المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413356
يتصفح الموقع حاليا : 204

البحث

البحث

عرض المادة

التســـوية الســـلمية وتطبـيــع الاقتصــاد الإســـــرائيلي (العمالي)

التســـوية الســـلمية وتطبـيــع الاقتصــاد الإســـــرائيلي (العمالي)
Peaceful Settlement and the Normalization of Israeli (Labour) Economy
يُعَد شيمون بيريز صاحب الدعوة الأشهر لتطبيع الاقتصاد الإسرائيلي إقليمياً، وإنهاء حالة العزلة الإقليمية للاقتصاد الإسرائيلي. فالمشروع الإسرائيلي، في ظل عملية التسوية، يقتضي توفير مناخات اقتصادية تطبيعية تهمش بل تلغي الشأن القومي التاريخي، وتحل محله شأناً جيو/اقتصادياً جديداً، وهذا ما دعاه «الشرق الأوسط الجديد» باعتباره وحدة متكاملة اقتصادياً وأمنياً وسياسياً، ليصبح جاذباً أسـاسياً للاسـتثمار الأجنبي وجـسراً وحـيداً للاقتصاد الإقليمي والدولي معاً.


وتحدث البعض في إسرائيل عن «الصهيونية الاقتصادية» و«الصهيونية التقنية» اللتين تشكلان تحولاً وانتقالاً إلى مرحلة الهجوم الاقتصادي الموسعة مع تَقدُّم عملية التسوية وهو ما يقود إلى رفع معدل النمو الاقتصادي بما يجلبه من زيادة الاستثمار في مجال البنية التحتية والمشروعات المشتركة مع الدول العربية، وفتح أسواق جديدة في المنطقة وخارجها بعد وقف المقاطعة الاقتصادية العربية، واعتماد الشركات متعددة الجنسيات إسرائيل مركزاً إقليمياً.

وقد بدا واضحاً أن المطلوب هو دمج إسرائيل في المنطقة، إلا أن الإشكالية لا تتعلق بالاندماج في حد ذاته، وإنما بشروط هذا الاندماج. فالاندماج الأمثل باقتصاديات المنطقة، من وجهة النظر الإسرائيلية، يجب أن يتم من خلال سيطرة إسرائيل على عمليات الوساطة المالية بالمنطقة وتنفيذ مشاريع مشتركة في مجالات محددة تتم بإشراف الأجهزة الحكومية حتى لو قام بتنفيذها القطاع الخاص، وهي مشروعات يمكن أن تتم بين أنظمة اقتصادية تختلف بعضها عن بعض كلياً. أما النوع الثاني من الاندماج الذي يتم عَبْر إقامة منطقة تجارة حرة فهو مرفوض لأنه يتطلب إحداث تغييرات بنيوية في اقتصاد كل الدول المشتركة لإزالة التباين بينها وهو ما يتطلب تقليص دور الدولة، وترك المبادرة للقطاع الخاص.

إن خصائص الاقتصاد الإسرائيلي وحمائيته تحول دون إمكانية اندماجه في إطار النوع الثاني، فالدولة الاستيطانية الصهيونية، لن تقبل رفع يدها عن التدخل في المجال الاقتصادي، نظراً إلى ما سيحدثه ذلك من آثار في مستويات المعيشة، ونظراً لما يتطلبه استمرار هجرة اليهود من استثمارات ودعم حكومي حيث يبرز التناقض بين الاعتبارات الاقتصادية والاعتبارات الاستيطانية.

ومن الأسباب الأخرى التي تعوق اندماج إسرائيل في المنطقة هو تجارة إسرائيل الخارجية التي تحتل موقعاً مهماً في الاقتصاد الإسرائيلي. فالحجم الأكبر من هذه التجارة يتجه إلى الدول الرأسمالية، وخصوصاً الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي، ويظل الهدف الإسرائيلي الرئيسي توطيد علاقاتها الاقتصادية بتلك الدول، واعتبار دول المنطقة بمنزلة "حديقة خلفية" لإسرائيل. كما أن هيكل الصادرات الإسرائيلية لا يساعد على الاندماج التجاري بالمنطقة، إذ أن القوة الشرائية في أغلب دول المنطقة لا تسمح بأن تكون المنطقة سوقاً للماس، كما أنه من غير المنتظر أن تقوم إسرائيل بتصدير السلاح، أو التكنولوجيا (العسكرية بالأساس) إلى الدول العربية. بالإضافة إلى كل هذا يمكن أن نشير إلى تَشوُّه هيكل الأسعار في إسرائيل، فهي لا تتحدد وفقاً لاعتبارات العرض والطلب وإنما تتم، في إطار نموذج الصهيونية العمالية الذي لا يزال سائداً، وفقاً لعمليات معقدة من التفاوض السياسي. فسعر البيض مثلاً يتحدد عن طريق مفاوضات بين وزارتي المالية والزراعة من جهة، و من جهة أخرى منظمات مربي الدواجن (التي يدعمها الصندوق القومي اليهودي والوكالة اليهودية)... إلخ. فالاقتــصاد الإسرائيلي مُسيَّس بشكل كبير وهو ما يضفي عليه طابعاً حمائياً عالياً ويحد من إمكانيات اندماجه تجارياً مع المنطقة. ومن هنا فإن مصلحة الاقتصاد الإسرائيلي لا تتمثل في تحرير التجارة في المنطقة، وإنما في القيام بدور الوسيط الذي يقوم بتسويق المنطقة للخارج (وخصوصاً في برامج السياحة)، بالإضافة إلى تسويق الخارج للمنطقة، وهو الأهم للمنطقة، عن طريق استثمار علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة وأوربا (أو حتى مجرد الإيحاء بأنها تستطيع التسويق لخارج المنطقة). كل هذا يعني أن الدولة الوظيفية القتالية أصبحت دولة وظيفية ربوية.

إن من الخطأ الشديد تهميش أهمية ومعاني البُعدين السياسي والأمني في تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وتكشف المبالغة في أهمية مدلولات البُعد الاقتصادي للتسوية عن غياب الإلمام الكافي ببنية الاقتصاد الإسرائيلي وتوجهاته وتحولاته، وخصوصاً أن المردود الاقتصادي للتسوية السياسية على إسرائيل لا ينحصر في حدود علاقتها بالمنطقة، بل يتعدى ذلك إلى توطيد وتوسيع علاقاتها بمراكز الاقتصاد العالمي، وربما كان هذا هو الجانب الأهم من زاوية رؤية الدولة الإسرائيلية لمستقبلها، حيث تستمر في أداء وظيفتها كوكيل للقوى الدولية للمحافظة على مصالحها في المنطقة.

ويمكن القول بأنه رغم طموح اليمين الإسرائيلي للاستفادة من مكاسب تطبيع العلاقات الاقتصادية مع العرب، إلا أن برنامجه السياسي، الذي لا يعطي أولوية للطرح الشرق أوسطي، يُعرْقل عملية التطبيع الاقتصادي مع العرب، وينشط العلاقات مع الدول الغربية بالإضافة إلى الدول النامية الأكثر تقدُّماً مثل كوريا الجنوبية والهند والصين.

أما على المستوى الدولي، فتركز الاتجاهات الرامية لتطبيع الاقتصاد الإسرائيلي على مستقبل التدفقات الرأسمالية على إسرائيل في مرحلة ما بعد انتهاء، أو على الأقل احتمال انخفاض، المعونات. حيث تسعى إسرائيل حالياً لجذب نوع مختلف من رؤوس الأموال سواء في شكل استثمارات أجنبية مباشرة FDI أو في شكل استثمارات في حوافظ الأوراق المالية (بالإنجليزية: بورتفوليو إنفستمنت Portfolio Investment)، وفي هذا الإطار تم إنشاء ما يُعرَف بصندوق إسرائيل الأول الذي بدأ طرح أوراقه المالية في البورصات منذ أكتوبر 1992.

ولكن الاقتصاد الإسرائيلي سيظل في حاجة ماسة إلى المعونات، وفي هذا الصدد تثير إسرائيل قضية الذهب الألماني في المصارف السويسرية بهدف الحصول على مساعدات وتعويضات تصل إلى حوالي 40 مليار دولار خلال السنوات العشر القادمة.

وتتركز تجارة إسرائيل الخارجية مع الدول الغربية، ففي عام 1994 استوعبت سوق الولايات المتحدة 31% من صادرات إسرائيل وغطت 18% من الواردات الإسرائيلية، وبلغت النسبتان 29.2% و53.6% لدول الاتحاد الأوربي. وبقدر ما تتيحه هذه العلاقة الاقتصادية من فرص لتعظيم قدرة إسرائيل الاقتصادية، بقدر ما تكشف عن قدر الضـغط الــذي يسـتطيع شركـاء إسرائيل أن يمارســوه عليـها لتستمر الدولة الوظيفية داخل الإستراتيجية المعدة لها.

ومن المؤكد أن هذه التوجهات، التي يتبناها حالياً جهاز الدولة في إسرائيل، لا تتعارض فقط مع أدبيات الصهيونية العمالية، وإنما تصطدم أيضاً بمصالح فئات عديدة داخل المجتمع الإسرائيل وخارجه، الأمر الذي ينقل المناظرة حول تطبيع الاقتصاد الإسرائيلي إلى مستوى أكثر تركيباً، حيث يصبح السؤال: هل مستقبل الدولة مرهون بالتخلي عن المشروع الصهيوني؟ أم أن الفترة القادمة ستشهد صيغة تلفيقية، ولا نقول توفيقية، تجمع بين صهيونية الخطاب وبعض الممارسات، على الصعيد السياسي والعسكري مثلاً، وتدويل الممارسات الاقتصادية، وهو ما تحاول إسرائيل أن تقدمه حالياً؟ وفي هذه الحالة فإن التساؤل يثور حول إمكانية نجاح مثل هذا النموذج.

فهذا النموذج، الذي سيستمر في إسرائيل حتى بداية القرن الواحد والعشرين على الأقل، لا يعدو أن يكون مجرد مسكن لا علاجاً للأزمة، وهو يحوي من التناقضات ما يجعله غير قادر على الاستمرار. فالمنطق الاقتصادي الجديد، والتطبيع بمستوياته الثلاثة، يقتضي إجراء مجموعة من التنازلات السياسية لإيجاد مناخ يسمح بتدفق رؤوس الأموال (غير المسيَّسة) سواء لتمويل الخصخصة، أو في شكل استثمارات جديدة تنهي حالة الركود والتضخم، ناهيك عن دفع التعاون الإقليمي، الأمر الذي يتعارض بطبيعة الحال مع صهيونية الخطاب والممارسة السياسية.

ومن ناحية أخرى، فإن الخروج من الأزمة التي يمر بها الاقتصاد الإسرائيلي، وهي في أحد أبعادها جزء من أزمة النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي الناجمة عن اتجاه معدل ربحية رأس المال نحو التناقص بشكل مستمر، قد يقتضي الاستمرار في السيطرة على الأراضي المحتلة، وهو ما يتعارض بدوره مع تقديم تنازلات سياسية لجذب رؤوس الأموال.

ومن هنا، فإن بنود الأجندة الاقتصادية التطبيعية لا تتناقض في مجموعها مع الأجندة السياسية المتشددة وحسب، وإنما تتناقض أيضاً مع بعضها البعض! ويتضح هذا التناقض بجلاء من تأمل الأجندة الاقتصادية التي أعلنها الائتلاف الحاكم في إسرائيل وما تعهَّد به من الاستمرار في الاستيطان وعدم المساس بمخصصات التعليم، في الوقت الذي سيتم فيه خفض الضرائب وتقليص عجز الموازنة العامة! والواقع أن تنفيذ هذه التعهدات (التي تعني زيادة النفقات العامة وخفض الإيرادات العامة) في وقت واحد يكاد يكون مستحيلاً من الناحية العملية.

هذه المجموعة المركبة من التناقضات تشير إلى عمق الأزمة التي يمر بها الاقتصاد الصهيوني، فاستمرار نموذج الصهيونية العمالية الذي ساد منذ العشرينيات مستحيل، وتطبيع الاقتصاد الإسرائيلي يهدِّد خصوصيته الصهوينية، وخصوصاً أن المنطق الاقتصادي لا يعمل في فراغ، وإنما تصطدم الأجندة الاقتصادية بأجندات أخرى سياسية وعسكرية واستيطانية، الأمر الذي يكشف مدى هشاشة النموذج الذي يحاول الالتفاف حول المعضلة الأساسية التي تفرض نفسها على الاقتصاد الإسرائيلي وتحتِّم عليه الاختيار بين أن يكون اقتصادياً، أي نمطاً رشيداً لتخصيص الموارد، وبين أن يكون صهيونياً.

  • الثلاثاء AM 10:38
    2021-05-18
  • 1123
Powered by: GateGold