المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409160
يتصفح الموقع حاليا : 359

البحث

البحث

عرض المادة

الدولــــة الصهيونيـــة الوظيفيــــة: الحوسلــــة

الدولــــة الصهيونيـــة الوظيفيــــة: الحوسلــــة
The Functional Zionist State: Instrumentalization
الدولة الوظيفية هي دولة تتم حوسلتها لصالح الدول الراعية الإمبريالية، ولكن يبدو أن الحوسلة في حالة الحركة الصهيونية لن تتوقف عند الدولة الوظيفية، بل ستمتد لتشمل كل المادة البشرية اليهودية أينما كانت. وفي اجتماع بين هرتزل وفيكتور عمانوئيل الثالث، ملك إيطاليا، أشار الزعيم الصهيوني إلى أن نابليون دعا إلى عودة اليهود إلى فلسطين ليؤسـسوا وطناً قومياً، ولكن ملك إيطاليا بيَّن له أن ما كان يريده في الواقـع هو أن يجعل اليهود المشـتتين في جميـع أنحاء العـالم عمـلاء له. وقد اضطر هرتزل إلى الموافقة على ما يقول، وقد اعترف بأن تشامبرلين، وزير الخارجية البريطاني، كانت لديه أيضاً أفكار مماثلة. وكان هرتزل يرى أنه إذا وافقت إنجلترا على مشروعه الصهيوني، فإنها ستحصل، «في ضربة واحدة»، على عشرة ملايين تابع (عميل) سري في جميع أنحاء العالم يتسمون بالإخلاص والنشاط، وبإشارة واحدة سيضع كل واحد منهم نفسه في خدمة الدولة التي تقدم لهم العون. "إن إنجلترا ستحصل على عشرة ملايين عميل يضعون أنفسهم في خدمة جلالتها ونفوذها". ثم أضاف هرتزل، مستخدماً الصورة المجازية التجارية التعاقدية الشائعة في الأدبيات الصهيونية، "ثمة أشياء ذات قيمة عالية تكون من نصيب الشخص الذي يحصل عليها في وقت لم تكن قد عُرفت قيمتها الحقيقية العالية بعد". وأعرب الزعيم الصهيوني عن أمله في أن تدرك إنجلترا مدى القيمة والفائدة التي ستعود عليها من وراء كسبها الشعب اليهودي، أي أن هرتزل مدرك تماماً لوظيفة الدولة اليهودية والشعب اليهودي ومدى نفعه وإمكانية حوسلته.


والخطة الصهيونية الخاصة بتسخير الشعب اليهودي جزء أساسي من العقيدة الصهيونية. ففي عام 1920، عبَّر ماكس نوردو عن تفهُّمه العميق للدوافع التي حركت رجال السياسة البريطانيين الذين كانت تواجههم مشـكلة التـوازنات الدولية. وبعد القـيام بحسـاباتهم تَوصَّل هؤلاء الساسـة إلى أن اليهود يُعتبَرون في الحقيقـة "مصدر قوة" وربما "مصدر نفع" أيضاً لبريطانيا وحلفائها، ومن ثم عرضت عليهم فلسطين.

ويُلاحَظ أن كل الكُتَّاب السابقين ينظرون إلى إسرائيل باعتبارها «رقعة» أو «مساحة» أو «مكاناً تابعاً» أو «بلداً» تحت الوصاية (فهي مكان تم نزع القداسة عنه وتمت حوسلته تماماً حتى أصبح موضوعاً محضاً). وهم يعتبرون المستوطنين الصهاينة حراساً و"خدمة عسكرية جاهزة": جماعة من المماليـك أو المرتزقة على أهـبة الاسـتعداد دائماً. والمملوك أداة ووسـيلة، وليس إرادة وقيمة.

وسواء كانت الإشارات للمكان أو كانت للإنسان، فإن جوهر الصور المجازية جميعاً هو التبعية الكاملة للغرب، والتحوسل الكامل لحسابه، وتحويل المكان والإنسان إلى أداة منعزلة عن المحيط الحضاري الشرقي («ذراع مستقبلية»). وقد مزج هرتزل، مؤسس الصهيونية، كل العناصر في تعبيره المجازي الشهير حين قال: "سنقيم هناك [في آسيا] جزءاً من حائط لحماية أوربا يكون حصناً منيعاً للحضارة [الغربية] في وجه الهمجية"، فقد مزج الإنسان والمكان بحيث أصبحا حائطاً غربياً في مواجهة الشرق. (يُلاحَظ أن كلمة «إسرائيل» في العبرية كلمة متعددة المعاني متنوعة الدلالات وتشير للأرض والشعب تماماً كما فعل هرتزل).

ولا يزال إدراك الإسرائيليين لدورهم (وإدراك العالم الغربي له) يدور في هذا الإطار. وكثير من الصور المجازية التي يستخدمها المستوطنون الصهاينة في وصف الدور الموكل إليهم يبين إدراكهم لعملية الحوسلة الوظيفية هذه. فقد استخدمت جريدة هآرتس صورة مجازية درامية لوصف الدور الذي تم إسناده إلى الدولة اليهودية (في مقال في سبتمبر 1951) بعنوان "نحن وعاهرة المواني" جاء فيه أن "إسرائيل تم تعيينها لتقوم بدور الحارس الذي يمكن الاعتماد عليه في معاقبة دولة واحدة أو أكثر من جيرانها العرب الذين قد يتجاوز سلوكهم تجاه الغرب الحدود المسموح بها".

والصورة المجازية السابقة (إسرائيل كحارس أجير يشبه العاهرة) تلمس ـ على ما يبدو ـ وتراً حساساً في الذات الصهيونية الإسرائيلية، إذ تَكشَّف أخيراً من خلال وثائق وزارة الخارجية البريطانية لعام 1956 الخاصة بحرب السويس أنه، أثناء المباحثات السرية التي جرت بين إنجلترا والدولة الصهيونية ومهدت للعدوان الثلاثي على مصر، تم الاتفاق على أن تقـوم إسرائيل بمهاجـمة مصر. وبعـد وصولهـا إلى قناة السويس، تقوم إنجلترا وفرنسا بالتدخل ثم تصدران أمراً إلى الطرفين المصري والإسرائيلي بالانسحاب عدة كيلو مترات من حدود القناة، وبذا يتم تبرير الغزو الفرنسي والإنجليزي أمام الرأي العام العالمي باعتباره عملية محايدة تهدف إلى حماية الملاحة في القناة. وقد ضمنت الدولتان أمن إسرائيل وزودتاها بالغطاء الجوي المطلوب (وهذه أمور معروفة لا تحتاج إلى توثيق). ولكن يبدو أن المندوب الإنجليزي في هذه المفاوضات السرية بالغ قليلاً في الأمر وطلب أن تقوم القوات الإنجليزية بإلحاق بعض الإصابات الطفيفة، ولكن الفعلية، بالقوات الإسرائيلية لرفضها الانسحاب أو لتباطؤها فيه حتى يتم حبك المسرحية. وهنا ثارت ثائرة بن جوريون واستخدم صورة مجازية شبيهة بالصورة المجازية التي اسـتخدمتها هآرتس لوصـف العـلاقة بين إسرائيل والدول الغربية إذ قال: إنجلترا تشبه النبيل الإقطاعي الذي يرغب في معاشرة إحدى الخادمات جنسياً على أن يتم ذلك في الخفاء وحسب، أي في المطبخ مثلاً لا في حجرة النوم. ومن الواضح أن بن جوريون لم يرفض الدور الإستراتيجي الموكل إليه (الخادمة الحسناء)، ولكنه كان يطمع في أن يتـم الـلقاء بين الخـادمة والسـيد في مكان لائق (الحديقة أو غرفة النوم على سبيل المثال)، يتفق مع مكانة الشعب اليهودي وكرامة دولته اليهودية الوظيفية.

ومن الصور المجازية المتواترة الأخرى، صورة إسرائيل باعتبارها كلب حراسة. فقد وصف البروفسير يشعياهو ليبوفيتس في حديث له في صحيفة لوموند بتاريخ 8 مارس 1974 إسرائيل بأنها "عميل للولايات المتحدة" ووصف الإسرائيليين بأنهم "كلاب حراسة للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، ويتعلق بقاؤنا بقدرتنا على القيام بهذه المهمة ". وقد طوَّر الصحفي الإسرائيلي عاموس كينان هذه الصورة المجازية المثيرة من عالم الحيوان وجعلها أكثر حدة وإثارة إذ وصف إسرائيل بأنها "كلب حراسـة رأسـه في واشـنطن وذيلـه في القدس"، وهي كلب حراسة قوي لكنه يحتاج إلى حماية. ويفضل العرب استخدام «مخلب القط» كصورة مجازية لوصف الدولة الوظيفية. وهي صـورة مجـازية مألوفـة وشـائعة فَقَدت كثيراً من قوتها بسـبب تكرارهـا بشكل ممل، وإن كانت معبِّرة تماماً. والصورة المجازية السـابقة (الحارس، والعاهرة، والخادمة الحسـناء الطيعة، وكلب الحراسـة، ومخلب القط) سواء أقبلناها لجدتها أم رفضناها لحدتها، تؤكد أن أهمية إسرائيل من وجهتي النظر الغربية والصهيونية لا تكمن في عائدها الاقتصادي وإنما في دورها الإستراتيجي إذ أن كل الصور المجازية تفترض وجود دور يُؤدَّى وثمن يُدفَع، لا عائد اقتصادي يُحصَّل.

ولكن كل الصور المجازية السابقة،، اللائق منها وغير اللائق، هي في الواقع مستمدة من القرن التاسع عشر قبل تفجُّر الثورة التكنولوجية وتزايد معدلات نمو الصناعات الحربية وتنوعها. ولذا، كان تطَوُّر الصورة المجازية بشكل يتفق مع روح العصر في أواخر القرن العشرين حتمياً (والواقع أن إحدى السمات الأساسية الشاملة للدولة الوظيفية الصهيونية مقدرتها على تغيير وظيفتها بما يتفق مع متطلبات الدولة الراعية). وهذا ما أنجزه يعقوب ميريدور في حديثه للإذاعة التابعة للجيش الأمريكي، فقد بيَّن أنه لولا وجود إسرائيل كقاعدة ومنطقة نفوذ وحليف للولايات المتحدة لاضطرت الأخيرة إلى بناء عشر من حاملات الطائرات. وهو بذلك يكون قد أحلّ صورة إسرائيل المجازية كحاملة طائرات أمريكية محل الصور المجازية الغامضة أو الفاضحة السابقة. وترد الصورة المجازية نفسها، وبشكل أكثر تبلوراً، في مقال الصحفي الإسرائيلي سبير والمعنون «مجتمع يتغذى على الهبات الخارجية» إذ قال الكاتب: "إن الأمريكيين يدفعون لنا لأنهم يريدون أن تكون لهم دولة تابعة مجهزة بأفضل الأسلحة والجنود". وقد وصف سبير هذه الدولة بأنها حاملة طائرات عليها أربعة ملايين نسمة في موقع إستراتيجي فريد من نوعه قريب من الاتحاد السوفيتي وقريب من أوربا الشرقية وقريب من حقول النفط.

إسرائيل إذن «حاملة طائرات»، أي أنها وظيفة تُؤدَّى أو دور يُلعَب وأداة تُستخدَم أو ثروة إستراتيجية تضم أربعة ملايين مقاتل. ولا شك في أن صورة «الحاملة» المجازية أكثر دقة ودلالة من سابقاتها لأنها لا تتحدث عن دور الدولة الصهيونية أو وظيفتها بشكل عام، وإنما تعرِّف ـ وبدقة بالغة ـ طبيعته الإستراتيجية كدولة عميلة توجد في منطقة حدودية قريبة من الاتحاد السوفيتي (سابقاً) وأوربا الشرقية وحقول النفط، وليس لها عائد اقتصادي مباشر. وتؤكد الصورة المجازية حركية هذه الدولة النافعة الثمينة وإمكانية نَقْل جنودها من مكان حدودي إلى مكان حدودي آخر. ولكن الصورة المجازية تُظهر في الوقت نفسه أنه يمكن الاستغناء عنها، فالأجزاء الآلية الحركية ليست عضوية ولا ثابتة. وتنفي الصورة المجازية عن إسرائيل أيَّ دور اقتصادي مباشر. ولعل الاتفاق الإستراتيجي الذي تم توقيعه بين الولايات المتحدة وإسرائيل عام 1984 هو تَحقُّق آخر لهذا الإدراك لطبيعة دور الدولة إسرائيل وعلاقتها بالعالم الغربي.

  • الاثنين AM 12:09
    2021-05-17
  • 953
Powered by: GateGold