المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409167
يتصفح الموقع حاليا : 347

البحث

البحث

عرض المادة

الدولة الصهيونية الوظيفية: العجز والعزلة والغربة

الدولة الصهيونية الوظيفية: العجز والعزلة والغربة
The Functional Zionist State: Powerlessness, Isolation, and Alienation
يتسم أعضاء الجماعات الوظيفية، خصوصاً تلك التي تضطلع بوظيفة قتالية، بالعزلة عن غالبية أعضاء المجتمعات المضيفة والالتصاق الشديد بالنخبة والعجز الشديد فليست لها قاعدة شعبية، ومن ثم فهي لا تملك إرادة مستقلة. والدولة الصهيونية إعادة إنتاج لهذا النمط ولنبدأ بإشكالية العجز.


1 ـ العجز:

أ) الحاجة للدولة الراعية:

لابد أن تتبع الجماعة الوظيفية راعياً يحميها ويكفل لها أمنها ومستواها المعيشي المتميِّز نظير أن تقوم هي على خدمته ورعاية مصالحه ضد أعدائه. وقد بدأ هرتزل نشاطه الدبلوماسي المحموم بحثاً عن دولة راعية لمشروعه الصهيوني الخاص بتحويل الفائض البشري اليهودي إلى دولة وظيفية، فتوجَّه إلى سيسل رودس والرئيس تيودور روزفلت وملك إنجلترا وقيصر روسيا وقيصر ألمانيا (بل إلى السلطان العثماني، ظناً منه أن السلطان سيحتاج إلى العنصر اليهودي الاستيطاني القتالي في فلسطين لدعم الإمبراطورية). وكان هرتزل يتخيل أحياناً أن الدولة الوظيفية ستكون عميلاً لكل دول أوربا، أي للمشروع الاستعماري الغربي ككل، كما تذبذب بعض الوقت بين ألمانيا وإنجلترا، ولكنه أدرك في نهاية الأمر أن الاستعمار الإنجليزي أكثر ثباتاً واستقراراً وأن الإنجليز هم أول من اعترف بضرورة التوسع الاستعماري في العالم الحديث وأن حاجتهم للدولة الوظيفية واضحة. وتم توقيع عقد بلفور بين الحضارة الغربية والمنطقة الصهيونية بشأن يهود الغرب في إطار هذا التفاهم، إذ تقوم إنجلترا بمقتضاه بنقل المادة البشرية اليهودية وتأسيس دولة يتم توظيفهم من خلالها ليقوموا هم من ناحيتهم بالدفاع عن مصالح الدولة الراعية، فالعلاقة إذن بين الطرفين واضحة نفعية تعاقدية موضوعية واضحة.

ورغم توقيع العقد مع إنجلترا، فإن الأمر لم يخل من صراعات وتوترات. وقد ذكرنا من قبل أن هرتزل ظل يتذبذب بين ألمانيا وإنجلترا، وأنه حسم الأمر في النهاية وقرَّر أن يبذل معظم جهوده الدبلوماسية مع إنجلترا (دون أن يحطم جسوره مع أي من الدول الأخرى). وقد كان مشـروع شـرق أفـريقيا أول ثمار التـعاون بين الحركة الصهيونية وإنجلترا. وقد عـارض دعاة الاسـتعمار الألماني، ومعظمهـم بطبيعة الحال من الألمان، مشروع شرق أفريقيا، لا لإصرارهم على فلسطين وإنما خشية أن يؤدي نجاح مثل هذا المشروع إلى تحطيم علاقاتهم بالإمبريالية الألمانية. وكان الصهاينة الألمان يحاولون أن يبينوا مدى نفع المادة البشرية اليهودية للمشروع الاستعماري الألماني، فأخبر بودنهايمر وكيل وزارة الخارجية الألمانية: "أن وضع يهود الشرق [شرق أوربا] في موقف العارف بالجميل تجاه الإمبراطورية الألمانية لهو أمر ذو مغزى سياسي أكيد. إن فتح الشرق [أي فلسطين] لليهود قد يصبح وسيلة يمكن عن طريقها تحويل عنصر قادر على التحدث بالألمانية من روسيا وبولندا إلى هذا الاتجاه، بحيث يمكن توظيفه لصالح ألمانيا".

وقد بذل الصهاينة الألمان قصارى جهدهم في تجنيد يهود شرق أوربا وراء القوات الألمانية الغازية في الحرب العالمية الأولى. ولكن مجرى الأحداث تغيَّر، وانتصرت الإمبراطورية البريطانية، وتجاهل وايزمان والصهاينة في إنجلترا صهاينة ألمانيا، وحصلوا على وعد بلفور.

وظلت إنجلترا، الراعية الأساسية الشاملة للجيب الصهيوني، تُوظِّف الدولة الوظيفية لحسابها ولحساب الحضارة الغربية. وحينما بدأت الولايات المتحدة قيادة التشكيل الاستعماري الغربي، تراجع الدور الإنجليزي وأصبحت الولايات المتحدة راعية الجيب الوظيفي الإسرائيلي ومظلته الواقية.

ب) دعم الدولة الراعية للدولة الوظيفية:

تقوم الدولة الراعية بدعم الدولة الوظيفية حتى يمكنها الاستمرار في أداء وظيفتها بكفاءة، تماماً كما كان ملوك وأباطرة أوربا يرعون أعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية. وقد تزايد الدعم الأمريكي لإسرائيل إلى أن أصبحت الدولة الوظيفية معتمدة تماماً عليها بطريقة لم يسبق لها مثيل. والواقع أن تاريخ تَزايُد هذا الدعم هو أيضاً تاريخ دولة إسرائيل الوظيفية. وقد لاحَظ الصحفي الإسرائيلي ب. سبير اعتماد إسرائيل التام على الهبات الخارجية، فأشار إلى أنه "لا توجد دولة في العالم يتم دفع كل ما ينقصها من عملة صعبة من قبَل مواطني الدول الأخرى"، وأن الإسرائيليين هم "أكبر زبائن المساعدات المجانية في العالم".

وقد أدَّت هذه المساعدات إلى اعتماد الدولة الوظيفية على الولايات المتحدة لضمان استمرارها وبقائها إذ أصبح التمويل الخارجي المصدر الأساسي للدخل بالنسبة لأعضاء الدولة الوظيفية، وأصبح دخلهم غير مرتبط بإنتاجيتهم أو عرَق جبينهم أو عملهم وإنما بالدور الإستراتيجي الذي يضطلع به التجمع ككل، وبالدولار الذي يُدفَع له أجراً عن هذا الدور.

لكل هذا، يرى خبراء الاقتصاد في بنك إسرائيل، في محاولتهم تقييم الأداء الاقتصادي الإسرائيلي والتنبؤ بمساره الاقتصادي، أن أهم حدث في هذا المجال في السنوات الأخيرة ليس التحولات الاجتماعية وظهور طبقة من المستهلكين تتمتع بالتبرعات المجانية وترتدي جلداً سميكاً من عدم الاكتراث الاجتماعي، وليس انخفاض إنتاجية الإسرائيليين أو ارتفاعها أو حجم الاستيراد أو التصدير، أو الميزان التجاري أو غيرها من المعايير المستخدمة في تقييم الأداء الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات الأخرى، فأهم حدث هو "زيادة المساعدات الأمريكية إلى إسرائيل [أهم مصادر الدخل الثابت] من حوالي 10% إلى حوالي 20% من الناتج". وعلى كلٍّ، بيَّن سبير أن مصطلحات مثل «العجز التجاري» وخلافه غير ذات موضوع، لأن الإسرائيليين يحصلون من الخارج على تحويلات من جانب واحد "أي على هبات لا حاجة إلى سـدادها، كقيمـة العجز المتراكم خلال ثلاث سنوات في ميزان مدفوعاتنا".

جـ( افتقاد السيادة:

هذه المساعدات السخية تضمن للمستوطنين الصهاينة الاستمرار، ولكنها في الوقت نفسه تقوِّض استقلالهم وسيادتهم (تماماً كما كان يحدث مع أعضاء الجماعات الوظيفية الذين كانوا يتمتعون بالدخل المرتفع والمكانة المتميِّزة ولكنهم كانوا يعتمدون اعتماداً كاملاً على الراعي أو الحاكم). ويساهم التطور السريع الذي تشهده صناعة السلاح وزيادة نفقات التسليح في تَزايُد اعتمـاد المسـتوطنين الصهاينـة على دولـة إمبرياليـة متقدمـة. ولذا، فإن إشكالية العجز وعدم المشاركة في السلطة أو صنع القرار تزداد عمقاً (مع أن أحد الأسباب الرئيسية لتأسيس الدولة الصهيونية ـ من منظور الفكر الصهيوني ـ هو حل هذه الإشكالية بين الجماعات اليهودية باعتبارها جماعات وظيفية تخدم الطبقة الحاكمة دون أن تشاركها في صنع القرار).

ويظهر افتقاد السلطة وعدم المشاركة في القرار في الدور غير العادي الذي يلعبه في الوقت الحاضر وزير الخارجية الأمريكي في توجيه السياسة الاقتصادية الإسرائيلية. فهو ـ على حد قول الصحفي الإسرائيلي شموئيل شنيتسر في مقال له بعنوان «كم بقى لنا من الاستقلال» ـ يقوم بتحديد الأهداف وسبل العمل، ويلعب دور المشرف الدائم على تنفيذ التعليمات المكتوبة التي يقوم بنقلها إلى وزراء المالية الإسرائيليين. وقد بيَّن سبير أن تغيير وزراء المالية الإسرائيليين وكَبْح التضخم النقدي، كلها أمور ثانوية بالقياس إلى القرار الأمريكي الخاص بحجم المعونة الأمريكية، فقد اشترت أمريكا بأموالها الحق الأخلاقي في عملية الإشراف التي تقوم بها إذ أن من يقدم الأموال هو صاحب صلاحية الحسم.

ويقرر شنيتسر أن السياسات الاجتماعية للمجتمع الصهيوني وعلاقاته الدولية، وكذلك إنفاقه الأمني، كلها أمور أصبحت تقريباً تقع خارج نطاق القرار الإسرائيلي المستقل. فوزير الخارجية الأمريكي يعمل منطلقاً من صالح بلاده لا من واقع الأهداف الصهيونية، وحينما تدفع بلاده الهبات فإنه يريدها أن تُنفَق لأغراض الطيران أي لأغراض القتال، فهو غير معنِّي بالأهداف الصهيونية التي من بينها أن إسرائيل دولة مهاجرين يجب أن تقوم بزيادة خدمات الرفاه لمواطنيها، وهو لا يدرك أن سياسات إسرائيل الاقتصادية لها خصوصيتها الصهيونية الاستيطانية. فالبطالة التي تؤخذ كظاهرة طبيعية في أمريكا ستشجع ظاهرة النزوح من إسرائيل، الأمر الذي يهدد أمنها. ولكن هذه كلها أمور صهيونية لا تعني وزير الخارجية الأمريكية كثيراً. إن الأمر قد وصل في إسرائيل إلى حد أن العقد الاجتماعي هناك قد أصبح مؤسَّساً على حقيقة الهبات الأمريكية الضخمة، فالإسرائيليون لم يَعُد بوسعهم العمل بموجب حاجاتهم وتطلعاتهم الصهيونية. وحينما يتفاوض العمال مع أرباب الصناعات، فإن كل ما يمكن إحرازه من خلال إجراء مفاوضات مع ممثلي العاملين ومع أرباب العمل هو إيجاد أساس من الاتفاق القومي لتنفيذ السياسة التي يمليها وزير الخارجية الأمريكي. ولكن ما نسيه شنيتسر أن وزير الخارجية الأمريكي هو المعادل الأمريكي الحديث لبلفور، وأن العقد الاجتماعي الإسرائيلي الجديد هو امتداد لعقد بلفور القديم وترجمة متعينة له في ظروف الثمانينيات.

وأصبح افتـقاد إسرائيل لحرية القـرار يظهر، وبشـكل أكثر وضوحاً، في علاقات إسرائيل الدولية التي لا يمكن تفسيرها أو فهمها إلا من منظور التبعية الإسرائيلية للولايات المتحدة. فقد كانت علاقة الدولة الصهيونية مع جنوب أفريقيا تُسقط شرعيتها أمام الدول الأفريقية التي تشكل مجالاً للانتشار الإسرائيلي في مواجهة الرفض العربي. كما أن علاقاتها مع الدول الفاشية المختلفة التي تضطهد الجماعات اليهودية وغيرها من الأقليات والطبقات (مثل النظام العسكري السابق في الأرجنتين) تُسقط شرعيتها كدولة يهودية تشكل ملجأ ليهود العالم. وكذلك فإن قيامها بتزويد السلفادور بالسلاح يُسقط شرعيتها كدولة ديموقراطية صغيرة تدافع عن مُثُل المساواة والعدالة. وتتدعم الصورة السلبية التي تقوض كل أساطير الشرعية الإسرائيلية الصهيونية حينما تقف إسرائيل إلى جانب كل إجراء سياسي أمريكي في العالم مهما كان متطرفاً ويستحق الانتقاد. لا يمكن تفسير كل ذلك أو فهمه من منظور مصلحة إسرائيل أو رغبتها في البقاء، وإنما يمكن تفسيره وفهمه في إطار دورها الإستراتيجي كدولة وظيفية تخدم مصالح الولايات المتحدة.

كما أن ميزانيات إسرائيل العسكرية لا يمكن تفسيرها هي الأخرى إلا في الإطار نفسه. وقد قام سبير بتحليل ما سماه «استهلاك إسرائيل الأمني» مقابل الاستهلاك الفردي، فأشار إلى أن احتياطي رأس مال إسرائيل العسكري (أي إجمالي شبكات الأسلحة والذخيرة والعتاد والأرضية وما شابه) ازداد من 21.5 مليار دولار إلى 54.5 مليار دولار. هذه الزيادة لا يمكن تفسيرها في إطار احتياجات إسرائيل الأمنية وحدها وإنما يمكن شرحها بالعودة إلى حلقة أوسع؛ فالإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية ـ كما يقول الكاتب الإسرائيلي ـ لا تحددها متطلبات إسرائيل الأمنية الذاتية الحقيقية وإنما تحددها الاحتياجات الأمنية والعسكرية الدولية للمموِّل الموجود في واشنطن ومانهاتن.

ولكن الصهاينة باعوا أنفسهم منذ البداية، كما قالت حنه أرنت، واشترت الولايات المتحدة بأموالها الحق الأخلاقي في التحكم في إسرائيل، وهكذا فإن بوسعها أن تتدخل وتُسدي لإسرائيل النصح بشأن أشياء تتعلق بالسيادة القومية. فعلى سبيل المثال، حينما قرَّرت المؤسسة الصناعية العسكرية في الولايات المتحدة أنها لا يمكن أن تسمح لأحد (حتى إسرائيل) بأن يتقاسم معها سوق الطائرات، صدرت الأوامر للدولة الصهيونية بأن تُوقف إنتاج طائرة اللافي، رغم حاجة الاقتصـاد الصهيوني لها (للإبقـاء على المسـتوطنين ذوي المؤهـلات العالية). وكان على الدولة أن تخضع. وعلى كلٍّ، لم يكن بمقدور إسرائيل أن تنتج هذه الطائرة بدون دعم المموِّل. كما أن المموِّل الأمريكي كان بإمكانه أن يتدخل ليمنع ترقية ضابط كبير (العقيد أفيعام سيلع) في سلاح الجو الإسرائيلي بسبب دوره في حادثة بولارد. وكان يمكنه أيضاً أن يطلب من عميلته (إسرائيل) أثناء حرب الخليج أن تلزم قواتها ثكناتها (حتى لا تسبِّب له حرجاً أمام حلفائه العـرب) وسُمِّي هذا "ضبط النفس".

ولا يملك الحارس الذي ارتضى هذا الدور إلا الخضوع والتكيف، فأقصى ما يطمح إليه هو أن ينعم برضى وليّ نعمته وأن يحصل على قسط وافر من أمواله. وقد وصف شلومو ماعوز الطبيعة المذلة للدور الوظيفي المملوكي الذي تلعبه إسرائيل (دون أن يستخدم المصطلح بطبيعة الحال) وضرورة أن يتلوَّن المملوك بطريقة تُرضي المالك، فقال إن واشنطن كانت تفضل بيريز على بيجن (كقائد للمماليك) لأن الأخير لا يزال عنده بقية من التبجح القومي. أما بيريز فمَرن متفاهم يرى أن ذاته القومية ليست على درجة كبيرة من الأهمية، وهو لهذا السبب نفسه لا يشعر بأي حرج في طلب المساعدات. وقد يرفض الأمريكان إعطاءه كل ما يريده في الوقت الحاضر، ولكنهم مع هذا يفهمون جيداً مضمون رسائله. ولعل هذا هو السرّ في عودة رابين وبيريز إلى الحكم حين حان وقت المفاوضات.

والعلاقة بين المالك والمملوك ليست دائماً علاقة منسجمة فقد يشوبها أحياناً شيء من التوتر. فالمملوك قد يزمجر أحياناً من ثقل المهام الموكلة إليه. وكثيراً ما يضنّ المالك على المملوك، ولكنه مع هذا يريد مزيداً من القتال، وأحياناً تمارس الولايات المتحدة الضغط على إسرائيل لتخفض مستوى معيشتها. فتحتج إسرائيل كما جاء على لسان ماعوز الذي قال إن مثل هذا الخفض سيضعف أداء الدولة الصهيونية. فعبء ميزانية الدفاع الذي يثقل كاهل الإسرائيليين ـ حتى مع المساعدة الأمريكية ـ هو أكبر عبء في العالم. وفي هذا ظلم وأيُّ ظلم، إذ أن المملوك لا يمكنه أن يستمر في أداء دوره القتالي بكفاءة إلا بعد أن ينال مالاً كافياً.

ولكن المستوطنين الصهاينة، الذين تركوا بلادهم وأممهم ليحققوا الهوية المستقلة، كما عرَّفها الصهاينة، والذين يطمحون إلى أن يصبح اليهود متحكمين في مصيرهم لأول مرة منذ سقوط الهيكل الثاني، ويرون أنهم قادرين على وضع نهاية لعجز اليهود وعدم مشاركتهم في السلطة أو صنع القرار، هؤلاء المستوطنون الصهاينة تكمن مشكلتهم في أنهم حبيسو دورهم المملوكي الوظيفي الاستيطاني ولا يملكون منه فكاكاً. فعجزهم الاقتصادي يتزايد على مر الأيام، وبالتالي، يزداد اعتمادهم على الهبات الحكومية الأمريكية. وقد أصبح حجم هذه المساعدات من الضخامة بحيث تتضاءل بجواره المساعدات التي يرسلها يهود العالم. وبالتالي، يتناقص استقلالهم "اليهودي" المزعوم ويتآكل تَحكُّمهم في مصيرهم ويزداد تورُّطهم ويتعمق مأزقهم إلى أن وصل بهم الأمر إلى حد أنهم لم يبق لهم من السيادة القومية سوى رموزها اليهودية الصارخة، دون أيِّ مضمون حقيقي، حتى أصبحوا مرة أخرى مثل الجماعات اليهودية الوظيفية (مثل يهود الأرندا ومثل أقنان البلاط بل مثل كبار المرابين وصغارهم) أداة استغلال تابعة لصانع القرار (غير اليهودي) لا تشارك البتة في صنع القرار نفسه، الأمر الذي يطرح مشكلة عدم المشاركة في السلطة مرة أخرى وبحدة.

بل إن الأمور قد ازدادت سوءاً عن ذي قبل، إذ أن المجتمع الإسرائيلي لم يصبح فقط مجتمعاً تابعاً لا يشارك في صنع القرار وإنما أصبح متسولاً. وقد استخدم سبير صورة الشحاذ المجازية عدة مرات في مقاله ليصف المجتمع الإسـرائيلي على أنه "مجتمـع يمدُّ يده لاســتجداء الكرماء"؛ مجتمعاً "يأكل وجبات مجانية" وتعتمد قائمة طعامه على الزيت الذي يقطر من الخارج. وقد استخدم شنيتسر الصورة المجازية نفسها عندما تحدَّث عن المجتمع الإسرائيلي باعتباره مجتمعاً يعتمد على مائدة الولايات المتحدة، كما قال عنه زيفا ياريف إنه "مجتمع يُنفِّذ بكل خضوع رغبة من يقدِّم له الخبز". لقد أصبـح المماليك الاستيطانية، إذن، شنورير (متسولين) يعيشون على الحالوقة (أي الصدقة(

ولكن إذا كان المتسول التقليدي يمدُّ يده في إطار ديني، يعد المتصدقين بالثواب وجنات النعيم، فإن الشحاذ الإسرائيلي سميك الجلد كل همه أن يستهلك المساعدات ويأخذ دون خجل ودون أن تعلو خدوده أية حمرة. وهو لن يحرم نفسه من المأكل والملذات ما دام هناك شخص آخر يقوم بتسديد الحساب، إنه يأخذ بكلتا يديه من صحن المساعدات، وبدلاً من أن يطلب للمحسن جنات النعيم، فإنه يَعد بإطلاق ألسنة الجحيم على المجتمعات المستهدفة.

والمجتمع الإسرائيلي ليس شحاذاً وحسب، وإنما هو مجتمع يشبه الطفل الذي يرضع المليارات من الدولارات، وهو يشبه المدمن أيضاً فهو يستسلم للمعونات كمن يستسلم للمخدر. وكل هذه الصور المجازية (التي وردت في كتابات إسرائيلية) تنطوي على عنصر فقدان الإرادة وانعدام القوة والتحوسل.

وقيام الولايات المتحدة بتمويل الدولة الوظيفية بشكل مكثف هو الذي يجعل هذه الجماهير تخضع في نهاية الأمر لدورها المملوكي الاستيطاني القتالي، فحينما تتدفق الأموال تبهت كل الصراعات الاجتماعية والطبقية والإثنية (وقد تتفكك وتختفي)، خصوصاً أن الدولة الوظيفية الصهيونية لا تقودها طبقة مستغلة أجنبية أو محلية وإنما نخبة حاكمة ليس لها مصالح طبقية مستقلة. وهي تدير المجتمع من خلال جهاز الدولة الذي يتكون من مجموعة من المؤسسات الجماعية مثل الهستدروت والكيبوتس والوكالة اليهودية، وبالتالي فإنها تقوم بتوزيع العائد المالي للوظيفة القتالية (الدعم الإمبريالي) على كل المستوطنين بكل طبقاتهم بشكل قد لا يتسم بالمساواة الكاملة، ولكنه، مع هذا، يكفل الحفاظ على الأمن الاجتماعي الداخلي وعلى استمرار جماهير الدولة الوظيفية في قبول الاستمرار في وظيفتهم، القتال في سبيل المال.

وقد لخص شنيتسر الموقف بقوله إن العلاقة مع الولايات المتحدة تشبه "المصيدة التي لا يمكن التخلص منها"، أي لا مفر ولا اختيار (إين بريرا). ولكن العلاقة بين الغرب (ممثلاً في الولايات المتحدة) والدولة الوظيفية (إسرائيل) علاقة تعاقدية "فلا يوجد عطاء دون أخذ" على حد قول سبير. والدولة الوظيفية الصهيونية، كما يعرف الاستعمار وكما يعرف المماليك الاستيطانية، لا أهمية لها في حد ذاتها ولا قيمة، فهي تكتسب قيمتها (أو نفعها) من خلال الدور الذي تلعبه أو الوظيفة التي تؤديها. والمستوطنون، أي العنصر البشري الذي تم توظيفه، يعرفون تماماً أن الهبات ستستمر في التدفق إن اضطلعت دولتهم الوظيفية بالدور الذي أُسِّست من أجله.

د) الاستقلال النسبي للدولة الوظيفية:

ورغم هذا الاعتماد الكلي على الدولة الراعية، تتمتع الدولة الوظيفية الصهيونية بقدر من الاستقلال النسبي، وقد يبدو هذا لأول وهلة وكأنه تناقض. ولكن التناقض سيختفي تماماً إن تَذكَّرنا أن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لا يشكل جزءاً عضوياً لا يتجزأ من الاسـتعمار الغربي وإنما هو مجرد آلة في يد الغرب. ومن المُلاحَظ أن كل الدول والجيوب الاستيطانية تعتمد على إحدى الدول الغربية، في المراحل الأولية من تطوُّرها. ويُحـدِّد مـدى هـذا الاعتماد ومدته والشكل الذي يأخذه، مجموعة من الظروف التاريخية والسياسية. فبعض الجيوب الاستيطانية مثل أنجولا والجزائر تظل منفتحة تماماً على الوطن الأم، وتحتفظ بروابط قوية بل وعضوية معه، وتستمد إحساسها بهويتها منه، ولذا فإن كل ما يقرره الوطـن الأم يكون بمنزلة القانـون الذي يجـب أن يُنفَّذ. ذلك لأن الجيب الاستيطاني، في هذه الحالة، مهما بلغ من قوة واستقلالية، لا يعدو أن يكون جزءاً عضوياً من الوطن المستعمر. وإذا تعارضت المصالح بين الوطن والجيب الاستيطاني، لسبب أو آخر، وثبت أن الأخير مُكلِّف ومُعوِّق، فإنه يتم تصفيته ويتم إعادة المستوطنين إلى أرضهـم الأصليـة التي نزحوا عنها، ويتم حسـم الصـراع لصـالح الدولة الأم. ومن ناحية أخرى، توجد بعض الجيوب الاستيطانية التي تحصل على درجة من الحكم الذاتي والاستقلال النسبي عن الدولة الغربية التي ترعاها. ويستولي المستوطنون، إن عاجلاً أو آجلاً، على السلطة، ويقيمون دولة خاصة بهم، مقصورة عليهم، كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة ودولة جنوب أفريقيا العنصرية.

وكان المخطط الصهيوني يهدف إلى أن تكون الدولة الصهيونية الوظيفية من النمط المستقل. وحين سأل الاستعماري البريطاني سير سيسل روديس الزعيم الصهيوني وايزمان عن سبب اعتراضه على وجود سيطرة فرنسية محضة على الدولة الصهيونية، رد الأخير قائلاً: إن الفرنسيين ليسوا كالإنجليز، إذ أنهم يتدخلون دائماً في شئون السكان (أي المستوطنين) ويحاولون أن يفرضوا عليهم الروح الفرنسية.

وقد قام الصهاينة بطرد الفلسطينيين فعلاً، وأنشأوا دولتهم الصهيونية المستقلة. ولكن التطورات التاريخية أظهرت أن الجيب الصهيوني لا يندرج تحت أي نوع من أنواع الاستيطان المألوفة، فهو يعتمد على قوة غربية عظمى اعتماداً كاملاً، ولكنه في الوقت نفسه يتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلال، ومثل هذا الوضع الشاذ يمكن إرجاعه إلى عدة عوامل خاصة بالصهيونية وحدها. فالمستوطنون الصهاينة لم ينشأوا في دولة أوربية واحدة يدينون لها وحدها بالولاء، وتقدم هي لهم بدورها الحماية أو المأوى في حالة تصفية الجيب الاستيطاني. فالصهاينة، على عكس سكان المستوطنات الآخرين، ليس لهم وطن أم، وإنما لهم زوجة أب فحسب (إن أردنا استخدام الصورة المجازية نفسها) مستعدة للتعاون معهم ولكن في حدود. فالعلاقة بين المستوطنين الصهاينة والدولة الغربية التي ترعاهم تستند إلى المصلحة المشتركة، فهي علاقة تعاقدية نفعية وليست نتاج روابط حضارية عميقة أو عضوية. ولذا، فإن الجيب الصهيوني لا يتمتع بالحماية الدائمة من جانب دولة واحدة وإنما يتمتع بالحماية المؤقتة من جانب عدد من الدول (الواحدة تلو الأخرى). ولعل هـذا يُفسِّر سـبب انتقال القـيادة الصهيـونية من مركز جذب إلى آخر. ولكن، وبسبب هذا الوضع نفسه، حقق الجيب الاستيطاني قدراً كبيراً من الاستقلال يفوق كثيراً درجة الاستقلال التي تتمتع بها الجيوب الأخرى.

هذا الإيقاع المركب من الجذب والتنافر، من الحكم الذاتي والاعتماد المذل، ومن التحالف مع الدولة الحامية والصراع معها، هو الذي ميَّز العلاقات الصهيونية الغربية منذ البداية. وقد حاول كل جانب أن يستغل الآخر، وأن يحدِّد منطقة المصالح المشتركة بطريقة تخدم مصالحه هو أساساً. فالصهاينة لم يتمكنوا من اكتساب موطئ قدم في الأرض الفلسطينية إلا من خلال وعد بلفور والانتداب البريطاني وبصفة خاصة مؤسساته السياسية والعسكرية الذي فتح بوابات فلسطين على مصراعيها أمام الهجرة اليهودية. ولم يشدد المستوطنون الصهاينة قبضتهم على الأرض، ولم يتزايد عددهم، إلا بعد تعاونهم الكامل مع حكومة الانتداب. وعندما زادت المقاومة العربية في فلسطين، عام 1930 وبعده، قامت بريطانيا بحماية الصهاينة بشكل علني وسري. وقد وصف بن جوريون موقف حكومة الانتداب والحكومة البريطانية أثناء هذه الفترة العصيبة بأنه أكبر نجاح سياسي منذ صدور وعد بلفور. وقد بيَّن أحد مراسـلي هآرتس، في مقـال لـه عن التوازن العسـكري في فلسطين، أن قوة الصهاينة بعد ثورة عام 1936 كانت تستند إلى التأييد القوي الذي تلقوه من جانب الحكومة والجيش البريطاني في فلسطين، وهـو الأمر الذي أدَّى في نهاية الأمر إلى الانتصـار الصهيـوني عام 1948، أي أن الراعي الإمبريالي لعب دوره كاملاً تجاه الجماعة الوظيفية الاستيطانية حتى تحولت إلى دولة وظيفية استيطانية.

ولكن العلاقة بين الاستعمار البريطاني والجيش الوظيفي الاستيطاني ساءت تحت ضغط عوامل جديدة في الموقف من بينها الضغوط التي مارستها الحكومات العربية الصديقة على الحكومة البريطانية، وتَصاعُد المقاومة الفلسطينية، إلى جانب زيادة المخاوف البريطانية من احتمال تَغلغُل عملاء الجستابو بين صفوف المهاجرين اليهود. وقد ساد الاعتقاد في ذلك الحين (وتأكد فيما بعد) بأن النازين مدوا يد العون للهجرة الصهيونية (الهجرة غير الشرعية)، وأنهم قرَّروا استغلالها كوسيلة لخلق مشاكل للبريطانيين في الشرق الأوسط (ومن الشائع أن تغيِّر الجماعة الوظيفية من ولائها من راع إلى آخر، فالحامية اليهودية في جزيرة إلفنتاين مثلاً كانت جماعة وظيفية قتالية زرعها فراعنة مصر هناك، ولكنها غيَّرت ولاءها مع الغزو الفارسي وأصبحت موالية للغزاة الفرس ضد المصريين). وهذه العوامل الجديدة أدَّت إلى خلق التناقض بين الجماعة الصهيونية الاستيطانية الوظيفية وحكومة الانتداب، ومن ثم أصدرت الحكومة البريطانية عدداً من القوانين والكتب البيضاء التي تُظهر تَفهُّماً لمطالب العرب، وتم إحياء بعض المفاهيم الأساسية الشاملة ـ التي طالما تجاهلها البريطانيون ـ مثل الطاقة الاستيعابية لفلسطين. وقد كان التناقض بين الحكومة البريطانية والجيب الصهيوني يأخذ أشكالاً حادة ومتطرفة أحياناً كما ظهر في حالة نسف فندق الملك داود.

بيد أن الصراع بين الطرفين تم احتواؤه، وقد حاول جابوتنسكي أن يبرر مناهضته المزعومة لبريطانيا (في خطاب أرسله إلى ليوبولد إمري عام 1935) فأكد أنه، على الرغم من النقد الذي يوجِّهه إلى بريطانيا، لا يزال يُكّن لهـا الولاء والامتنان، وطـالما ظـل وعد بلفـور قائماً، فهو يؤيد إنجلترا سواء أكانت على صواب أم كانت على خطأ. وكان بن جوريون مستعداً لأن يُقسم، حتى أثناء الفترة التي توترت فيها العلاقات بين إنجلترا والجيب الصهيوني، أن دولة اليهود الوظيفية في فلسطين ستقوم بحماية المصالح البريطانية. وبعد إنشاء الدولة الصهيونية، عادت العلاقات مع بريطانيا إلى سابق عهدها، وأصدرت بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية الإعلان الثلاثي لضمان إسرائيل. وقد وصل التعاون مع الإمبريالية الغربية، وخصوصاً بريطانيا، إلى ذروة جديدة مع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. ولكن هـذه العلاقـات الطيبــة لم تَدْم طـويلاً؛ ففرنسـا، في عهد ديجول على نحو الخصوص، اتخذت موقفاً أقل ممالأة لإسرائيل عن ذي قبل، وتبعتها إنجلترا وإن كان ذلك بدرجة أقل.

ويُعقِّد الموقف تَمتُّع يهود العالم بدرجة من الاستقلال النسبي وإن كانوا يشكلون في الوقت نفسه جزءاً من كيان أكبر يخضعون لقوانينه وتوجيهاته. فالأمريكيون اليهود يمدون إسرائيل بالمساعدات المالية والسياسية بحماس شديد، ولكن مثل هذه المساندة ستستمر ما دامت هناك مصالح مشتركة أساسية بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ويلعب الصهاينة التوطينيون دوراً مزدوجاً، فهم يقومون بالضغط على الولايات المتحدة لتحصل إسرائيل على درجة من الحرية والاستقلال أكثر من أية دولة أخرى تابعة، ولكن هؤلاء التوطينيين كثيراً ما يجدون أنفسهم مضطرين في مرحلة ما (وهنا تكمن سخرية الموقف) إلى أن يمارسوا الضغط على إسرائيل عندما تقرر الولايات المتحدة أنه ينبغي على إسـرائيل أن تغيِّر سياسـتها بطريقة تتمـشى مع المصالح الدولية الأمريكية. إن تاريخ الصهيونية مليء بالتوترات، ليس بين الصهيونية ويهود العالم فحسب ولكن بين الصهيونية الاستيطانية والصهيونية التوطينية كذلك.

ومهما يكن الأمر، فإن علاقة الشد والجذب تُبيِّن مدى تعاقدية العلاقة ونفعيتها وموضوعيتها ومدى تَحوسُل الدولة الوظيفية التي يُنظَر لها بشكل محايد نفعي كدور يُلعَب ووظيفة تُؤدَّى.

2 ـ العزلة والغربة:

العزلة هي سبب ونتيجة في آن واحد لوضع أعضاء الجماعات اليهودية، إذ أن المُرتزق المقاتل الذي يُنكِّل بالجماهير ويُستخدَم أداةً لقمعها لابد أن يكون معزولاً عنها. ويجب هنا تأكيد أن عزلته ليست أمراً عرضياً يمكن للعنـصر القتـالي تَجاوُزه بعد مرحلـة زمنيـة معيَّنة، وإنما هي جزء جوهري وعضوي لا يتجزأ من وظيفته، فالمرتزق لا يمكنه أداء وظيفته على أكمل وجه إن لم يكن معزولاً عن الجماهير التي يقوم بالتنكيل بها، إذ أن الدخول في علاقة إنسانية مع أعضاء المجتمع تجعل قيام عضـو الجماعة الوظيفية القتالية بذبحهم عسـيراً، فالإنسان لا يذبح في غالب الأحيان إلا الغريب المباح، أما القريب (الذي يقع داخل دائرة القداسة) فمن الصعب قتله. ولذا، فقد حرصت الطبقات الحاكمة دائماً على أن تكون العناصر القتالية (وخصوصاً التي تُستخدَم في المواقع الأمنية) عناصر مستوردة من خارج المجتمع، ضعيفة الانتماء له، هويتها مرتبطة بالوطن الأصلي الذي جاءوا منه وأرض الميعاد التي سيعودون إليها أو الجماعة الوظيفية الغريبة التي ينتمون إليها، فهي الوطن الوحيد الذي يعرفونه والكيان الذي يدينون له (ولراعيه) بالولاء. والتميز الإثني لأعضاء الجماعة الوظيفية يفرض عليها عزلة لا يمكنهـا الفكاك منها، إذ تصبح هذه الإثنية التي هي مصدر عزلتها، هي نفسها مصدر هويتها وكينونتها وأساس وظيفتها وسرّ كفاءتها وضمان استمرارها وبقائها. ولذا، كانت الطبقات الحاكمة تصر على أن يحتفظ العنصر القتالي الوافد بهويته الإثنية الخالصة، حتى تظل آليات العزلة والغربة ومقومات الكفاءة القتالية كامنة في أعضاء الجماعة الوظيفية، ومن هنا كان استيراد المماليك ضرورياً، ومن هنا أيضاً كان أبناؤهم، ممن وُلدوا في مصر ونشأوا فيها، لا يُجندون في صفوف النخبة العسكرية التي ينتمي إليها آباؤهم. هذا هو سبب العزلة. ولكن عضو الجماعة الوظيفية يصبح محط كراهية الجماهير فتزداد عزلته عنها ويزداد التصاقاً بالطبقة الحاكمة، واعتماداً عليها (لدعمه وحمايته وبقائه واستمراره) ومن ثم تتصاعد شراسته تجاه الجماهير.

ولهذا، كان نقل العنصر البشري اليهودي من الغرب إلى فلسطين محتماً ليتم توظيفه داخل الدولة الوظيفية الصهيونية، ومن هنا إصرار الدولة الراعية التي قامت بحوسلة اليهود، وكذلك الزعماء الصهاينة، على الهوية اليهودية المزعومة للدولة الصهيونية، فهذه الخاصية هي ضمان عزلتها، كما أن عزلتها هي ضمان ولائها للغرب وشراستها تجاه العرب.

وقد تم إنجاز ذلك أساساً من خلال الفكرة المحورية في الحضارة الغربية (وفي التراث الحلولي اليهودي)، فكرة اليهود كشعب عضوي منبوذ، فهو شعب عضوي يرتبط عضوياً بأرض فلسطين، ولذا فهو يخرج من أوربا. ولكن، كيف يمكن توظيف هذا الشعب في خدمة الحضارة الغربية؟ سنجد أن هذا الشعب الذي طردته أوربا سيتحول بعد وصوله إلى فلسطين إلى شعب غربي يدور في إطار الحضارة الغربية ويرفع لواءها ويدافع عن مصالحها. ولا يجد الصهاينة والمستعمرون أية غضاضة في استخدام كل من الديباجة اليهودية (الحلولية العضوية) الخالصة والديباجة الغربية. فالأولى مناسبة للصهاينة الإثنيين (العلمانيين والدينيين) والثانية مناسبة للعواصم الغربية والصهاينة التوطينيين والعلمانيين الذين لا تهمهم الإثنية. فالمستوطنون الصهاينة هم يهود خُلَّص، يُوطَّنون في فلسطين حيث سيؤسسون دولة هي حصن للهوية اليهودية ضد الاندماج في الأغيار. ولكنهم هم أيضاً، في الوقت نفسه، حصن للحضارة الغربية ضد الهمجية الشرقية. ويحّل المؤرخ الإسرائيلي تالمون المشكلة بأن يقرِّر أن ما يُسمَّى «الحضارة اليهودية» جزء من التشكيل الحضاري الغربي. وهذا الإحساس بالانتماء للغرب أو للحضارة اليهودية أو للحضارة اليهودية الغربية، يجعل وجود إسرائيل في الشرق الأوسط مسألة عرضية غير مرتبطة بجذورها الحضارية وإنما بوظيفتها القتالية. فجذور المستوطنين الصهاينة تضرب في الغرب (وطنهم الأصلي) وفي الحضارة اليهودية، أما وظيفتهم فهي الدفاع عن الغرب في الشرق. فالمُستوطَن الصهيوني يوجد في الشرق العربي ولكنه ليس منه، شأنه في هذا شأن أية جماعة قتالية استيطانية. وهذا الإحساس يُذكِّر اليهودي بأنه منقـول من مكان لآخر، وأنه ينتمي إلى حضارة أخرى، وأن دولته هي دولة الشتتل المشتولة.

 

 وقد تحوَّلت الدولة الصهيونية بالفعل إلى دولة جيتو أو شتتل تحاول الحفاظ على هويتها اليهودية أي عزلتها الكاملة؛ سكانها من اليهود الملحدين ذوي الديباجات الليبرالية أو الإثنية العلمانية أو من اليهود الملتحين المؤمنين ذوي الديباجات الإثنية الدينية. ويتحدث الجميع العبرية ويصرون على انتمائهم الغربي أو اليهودي في الصحراء العربية، فهم حصن (جيتو) للحضارة الغربية ضد الهمجية الشرقية (أي الجماهير المستغَلة). ولا يهم في هذا المضمار إن كانت الدولة الوظيفية دولة تحافظ على قداسة حائط المبكى أم أنها هي نفسها تقف حائطاً منيعاً أمام زحف الهمجية الشرقية، فما يهم أن تظل هذه الدولة معزولة منبوذة.

ومن هذا المنظور، يمكننا أن نرى العلاقة العضوية بين إحلالية الاستعمار الصهيوني وعزلته السكانية من جهة، ووظيفته القتالية الإستراتيجية من جهة أخرى. فالدولة الوظيفية الصهيونية لم يكن أمامها مفر من أن تطرد العنصر العربي وتُحلّ محله العنصر اليهودي، ذلك أن وجود العنصر العربي (المحلى) داخل القاعدة الغربية كان من الممكن أن يُولِّد حركيات وتناقضات اجتماعية تُضعف مقـدرته القتالية وقد تعدِّل مساره، بل قد تحوِّله إلى مجرد دولة أخرى قد تدخــل التحالف الغربي وقد تخــرج منه. أما الدولـة اليهودية (الغربية) الخالصة، فهي بمعزل عن مثل هذه التوترات والديناميات، الأمر الذي يضمن استمرارها في أداء وظيفتها.

وقبل أن ننتقل إلى النقطة التالية قد يكون من المـفيد ذكر العناصر التاليـة المرتبطـة تماماً بالعزلـة الوظيفية:

1 ـ لم تكن الجماعات اليهودية الوظيفية المالية جزءاً من البناء الاجتماعي، ولذا فإنها لم تساهم في بناء الرأسمالية الرشيدة إذ ظلت رأسماليتها رأسمالية منبوذة تماماً مثل الجماعة الوظيفية. وهذا أيضاً هو البناء الاقتصادي للدولة الصهيونية، فهي غير مرتبطة بالاقتصاد القومي الجديد الذي يظهر في الشرق العربي لارتباطها بالاقتصاد الغربي الذي تدور في إطاره. كما أنها تعتمد اعتماداً اقتصادياً كامـلاً على المعونات التي تتلقـاها من العالم الغربي. ومن هنا محاولة إنشاء السوق الشرق أوسطية بديلاً عن السوق العربية المشتركة.

2 ـ وقد كان المرابي اليهودي لا يستغل الفلاحين فحسب، وإنما كان يهدد الأساس المادي لوجودهم أيضاً، إذ كان ينزع ملكية الفلاحين بعد دورة الإقراض الطويلة. والاستعمار الصهيـوني في علاقته بالفلسطينيين، بدأ أولاً بنزع ملكيتهم وتحطيم مجتمعهم والأشكال الإنتاجية التي يستندون إليها، ثم أخذ في استغلالهم بعد عام 1967 باعتبارهم عمالة رخيصة متنقلة، أي أنه يستغلهم دون استيعابهم ودون الدخول معهم في علاقة اقتصادية متكاملة. كما أن الدولة الصهيونية دولة حديثة، ومع هذا فإنها لا تساهم في عملية التحديث، وهي دولة صناعية تُوقف التصنيع (في الضفة الغربية)، ودولة متقدمة تقف ضد التقدم، ودولة منتجة لا ترى نفسها داخل إطار من التكامل الاقتصادي بل تحاول وقفه. وعلى أية حال، فإن هذا هو الهدف من غرسها في المنطقة، تماماً كما كانت النخب الحاكمة في الغرب تستخدم أعضاء الجماعة اليهودية الوظيفية المالية في ضرب البورجوازيات المحلية.

3 ـ إحساس أعضاء التجمع الصهيوني بعدم الأمن (الذي يشبه إحساس أعضاء الجماعات الوظيفية المالية) هو ما يزيد تماسكهم الداخلي وتَقبُّلهم لقيادتهم التي تقوم بدور الوسيط بينهم وبين الممول الإمبريالي والتي تقوم بتوزيع الغنائم.

  • الاثنين AM 12:13
    2021-05-17
  • 948
Powered by: GateGold