المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415831
يتصفح الموقع حاليا : 225

البحث

البحث

عرض المادة

الأحـــــلام والعقائـــــد الألفيـــــة

الأحـــــلام والعقائـــــد الألفيـــــة
Millenarianist Dreams and Doctrines
«الألفية» ترجمة لكلمة «ميلينيريانزم» الإنجليزية المأخوذة من الكلمة اللاتينية «ميلينياروس» ومعناها «تحتوي على ألف». وثمة نزوع إنساني عام لفرض نظام عام على أحداث التاريخ، وهو عادةً نظام رياضي هندسـي صـارم. ومن ثم، فقد ظهر الإيمـان في كثير من الحضارات بأن العالم يشهد، في نهاية كل ألف من السنين، انتهاء دورة زمنية، وتصاحب هذه النهاية عادةً أحداث ضخمة. بل تذهب هذه الرؤية إلى أن التاريخ كله سيكون في نهاية ألف معينة. والفكرة الألفية متواترة في كثير من الحضارات. ويُقال إن حروب الفرنجة كانت نتيجة تصاعُد الحمى الألفية. وقد كتب الشاعر الأيرلندي وليام بتلريتس في نهاية القرن التاسع عشر قصائد ذات طابع ألفي. ولعل آراء فوكوياما (الموظف بوزارة الخارجية الأمريكية) عن نهاية التاريخ، ذات طابع ألفي هي الأخرى (مع انتهاء القرن العشرين، أي في نهاية الألف الثانية بعد الميلاد). كما أن العراف نوستراداموس من قبله وضع مخططاً يتنبأ فيه بنهاية التاريخ في إحدى الدورات الألفية. وللعقيدة الألفية جذور شعبية في العادة، تماماً مثل النزعات المشيحانية المختلفة التي تعبِّر عن تزايد معدلات الحلولية وضيق بالحدود وعن نفاد صبر بشأن العملية التاريخية وبالخلاص التدريجي.


والعقيدة الألفية تعود جذورها إلى اليهودية، ولكنها أصبحت فكرة مركزية في المسيحية البروتستانتية إذ يؤمن كثير من المسيحيين البروتستانت بأنه حينما يعود المسيح المخلِّص (أو الماشيَّح حسب الرؤية اليهودية) (الذي يُشار إليه فيها بـ «الملك الألفي») سيحكم العالم (باعتباره الملك المقدَّس) هو والقديسون لمدة ألف عام يشار إليها أحياناً باسم «أيام الماشيَّح» أو «أيام المسيح»، وهي فترة سيسود فيها السلام والعدل في عالم التاريخ والطبيعة وفي مجتمع الإنسان والحيوان.

وعقيدة الملك المقدَّس هذه لم يأت لها أي ذكر في العهد القديم ويبدو أنها مجرد صدى في الوجدان العبراني لمؤسـسة الملكية المقدَّسـة العبرانية. وما حدث هو أن مؤسسة الملكية المقدَّسة اختفت مع انهيار الدويلات العبرانية ولم تتم استعادتها حتى بعد عودة اليهود بأمر قورش الفارسي. فأسقط الوجدان العبراني فكرة الملك المقدَّس على المستقبل أصبحت جزءاً من الأفكار الأخروية (وتتحدث جماعة قمران عن الزوج المشيحاني): الماشيَّح بن هارون الكهنوتي والماشيَّح بن داود الملكي، ثم ظهر فيما بعد الماشيَّح بن يوسف والماشيَّح بن داود.

وقد ظهرت العقيدة الألفية في كتابات معلمي المشناه (تنائيم) وفي الكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا). بل إن كتب الرؤى (أبوكاليبس)، ومعظم الأفكار الأخروية، والكتب المنسوبة (سيود إبيجرفا)، والأحلام الأخروية، وسائر الأساطير الخاصة بآخر الأيام ونهاية الزمان، تدور جميعاً حول هذه العقيدة. وتظهر العقيدة الألفية في العهد الجديد في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي الذي يشبه سفر دانيال في كثير من الوجوه والذي يدور حول عودة المسيح الثانية وحُكْمه العالم لمدة ألف عام. والنص، مثل كل كتب الرؤى، مركب مضطرب تنثال فيه صور الحشر الأخروية وتتداخل. والنص يتحدث عن تقييد الشيطان ثم حكم المسيح للعالم مع قديسيه لفترة تمتد لمدة ألف عام (ويبدو أن الألف عام هذه لا علاقة لها بيوم البعث أو يوم القيامة أو الفردوس السماوي إذ هي نوع من الفردوس الأرضي الذي سيتحقق الآن وهنا قبل يوم الحساب). بعد ذلك يُطلَق الشيطان من سجنه لهجمة أخيرة، ولعله عند هذه اللحظة يظهر المسيح الدجال (بالإنجليزية: «أنتي كرايست anti-Christ» وهي كلمة تعني حرفياً: ضد المسيح) فتدور المعركة الفاصلة النهائية. ويُلاحَظ أن المسيح الذي يعود هذه المرة ليس هو مسيح الأناجيل المعروف لدينا الذي يشيح بوجهه عن مملكة الأرض والذي يعرف أنه سيُصلَب فداءً للبشر، وإنما هو مسيح عسكري يجيئ راكباً حصاناً أبيض و"عيناه كلهيب نار" و"متسربل بثوب مغموس بدم" و"من فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم، وهو سيرعاهم بعصاً من حديد" (رؤيا يوحنا 19/11 ـ 16). فهو إذن مسيح جدير بالرؤية المعرفية الإمبريالية، يشبه جيوش أوربا التي داست الأرض ولوثت البيئة وثقبت الأوزون. وهو مسيح سيقتحم التاريخ عنوة ويدخل المعركة النهائية، معركة هرمجدون، ضد ملوك الأرض الذين يساعدهم الشيطان، فيُلحق بهم جميعاً الهزيمة النكراء. ثم يبدأ المسيح حكمه (الثاني) والنهائي، ويبعث كل البشر، المحسن منهم والسيِّئ (إذ يبدو أنه في حكمه الأول لم يبعث سوى القديسين) وذلك لمحاسبتهم ومجازاتهم. وينتهي الزمان ويبدأ حكم مدينة الإله وتختفي مدينة الأرض. وتختلط بكل هذا أقوال عن يأجوج ومأجوج وعلامات الساعة والنهاية، كما أن هناك العديد من الروايات الأخرى التي لا تقل اختلاطاً عن تلك التي لخصناها.

وأهـم النقـط التي يدور حـولها الخـلاف بين الروايات المختلفة هو: متى تكون النهـاية النهـائية، هل تكــون بعد عودة المسيح أم قبلها؟ وما علامات هذه العودة الثانية، أهي مزيد من الشر والتدهور أم الخير والتقدم؟ ويُقسَّم الألفيون، أي المؤمنون بالعقيدة الألفية، إلى قسمين حسب رؤيتهم لزمن ظهور المملكة الألفية:

أ) أنصار ما قبل الألف: وهؤلاء يؤمنون بأن الملك الألفي أي المسيح سيأتي فجأة ويبدأ مملكة الألف عام التي سيسود فيها العدل والسلام، وهذه الرؤية هي الأكثر شيوعاً. وعلامة النهاية عند هؤلاء تكون عادةً انهيار الحضارة وتدهورها. وعندما ترد كلمة « ألفية» دون إضافات أو تحفظات فهي تشير عادةً إلى العقيدة ما قبل الألفية.

ب) أنصار ما بعد الألف: وهؤلاء يرون أن الملك الألفي سيأتي بعد الألف عام التي سيسود فيها السلام والمحبة وتعم فيها النعمة بسبب أن المسيحيين سيتخذون موقفاً أخلاقياً ويطيعون إلههم. وستكون العودة الثانية للمسيح هي ذروة هذه المرحلة، فهو سيأتي ليبعث الموتى ويحاسبهم على أفعالهم، وهذا هو يوم القيامة أو الحساب الأخير. وعلامة النهاية هنا هي شيوع السلام والمحبة والرخاء في الأرض.

والخلافات هنا عميقة وبنيوية، فما قبل الألفيين يرون أن التغير فجائي ناجم عن تَدخُّل أو تجسُّد إلهي في التاريخ دون محاولة من جانب البشر، فهم عنصر سلبي في الدراما الكونية، وسيصاحب تَدخُّل الخالق مذابح وحروب. أما ما بعد الألفيين، فيرون أن التغيُّر تدريجي، وأنه ناجم عن أن المسيحيين سيقومون بتغيير أنفسهم وتحسين دنياهم. والذروة التي يصل إليها التاريخ تدريجياً هي إذن تعبير عن فعل إنساني أخلاقي وليس مجرد تجسُّد فجائي للإله في التاريخ. فالإنسان ليـس عنصراً سـلبياً في الدراما الكونية، بل هو فاعل لا يخضع للحتميات. وقد تزاوجت هذه الرؤية، فيما بعد، مع فكر عصر الاستنارة وعقيدة التقدم، وتمت علمنتها بحيث أصبح تقدُّم المسيحيين التدريجي هو التقدم التدريجي للعلوم، وأصبحت عودة المسيح (والحكم الألفي) هي هذه أو تلك النقطة في التاريخ. والواقع أن هذا الفكر يصل إلى قمته في منظومة هيجل، بل في كل المنظومات العلمانية الهيجلية.

ومن الواضح أن الفكر الأخروي الإسكاتولوجي المسيحي الألفي يتأرجح بين الحلولية المادية (مملكة المسيح في هذا الزمان) والتوحيد الذي ينزِّه الإله عن الطبيعة والتاريخ (المملكة السماوية خارج التاريخ). فبينما تسد الصيغة الأولى أية ثغرات أو ثنائيات، نجد أن الثانية تؤكدها وتحتفظ بقدر من الثنائية الفضفاضة (ومع هذا تتم تصفيتها من خلال عقيدة التقدم والتجسد التدريجي من خلال التاريخ(.

وقد اقترنت العقيدة الألفية، منذ البداية، بظهور العقلية التجارية والعلمية والمادية، ومن ثم فإنها قد ارتبطت بالتفسير الحرفي لكل عبارات العهد القديم ورفضت التفسيرات الكاثوليكية المجازية التي طــورتها الكنيسة عبر العصـور الوسطى لتُخلِّص الكتاب المقدَّس، وخصوصاً العهد القديم، من العناصر المادية والوثنية فيه. وقد اضطرت الكنيسة إلى قبول هذا الكتاب لأنها اعتبرت نفسها «إسرائيل فيروس» أي «إسرائيل الحقيقية» ـ أي الشعب اليهودي باعتباره جماعة مقدَّسة (جماعة يسرائيل). وفي بداية العهد المسيحي، كان هناك اتجاه لإلغاء العهد القديم وعدم اعتباره ضمن الكتب القانونية، إذ أن تبنيه كان يعني إلغاء مركزية وقدسية ومصداقية رؤية اليهود تاريخياً ودينياً. ولكن الكنيسة رفضت هذا الاتجاه، إذ أن حَذْف العهد القديم كان يعني في واقع الأمر حرمان الكنيسة من حقها في أن ترث جماعة يسرائيل، وهو ما يتنافى مع العقيدة المسيحية ومع رؤيتها لنفسها. ومهما يكن الأمر، فإن الكنيسة حاصرت العناصر الوثنية في العهد القديم وحاولت تحييدها عن طريق التفسيرات المجازية والرمزية. ولكن، مع عصر النهضة والإصلاح الديني، بدأت التفسـيرات الحرفيـة والفردية (الألفيــة) للعهد القديم تنتشر، وذهب الألفيون إلى أن ما ورد في العهدين القديم والجديد نبوءات حرفية عن المستقبل (على عكس الرؤية المسيحية التقليدية التي تذهب إلى أن آيات الكتاب المقدَّس إما آيات عن أحداث وقعت في الماضي أو نبوءات وردت ثم تحققت). فيرى الألفيـون، على سـبيل المثال، أن العبارات التي وردت عن خراب أورشليم (القدس) تشير إلى حروب عام 1967 أو عام 1948. أما الرؤية المسيحية التقليدية، فتذهب إلى أنها تحققت بالفعل عام 70 ميلادية على يد تيتوس.

والعقيدة الألفية، في كل مفاهيمها، تدور حول تجسُّد الإله في التاريخ بشكل فعلي فجائي، وحول تَدخُّله فيه حتى يمكن مشاهدته في آثاره الفعلية، وفي كل الشواهد المادية التي يمكن إدراكها بالحواس الخمس الآن وهنا في مملكة الأرض، أي أنها رؤية مادية للواقع. وقد استفاد الألفيون من التأملات القبَّالية الخاصة بحساب نهاية الأيام وموعد وصول الماشيَّح. وبهذا المعنى، تكون العقيدة الألفية تعبيراً عن تهويد المسيحية.

وقد أدركت الكنيسة الكاثوليكية منذ البداية خطورة العقائد الألفية (التي حملت راياتها العناصر الغنوصية واليهودية والوثنية الشعبية) على العقيدة المسيحية. وقد وصفت الكنيسة العقيدة الألفية بأنها "عقيـدة على طـريقة اليهـود" أي تشبه الفكـر المشـيحاني اليهودي. وقد حاول القديس أوغسـطين محـاصرة ذلك المفهوم الواحدي الكوني المعادي للتاريخ والحدود، وحاول أن يحاصر الحلولية التي يَصدُر عنها ويحوِّلها إلى ما نسميه «حلولية مؤقتة شخصية منتهية» تحققت في لحظة نزول الإله باعتباره الابن ثم صلبه وقيامه، ومع قيامه تنتهي اللحظة الحلولية ويُستأنَف التاريخ الإنساني. وقد بيَّن القديس أوغسطين أن الكنيسة الكاثوليكية هي مملكة المسيح، وأنها التجسيد التام للعصر الألفي، وأنها حالة روحية وصلت إليها الكنيـسة في عيـد العنصرة، أي بعد موت وبعث المسيح. وهذا لا يعني انتهاء الفوضى في الطبيعة والتاريخ، بل إن الفوضى ستستمر إلى نهاية الزمان حتى يعود المسيح ثانيةً، وهي العودة التي سوف تتم في وقت لا يمكن التنبؤ به، أي يتم خارج التاريخ (في يوم القيامة). وقد واكب تلك الرؤية تقديم التفسير المجازي للعهد القديم بحيث تصبح كل القصص والأحداث فيه رموزاً لحالات روحية وأخلاقية.

ولكن كثيراً من الفرق الغنوصية المهرطقة، وهم من أعداء الكنيسة، استمروا في الدفاع عن العقيدة الألفية. غير أن مثل هذه الجماعات اضطرت إلى أن تكون سرِّية بسبب ما كان يقع عليها من اضطهاد من قبل الكنيسة في روما والتي وصفت تعاليمها بأنها كفر. وقد بُعثت الفكرة من جديد مع الإصلاح الديني ومع استرجاع النزعة الحلولية الذي تزامن أيضاً مع هيمنة القبَّالاه على اليهود وانتشارها في الأوساط الدينية الغربية. ورغم أن لوثر وكالفن تمسكا بتعاليم أوغسطين حول هذه الفكرة، فإنها أخذت تتسـرب إلى الجمـاهير وتسـتقطب أعداداً كبيرة منهم، ثم صارت فكرة محورية في عقول كثير من غلاة البروتستانت، وهو أمر منطقي يتسق مع بنية الفكر البروتستانتي ومع تَصاعُد معدلات الحلولية والعلمنة داخل النسق الديني المسيحي لما بعد الإصلاح الديني. وتُعَدُّ العقيدة الاسترجاعية من أهم تجليات العقيدة الألفية.

ومما ينبغي ذكره أن العقائد الألفية بتأكيدها مركزية فكرة نهاية التاريخ قد تأخذ شكلاً فاشياً متطرفاً، يطالب بتطهير النسق تماماً من العناصر الغربية، فترى اليهود باعتبارهم شعباً عضوياً منبوذاً وحسب ولا داعي لتوظيفه ويمكن الاكتفاء بالتخلص منه.

وتظهر الكراهية العميقة لليهود عند أتباع حركة تُسمَّى «الهوية المسيحية» وهي جماعة ألفية تنادي بنبذ (بل إبادة) كل العناصر البشرية المختلفة الأخرى (أى غير البيضاء غير البروتستانيتة) داخل المجتمع الأمريكي: السود والكاثوليك واليهود. ويرى أتباع هذه الحركة الألفية أنهم هم إسرائيل الحقيقية وأن شعوب شمال أوربا هم قبائل يسرائيل العشرة المفقودة. ويُلاحَظ أن النزعة الوثنية المادية الكامنة في العقيدة الألفية الاسترجاعية تظهر بشكل واضح في أدبيات هذه الحركة. فهم يرفضون المسيحيين السود وكل الكاثوليك في الوقت الذي يقبلون فيه أتباع العبادات الوثنية النوردية، كما يعادون إسرائيل ويسمون حكومة الولايات المتحدة «زوج ZOG» وهي اختصار لعبارة «زايونست أوكيوبيشن جوفرنمنت Zionist Occupation Government» أي "حكومة الاحتلال الصهيونية". ويُعدُّ أتباع هذه الحركة أنفسهم لمعركة هرمجدون فيتدربون على السلاح ويقومون بتخزينه. وعلى أية حال، فإن العداء الصريح الذي تبديه هذه الحركة لليهود هو العداء الذي تشعر به أيٌّ من الحركات القومية العضوية تجاه الآخر، فهي حركات تدور في إطار حلولية بدون إله أو في إطار وحدة الوجود حيث يحل الإله في الشعب ويصبح الشعب في قداسة الإله أو أكثر قداسة منه، فهو يحوي داخله ركيزته النهائية ومصدر قداسته، والآخر يقع خارج دائرة القداسة، ولذا فهو مباح.

وقد لاحظ المؤرخون أن الرايخ الثالث في الفكر الألماني (الذي سيستمر ألف عام) يقع داخل هذا النمط، فالدولة النازية تحوي داخلها ركيزتها النهائية، أي أن المطلق لا يتجاوزها وإنما هو كامن فيها ومتجسد من خلالها. وكان الغجر والسلاف وأعضاء الجماعات اليهودية يقعون خارج دائرة القداسة العضوية.

ومن المعروف أن الأساطير والعقائد الألفية والاسترجاعية غير معروفة لدى المسيحيين الشرقيين، كما أنها ليست موضع حوار أو مناظرة بينهم.

  • الاحد AM 09:53
    2021-05-02
  • 1201
Powered by: GateGold