المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409120
يتصفح الموقع حاليا : 201

البحث

البحث

عرض المادة

ديفـيد بـن جوريـون (1886 - 1973)

ديفـيد بـن جوريـون (1886 - 1973)
David Ben Gurion
زعيم صهيوني عمالي، وسياسي إسرائيلي من الحرس القديم، كان اسمه «ديفيد جرين» ثم غيَّره فيما بعد إلى «بن جوريون» أي «ابن الشبل». وُلد في بلدة بلونسك ببولندا التي تقع في منطقة الاستيطان اليهودي في روسيا. نشأ نشأة يهودية تقليدية، وقضى سني حياته الأولى يدرس التوراة والتلمود وكُتُب الصلوات المختلفة في المدارس الحاخامية. وفي طفولته هذه، سمع عن ظهور الماشيَّح المخلِّص في شخصية صحفي نمسوي يُسمَّى تيودور هرتزل سيعود بشعبه إلى أرض الميعاد، وكان أول كتاب عبري يقرؤه هو كتاب حب صهيون لمابو.


وقد بدأ بن جوريون نشاطه الصهيوني وهو بعد صبي في سن الرابعة عشرة، إذ كان أبوه عضواً في جماعة أحباء صهيون، وقد تأثر بن جوريون بأفكار بوروخوف، فانضم إلى جماعة عمال صهيون عام 1904، وكان من بين معـارضي مشـروع شـرق أفريقيا في مؤتمر الحزب. وقد حاول بن جوريون أن يُغيِّر اتجاه الحزب من التركيز على الجماعات اليهودية في العالم (خارج فلسطين) (مركز الدياسبورا) إلى التركيز على المستوطنين الصهاينة في فلسطين (مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا). وبعد عامين، انضم إلى إحدى جماعات الدفاع اليهودية التي نُظِّمت في روسيا بعد حادثة كيشينيف. وقد هاجر إلى فلسطين عام 1906 حيث بدأت أفكاره الصهيونية في التبلور، فطالب بتأكيد مركزية المستوطنين اليهود في حياة الجماعات اليهودية. وقد كان بن جوريون من دعاة بعث اللغة العبرية وإهمال اليديشية. وفي عام 1912، التحق بن جوريون بجامعة إستنبول لدراسة القانون على أمل أن يُمكِّنه هذا من المساهمة في تحويل فلسطين إلى وطن يهودي داخل الإمبراطورية العثمانية، وبعد تخرُّجه عاد إلى فلسطين حيث بدأ حياته عاملاً زراعياً وحارساً ليلياً.

تَجنَّس بن جوريون بالجنسية العثمانية مع نشوب الحرب العالمية الأولى لكيلا يُطرَد لأنه رعية روسية ومعاد للعثمانيين. وحينما نفته السلطات التركية بسبب نشاطه الصهيوني الاستيطاني، رحل إلى مصر وقابل جابوتنسكي في الإسكندرية، وعارض في البداية فكرة الفيلق اليهودي على أساس أن هذا يُعرِّض اليهود الاستيطانيين في فلسطين لغضب العثمانيين وانتقامهم. وذهب إلى الولايات المتحدة حيث أسَّس جماعة الرائد وساهم في تكوين الفيلق اليهودي التابع للجيش البريطاني وعاد معه إلى فلسطين عام 1918 (ومعه مجموعة كبيرة من الاشتراكيين الصهاينة). وقد اشترك مع كاتزنلسون في تأسيس الهستدروت، واقترح ألا يكون الهستدروت نقابة عمال وحسب بل وسيلة استيطان كذلك. وقد تولَّى بن جوريون رئاسة الهستدروت من عام 1921 حتى 1932. وفي عام 1930، ساهم في إنشاء الماباي، كما انتُخب عضواً في اللجنـة التنفـيذية للوكالة اليهـودية عام 1937. وفي عام 1942، تبنَّت المنظمة الصهيونية، بمبادرة من بن جوريون، برنامج بلتيمور الذي كان هدفه المعلن إنشاء دولة إسرائيل. وفي عام 1948، أشرف على تكوين رئاسة الحكومة المؤقتة قبل إعلان نهاية الانتداب، وقام بنفسه بإعلان بيان قيام إسرائيل. وقد كان بن جوريون أحد الذين نصحوا بعدم الإشارة إلى حدود الدولة وعدم إعلان الدستور حتى لا يضع حداً لمطامع إسرائيل التوسعية (فالجيش الإسرائيلي وحده ـ حسب تصوره ـ هو الذي سيعين الحدود) حتى يمكن إرضاء العناصر الدينية التي تَحالَف معها الماباي لتشـكيل الوزارة، وطالـب بجعل القدس عاصمـة الدولـة الجديدة. وفي عام 1953، استقال وأعلن عزمه الاعتزال في النقب في مستعمرة سدي بوكر. ولكن بن جوريون تولَّى منصب رئيس الوزارة عدة مرات بعد ذلك كان آخرها عام 1963، وقد كانت فضيحة لافون مسئولة عن عودته عام 1955، بل اضطرته إلى دخول معارك سياسية مختلفة.

وقد استقال بن جوريون من الماباي وكوَّن حزب رافي هو وأعوانه عام 1965، وحينما انضم رافي للحكومة دخل بن جوريون هو وجماعة من أتباعه الانتخابات تحت اسم القائمة الرسمية، وقد فاز الحزب بأربعة مقاعد في الكنيست شغل بن جوريون أحدها، ولكنه استقال بعد سنة واحدة واعتزل السياسة.

ورغم ما عُرف عن بن جوريون في الغرب من ليبرالية واشتراكية، فإنه يرفض الصيغة الاندماجية ويصفها بأنها حل مضلل ويائس يشبه «الوباء». وتتسم كل أفكار بن جوريون بالتبسيط المتطرف والوضوح الشديد، فهو مثلاً يرى تاريخ اليهود على أنه عبارة عن صراع بين قوتين: الاستقلاليين الذين يقاومون خطر المؤثرات الأجنبية، والاندماجيون الذين يرضخون لها. أما الاندماجيون فكان نصيبهم النسيان والذوبان في الأمم الأخرى، ولم يبق سوى كتابات وتنبؤات أولئك الذين حافظوا على إيمانهم بإسرائيل، ورفضوا الاستسلام للقدر الذي أنزله بهم التاريخ (هذا تبسيط مخل، فلم "ينس" أحد أينشتاين أو فرويد وكافكا أو حتى فيلون). ورفض «الجالوت» أو المنفى هو نقطة بدء عند بن جوريون، ففي رؤيته الميلودرامية الأسطورية للواقع والتاريخ، والتي لا يوجد فيها سوى خير خالص يتصارع مع شر خالص، نجد أن المنفى والتشتت هما الجحيم، وأن أرض الميعاد هي بالطبع الفردوس المفقود أو الدائرة التي يجب أن يعود إليها اليهودي).

ومرض المنفى أو الجالوت الخبيث (الذي وقع بعد ثورة بركوخبا وبعد "طرد" اليهود من فلسطين [تدل الوقائع التاريخية والإحصاءات السكانية أن عدد اليهود في حوض البحر الأبيض المتوسط يفوق عدد اليهود في فلسطين، "قبل" ثورة بركوخبا، أي أن الخروج من فلسطين تم بملء رغبتهم وإرادتهم]) لا يصيب اليهود في أجسادهم فحسب (ومن الذي يقرر أنهم "مرضى"؟ لقد صدر كتاب هاوارد ساخار، المؤرخ الأمريكي اليهودي الصهيوني، بعنوان الدياسبورا، أي المنفى ولا يوجد فيه فصل عن أمريكا الشمالية، أم أنها ليست المنفى)، بل يصيبهم في أرواحهم ونفوسهم أيضاً. ولذا فقد ظن يهود الولايات المتحدة الحاصلون على حقوقهم السياسية والمدنية كاملة أنهم مواطنون أسوياء، ولكنهم في الواقع مرضى منفيون في داخل دولتهم. بل إن بعض الإسرائيليين الذين يعيشون داخل حدود الدولة اليهودية هم أيضاً منفيو الروح.

ويصف بن جوريون بشيء من التفصيل «مرض المنفى» (في إحدى محاوراته مع موشي بيرلمان الكاتب الإسرائيلي)، وأولى سمات الحياة في الدياسبورا ـ حسب تصوُّر بن جوريون ـ هو أن اليهود يعيشون كأقلية تعتمد بشكل أو بآخر على إرادة الأغلبية، عاجزين عن اتخاذ أي قرارا يتعذبون في أوربا وغير أوربا، شقاؤهم لم يبدأ بالنازيين ولم ينته بسقوطهم (إشكالية العجز وانعدام السيادة والمشاركة في السلطة التي تزعمها الأدبيات الصهيونية). وهم يعيشون حياة اقتصادية هامشية، إذ لا تجد بينهم عمالاً ولا فلاحين، بل يشتغل معظمهم في المدن بعيداً عن مراكز الحيوية في أي حضارة، وأنهم أمة من البقالين والموظفين الذين يعملون بالأعمال الفكرية. وأخيراً يقع يهود المنفى الراغبون في الحفاظ على يهوديتهم في صراع بين ولائهم لحضارة الأغلبية السائدة، وولائهم لحضارتهم اليهودية التي تمتد جذورها إلى الماضي، ولذا يعيش يهود المنفى في ازدواج دائم.

ويشير بن جوريون إلى التلمود الذي جاء فيه أن أي يهودي قادر على العودة لأرض الميعاد ويستمر في الحياة خارجها يُعَد كافراً ويكون كمن هجره الله، كما أنه يشير لحكماء اليهود القدامى الذين قالوا إن المكوث خارج أرض إسرائيل طواعية يُعدّ خطيئة دينية. ويخلص بن جوريون من كل هذا إلى أن حياة اليهود في الدياسبورا مستحيلة وأن "الحياة اليهودية الكاملة لن تتحقق إلا في دولة يهودية مستقلة، حيث يمكن للشعب اليهودي أن يصوغ حياته حسب حاجاته وقيمه، مخلصاً لشخصيته وقيمها، ولتراثها الماضي ولرؤيتها للمستقبل".

ويهاجم بن جوريون في برنامجه «الثوري» حالة الاتكال والسلبية التي تتسم بها حياة اليهود في الدياسبورا. فاليهودي في الدياسبورا، كما هو حال معظم اليهود، بطل، ولكن بطولته مع هذا بطولة سلبية تأخذ شكل الاستسلام للقدر، كما أنه يتملكه إحساس بالعجز الإنساني، وإيمان بأن الخلاص لن يأتي إلا عن طريق الخالق. إن المنفى بالنسبة لبن جوريون يعني الاتكال، الاتكال السياسي والمادي والروحي والثقافي والفكري "ذلك لأننا غرباء وأقلية محرومة من الوطن ومقتلعة ومبعثرة عن الأرض وعن العمل والصناعة الأساسية، واجبنا هو أن ننفصل كليةً عن هذا الاتكال وأن نصبح أسياد قدرنا، علينا أن نستقل". ويُلخص بن جوريون برنامجه الثوري في أنه لا يرفض الاستسلام للمنفى فحسب، بل يحاول أيضاً إنهاءه على التو، وهو يعتقد أن هذا هو حجر الزاوية: "القضية الحقيقية هي الآن كما كانت في الماضي تتركز فيما إذا كان علينا أن نعتمد على قوة الآخرين أم على قوتنا". على اليهودي من الآن فصاعداً ألا ينتظر التدخل الإلهي لتحديد مصيره، بل عليه أن يلجأ للوسائل الطبيعية العادية (مثل الفانتوم والنابالم مثلاً).

ولكن ماذا لو رفض يهود المنفى أرض الميعاد، وقرروا البقاء في منفاهم كما فعل هاورد ساخار ويهود الولايات المتحدة والغالبية الساحقة من يهود العالم؟ هنا يتحرك الزعيم الصهيوني ويقرر أنه لو كان الأمر بيده لأرسل بعض الشباب اليهودي متنكرين ليرسموا الصلبان المعقوفة على المعابد اليهودية، حتى يلقوا الرعب في نفوس اليهود الذين يتمتعون بالحياة في المنفى ليهاجروا إلى أرض الميعاد. وحينما كان بن جوريون وزيراً للخارجية وعضواً في المنظمة الصهيونية قام عملاء المنظمة بإطلاق النار على يهود العراق حتى يهاجروا منها إلى إسرائيل. ولكن متى تمت عودة اليهود للفردوس، لإسرائيل، سيكون كل شيء يهودياً: الكتب يهودية، والعمل يهودي، والأبحاث العلمية التي تدرس طبيعة الأرض يهودية. وقد خلق الصهاينة بالفعل في الفردوس الصهيوني الحقل اليهودي، والطريق اليهودي، والمصنع اليهودي، والمنجم اليهودي، والجيش اليهودي. بل إن كل القيم يهودية وكل الأفراد يهود في كل عضو في جسمهم، وكل خلجة في قلوبهم. (عرَّف نحمان بياليك، الشاعر الصهيوني، بأن تطبيع الشخصية اليهودية يعني ظهور البغيّ اليهودية والشرطي اليهودي!).

والانعتاق الذاتي من المنفى الداخلي والخارجي يكون عن طريق العودة للطبيعة وللأرض: "إن أية أمة مستقلة لابد أن تضرب جذورها في أرض الآباء، تزرعها بأصابعها وتشارك في كل عمل يتطلبه وجودها" (وهذا هو الفكر القومي العضوي). وفي الطبيعة وحدها يمكن لليهودي أن يستعيد إنسانيته المهرقة، كما أنه يمكنه أن يسترجع قواه الخلاقة. ولن يقضي على شخصية اليهودي الهامشية التجارية، شخصية السمسار، سوى العمل العبري في الزراعة، ولذا يتخيل بن جوريون أن العودة لأرض الميعاد هي عودة للطبيعة تنم عن الرغبة في الاتحاد بالوجود يقول: "نهيق الحمير في الحظائر، نقيق الضفادع في البرك، رائحة الزهور المتبرعمة، همس البحر البعيد، ظلال البيارات الآخذة في الإظلام، سحر النجوم في السماء العميقة الزرقة، السماوات البعيدة والمتألقة في نعاس... كل شيء أصابني بالنشوة. آه إنني في أرض إسرائيل. طوال الليل جلست وناجيت السماء". وكل يهودي يبتعد عن تلك الأرض وعن هذه الطبيعة يحمل في قلبه ذكرى هذه الأرض. بل إن بن جوريون يعتقد أن هذه العودة للطبيعة وللبراءة هي المعنى الأساسي للصهيونية.

ولكن هل هذه الطبيعة حقاً بدائية؟ وهل هي حقاً أرض فراغ تنتظر الفيلسوف الصهيوني الرومانسي ليذهب إليها، لتشحذ قواه الخلاقة وليفرض إرادته عليها وليرغمها أن تمنحه ثمارها؟ وهل هي ـ في حقيقة الأمر ـ أرض بلا شعب؛ طبيعة عذراء تمكنه من التأمل في هدوء وتساعده على التركيز، وتدفعه إلى أن يفكر بشكل بسيط وواضح؟ كل هذه الأسئلة يجيب عليها بن جوريون بالإيجاب نظرياً، ولكن عملياً يعرف بن جوريون، كما يعرف غيره من الصهاينة، أن أرض الميعاد تمور بالعرب وأن على كل حجر توجد بصمة عربية ولذا كان لابد من التأمل ولكن لابد أيضاً من الزراعة المسلحة لابد من الحالوتسيم: الرواد.

الهجرة الشعبية (أي الاستيطانية) في تصوُّر بن جوريون لا تعمل حساباً للتاريخ بل تتجاهل الزمان تماماً وتنساب إلى المكان الذي خلقت فيه ظروف مواتية لاستيعابهم (أي مكان الاستيطان) وهكذا تحل صهيون الاستيطانية محل صهيون القلب. إن عدم أخذ التاريخ أو الظروف القائمة في الحسبان مسألة جوهرية بالنسبة لبن جوريون فهو يتحدث بإسهاب عن الإرادة ودورها ويصف الحالوتسيم بأنهم محاربون بناؤون يكرسون كل قواهم لتحقيق أهدافهم.

وتكتسب هذه العبارات الرومانتيكية معنى واضحاً للغاية، حين يقارن بن جوريون الرواد الصهاينة (أي المستوطنين الصهاينة الأول) بالمستعمرين الأول في أمريكا الذين ذهبوا إلى العالم الجديد مسلحين برؤية ظنوها إلهية، تماماً مثل الصهاينة. ثم يتحدث بن جوريون عن أحزانهم ومتاعبهم التي تحملوها، ثم عن المعارك الضارية التي خاضوها ضد الطبيعة الوحشية والهنود الأكثر وحشية، وعن التضحيات التي قدموها قبل أن يفتحوا القارة "للهجرة الشعبية" والاستيطان. والطريقة التي تحدث بها بن جوريون عن العالم الجديد تبيِّن أنه يعتبر أن الهنود إن هم إلا جمادات أو جزء من الخلفية الطبيعية التي يجب على الرواد هزيمتها وتعديلها لتلائم احتياجات المهاجرين من أنصاف الأنبياء.

ويعترف بن جوريون نفسه أنه منذ بدأ الاستيطان في أرض الميعاد، الخاوية الطبيعية البدائية، وهو مرتبط تمام الارتباط بالدفاع. ويكتب بن جوريون واصفاً حياة الرواد في هذه الكلمات: "كنا ننتظر مجيء الأسلحة ليلاً ونهاراً، ولم يكن لنا حديث إلا الأسلحة، وعندما جاءتنا الأسلحة، لم تسعنا الدنيا لفرط فرحتنا، كنا نلعب بالأسلحة كالأطفال ولم نعد نتركها أبداً... كنا نقرأ ونتكلم والبنادق في أيدينا أو على أكتافنا". ويبيِّن بن جوريون أنه حتى الآن في إسرائيل يتخذ التعليم الزراعي طابعاً عسكرياً إذ أن له هدفين: واحد زراعي والآخر عسكري، كما أنه يعلن الدور الذي يلعبه الجيش الإسرائيلي في عملية الريادة والاستيطان: "لقد أثبت الجيش كفاءته في عملية الريادة، فقد درب آلاف الشبان والشابات على الحياة في المزارع كما شيَّد الكيبوتسات على الحدود مع قطاع غزة وفي النقب والخليل".

والعنف عند بن جوريون يكتسب بُعداً خاصاً ويصبح غاية في حد ذاته، بل وسيلة بعث حضاري إذ يقول: "بالدم والنار سقطت يهودا وبالدم والنار ستقوم ثانية". وعبارة بن جوريون مبنية على تصور جديد للشخصية اليهودية على أنها شخصية محاربة منذ قديم الأزل: "إن موسى أعظم أنبيائنا هو أول قائد عسكري في تاريخ أمتنا"، ومن هنا يكون الربط بين موسى النبي وموشي ديان مسألة منطقية بل حتمية، كما أنه لا يكون من الهرطقة الدينية في شيء أن يؤكد بن جوريون أن خير مفسر ومعلق على التوراة هو الجيش، فهو الذي يساعد الشعب على الاستيطان على ضفاف نهر الأردن مفسراً بذلك ومحققاً لكلمات أنبياء العهد القديم. وكتابات بن جوريون تزخر بإشارات إلى بركوخبا (البطل اليهودي) والمكابيين والغزو اليهودي لأرض كنعان وبطولات اليهود عبر العصور. بل إن خطابات بن جوريون الخاصة تعبِّر عن أحلامه العسكرية فهو يذكر في رسالة إلى ابنه أن الدولة اليهودية المزمع إنشاؤها في فلسطين سيكون فيها أحسن جيش.

وكمحاولة لتحقيق هذه الأحلام حينما جاءت الساعة، بذل بن جوريون قصارى وسعه لإنشاء القوة العسكرية الصهيونية، فقد كان من المنادين بفكرة اقتحام الحراسة (والعمل والزراعة والإنتاج) وأسس لذلك جماعة الحارس ثم الهاجاناه، وكان من بين المنادين بتسليح المواطنين اليهود. ولكنه كان يحاول دائماً ألا يصطدم بالقوة الإمبريالية الحاكمة الراعية، أي إنجلترا. وحينما اضطر إلى أن يفعل ذلك، حاول أن يُبقي الاصطدام عند حده الأدنى لتيقُّنه من أن العرب هم العدو الأساسي. وحينما أُنشئت الدولة، قام بحل المنظمات العسكرية الصهيونية كافة، مثل الإرجون والبالماخ، وضمها إلى الهاجاناه وحوَّلها جميعاً إلى جيش الدفاع الإسرائيلي. وقد شغل بن جوريون منصب وزير الدفاع في جميع الوزارات التي رأسها، كما ساهم في صياغة سياسة إسرائيل الخارجية وتأكيد دورها كحارس للمصالح الإمبريالية نظير الحماية الإمبريالية التي تحصل عليها. وفي إطار هذا، عقد تحالفاً مع فرنسا عام 1955 وجهَّز لحرب عام 1956 ليضرب الحكومة المصرية التي كانت آنئذ تمدُّ الثوار في الجزائر بالمساعدة. وقد استمر هذا خط أساسياً للسياسة الخارجية الإسرائيلية حتى وقتنا الحاضر.

وقد لعب بن جوريون دوراً مهماً في مسألة المطالبة بالتعويضات الألمانية مثل الدور الذي لعبه إلى جانب غيره من العماليين في إفشال المعارضة اليهودية لاتفاقية الهعفراه المبرمة بين المنظمة الصهيونية العالمية والحكومة النازية، وقضى أيام حياته الأخيرة في كيبوتس سدى بوكر يكتب تاريخاً لليهود في العصر الحديث، وشرحاً للتوراة.

والمُلاحَظ أن بن جوريون كان متأرجحاً في أفكاره السياسية إذ كان يصرح أحياناً بضرورة التنـازل عن كل الأراضي المحتـلة نظير السـلام مع العرب، ولكنه في أحيان أخرى، بعد رؤية الانتصارات العسكرية الإسرائيلية، كان يصرح بوجوب الاحتفاظ بكل الأراضي. وتفسير ذلك أنه كان يستمد رؤيته للواقع والتاريخ والتوراة والتلمود من انتصارات الجيش الإسرائيلي. وينسى الكثيرون أن بن جوريون كان من أكبر الاشتراكيين الصهاينة وأن فكره "الاشــتراكي" الصهـيوني ملأ عدة مجلدات، ولكن اشتراكيته تنبع في الواقـع من إيمان عميق بتفوق الشعب اليهودي ومن أحلامه المشيحانية، وهي أحلام عنصـرية تستبعد غير اليهود وتجعل الاشتراكية وسيلة طيعة للاستيطان، لا مصدراً للقيم الإنسانية أو وســيلة للتعــامل مع الواقــع بكل أبعاده الطبيعــية والتاريخية. ولبن جــوريون عــدة مؤلفاـــت، من أهمها بعث إسرائيل ومصيرها (1952)، و إسرائيل: سنوات التحدي (1963).

  • الثلاثاء AM 11:14
    2021-05-18
  • 1206
Powered by: GateGold