المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409150
يتصفح الموقع حاليا : 310

البحث

البحث

عرض المادة

دوف بوروخــوف (1881-1917)

دوف بوروخــوف (1881-1917)

Dov Borochov
أهم منظري الحركة الصهيونية العمالية ومؤسس حركة عمال صهيون وزعيمها. وُلد في روسيا وتلقى تعليماً علمانياً، وكانت نشأته في مدينة كان يُنفَى إليها الثوريون الروس، وكان أبوه عضواً في جمعية أحباء صهيون، الأمر الذي ترك أثراً عميقاً فيه، فقد ظل طوال حياته يحاول الجمع بين الصيغة الصهيونية الأساسية والديباجات الاشتراكية. وكان عضواً في الحزب الاشتراكي الديموقـراطي، ولكنه اســتقال عام 1906 ليُكوِّن حزب عمال صهيون. وفي العام نفسه، نشر بوروخوف مقاله الشهير "برنامجنا". كما وضع برنامج الحزب بالاشتراك مع إسحق بن تسفي (وهذا الحزب هو أول حزب صهيوني يصل للصيغة الصهيونية التي تجعل الاشتـراكية الأداة الوحيدة للاستيطان). وقد قُبض عليه عام 1907، وحينما أُفرج عنه ذهب إلى لاهاي حيث أسَّس الاتحاد الدولي لأحزاب عمال صهيون، وشغل منصب الأمين العام للاتحاد حتى وفاته. وقد تَنقَّل في أنحاء أوربا داعياً لصهيونيته ذات الديباجة الاشتراكية، كما شرح معظم أفكاره في كتاب الحركة العمالية اليهودية في أرقام (1918)، أجرى أبحاثاً في اللغة اليديشية ودراسات اجتماعية عديدة. وقد انتقل إلى الولايات المتحدة بعد اندلاع الحرب العالمية حيث قام بنشاط فعال لا في صفوف حزبه وحسب بل في صفوف المؤتمر الأمريكي اليهودي. وقد ساهم في تأسيس الفيلق اليهودي مع كلٍّ من بن جوريون (العمالي) وجابوتنسكي (اليميني)، وظل طوال حياته يتعاون مع كل الصهاينة بغض النظر عن انتمائهم الطبقي أو العقائدي.


وعندما قامت ثورة كيرنسكي، عاد بوروخوف ليشارك في مؤتمر الأقليات متخذاً موقفين متعارضين يعبِّران عن التناقض المبدئي في تفكيره. ففي أغسطس 1917، طالب في مؤتمر لحزب عمال صهيون في روسيا بتوطين اليهود في فلسطين على أُسس اشتراكية! ولكنه في سبتمبر من العام نفسه، قدَّم بحثاً أمام مؤتمر الشعوب في كييف عنوانه «روسيا: كومنولث الأمم».

ويتلخص إنجاز بوروخوف الفكري في أنه زاوج بين الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة وديباجات اشتراكية ثورية مُستمدة من الأفكار اليسارية السائدة في شرق أوروبا بين صفوف المثقفين والعمال. ويُقسِّم بوروخوف البشرية من وجهة النظر الاجتماعية والاقتصادية إلى أمم ثم طبقات، ويرى أن الأمم ككيانات حضارية عضوية تتسم بقدر عال من الثبات وتوجد قبل الطبقات. ولذا، فإن الأمم باقية أما الطبقات فتتغير. وقد تعرَّضت الأمم إلى تأثيرات وتغيرات شتى، والأمة العضوية هي النقطة المرجعية النهائية والقيمة الحاكمة الكبرى وهي تظل دون تغيُّر يُذكَر في أساسياتها الحضارية.

ويفسر بوروخوف مسألة انقسام البشر إلى أمم وطبقات على أساس وجود علاقات إنتاج تُقسِّمهم إلى طبقات، وظروف إنتاج تُقسِّمهم إلى أمم. وظروف الإنتاج هي الاختلافات الجغرافية والأنثروبولوجية والتاريخية بين المجموعات البشرية المختلفة. كما أن عملية تطوُّر قوى الإنتاج نفسها يمكن أن تأخذ عدة أشكال تبعاً لاختلافات ظروف الإنتاج.

يَنتُج عن هذا أن ثمة أمماً تخضع للاضطهاد، فهي لا تسيطر على ظروف الإنتاج الخاصة بها. وسيُلاحَظ في هذه الحالة أن الرموز القومية والجوانب الثقافية الخاصة بهذه الأمة ستكتسب، مستقلة، أهمية بالغة، ويُوجِّه جميع أعضاء هذه الأمة جهودهم نحو تقرير المصير (أي السيطرة على ظروف الإنتاج الخاصة بهم، وهذا طرح عمالي لإشكالية العجز بسبب انعدام السيادة) بدلاً من الصراع الطبقي (أي التناقضات داخل علاقات الإنتاج). وكل طبقة، داخل الأمة، لها اهتمامها الخاص بظروف الإنتاج، وخصوصاً عنصر الأرض (فهي القاعدة الإستراتيجية للصراع الطبقي). حينئذ تظهر حركة قومية ثورية تستوعب التركيب الطبقي للمجتمع ولكنها لا تَحجُب بالضرورة الوعي الطبقي، ويسميها بوروخوف «قومية الطبقة التقدمية الحقيقية» أو «قومية البروليتاريا الثورية المنظمة للشعوب المضطهدة»، وتطرح برنامج الحد الأدنى الذي يهدف إلى ما يلي:

1 ـ تأكيد ظروف الإنتاج الطبيعية للأمة.

2 ـ تأمين قاعدة طبيعية لعمل البروليتاريا وللنضال الطبقي. وبالتالي يظهر تركيب طبقي صحيح وصراع طبقي سليم، وبعدها تقوم البروليتاريا بنضالها الثوري على أساس سليم داخل التشكيل القومي الجديد.

ثم ينصرف بوروخوف لتعريف المسألة اليهودية داخل هذا الإطار، فيقرر أن ما يميِّز اليهود كشعب (أو نصف شعب أو شبه شعب) هو أنهم شعب «لا أرض له». وكما يرى بوروخوف، فإن هذا الوضع الشاذ نتج عنه ما سماه بنظرية «الهرم المقلوب»، فكل شعب يتكون من فئات اجتماعية وطبقات تأخذ شكل الهرم الذي يتكون من قاعدة عريضة تساهم في العمليات الإنتاجية الأساسية. وكلما بَعُدت العمليات الاقتصادية عن هذه العمليات الأساسية، قلَّ عدد العاملين فيها حتى نصل إلى قمة الهرم. ويجد بوروخوف أن هذا الهرم الاجتماعي مُشوَّه تماماً عند اليهود إذ يوجد في صفوفهم عدد كبير من المحامين والأطباء والمفكرين وغيرهم ممن ينتمون إلى الطبقة الوسطى والعمليات الإنتاجية الهامشية، مع قلة قليلة (إن وُجدت) من الفلاحين بالإضافة إلى بروليتاريا صغيرة الحجم نسبياً. وكل هذا يرجع إلى عدم وجود ظروف أو أحوال إنتاج خاصة باليهود، ولذا فهم يظلون بمعزل عن بعض قطاعات الإنتاج التي تظل حكراً على الأمة التي تستضيفهم. وبظهور الرأسمالية وازدياد التطور الصناعي والتنافس الرأسمالي، بدأت الجماهير اليهودية تتحول من حرفيين إلى بروليتاريا. ولكن، بسبب وجودهم المنعزل، وبسبب ظاهرة معاداة اليهود المنتشرة في صفوف البورجوازية والبــروليتاريا المسـيحية، كـان العامـل اليهـودي لا يجـد عمـلاً إلا عنـد الرأسمـالي اليهــودي الذي كان يستثمر رأسماله عادةً في الصناعات الاستهلاكية (لأسباب أوضحها بوروخوف(

ولكل ما تقدَّم، فإن تحوُّل الحرفيين اليدويين اليهود إلى بروليتاريا صناعية كان يتم ببطء شديد وأحياناً كان يتوقف كليةً. ونظراً لأن البروليتاريا اليهودية كانت تعمل في الصناعات الاستهلاكية فحسب، فلم يكن بإمكانها أن تشل الاقتصاد إن قامت بإضراب عن العمل. وبالتالي، لم يكن بإمكانها الدفاع عن نفسها أو المطالبة بحقوقها.
واستجابة لهذا الوضع الشاذ، طُرحت حلول عديدة من بينها الاندماج والديموقراطية السياسية أو الثورة البورجوازية. ولكن بوروخوف بيَّن أنها عملية مركبة تؤدي إلى إعتاق اليهود في المرحلة الأولى، ثم تزيد من حدة المنافسة القومية في مرحلة لاحقة الأمر الذي يزيد حدة معاداة اليهود. ولهذا، رفض بوروخوف الاندماج كحل للمسألة اليهودية.

ثم يقدم بوروخوف تحليله لاستجابة الطبقات اليهودية المختلفة للمسألة اليهودية وللحل الصهيوني:

1 ـ طبقة البورجوازية الكبيرة في الغرب: وهي طبقة لا تَحصُر نفسها في السوق المحلية، وليست لها أية مشاعر قومية، فهي ذات نظرة عالمية ويمكنها حل مشكلتها عن طريق الاندماج. ومع هذا، يُشكِّل تَدفُّق يهود شرق أوربا الفقراء على غرب أوربا مصدراً كبيراً لقلقهم، فهو يهدد عملية الاندماج التي يطمح إليها أعضاء هذه الطبقة بل يهدد مواقعهم الطبقية ومكانتهم الاجتماعية. وهذه الطبقات الغنية القوية تمقت الجماهير اليهودية الضعيفة ولكن معاداة اليهود تُذكِّرها بقرابتها لها، وهو ما حَوَّل المسألة اليهودية بالنسبة لها إلى عبء مفروض عليها. ولذا، فهي تبذل جهداً غير عادي لتَجد مخرجاً أميناً يبعد هذه الجماهير عنها. وتبحث عن حل يهودي للمسـألة اليهــودية كوسيلة للتخلص من الجماهير اليهودية. ولكل هذا، تكمن داخل صدر اليهودي الغربي المندمج نفسان: نفس الأوربي المعتز بنفسه، ونفس اخوانه اليهود الشرقيين (دون أن يكون هناك خيار في ذلك).
2 ـ يهود أوربا الشرقية من البورجوازيين الكبار: وهؤلاء مختلفون عن أقرانهم من أثرياء الغرب لأنهم يتأثرون بشكل أكثر مباشرة بحالة اليهود الراهنة.

3 ـ الطبقة الوسطى: وهي طبقة أكثر ارتباطاً بالدعوة القومية لأن مصالحها تعتمد على السوق التي تستطيع الجماهير اليهودية ارتيادها امتداداً للغة القومية والمؤسسات الثقافية، وعلى هذا، فإن هذه الطبقة تُعتبَر سنداً للصهيونية الإثنية وهي لذلك لا تبحث عن حل جذري بل تَقْبل الحلول الليبرالية، وتدافع عن الثقافة اليهودية بل عن الدولة اليهـودية. ولكنـها، ما دامت تحافظ على مواقعها الطبقية، تبقى خارج الدائرة اليهودية.

4 ـ البورجوازية الصغيرة المنهارة والبروليتاريا: وهذه طبقة معزولة وتبحث عن سوق يحررها من عزلتها، ومشكلتها هي "مشكلة شعب منفي يبحث عن مكان يجد فيه أمناً اقتصادياً"، أي أن هذه الطبقة وحدها هي الشعب العضوي المنبوذ الذي يشكل جوهر المسألة اليهودية.

من هنا كانت الهجرة اليهودية. وقد بدأت الجماهير اليهودية بالفعل تهاجر بأعداد كبيرة إلى الولايات المتحدة. ولكن الهجرة، كما قال هرتزل من قبل، لا تحل المسألة اليهودية، فهي تترك اليهود عاجزين في بلاد غريبة وهم يضطرون إلى التجمع لتسهيل عملية التكيف مع البيئة الجديدة. ولكن التجمع يعزلهم مرة أخرى ويعرْقل عملية التكيف ويفرض علىهم المحافظة على تقاليدهم الاقتصادية السابقة (ميراثهم الاقتصادي) ويتركزون فيها، ويتحولون بسبب ذلك إلى المراحل الأخيرة من الإنتاج وهو قطاع البضائع الاستهلاكية (أي أنهم يتحولون مرة أخرى إلى ما يشبه الجماعة الوظيفية). ومن ثم، فإنهم يظلون عاجزين عن الهيمنة على ظروف الإنتاج ويكونون أول ضحايا الأزمة الرأسمالية، ولذا فإن حاجة اليهود لتنمية قواهم الإنتاجية المستقلة تظل مسألة قائمة تتطلب حلاًّ.

ويقترح بوروخوف الحل، وهو في جوهره الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة حيث تتحول الهجرة إلى استعمار واستيلاء على الأرض. ولكن بوروخوف يضيف ديباجة اشتراكية إذ يصبح الاستيلاء على الأرض هو حصول الشعب اليهودي على قاعدة إستراتيجية وعلى ظروف إنتاج مقصورة عليه وحده وخصوصاً الأرض، الأمر الذي سيُمكِّنه من أن يتواجد في المستويات الدنيا من العملية الإنتاجية وأن يعيد الهرم المقلوب إلى وضعه الطبيعي على قاعدته. وهذا المطلب تشترك فيه كل الطبقات اليهودية من أعضاء الأمة اليهودية العضوية التي تعاني من عدم السيطرة على ظروف الإنتاج.

ثم يُورد بوروخوف المزيد من الأسباب الدالة على حتمية الحل الاشتراكي الصهيوني للمسألة اليهودية، أي ضرورة الاستيلاء على أرض واستعمارها حتى تشكل قاعدة للإنتاج. أما بالنسبة للاشتراكية، فيُورد بوروخوف أن المشروع الصهيوني يحتاج إلى قوى تقوم بتنظيم حركة الجماهير اليهودية المهاجرة وتوجيهها، وهو أمر مُلقى على عاتق البروليتاريا اليهودية. ولكنه مع ذلك كان يعترف بأن الهدف النهائي للصهيونية هدف بورجوازي، وهو إيجاد حكم سياسي إقليمي ذاتي، وإيجاد دولة يهودية يتم دمجها في المجتمع الدولي، كما أنه كان يدرك أن بناء الدولة لا يمكن أن يتم إلا بأموال بورجوازية وتنازلات سياسية ومساندة دولية (إمبريالية) لا يمكن إلا للبورجوازية اليهودية وحدها أن تحصل عليها. ولكنه، مع هذا، كان يجد أن ذلك يشكل خطوة نحو الاشتراكية، على اعتبار أنه سيُطبِّع ظروف الإنتاج والصراع الطبقي بالنسبة للطبقة العاملة اليهودية، كما أن دور العمال يمكن أن يتركز في حماية الدولة الصهيونية وفي محاولة فرض سمات تقدمية عليها.

ولكن، إذا كان المطلوب هو الأرض، فلماذا فلسطين بالذات (وكان بوروخوف من معارضي مشروع شرق أفريقيا)؟ يجيب بوروخوف عن هذا السؤال بديباجات اشتراكية مصقولة. فالعمال اليهود ـ حسب قوله ـ ينظرون إلى استعمار فلسطين ونمو البروليتاريا كظاهرتين متلازمتين ومرتبطتين إحداهما بالأخرى، فالوعي الطبقي "لعمالنا" لا ينطلق من المصالح الأنانية الضيقة التي تتعارض مع مصالح الأمة في مجموعها، ولذا فهم طليعة الشعب اليهودي. ويضيف بوروخوف الأسباب التالية لضرورة الاستيلاء على أرض فلسطين دون أي أرض أخرى:

1 ـ هـذا البلد لا يمثـل أي إغـراء بالنسـبة للمهاجرين من شعوب أخرى، ولذا فهو لن يجذب سوى المهاجرين الكادحين من اليهود.

2 ـ يجب أن تكون الأرض التي سيتم الاستيلاء عليها مغرية بالنسبة للرأسمالي اليهودي الصغير والمتوسط بحيث يجد فيه وفي البلاد المجاورة سوقاً لمنتجاتها.

3 ـ يجب أن يكون هذا البلد متخلفاً شبه زراعي.

4 ـ يجب أن يكون البلد ذا مستوى ثقافي متدن وذا نمو سياسي منخفض.

ومن وجهة نظر بوروخوف، فإن فلسطين تتوافر فيها هذه المواصفات المادية، فهي بلد شبه زراعي، كما أن الشعب الذي يقطنها ليس ذا طابع اقتصادي أو حضاري مستقل فهم منشقون ومفتتون، كما أنهم لم يتبلوروا في كيان اجتماعي متماسك الأمر الذي يجعلهم غير قادرين على التنافس مع رأس المال اليهودي والطبقة العاملة اليهودية. كما يمكن استيعابهم وصهرهم في الشعب اليهودي، فبإمكانهم الوقوف أمام قوى التقدم الاشتراكية.

وفلسطين، علاوة على كل هذا، جزء من الإمبراطورية العثمانية وهو ما يعني أن المستوطنين اليهود سيدخلون حرباً تقوم ضد السلطان التركي المتخلف. وقد كان بوروخوف يتصور أن رأس المال اليهودي سيهاجر إلى " الأرض" بشكل عفوي، وذلك ليبني هناك صناعة راسـخة، ثم تهاجـر في أعقــابه آلاف مؤلفة من العمال اليهود.
وعملية الاستيطان هذه هي التي ستحل مرض "الطاقة الفائضة" عند اليهود، مأساة البروليتاريا اليهودية ومصدر عذابها. ويبدو أن موقف بوروخوف من الجماعات اليهودية في العالم يشبه موقف هرتزل، فهو يرى ضرورة إفراغ أوربا من فائضها، ولكن ذلك لن يؤدي بالضرورة إلى تصفية الدياسبورا تماماً. ولذا، نادى بوروخوف بأن يقوم الصهاينة بالصراع على جبهتين: في الداخل (أي في فلسطين) ضد الأتراك والسكان الأصليين، وفي الخارج لتحسين أحوال اليهود. وفي عام 1917، وفي خطبة له أثناء انعقاد مؤتمر الفرع الروسي لعمال صهيون في كييف، عمَّق بوروخوف الديباجات الإثنية، فأكد أهمية الجوانب الحضارية اليهودية مثل "العودة إلى أرض الآباء" و"أساس النشاط الخلاق" للبعث اليهودي.

ورغم أن كتابات بوروخوف كانت تتسم أحياناً بشيء من الصدق والذكاء، وخصوصاً إذا كانت في مجال الوصف المباشر، إلا أن معظم تحليلاته وتفسيراته غير دقيقة. وعلى سبيل المثال، لم يهاجر رأس المال اليهودي بشكل تلقائي إلى فلسطين وإنما كان يهاجر في فترات الركود الاقتصادي في أوربا وحسب (كما هو الحال دائماً مع رأس المال)، كما كان ينزح عن فلسطين حينما تتاح له فرصة اقتصادية أفضل خارجها. وهذه الهجرة لم تتم إلا بعد سقوط فلسطين في فلك الإمبريالية الإنجليزية، ولذا فقد كان رأس المال اليهودي جزءاً من رأس المال العالمي. ولم يهاجر العمال اليهود إلى فلسطين، كما تصور بوروخوف، فمعظم المهاجرين كانوا من البورجوازيين أو من البورجوازيين الصغار وهو ما اضطر كثيراً منهم إلى التحول إلى عمال. ومن الواضح أن التطور في روسيا وبولندا لم يكن نحو مزيد من انفصال الطبقة العاملة اليهودية، فاشتراك اليهود في الثورة البلشفية كان بنسبة عالية جداً تتخطى نسبتهم القومية. كما أن اليهود نجحوا في الاندماج في المجتمع الأمريكي رغم تركُّزهم في مستويات الإنتاج العليا وعدم سيطرتهم على ظروف الإنتاج الخاصة بالمجتمع الأمريكي. ولعل الخلل الأساسي في أطروحات بوروخوف يرجع إلى إصراره على وحدة اليهود القومية بدلاً من رؤيتهم كجماعات مختلفة تخضع لحركيات تاريخية وظيفية ودينية مختلفة.

ولعل أكبر خطأ وقع فيه بوروخوف هو استهانته بالوجود العربي في فلسطين واكتفاؤه بالإشارات العابرة إليه، وهو في هذا كان ضحية التجريد الصهيوني الذي كان دائماً يشير إلى «الأرض» (أو الأرض المقدسة أو إرتس يسرائيل) التي تنتظر ساكنيها الغائبين آلاف السنين وكأن التاريخ توقَّف كليةً. وقد قُدِّر لهذه المشكلة التي كان يُتصوَّر أنها هينة وعرضية أن تترك أثرها العميق لا في الدولة الصهيونية فحسب بل في يهود العالم جميعاً. بل يمكننا أن نقول إن طريقة حسم هذه المشـكلة العرضية هي التي سـتحدد مصير المسـتوطنين اليهـود في المنطقة

  • الاحد PM 04:02
    2021-05-09
  • 978
Powered by: GateGold