المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 416011
يتصفح الموقع حاليا : 218

البحث

البحث

عرض المادة

الرفـض الصهـيوني لليهوديــة

الرفـض الصهـيوني لليهوديــة
Zionist Rejection of Judaism
تمت محاولات عدة لعلمنة اليهودية من الداخل من أهمها اليهودية الإصلاحية واليهودية المحافظة، ثم تصاعدت حدة العلمنة في اليهودية التجديدية. والصهيونية، في تصوُّرنا، أهم الأيديولوجيات اليهودية في العصر الحديث التي أنجزت عملية العلمنة من الداخل.


وموقف الصهيونية من اليهـودية يأخذ شـكلين مخـتلفين مرتبطــين:

1 ـ رفض العقيدة اليهودية على أساس علماني صريح وبشكل جذري وواضح.

2 ـ علمنة اليهودية من الداخل، أي صهينتها من خلال الحلولية الكمونية مع استيعاب المصطلح الديني.

وسنتناول في هذا المدخل موقف الرفض الجذري والصريح لليهودية.

طرحت الصهيونية نفسها من البداية على أنها رؤية كاملة وشاملة للحياة اليهودية والتاريخ اليهودي والإنسان اليهودي وعلاقته بالطبيعة (الأرض) وبذاته (الهوية اليهودية) الخ، أي أنها طرحت نفسها كرؤية للكون. وقد أدركت الصهيونية هويتها، منذ البداية، باعتبارها حركة علمانية شاملة ترفض العقيدة اليهودية وترفض الإيمان بأية مطلقات أخلاقية أو دينية متجاوزة لعالم المادة والقوى السياسية والطبقية والصراعات الفكرية. والعنوان الفرعي لكتاب هرتزل دولة اليهود هو محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية (تماماً مثل المفكرين العنصريين الغربيين ولهلم مار وإيوجين دوهرنج اللذين كانا يصران على علمانية وعلمية رؤيتهم العنصرية لليهود واليهودية). ولنا أن نلاحظ أن مؤسسي الحركة الصهيونية الذين أتوا أساساً من مجتمعات وسط أوربا لم يعيروا اليهودية أي انتباه إلا باعتبارها مشكلة تبحث عن حل. بل إن بعضهم اعتبر العقيدة اليهودية نفسها مشكلة اليهود الحقيقية. وقد أظهر بعض زعماء الصهيونية عداءً واضحاً لليهودية، فتيودور هرتزل تعمَّد انتهاك العديد من الشعائر الدينية اليهودية حين قام بزيارة القدس، وذلك لكي يؤكد أن الرؤية الصهيونية رؤية لادينية. وكذا كان الوضع مع ماكس نوردو الذي كان يجهر بإلحاده، ويؤكد دائماً أن كتاب هرتزل دولة اليهود سيحل محل التوراة باعتباره كتاب اليهود المقدَّس. وقد اتخذ الصهاينة موقفاً لا دينياً من كثير من المفاهيم المحورية في العقيدة اليهودية، ويمكن أن نأخذ أهم العناصر وهي الموقف من كلٍّ من الأرض والشعب وآلية عودة الشعب للأرض.

1 ـ لم تكن صهيون (فلسطين) بالنسبة للصهاينة أرضاً ذات قداسة خاصة، مرتبطة بالخلاص، وإنما كانت مجرد أرض يُنقَل إليها اليهود لأسباب مادية علمانية. ولم يطالب هرتزل بالقدس وإنما طالب بالأرض العلمانية فقط (على حد قوله)؛ أرض صالحة للتقسيم والتوزيع والاستيطان حتى يمكن إقامة قاعدة يُجمَع فيها اليهود ليقوموا على خدمة من يتكفل بحمايتهم ودعمهم.

2 ـ وقد تم أيضاً رفض مفهوم الشعب المختار أو الشعب المقدَّس. فالشعب المختار، حسب المفهوم الحاخامي، يشير إلى جماعة من المؤمنين يرتبط انتماؤهم إلى هذه الجماعة بمدى طاعتهم للإله. وقد أخذ الصهاينة موقفاً مغايراً تماماً، فنزعوا القداسة عن هذا الشعب ووجهوا سهام نقدهم إليه وإلى الشخصية اليهودية (الدينية) مستخدمين في نقدهم هذا مقولات تحليلية ونقدية وأنماطاً إدراكية استوردوها من كلاسيكيات الفكر العرقي الغربي، وخصوصاً أدبيات معاداة اليهود. ونقدهم في جوهره هو نقد الفكر التنويري للشخصية الدينية. وأعاد الصهاينة تعريف اليهود على أساس عرْقي أو إثني (مادي). ومن ثم، أصـبح اليهــود بالنسبة لهم شعباً مثل كل الشعوب، فهم مادة بشرية نافعة يمكن نقلها وتوظيفها لصالح من يدفع الثمن.

3 ـ وبعد تحويل صهيون إلى مادة طبيعية (أرض للاستيطان) والشعب المختار إلى شعب مثل كل الشعوب (مادة استيطانية)، وجَّه الصهاينة سهام نقدهم لعقيدة الماشيَّح والعودة فوصفها هرتزل بأنها رؤية متخلفة، ووسمها بن جوريون بالسلبية وطرح بدلاً من ذلك فكرة العودة بقوة السلاح وبمساعدة القوى العظمى لتأسيس دولة يهودية.

ويمكن القـول بأنه تم اسـتبعاد أي تجـاوز معرفي أو مطلقية أخلاقية، وتم تبنِّي الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية وما يتبعها من تمجيد لإرادة البقاء والقوة، وطُرحت الصيغة الصهيونية الأساسية التي تشكل العمود الفقري لكل الصهيونيات: شعب عضوي منبوذ نافع يُنقَل خارج أوربا ليُوظَّف لصالح الغرب، وهي صيغة علمانية كاملة لا تعترف بقداسة أرض أو إنسان ولا تعترف بأية أخلاقيات تضبط عملية العودة. وفي هذا الإطار، يمكن فَهْم مشاريع الاستيطان الصهيونية المختلفة خارج فلسطين (صهيونية دون صهيون)، فهي مشاريع استعمارية عادية، شأنها في هذا شأن أيِّ مشروع استعماري غربي يهدف إلى حل بعض المشاكل الاجتماعية التي ظهرت داخل التشكيل الحضاري السياسي الغربي عن طريق نقلها إلى آسيا وأفريقيا. فالمشكلة كانت المسألة اليهودية وكان حلها نَقْل اليهود إلى أي مكان في الأرض وتحويلهم إلى مستوطنين غربيين.

وحتى بعد أن ظهرت الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (توظيف اليهـود داخـل إطار الدولة الوظيفية التي تُؤسَّس في فلسطين)، ظل كثير من الصهاينة ينظرون لمشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين من خلال المنظور نفسه، أي باعتباره مشروعاً استعمارياً غربياً.

وإذا كانت المنظومة العلمانية في العالم الغربي قد أخذت شكل تأسيس الدولة القومية العلمانية التي قامت بعلمنة المادة البشرية داخل نطاق الدولة وبترشيدها حتى يمكن توظيفها، ثم قامت بعد ذلك بتجييش الجيوش التي حقَّقت الانطلاقة الإمبريالية الغربية، فإن الاختلاف في حالة الصهيونية اختلاف فرعي، إذ تمت أولاً علمنة المادة البشرية اليهودية من خلال الدول القومية الغربية، ثم تم بعد ذلك نَقْل المادة البشرية بمعاونة القوى الإمبريالية الغربية، وتم أخيراً تأسيس الدولة اليهودية القومية العلمانية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من التشكيل الإمبريالي الغربي، فالاختلاف لا ينصرف إلى الرؤية وإنما إلى ترتيب الخطوات.

ولا يزال هـذا التيار الصهـيوني العلمـاني الرافـض لليهودية قوياً، فمن المعروف أن الفكر الصهيوني كان يرفض استخدام اصطلاح «دولة يهودية»، فكتاب هرتزل يُسمَّى دولة اليهود لا «الدولة اليهودية». وكانت النية تتجه نحو استخدام اصطلاح «عبري» بدلاً من «يهودي»، ولذا كانت تتم الإشارة إلى «الدولة العبرية» وإلى «العبرانيين» (ولم يتم استخدام مصطلح «دولة يهودية» إلا في مراحل متأخرة). والصهاينة العلمانيون هم مؤسسوا المُستوطَن الصهيوني الحقيقيون، وهم صهاينة إلحاديون تماماً، وكان المستوطنون الأوائل ينظمون مسيرة كل عام للإعلان عن إلحادهم. وكان فريق منهم يحرصون على الذهاب إلى حائط المبكى في يوم الغفران (أكثر الأيام قداسة في التقويم الديني اليهودي) ويلتهمون ساندوتشات من لحم الخنزير تعبيراً عن رفضهم اليهودية. وقد توارت هذه الطفولية الثورية الرافضة إلى حدٍّ كبير، ولكن الإلحادية الصريحة ما تزال تُعلن عن نفسها. فلا يزال هناك صهاينة من أمثال شالوميت آلوني ويائيل ديان يحملون بغضاً عميقاً للعقيدة اليهودية والمؤسسة الدينية. بل إن الأولى كانت وزيرة للتربية في إسرائيل وكانت لا تكف عن التعبير عن احتقارها للتقاليد الدينية اليهودية. أما الثانية، وهي كاتبة روائية وابنة موشيه ديان، فكانت تصر دائماً على أن الملك داود كان مصاباً بالشذوذ الجنسي وأن علاقته مع يوناثان تدل على ذلك (وهناك مسرحية بهذا المعنى تُعرَض في إسرائيل). ولا تزال الكيبوتسات (العمود الفقري للمجتمع الإسرائيلي، وفي صفوفها تُجنَّد أعداد كبيرة من أعضاء النخبة الحاكمة) مؤسسات علمانية تماماً ترفض الاحتفال بالأعياد الدينية وتُطوِّر احتفالات خاصة بها، وتعيد تفسير كثير من النصوص الدينية والشعائر ليحل القومي الزمني محل الإلهي المتجاوز. ويصل هذا التيار إلى قمته فى حركة الكنعانيين الذين يرون العقيدة اليهودية انحرافاً عن الهوية العبرية السامية. وتُعَدُّ الدولة الصهـيونية من أكثر المجتـمعات إباحية واسـتهلاكية على وجــه الأرض، وكانت ستُطبَع فيها طبعة عبرية من مجلة بنت هاوس الإباحية وقد استُقبل محررها عند حائط المبكى احتفالاً بهذه المناسبة السعيدة. وتنتشر محلات الأشياء الإباحية في مدينة القدس وتُقام المسرحيات المهرطقة التي لا تعرف حرمة لأي شيء.

أما الأحزاب الدينية، فهي أحزاب أقلية لا تمارس نفوذها إلا في رقعة ضيقة جداً من الحياة العامة في إسرائيل، وهي على كل أحـزاب تعبِّر عن يهودية تمت علمـنتها على يد الصهاينة (أي صهينتها)، ولذا فهي يهودية المظهر علمانية المخبر.

وقد نجحت الصهيونية كذلك في تصعيد معدلات العلمنة بين يهود العالم بحيث حلت الصهيونية محل اليهودية، وأصبحت المشاعر الدينية تعبِّر عن نفسها من خلال التظاهر من أجل إسرائيل وتحرير الشيكات لها (انظر الباب المعنون «الصهيونية التوطينية»).

وهنا لابد أن نثير قضية أساسية وهي أن النقد العربي العلماني الثوري لإسرائيل والصهيونية يستند إلى أُسس مادية واقتصادية وحسب، باعتبار أن الدولة الصهيونية تقوم باستغلال المواطن العربي. والسؤال هو: ماذا لو أصبحت إسرائيل مفيدة من الناحـية الاقتصادية والمــادية داخـل إطـار النظــام العالمي الجديد؟ ما أسـاس رفضها؟ ألا يُفسَّر ذلك سرّ اندفاع الكثيرين الآن نحو إسرائيل؟

ورغم أن الصـهيونية بدأت كحـركة علمانية صريحة في علمانيتها، إلا أنهــا لم تكن لتستـمر على هــذا المنوال للأسباب التالية:

1 ـ من المعروف في تاريخ الحضارة الغربية الحديثة (ومتتالية العلمنة فيها) أن عمليـة العلمنـة لا يمكن أن تتم بشـكل واضح وصريح دفعـة واحدة، حتى لا تَفزَع الجماهير من وحشية النموذج المطروح (العالم باعتباره مادة استعمالية خالية من القيمة ومجرد من الغاية)، ولذا نجد أن الخطاب العلماني يتبنَّى ديباجات دينية في المرحلة الأولى (كما هو الحال مع فلسفة إسبينوزا والعقائد الربوبية) لترويج أفكار إلحادية الجوهر إيمانية المظهر. ثم تظهر تنويعات مختلفة على هذا إلى أن نصل إلى التعريفات العرْقية أو الإثنية الوثنية الصريحة. والصهيونية ولا شك، تنتمي إلى هذا النمط.

2 ـ المنظومة العلمانية المادية ترفض فكرة غائية الكون وفكرة ثبات القيمة الأخلاقية ومطلقيتها. فالإنسان موجود في الكون بالصدفة دون هدف أو غاية، والأخلاق تتغير بتغير الزمان والمكان. وكل هذا يخلق ما يُسمَّى «أزمة المعنى». ولذا، فإن المنظومات العلمانية كثيراً ما تستورد مصطلحات ومفاهيم دينية دون أي التزام بالأعباء الأخلاقية المرتبطة بهذه المفاهيم، وذلك لحل مشكلة المعنى. فالجندي البريطاني الذي كان يقتل الأطفال في أدغال أفريقيا ويأتي على الأخضر واليابس، كان في حاجة إلى ما يبرر أفعاله الوحشية من خلال منظومة مريحة تخبره أنه يقتل دفاعاً عن الحضارة الغربية وأخلاق المحبة المسيحية وأن هذا هو عبء الرجل الأبيض.

والصهيونية، أيضاً، حركة قامت باقتلاع مئات الألوف من اليهود من أوطانهم، ونقلتـهم إلى أرض معـادية داخل مجتمعـات تُكن لهم البغض. ولذا، لجأت الصهيونية للعقيدة اليهودية لتحل مشكلة المعنى للمادة البشرية المنقولة.

3 ـ الصهيونية، شأنها شأن أية عقيدة سياسية، تود أن تكتسب شرعية، وأن تُجيِّش الجماهير وراءها. وقد كان هذا أمراً حتمياً بالنسبة للصهيونية، فقد كانت أيديولوجية نشأت في وسط أوربا بين مثقفين يهود غير يهود، مندمجين تماماً، تشربوا الثقافة الألمانية لا مجرد معجبين بها. أما الجماهير اليهودية، فقد كانت في شرق أوربا، وهي جماهير يهود اليديشية. وكانت قطاعات كبيرة منهم إما عميقة الإيمان بالدين أو على الأقل تربطها صلة وثيقة برموزه. ومن ثم، لم يكن هناك مفر من أن تستغل الصهيونية العقيدة اليهودية لتضفي على نفسها صبغة دينية، فلجأت إلى تبنِّي الرموز والأفكار الدينية المألوفة لدى هذه الجماهير بعد علمنتها، إذ أن أية صيغة صريحة في علمانيتها كانت ستفشل حتماً في تجنيدها. وهذا ما عبَّر عنه كلاتزكين حين قال: "إن الدين اليهودي يمكن أن يساهم في بلورة الروح القومية للشعب اليهودي". وقد كان نوردو وهرتزل يدركان أهمية العناصر الدينية في تجنيد الجماهير. ولذا، فعندما فكرا في اختيار العراق مكاناً للاستيطان، فكرا أيضاً في «العناصر الصوفية» المرتبطة به وفي إمكانية الاستفادة منها. ولقد استقر الأمر على فلسطين في نهاية الأمر بسبب عدة عوامل من بينها قوة الأسطورة، أي الاسم في حد ذاته، "ففلسطين هي صرخة عظيمة تجمع اليهود" على حد قول هرتزل.

والصهيونية، في هذا، لا تختلف من قريب أو بعيد عن كثير من أيديولوجيات المستوطنين البيض أو النازيين (بل وكثير من أيديولوجيات القومية العلمانية). فالمستوطنون البيض في جنوب أفريقيا أصحاب أيديولوجية عرْقية بيولوجية حتمية تستبعد السود من نطاق ما هو إنساني وهو ما يتنافى تماماً مع العقيدة المسيحية. ومع هذا، فقد اسـتخدموا ديباجات مسـيحية لتسويغ كل أفعالهم، ومن ذلك إبادة الملايين، بل أسسوا كنيسة مسيحية تستبعد السود ولا تسمح لهم بالانضمام لها. وهذا أيضاً ما فعله النازيون الذين كانوا يؤمنون بأيديولوجية حلولية وثنية تماماً تحاول بَعْث التاريخ الألماني قبل دخول المسيحية في ألمانيا وقبل تغلغل أخلاق الضعفاء بين أعضاء الجنس الآري. ولكن النازية، مع هذا، أسَّست كنيسة مسيحية ألمانية بهدف اجتذاب الجماهير لهذه الأيديولوجية دون إفزاعها بالإلحاد الكامن والوثنية المتضمنة.

لكل هذا، نجد أن الصيغة الصهيونية التي شاعت هي التي تدور في إطار الحلولية الكمونية العضوية والتي تستخدم ديباجات دينية أو شبه دينية رغم أنها لا يربطها بالدين أي رابط (وهي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المُهوَّدة).

  • الجمعة AM 07:58
    2021-04-30
  • 1032
Powered by: GateGold