرائيلي تعادل نصف إنتاجية العامل الأمريكي، وهو أقل إنتاجية من عمال الدول الصناعية كلها (باستثناء إيطاليا). ويتبدَّى تقلُّص الإنتاجية الإسرائيلية في تقلص القطاع الإنتاجي وتضخُّم قطاع الخدمات. وقد لاحَظ أمنون روبنشتاين، أنه في عام 1945، أي قبل إعلان الدولة، كان عدد اليهود المشتغلين بأعمال إنتاجية هو 24%. وبعد إعلان الدولة، وقف الهرم الإنتاجي على قاعدته، وبلغ عدد اليهود المشتغلين بوظائف إنتاجية 69%. ولكن بعد مرور مائة عام على الاستيطان الصهيوني والممارسة الصهيونية، هبطت النسبة مرة أخرى إلى 23%.

وقد ساهمت الانتفاضة المجيدة في فضح العدو أمام نفسه، إذ ثبت أن العمالة العربية المنتجة لا تزال قائمة على أرض فلسطين قبل بعد عام 1948. ولم يحاول المجتمع الصهيوني أن يحل مشكلة العمالة من الداخل، أو حتى بالتوجه إلى الضمير اليهودي العالمي، وإنما حاول حلها عن طريق استيراد العمالة، وكأن الحديث عن زيادة الإنتاجية والعمل العبري قد تبخَّر جميعًا حتى على مستوى الديباجات اللفظية.

وتعبِّر أزمة الإنتاجية عن نفسها في تفشي المضاربات في صفوف الإسرائيليين. وقد ظهر أن المصارف الأساسية في إسرائيل، وكذلك قطاع كبير من المواطنين العاديين، متورطون في عمليات مضاربة تضمن لهم أرباحًا ثابتة بضمان الحكومة دون بذل أيِّ جهد ودون مخاطرة كبيرة، وهذه هي عقلية الوسيط الطفيلي. وقد كُشف النقاب عن أن بعض الكيبوتسات متورطة هي الأخرى في أعمال السمسرة والمضاربات. وقد تزايدت معدلات الجريمة في إسرائيل بشكل مذهل. ويُلاحَظ انتشار المخدرات والأمراض النفسية والبغاء.

والفشل الأيديولوجيوتآكل الأيديولوجية يُولِّد ما يُسمَّى «أزمة المعنى». وعادةً ما تؤدي أزمة المعنى إلى إحساس بالعدمية يحاول الإنسان التغلب عليه من خلال الاستغراق في عنصر مادي بشكل كامل (شرب المخدرات ـ الإباحية ـ الاستهلاك) يبحث الإنسان فهي عن قدر من اليقين. لكن ما يحدث هو العكس إذ أن تصاعُد الاستهلاك وإغراق الحواس فيه يزيد أزمة المعنى بدلاً من تهدئتها، ويزداد بذلك تآكُل الأيديولوجية وتقويضها.

وتوجد عناصر أخرى في بنية المجتمع الاستيطاني الصهيوني (الاستهلاكية) تصعد هذا الاتجاه.

1 ـ لوحظ أن المجتمعات العلمانية تمر بمرحلتين: مرحلة تقشفية تراكمية (صلبة)، وأخرى استلهاكية فردوسية (سائلة). وتنتمي المجتمعات الاستيطانية إلى نفس النمط، بل إن تحقق النمط في حالتها يتسم بقدر أعلى من الحدة والتطرف. فالمجتمعات الاستيطانية تبدأ هي الأخرى بمرحلة تقشفية حادة تتطلب التنظيم الصارم وضبط النفس وإنكارها بل التضحية والقتال المستمر (ضد الطبيعة المعادية والسكان المعادين)، وهي مرحلة تتسم بالأشكال الاقتصادية الجماعية والملكية الجماعية أو شبه الجماعية للأشياء وتضخُّم القطاع العسكري وتغلغله في كل القطاعات الأخرى. وهذه المرحلة هي المرحلة التقشفية التراكمية التي يتم فيها الاستيلاء على الأرض وكذلك طرد السكان الأصليين وإبادتهم ومراكمة رأس المال.

 ولكن كل هذا يتـم، منذ البداية، باسم الهدف النهـائي والقيمة المرجعية النهائية والمطلق العلماني الأوحد، أي تحقيق الذات وتعظيم اللذة، وكل ما يتم من إرجاء لإشباع الغرائز إنما يتم باسم الاستهلاك الآجل. وإذا كانت مرحلة التقشف حادةً في تقشفها، فالمرحلة الاستهلاكية في المجتمعات الاستيطانية لا تقل عنها حدة. ويعود هذا إلى أن المُستوطن إنسان تَرَك وطنه واقتُلع من جذوره ليحقق حراكًا احتماعياً ومزيدًا من الاستهلاك، وانتقل إلى مجتمع استيطاني يظن أنه الفردوس الأرضي الموعود. والمهاجر المستوطن يرفض تقاليد وطنه أو يتركها وراءه أو يجمدها، وهو يقوم عادةً بعملية الاستيطان في غياب أية مؤسسات دينية، وإن وجُدت فهو عادةً يسيطر عليها ويوظفها لتقوم بعملية تسويغ عمليات الإبادة والطرد التي يقوم بها. وهو، إلى جانب كل هذا، لا يتبنَّى التقاليد الدينية والثقافية والاجتماعية للسكان المحليين وإنما يقوم بتحطيمها، ولذا فإنه يصبح كيانًا عاريًا تمامًا أمام المادة (والتجربة الاستيطانية الغربية هي بهذا المعنى تجربة علمانية مكثفة). ويعني كل هذا، في نهاية الأمر، أن قيم المنفعة واللذة تكون في مثل هذه المجتمعات في حالة تَرقُّب وانتظار لتتحقق وتكتسح المطلقات كافة في طريقها مع تزايد معدلات العلمنة.

والمُستوطَن الصهيوني لا يشكل استثناء من القاعدة، فقد بدأ بمرحلة ريادة مسلحة تقشفية وانتهى إلى مرحلة استهلاكية فردوسية. ولكن عملية الانتقال إلى المرحلة الثانية تمت بسرعة أكثر من المتوقع لأن المستوطنين الصهاينة كانوا منذ البداية مموَّلين من الخارج من قبَل اللورد روتشيلد، ثم زاد الدعم والتمويل بعد عام 1917 من قبَل المنظمة الصهيونية العالمية. ولكن فترة الريادة المسلحة لم تكن تقشفية بالقدر الكافي ولم تكن تراكمية على الإطلاق، وكانت تحوي داخلها قدرًا عاليًا من اللذة الآنية والسعار الاستهلاكي والرغبة الجامحة في تحقيق الذات. وبعد إنشاء الدولة، زاد الدعم من الخارج بدرجة لم يشهدها التاريخ الإنساني من قَبْل، وهو ما أدَّى إلى زيادة حدة التوقعات الاستهلاكية، وإلى إضعاف المقدرة على التقشف وعلى إرجاء المتعة.

 

 ولذا، فحينما حققت إسرائيل انتصارًا في عام 1967، أي بعد نحو 20 عامًا وحسب من تأسيس الدولة، تفجرت الرغبات الاستهلاكية وزاد النزوع نحو اللذة وارتفعت التوقعات وانخفضت المقدرة على التحمل إذ شعر المستوطنون الصهاينة أن المرحلة التقشفية قد انتهت وأن الوقت قد حان لدخول مرحلة الاستهلاك والسلع المستوردة، وهذا يعني أن ارتفاع معدلات العلمنة في المجتمع أدَّى إلى اكتساح القيم، والمطلقات كافة، ومعها المطلق الصهيوني نفسه وسائر آليات ضبط النفس التي تتم في إطاره، وذلك قبل أن يضرب المجتمع بجذوره وقبل أن يؤسِّس بنيته التحتية. ولذا، تزايدت معدلات الأمركة في المجتمع، وضَعُفت مقدرة المستوطنين على تحمُّل المشاق. ومع تَفجُّر الانتفاضة تصاعدت حدة أزمة المجتمع الصهيوني.

لكل هذا تغيَّرت الأنماط الإدراكية في المجتمع فتراجع نموذج الكيبوتسنيك (عضو الكيبوتس) وظهر نموذج روش قطان، أي المواطن ذو الرأس الصغير والمعدة الكبيرة.

ونظرًا للتوجُّه نحو اللذة في التجمُّع الصهيوني نجد أن المفهوم القديم للمستوطن الصهيوني باعتباره رائدًا يمسك المحراث بيد والبندقية بالأخرى قد تآكل، وظهر نوع جديد من المستوطنين الذين يبحثون عن الحراك الاجتماعي وعن رفع مستوى معيشتهم. ولذا يُلاحَظ أن المستوطنات الجديدة في الضفة الغربية مختلفة عن المستوطنات القديمة، فلا توجد فيها أي مظهر من مظاهر التقشف وإنما توجد فيها منازل فاخرة وحمامات سباحة وكل أشكال الرفاهية. والدعوة إلى الاستيطان فيها لا تأخذ شكل شعارات دينية أو حتى شبه دينية ولا أيديولوجية (أو حتى شبه أيديولوجية) وإنما هي دعوة سافرة للاستهلاك، فإحدى الإعلانات تتحدث عن فيلا واسعة، في موقع جميل، بنصف ثمن الفيلات المماثلة داخل حدود 67 ولكنها مع هذا تقع على بُعد ثلاثين دقيقة من وسط القدس ونتانيا وتل أبيب.

وهذه البيوت الاستيطانية الفارهة لا يقوم المستوطنون بحراستها إذ يتولَّى الجيس الإسرائيلي هذه المهمة بالنيابة عنهم. ولذا بدلاً من أن تكون المستوطنات هي المواقع العسكرية الأمامية للقوات الصهيونية أصبحت تشكل عبئًا عسكريًا عليه. ولذا فقد أطلقنا على هذا النوع من الاستيطان «الاستيطان مكيف الهواء»، وهو يعكس واقع الحياة في إسرائيل أكثر من الشعارات الصهيونية الكاذبة التى تطلقها أبواق الدعاية الصهيونية.

2 ـ لا شك فى أن كون المجتمع الصهيوني مجتمع مهاجرين يعني أن هناك دائمًا جماعات بشرية جديدة تفد على المجتمع وتصعِّد من سعاره الاستهلاكي، كما حدث مع وصول المهاجرين السوفييت.

3 ـ مما يساعد على تفشي النزعة الاستهلاكية ظاهرة الأمركة، والأمركة هي أسلوب حياة جوهره اتخاذ موقف برجماتي ينصرف عن الكليات والمبادئ ليركز على التفاصيل وحل المشاكل المباشرة، ويعتمد العنف آلية أساسية من آليات حل الصراع، ويركز على الفرد بالدرجة الأولى وتأكيد ضرورة الإشباع الفوري.

وعلاقة إسرائيل بالولايات المتحدة علاقة خاصة وعميقة. فكلاهما مجتمع استيطاني مبني على محو تاريخ الآخر وإبادته وطرده. وكلاهما يستند إلى أسطورة الاستيطان الغربية (صهيون الجديدة). وإلى جانب هذه العلاقة الحضارية شبه الدينية، توجد العلاقة السياسية العملية وهي أن الولايات المتحدة هي الراعي الإمبريالي للدولة الصهيونية الوظيفية التي تدعمه وتموله وتضمن بقاءه واستمراره، وهي تضم أكبر تجمُّع يهودي في العالم (يفوق في حجمه التجمُّع الصهيوني نفسه). وهي بغير شك علاقة تخلق تبادلاً اختياريًا وتربة خصبة للأمركة. هذا بطبيعة الحال إلى جانب الاتحاه العام في كل مجتمعات العالم نحو الأمركة مع تصاعُد معدلات العلمنة وتفشي النسبية الأخلاقية. والأمركة تعني تآكل الجذور وتساقط الحدود الأمر الذي يصعِّد السعار الاستهلاكي.

4 ـ والأمركة مرتبطة تمام الارتباط بالعولمة التي لها نفس الأثر في التجمُّع الصهيوني، فالإنسان الذي يفقد جذوره الإثنية والدينية يميل بشكل أكبر نحو الاستهلاك، لأن استهلاك السلع يصبح السبيل إلى تحقيق الفردوس الأرضي. وفي إطار العولمة تصبح السلع العالمية (أي الأمريكية) هي رمز هذه الجنة الجديدة.

وهذه الظواهر موجودة في كل المجتمعات ولكن أثرها السلبي أعمق في التجمُّع الصهيوني لأنه مجتمع يستند عقده الاجتماعي إلى أيديولوجية تشكل الهوية عصبها وعمودها الفقري.

5 ـ ويرتبط بكل هذا الاتجاه نحو الخصخصة، فالخصخصة تعني أن نقطة البدء هي الفرد وليس المجتمع، وأن المشروع الفردي يسبق المشروع القومي. ومثل هذا الموقف يزيد بغير شك حدة السعار الاستهلاكي. وللخصخصة أعمق الأثر في التجمُّع الصهيوني باعتباره تجمُّعًا استيطانيًا لابد أن ينظم نفسه تنظيمًا جماعيًا ليضمن لنفسه البقاء والاستمرار أمام مقاومة أصحاب الأرض.

 

  • الثلاثاء AM 11:58
    2021-05-18
  • 1319
Powered by: GateGold