المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409003
يتصفح الموقع حاليا : 255

البحث

البحث

عرض المادة

الإســتراتيجية والأمـــن القومـــي: مشــكلة التعـــريف

الإســتراتيجية والأمـــن القومـــي: مشــكلة التعـــريف
Strategy and National Security: Problem of Definition

ثمة عائلة من المصطلحات التي يصعب تحديد مدلولها بدقة نظراً لتداخلها وتشابكها. وتُشكِّل هذه المصطلحات طيفاً أو متصلاً بين نقطتين أقصى أحد طرفيه "السياسة العليا للدولة" والطرف الآخر "الإستراتيجية العسكرية". وإذا كانت السياسة العليا تمثل أعلى درجات السياسي والقومي وأكثرها تجريداً، فإن الإستراتيجية العسكرية تمثل العسكري والإجرائي.

وإذا حاولنا تصوُّر نقط الطيف المختلفة لقلنا إن «السياسة العليا» للدولة هي السياسة التي تعبِّر عن العقد الاجتماعي السائد في المجتمع وعن ثوابته وأيديولوجيته وأهدافه الكبرى ورؤية النخبة الحاكمة (التي تقبلها غالبية أعضاء المجتمع) للأرض والشعب والحدود وهوية العدو وهوية الصديق.

تأتي بعد ذلك «الإستراتيجية العليا» وهي الخطط العامة المدروسة التي تعالج الوضع الكلي للدولة من خلال الاستخدام الأمثل لجميع مصادر القوة المتاحة حتى يتسنى تحقيق الأهداف الكبرى لهذه الدولة، وتنسيق جميع إمكاناتها الاقتصادية والبشرية (أي القوة القومية) لتلبية أهداف الأمن القومي، كما حددته السياسة العليا، ضمن كل الظروف الممكن تصوُّرها، سواء في حالة الحرب أو السلم. ففي حالة السلم يكون هدف الإستراتيجية العليا دعم القوى المعنوية، وتنظيم توزيع الأدوار بين مختلف المرافق، والحفاظ على تماسك المجتمع ضد الظواهر الداخلية التي قد تهدد هذا التماسك (ظاهرة المخدرات في الولايات المتحدة ـ الهجرة غير الشرعية في كثير من المجتمعات الأوربية).

أما «الأمن القومي» لأية دولة فهو دفاع ووقاية ضد الأخطار الخارجية مثل وقوع الدولة تحت سيطرة دولة أخرى أو معسكر أجنبي أو اقتطاع جزء من حدودها أو التدخل في شئونها الداخلية لتحقق دولة خارجية صالحها. وفي حالة الحرب هو الذي يحدد أعضاء التحالف المشترك في الحرب بقصد تحقيق الهدف السياسي للحرب وهو الذي يخطط للسلم الذي يعقب الحرب. وبهذا المعنى فمفهوم الأمن القومي مفهوم متعدِّد الأبعاد يمثل نواحي عسكرية واقتصادية واجتماعية.

ويتفرع من كل هذا ما يُسمَّى «العقيدة العسكرية» وهي تعبر عن تصورات القيادة السياسية/العسكرية العليا لطبيعة الحرب التي تتوقع خوضها في المستقبل سواء من ناحية النتائج السياسية أو الإجراءات العسكرية. ومن ثم فالعقيدة العسكرية تشمل تصوُّر الدولة المعنية لأسلوب الاستعداد للحرب اقتصادياً ومعنوياً، وكذلك كيفية إنشاء وتجهيز القوات المسلحة وطرق إدارة الحرب. وهي تعتمد بصورة مباشرة على البنية الاجتماعية للدولة وعلى حالتها السياسية. وفي إسرائيل يذهب كثير من العسكريين إلى الإشارة إلى «العقيدة العسكرية» باعتبارها «نظرية الأمن».

وتتفرع عن العقيدة العسكرية ما يُسمَّى «الإستراتيجية العسكرية» (أو سياسة الحرب) وهي الإستراتيجية أو السياسة التي توجِّه الحرب (مقابل الإستراتيجية العليا التي تحكم هدف الحرب) وتضع المخططات اللازمة لتحقيق النصر العسكري مهتدية في ذلك بمبادئ العقيدة العسكرية.

وبدلاً من أن نتوه في فوضى المصطلحات فإننا سنتصور أنها كلها تكوِّن متصلاً أو كلاً غير عضوي، أي مليئاً بالثغرات، أقصى أطرافه السياسة العليا للدولة (والعقد الاجتماعي للمجتمع) ومن الناحية الأخرى الإستراتيجية العسكرية. ونحن سنستبعد السياسة العليا للدولة الصهيونية باعتبار أن هذا المجلد في معظمه يتناول الثوابت الأيديولوجية الصهيونية. وسنفترض وجود نقطتين أساسيتين: الإستراتيجية والأمن القومي. والإستراتيجية في تصوُّرنا ستقترب من السياسي والأيديولوجي، أما الأمن القومي فسيقترب من العسكري والإجرائي. ورغم الفصل بين المصطلحين فإنهما متداخلان، فنحن سنتعامل هنا مع السياسي في علاقته بالعسكري، وكذلك مع العسكري في علاقته بالسياسي.

إستراتيجية إسرائيل المستقبلية
Israel's Future Strategy
إن إستراتيجية إسرائيل المستقبلية تدور حول منطقين كلاهما يكمل الآخر: الأول شل المخاطر التي تواجهها، والثاني العمل على تحقيق أهدافها الصهيونية لابالمعنى الذي وضعه آباء الصهيونية الأوائل،ولكن بالمعنى الذي يفرضه الواقع المعاصر.


من هذا المنطلق علينا أن نفصل ونميز في الأهداف القومية لإسرائيل بين ستة مداخل أساسية:

1 ـ تجزئة الدول العربية وبلقنة الوطن العربي.

2 ـ تمكين الدولة اليهودية النقية من التكامل.

3 ـ تحويل إسرائيل إلى قلعة صناعية ودولة خدمات سياحية.

4 ـ ربط الاقتصاد العربي بالاقتصاد الإسرائيلي من منطلق السيطرة ومبدأ التبعية.

5 ـ تجزئة دول المنطقة غير العربية.

6 ـ تحويل القدس إلى عاصمة عالمية: مصرفية وصناعية.

إن إسرائيل تواجه مجموعة من المخاطر التي لا يجوز الاستهانة بها وهي لن تقف صامتة إزاء تلك المخاطر.

وأول أهداف السياسة الإسرائيلية في الأعوام القادمة هو بلقنة المنطقة العربية.فالقناعة الإسرائيلية هي أنها لن يحميها في الأيام القادمة إلا تجزئة الدول العربية، أي ضمان أمني أو اتفاقية مع الدول العظمى لتكون لها قيمة. فهي تعلم أنه في الأمد البعيد إذا ظل الوضع على ما هو عليه، فإن الولايات المتحدة سوف تنتهي بأن تجد مصالحها مهددة في المنطقة. وهي كدولة عظمى لا تستطيع أن تضحي بمصالحها كليةً لحساب دولة أياً كانت أهميتها العاطفية،كذلك فإن الجانب العربي في طريقه لأن يضع حداً للتخلف الذي يفصله عن إسرائيل. وقد أثبتت مصر قدرتها على ذلك.ومصر في الأمد البعيد سوف تعود إلى الصف العربي لأنها تعلم أن هذا هو انتماءها. ومن ثم ولضمان أمنها ليس أمامها سوى تفجير العالم العربي وتحويله إلى العديد من الكيانات ذات الطابع الطائفي أو الديني.مثل هذا التفجير سوف يسمح لإسرائيل بتحقيق هدفين في آن واحد: من جانب سوف تجد تبريراً لها في عالم يسوده مفهوم الدولة الطائفية،فإسرائيل نفسها ليست دولة علمانية وهي من ثم سوف تخلق التجانس بين منطق وجودها والمنطق السياسي الذي سوف يسود المنطقة في تلك اللحظة،وهي من جانب آخر سوف تلهي القيادات لمدة خمسين عاماً في خلافات محلية حول الحدود والأطماع المتعلقة بالممرات المائية والثروات البترولية وما عداها. وفي خلال ذلك تستطيع أن تؤمن لنفسها التطور الذي سوف يسمح لها بأن تحقق أهدافها البعيدة المدى والمتعلقة بالسيطرة الكاملة والتحكم في المنطقة الممتدة من المحيط الهندي حتى المحبط الأطلسي.

ولا يستثني هذا التصور مصر، رغم أنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي ظلت ستة آلاف عام تمثل تماسكاً قومياً ثابتاً. فإسرائيل تعلم أن المخاطر التي يتعرض لها الكيان الصهيوني إن ظلت مصر في تماسكها أولاً،وفي تَضخُّمها الديموجرافي ثانياً، وفي تَقدُّمها التكنولوجي ثالثاً هي مخاطر قاتلة. فمصر وحدها تستطيع، إذا قدرت لها القيادة الصالحة على تعبئة القدرات والاستخدام الأمثل للإمكانيات، أن تقضي على إسرائيل.وهي لذلك أكثر إلحاحاً في تطبيق مفهومها للتجزئة على مصر.

إن الفكر الإستراتيجي الإسرائيلي بهذا الخصوص واضح ولا يعرف أي غموض، ولكن التساؤل المطروح هوترتيب تعامله مع المنطقة من هذا المنطلق، كما أنه يحاول أن يطوع الإدراك الأمريكي ليجعل السياسة الأمريكية إن لم تقف موقف المساندة لمثل هذه الإستراتيجية فعلى الأقل أن تتجنب الرفض.

ومما لا شك فيه أن السياسة الإسرائيلية تسير بوعي حقيقي أساسه ألا تتسرع في خطواتها وألا تلهث وراء تحقيق أهدافها وأن تنتظر اللحظة المناسبة عندما يصير الموقف ناضجاً لتدفع عجلة التطور، وهي تعلم أن اقتطاف ثمرة سياستها في حاجة بدوره إلى حنكة معينة.

والواقع أن المتتبع للدبلوماسية الصهيونية ـ وليس السياسة الإسرائيلية ـ يلحظ أنها أعدت لدبلوماسية الدولة اليهودية بهذا الخصوص بكثير من بُعد النظر عندما عملت على تحويل النظام القومي العربي إلى نظم داخلية متعددة ولو في النطاق الاقتصادي.

إن مفهوم إسرائيل للسلم هو أنه وسيلة لأن تستوعب في النظام الإقليمي بحيث يصير الوجود الصهيوني بجانب الوجود العربي في كل ما له صلة بإدارة المرافق الإقليمية حقيقة قائمة وثابتة ودائمة، بحيث يتعود العالم العربي على التعامل المباشر مع العنصر الإسرائيلي. هذه هي المقدمة الأولى لإمكانية التغلغل في الاقتصاد الإقليمي وتوجيه خيرات المنطقة نحو المصالح الصهيونية. ولعل هذه الناحية هي التي تفسر كيف تسير السياسة الإسرائيلية بهذا الخصوص بتدرج متتابع من مبدأ خطوتين إلى الأمام وخطوةإلى الخلف. والواقع أن إسرائيل تعلم بأن مستقبلها من حيث التقدم الاقتصادي يتوقف على فتح أبواب التعامل المباشر مع المنطقة العربية. فهي لذلك تسعى لخلق سوق مشتركة إقليمية تقوم على مبدأ التعاون المباشر بين التكنولوجيا الإسرائيلية والعمالة المصرية ورأس المال العربي.

هذه السياسة ستحقق ثلاثة أهداف في آن واحد:

1 ـ هي مقدمة لاستيعاب النظام الإقليمي العربي، ومن ثم فبدلاً من أن يبتلع الجسد العربي الكيان الصهيوني تستوعب إسرائيل الجسد العربي من خلال التحكم في شرايينه الحيوية.

2 ـ كذلك فإن هذه السياسة منطلق أساسي للسيطرة.فعقب السيطرة الوظيفية من خلال التحكم في الشرايين والمفاصل تأتي السيطرة الاقتصادية بفضل الاستجابة لمتطلبات الحياة اليومية من حيث الاستهلاك وتقديم الخدمات، وجميع هذه المداخل لابد أن تفرض التبعية السياسية.

3 ـ هذه السياسة لن تحدث نتائجها في التعامل مع الجسد العربي فقط بل كذلك مع كل من يريد التعامل مع ذلك الجسد.ومن ثم تصير هذه السياسة، وقد أضحت قوة ضاغطة،لا في مواجهة أوربا الغربية فقط بل كذلك في مواجهة الولايات المتحدة، وهو ما سوف يخلق وضعاً يفرض على أية قوة كبرى تريد أن تتعامل مع المنطقة أن تتعامل أولاً وأساساً من خلال الإرادة الإسرائيلية.

  • الثلاثاء AM 11:31
    2021-05-18
  • 1607
Powered by: GateGold