ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
هـــرتزل والحركـــة الصهيونيـة
هـــرتزل والحركـــة الصهيونيـة
Herzl and the Zionist Movement
طوَّر هرتزل الخطاب الصهيوني المراوغ الذي جعل بالإمكان صياغة العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم. وأصبحت كل الأطراف جاهزة للتوقيع. ولكن الاستعمار الغربي لا يتعامل مع أفراد، وإنما مع مؤسسات تمثل المادة البشرية المُسـتهدَفة، أي يجب أن يكـون هناك هيكل تنظيمي يمكن توقيع العـقد معـه. وقد اقــترح هرتزل في دولة اليهود إنشاء مؤسستين: جمعية اليهود (بالإنجليزية: سوسياتي أوف ذا جوز Society of the Jews)، والشركة اليهوديـة (بالإنجليزية: جويش كومباني Jewish Company)، وقد أورد هرتزل هذه التسميات الإنجليزية في النص الألماني لكتابه:
أ) جمعـية اليهـود: وهي القـوة الخالقـة للدولة في نَظَر القانون الدولي، وهي القسم الذي يُعنى بكل شيء ما عدا حقوق الملكية. فتَوجُّهها ـ كما يقول هرتزل ـ علمي وسياسي تضطلع بمسئولية الشئون القومية، وتتعامل مع الحكومات وتحصل على موافقتهم على فَرْض السيادة اليهودية على قطعة أرض تدير المنطقة كحكومة مؤقتة (فهي إذن تقوم بالجانب التوطيني والتفاوض مع القوى الاستعمارية)
ب) الشركة اليهودية: وتقوم بتصفية الأعمال التجارية لليهود المغادرين والعمل على تنظيم التجارة والأعمال المتعلقة بها في البلد الجديد. وستكون هذه الشركة هي الشركة اليهودية ذات الامتياز، وستُؤسَّس كشركة مساهمة تُسجَّل في إنجلترا بموجب القانون الإنجليزي وتحت حمايته وتكون خاضعة للتشريع الإنجليزي (أي أنها ستتكفل بالجانب الاستيطاني)
وقد وضع هرتزل أفكاره موضع التنفيذ وعَقَد المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، فحضره ما بين 200 و250 مندوباً (وهذه مشكلة خلافية باعتبار أن من الصعب تقرير من حضر كمراقب ومن حضر كمندوب). وكان معظم المندوبين من جمعية أحباء صهيون ونصفهم من شرق أوربا (كان ربع المندوبين من الإمبراطورية الروسية). ولكن حتى الذين أتوا من الغرب كانوا هم أيضاً من أصل أوربي شرقي. أما من ناحية التكوين الطبقي، فقد كان معظم المندوبين من أبناء الطبقة الوسطى المتعلمة وكان ربعهم رجال أعمال وصناعة وأعمال مالية. وأما الفئات الثلاث التالية (وتكوِّن كل منها سدس المشتركين)، فقد كانت من الأدباء والمهنيين والطلبة. كما كان هناك 11 حاخاماً، والباقون من مهن مختلفة. وكان بينهم المتدين وغير المتدين والملحـد، كما كانوا يضمـون في صفوفــهم بعض الاشتراكيين. ولم يكن هناك أي يهودي يتمتع بشهرة عالمية باستثناء نوردو الذي ما لبث أن خبا نجمه بعد ذلك (ومن الجدير بالملاحظة أن مشاهير اليهود في العالم لا يتولون قيادة الجمعيات اليهودية والتنظيمات الصهيونية، الأمر الذي يجعلها تقع في أيدي عقليات لا يمكن وصفها بسعة الأفق أو المقدرة على تجاوز موازين القوى القائمة لاستشراف الأبعاد التاريخية للواقع). وقد حضر هشلر، الواعظ البروتستانتي، هذا المؤتمر.
وأعد هرتزل برنامج المؤتمر، وصمم ماكس بودنهايمر الزعيم الصهيوني الألماني شارته، وهي درع أزرق ذو حواف حمراء كُتبت عليه عبارة: "تأسيس الدولة اليهودية هو الحل الوحيد للمسألة اليهودية"، وفي وسطه أسد يهودا، وحوله نجمة داود واثنتا عشرة نجمة إشارة إلى أسباط إسرائيل. كما تم إصدار طبعة خاصة من مجلة دي فيلت. ووعد رئيس كانتون بازل بأن يحضر أحد اجتماعات المؤتمر. وفي اليوم الذي يسبق المؤتمر، ذهب هرتزل إلى المعبد اليهودي لأداء الصلاة. وقد تم تكريمه بأن طولب بقراءة التوراة، وكان يعرف أن هذا سيحدث، ولذا فقد حفظ في اليوم السابق الدعاء العبري الذي كان عليه أن يلقيه بهذه المناسبة. ودوَّن هرتزل في مذكراته (كملاحظة) أنه يقود جيشاً من الصغار والشحاذين والمغفلين (وهذه هي العبارة التي استخدمها روتشيلد لوصفه حين قابله)
وافتُتح المؤتمر يوم الأحد 29 أغسطس 1897 في صالة الاحتفالات التابعة لكازينو بلدية بازل. وأصر هرتزل أن يرتدي الحاضرون الملابس الرسمية (معطفاً طويلاً ورباط عنق أبيض ربما لتأكيد انتمائهم للحضارة الغربية الحديثة، وابتعادهم عن الجيتو ويهود اليديشية). وألقى نوردو خطاباً وصفه هرتزل بأنه كان المؤتمر، وتم وضع أساس تنظيمي حديث، وأصدر المؤتمر قرارات تُعرَف الآن باسم «برنامج بازل» الذي أصبح الوثيقة النظرية والعملية لأهداف الصهيونية حتى انعقاد المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرين (1950)
ولم يكن هناك مفر، بعد تحديد الأطر النظرية والتنظيمية، من تأسيس الأداة التنظيمية التي تتولى تحقيق الأهداف الصهيونية التي جسَّدها برنامج بازل وتكون في الوقت نفسه بمنزلة هيئة رسمية تمثل الحركة الصهيونية في مفاوضاتها مع الدول الاستعمارية الرئيسية آنذاك من أجل استمالة إحداها لتبنِّي المشروع الصهيوني. ولهذه الأغراض، تأسست المنظمة الصهيونية خلال المؤتمر الصهيوني الأول كإطار يضم كل اليهود الذين يقبلون برنامج بازل ويسددون رسم العضوية (شيكل). وقد أُنيطت بالمنظمة مهمة إقامة الدولة الصهيونية لتحقيق الخلاص ليهود العالم أجمع، وانتُخب هرتزل أول رئيس للمنظمة.
وقد اتسع نشاط المنظمة الصهيونية في السنوات القليلة التالية للمؤتمر الصهيوني الأول. ولكي يتَسنَّى لها تنفيذ مخططها الاستيطاني، عملت المنظمة على إنشاء عدد من المؤسسات المالية لتمويل المشروع الصهيوني، وكانت أبرز هذه المؤسسات:
ـ صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار. وقد تأسس عام 1899 لتمويل النشاطات الصهيونية الاستيطانية في فلسطين، ولتدبير الموارد المالية التي تحتاج إليها الحركة الصهيونية. وفي عام 1903، أنشأ الصندوق فرعاً مصرفياً في يافا تحت اسم «الشركة البريطانية الفلسطينية» برأسمال قدره 40 ألف جنيه إسترليني، كما أنشأ عدة فروع أخرى في هولندا وألمانيا (وقد سُمِّيت الشركة فيما بعد «البنك البريطاني الفلسطيني»، ثم سُمِّيت «بنك ليئومي ليسرائيل» منذ عام 1951)
ـ الصندوق القومي اليهودي. وقد تأسَّس عام 1901 بهدف توفير الأموال اللازمة لشراء الأراضي في فلسطين لصالح المستوطنين الصهاينة. ونص قانون النظام الأساسي لهذا الصندوق على اعتبار الأراضي التي يشتريها ملكية أبدية للشعب اليهودي لا يجوز بيعها ولا التصرف فيها.
وبعد تأسيس المنظمة الصهيونية، انتقل النشاط الصهيوني من مرحلة البداية الجنينية ذات الطابع المحلي إلى مرحلة العمل المنظم على الصعيد الغربي. ولكن هرتزل كان قد بدأ نشاطه قبل ذلك إذ كان قد قام بعدة اتصالات مع بعض الشخصيات الاستعمارية، وساعده على ذلك الصهيوني غير اليهودي هشلر.
ولكن، حتى بعد تأسيس المنظمة، كان هرتزل يدرك أن منظمته لا تمثل أحداً، أو أنها تمثل أقلية من اليهود لا يُعتدُّ بها، وأن العنصر الحاسم ليس المنظمة وإنما هو الدولة الراعية. ولذا، فقد تَجاهَل منظمته وبدأ بحثه الدائب عن قوة غربية ترعى المشروع. فقد كان يعلم تمام العلم أنه لو حصل على مثل هذه الموافقة فسترضخ له المنظمة وتتبعه، وخصوصاً أنها لم تكن تملك بديلاً، كما أن الصهاينة التسلليين كانوا يعلمون أن المشروع الصهيوني كان قد وصل بقيادتهم إلى طريق مسدود.
ومن هنا، فإن التفسير التقليدي لسلوك هرتزل بأنه زعيم دكتاتوري وشخصية أوتوقراطية أرستقراطية هو تفسير يحاول تطبيع النسق الصهيوني، أي النظر إليه على أنه نسق طبيعي يتم تفسيره باستخدام القواعد نفسها التي تُستخدَم في تفسير الأنساق المماثلة. وفي هـذا خلل منهجي أسـاسي، فالصهيونية ظاهرة لها قوانينها الخاصة، وأحد قوانينها الأساسية أنها حركة سياسية بلا جماهير. وهذا ما اكتشـفه هـرتزل منذ البداية، ولذا فلا يمكن اتهامه بالدكتاتورية، فقد كان عملياً أكثر من العمليين، مدركاً لما فشل الصهاينة الديموقراطيون في إدراكه، كما كان يعرف كيف يتصل بممثلي الحضارة الغربية ويعرف كيف يتحدث لغتهم وكيف يعرض عليهم العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية.
وانطلاقاً من هذا، تَخطَّى هرتزل الجميع (الجميع كانوا تقريباً من شرق أوربا). وقد بدأ اتصالاته الدبلوماسية أو فلنقل إنه استمر فيها باعتبار أنه كان قد قام باتصالات قبل ذلك. ومن الشخصيات التي اجتمع بها لعرض مشروعه الصهيوني، ملك إيطاليا (عمانوئيل الثالث) ووزير داخلية روسيا (فون بليفيه) وكان شخصية مكروهة تماماً من يهود روسيا. ولكن هرتزل ركَّز معظم جهوده على القوتين الاستعماريتين العظميين آنذاك: ألمانيا وبريطانيا، وهما أيضاً القوتان اللتان كان لهما تطلعات استعمارية في الشرق الأوسط، وكانتا تتنافسان على حماية ومساعدة الباب العالي. ولم يكن هرتزل مُنظِّراً من الدرجة الأولى، ولكنه كان صحفياً يرصد الأحداث بذكاء ويتسم بحس عملي فائق، ولذلك فإنه بعد أن قضى بضع سنوات يغازل ألمانيا (والباب العالي) اكتشف أن الطريق إلى فلسطين يبدأ في لندن، فحمل أمتعته وذهب إلى هناك حيث وجد جوزيف تشامبرلين (وزير المستعمرات البريطاني في وزارة بلفور) شخصاً متفهماً لمشروعه، متقبلاً للفكرة المبدئية وهي حل مسألة يهود شرق أوربا على الطريقة الاستعمارية، أي نَقْلهم إلى الشرق. ولكن وقت تقسيم الدولة العثمانية لم يكن قد حان بعد، ولذا اقترح وزير المستعمرات على هرتزل أن يبحث عن أي أرض أخرى داخل الإمبراطورية الإنجليزية (قبرص ـ العريش ـ شرق أفريقيا). وبعد عدة دراسات واقتراحات واتصالات، استقر الرأي على شرق أفريقيا بناءً على نصيحة تشامبرلين، ولكن الخطة لم يُكتَب لها النجاح. ومع هذا، يمكن القول بأنه تم من خلالها إجراء أول بروفة لتوقيع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم واتخاذ الإجراءات الأولية لتأسيس مُستوطَن صهيوني.
-
الاحد PM 03:10
2021-05-09 - 1168