المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409155
يتصفح الموقع حاليا : 338

البحث

البحث

عرض المادة

موقـف هـرتزل مــن التيـارات الصهيـونية قبله

موقـف هـرتزل مــن التيـارات الصهيـونية قبله
Herzl's Attitude to Preceding Zionist Trends
لعل أهمية هرتزل في تاريخ الصهيونية هي أنه حوَّل الصهيونية من مجرد فكرة إلى حركة ومنظمة، وبلور العقد الصامت بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية باعتبارها ممثلة ليهود أوربا وبين الحضارة الغربية، ومن ثم فقد خَلَق الإطار اللازم لعملية التوقيع التي تمت في وعد بلفور. ولكن العقد الصامت لم يُولَد مكتملاً بل استغرق ميلاده مدة طويلة، فقد تعثَّر هرتزل نفسه طويلاً قبل أن يصل إلى هذه الصيغة. وبرغم عصرية حلِّه وحداثته إلا أن بصيرته خانته، إذ بدأ نشاطه السياسي بطريقة تقليدية فتوجَّه للقيادات اليهودية التقليدية (الحاخامات والأثرياء) أصحاب النفوذ التقليدي (الذين نظروا إليه بنوع من الفتور أو الاشمئزاز). ففي يونيه 1895، قام هرتزل بمقابلة هيرش (المليونير والمصرفي الألماني اليهودي) ليقرأ عليه خطاباً يحدد فيه حله للمسألة اليهودية، ولكن هيرش لم يسمح له بالاستمرار في الحديث، فأرسل إليه هرتزل خطاباً في اليوم التالي فقوبل بالفتور نفسه. وبدأ هرتزل في كتابة مذكراته وفي كتابة خطاب لعائلة روتشيلد (في فرنسا) أو إلى مجلس العائلة وأنهى الخطاب في يونيه 1895، ثم طلب من حاخام فيينا موريتز جودمان أن يكـون هـمزة الوصل بينه وبين ألبرت روتشيلد زعيم العائلة في فيينا. وقد كان منطقه أن ثروة روتشيلد محكوم عليها بالهلاك والمصادرة في عالم الأغيار، ولذا فإن عليه أن يتبنَّى المشروع الصهيوني.


ولكن يجب أن نلاحظ أن هرتزل، حتى في هذه المرحلة، كان قد بدأ في عملية التحديث، فهو لم يتقدم للأثرياء اليهود كشحاذ يهودي يطلب الصدقات من إخوانه في الدين وإنما جاء كمفكر يهودي غربي يطرح قضية حاجة اليهود إلى القيادة، وينبه إلى عُقم الاستعمار التسللي في الأرجنتين وفلسطين. والأهم من ذلك كله أنه يطالب أثرياء اليهود بالتوسط لدى قيصر ألمانيا وأن تقوم القيادة اليهودية بتمويل عملية الخروج وأن تُقنع القيصر بأهميتها، وذلك حتى تتم هذه العملية على نطاق واسع وبشكل منظم ومنهجي ورشيد.

ولكن روتشيلد رفض اقتراحه لأسباب بيَّنها روتشيلد نفسه في تاريخ لاحق:

1 ـ أن هرتزل سيثير عداوة البدو (أي العرب)

2 ـ أنه سيثير شكوك الأتراك (أي الدولة المهيمنة على الشرق)، وخصوصاً أن تركيا معادية لروسيا. وروسيا لن تسمح بسقوط فلسطين في يد اليهود (وهنا يدرك روتشيلد أهمية القوى العظمى)

3 ـ سيثير هرتزل غيرة المستعمرات المسيحية والحجاج (المسيحيين) ـ وربما تكون الإشارة هنا إلى مستعمرات فرسان الهيكل وغيرها من المستعمرات.

4 ـ قد يؤدي هذا إلى هَدْم المستوطنات اليهودية هناك (أي جهود الإنقاذ التي يقوم بها يهود الغرب والتي تضمن لهم الهيمنة)

5 ـ سيثير هرتزل أعداء اليهود لأن أطروحته الصهيونية ستبين أن اليهود المندمجين منافقون في ادعائهم حب أوطانهم، ولذا سيطالب المعادون لليهود بعودة اليهود لوطنهم القومي.

6 ـ كما أشار روتشيلد إلى قضية التمويل، فمن سيمول 150 ألف شحاذ من الذين سيصلون إلى فلسطين؟

وعند هذا الحد أدرك هرتزل أن القيادات اليهودية الغربية غير جادة وغير قادرة. ولكنه مع هذا تعلَّم منها الكثير، ذلك أن اعتراضات روتشيلد مهمة. ولعل هذا ساعده في تطوير الخطاب الصهيوني المراوغ. أما قيادات يهود شرق أوربا (التي لم يكن هرتزل يعرف عنها الكثير)، فقـد كانت غير مطروحة أسـاساً لأنها لم تكـن قد دخـلت العالم الحديث بعد، فكان الشرقيون غارقين في الجيتو وكان الغربيون غارقين في الاندماج، فأخذ هرتزل بزمام الموقف وكتب مباشرةً لبسمارك، ثم أعد مذكرة ليقدمها لقيصر ألمانيا. ولكن الدول، بطبـيعة الحـال، لا تتعامل مع أفراد وإنما مع كتل بشرية، ولذا فقد كانت الاستجابات سلبية في كل مكان. ولذا قرر هرتزل (على حد قوله) أن يتوجَّه إلى الشعب. والشعب هنا لا يعني الجماهير اليهودية وإنما يعني حركة أحباء صهيون، التي كانت تضم بضعة آلاف من اليهود، كما يعني الحركات المماثلة المتناثرة ذات الأهداف المماثلة، والتي تدعم موقفه التفاوضي أمام عالم الصهيونية غير اليهودية، عالم الاستعمار الغربي. ويكون هرتزل بهذا قد حطَّم الجيتو، وقام بتحديث قيادة اليهود في الغرب، أو طرح نفسه (وهو الصحفي ذو الثقافة الغربية) بديلاً عن الأثرياء والحاخامات. وقد كان هرتزل أكثر ذكاءً من الآخرين لأنه كان يملك ما لا يملكون: رؤية جديدة للمسألة اليهودية وعقداً جاهزاً للتوقيع مع الحضارة الغربية يرضي جميع الأطراف. لقد اكتشف حتمية الاعتماد على الإمبريالية الغربية.

توجَّه هرتزل، إذن، للشعب ولكنه كان يرفض النزعات الصهيونية السابقة عليه، فصهيونية أثرياء يهود الغرب المندمجين (صهيونية الإنقاذ التي تأخذ شكل صدقات) غير صالحة لأن المشروع الصهـيوني مشروع ضخم يتجاوز الجهود الفردية. أما بالنسبة للتسلل، فقد ساهم الصهاينة التسلليون ولا شك في إلقاء الضوء على فكرة تأسيس الدولة (وهي أحد عناصر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة)، كما أن أخطاء التسلليين أثناء الممارسة قد تفيد في تنفيذ المشاريع الضخمة المقبلة. ولكن التسلل، مع هذا، بَذَر الشك في نفوس الناس بشأن المشروع الصهيوني ككل، كما أنه اتسم بالرومانسية، فالمتسللون من أحباء صهيون يظنون أن خروج اليهود سيتخذ شكل تَرْك الحضارة والسكنى في الصحراء. لكن الأمر ليس كذلك إذ أن كل شيء سيتم في إطار الحضارة (الغربية). وقد شبَّه نوردو وهرتزل التسلليين بالبوكسرز الذين قاموا بثورة رومانسية في الصين وأرادوا التصدي للزحف الغربي بالوسائل التقليدية. وتتجلَّى سطحية هرتزل وبرجماتيته في اعتراضه على التسلل باعتبار أنه سيؤدي إلى رفع أسعار الأراضي (فالسمسار في داخله لا يهدأ له بال)، ثم يبين بعملية حسابية عبث الحلول التسللية قائلاً: "لو افترضنا أن عدد يهود العالم هو تسعة ملايين [كانوا عشرة ملايين في واقع الأمر]، وإذا كان بإمكاننا إرسال عشرة آلاف يهودي كي يستعمروا فلسطين سنوياً، فهذا يعني أن المسألة اليهودية ستُحَّل بعد تسعمائة سنة". ومن هنا، فقد شبه التسلليين بمن يريد نزح المحيط بواسطة دلو.

ثم يثير هرتزل قضية مهمة أخيرة، هي أن التسلليين ليس عندهم أية سيادة قومية، ولذلك فهم تحت رحمة الباشا العثماني، كما أنهم يفتقدون أساس القوة. ولذا، فلن يمكنهم الحصول على الاسـتقلال، وسوف يظل الاستيطان التسللي استيطاناً "يائساً جباناً". وكتب هرتزل لبودنهايمر يخبره بأنه حتى لو وصل التسلليون إلى مستوى كاف من القوة، وحتى لو وهن الباب العالي إلى الحد الذي يسمح للصهاينة بإعلان استقلالهم، فإن هذه المحاولة لن تنجح لأن القوى العظمى الغربية لن تعترف بالكيان الجديد. ويثير هرتزل أيضاً مشكلة الاستعمار الإحلالي، فمهما بلغ عدد المتسللين، ومهما بلغوا من قوة، فسيأتي حتماً الوقت الذي تبدأ فيه الحكومات المعنية (تحت ضغط السكان الأصليين) في وضع حد لتسلل اليهود. إذن، فالهجرة لا فائدة منها "إلا إذا كانت تأتي ضمن السلطة الممنوحة لنا [من قبَل الدول الغربية[".

وانطلاقاً من كل هذا، طرح هرتزل رؤيته الصهيونية الجديدة الحديثة التي خرجت بالصهيونية من إطار المعبد اليهودي والاجتهادات الدينية وجو شرق أوربا الخانق ودخلت بها جو الإمبريالية (الحديث)، فطالب بأن يُنظَر إلى المسألة اليهودية كمشكلة سياسية دولية تجتمع كل الأمم المتحضرة لمناقشتها وإيجاد حل لها (كلمة «دولية» أو «متحضرة» تعني في الواقع «غربية»). ومعنى ذلك أن المسألة اليهودية ستصبح مشكلة قومية غربية تحلها الأمم الغربية أو القـوى العظـمى. إن هذه المسألة يمكن حلها من خلال المنظومة الغربية، إذ يجب أن يتحول الاستيطان من «التسلل» ليصبح «الاستيطان القومي». وهذا يتطلب عملية إدراكية، تترجم نفسها إلى حركة استعمارية. أما العملية الإدراكية، فهي أن يُنظَر لليهود لا باعتبارهم أعضاء في طبقة طفيلية منبوذة وإنما باعتبارهم شعباً عضوياً (فولك) ولكن منبوذاً. أما الحركة الاستعمارية فهي الخروج بموافقة الرأي العام (الغربي) وبموافقة الحكومات المعنية التي يجب أن "تضمن وجودنا لتأسيس دولة يهودية ذات سيادة" مصدر سيادتها ليـس القـوة اليهودية الذاتية كما يظن التسلليون وإنما الحكومات الغربية. وفي إطار هذه الدولة، يمكن تحويل أعضاء الشعب العضوي المنبوذ إلى عنصر نافع لا لأنفسهم وحسب وإنما للحضارة الغربية، إذ سيصبحون عنصراً تابعاً للاستعمار الغربي وقاعدة له. بل إن معاداة اليهود (مأساة اليهود)، إذا ما وُظِّفت توظيفاً صحيحاً، ستكون قوة كافية لإدارة محرك كبير يحمل مسافرين وبضائع، وهذا رمز جيد للاستعمار الاستيطاني. وقد أدار هرتزل المحرك عن طريق خطابه المراوغ وصياغة العقد الصامت. وقد لاحَظ قيادات أحباء صهيون حتى قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، كيف تحوَّل هرتزل إلى بطل أسطوري، وكيف أن الموقف العام للصهيونية تغيَّر تماماً بعد ظهوره، وأن الاهتمام بالصهيونية والتعاطف معها قد ازداد. وهكذا، وجدوا أنهم إن لم ينضموا إليه لاكتسحهم النسيان، فليس عندهم ما يقدمونه للجماهير سوى «التسلل» المميت. وقد عبَّر أوسيشكين عن هذا الوضع بطريقة بلهاء فقال: "إن هرتزل عنده آمال وبرامج، أما نحن فعندنا برامج وحسب". ولعل ما يريد أن يقوله هو أن هرتزل كان يملك رؤية تجعل بالإمكان وضع البرامج الميتة موضع التنفيذ بسبب اكتشافه حتمية الاعتماد على الإمبريالية الغربية كآلية لتنفيذ المشروع الصهيوني، أما برامجهم التسللية فقد كانت ميتة لأنهم لم يكتشفوا الاستعمار الغربي.

  • الاحد PM 03:08
    2021-05-09
  • 1022
Powered by: GateGold