المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415344
يتصفح الموقع حاليا : 301

البحث

البحث

عرض المادة

نوع طهارة الرجلين

نوع طهارة الرجلين

 أجمعت المذاهب الأربعة على وجوب غسل الرجلين ، وأجمع الشيعة على وجوب مسحهما ببقية البلل إلا في حالة التقية .

 وسبب ذلك الخلاف أن آية المائدة قرئ فيها " أرجلكم " بالنصب والجر  وثبت ، لدى فريق أن الرسول r كان يغسلهما ، ولدى الآخر أنه كان يمسحهما ، فاستدل القائلون بالغسل بقراءة النصب وقالوا بالعطف على اليدين . واستدل الآخرون بقراءة الجر ، وقالوا بالعطف على الرءوس . ولنذكر ذلك تفصيلا.

 استدل الشيعة ([1][93]) بالآية الكريمة ، فقالوا : إن الاحتجاج بها في قراءة الجر واضح ، وذلك أن للمعطوف حكم المعطوف عليه ، فكما أنه يجب في الرءوس المسح من غير خلاف بين أحد فكذلك يجب في الأرجل إعطاء للمعطوف حكم المعطوف عليه .

 أما في قراءة النصب ، فالوجه أن الأرجل معطوفة على الموضع من (برءوسكم) لا على اللفظ ، وذلك أن برءوسكم منصوبة الموضع لأنها مفعول (لامسحوا) في المعنى ، وإن كانت مجرورة بالباء في اللفظ . والعطف تارة يكون على اللفظ ، فيعطى المعطوف حكم المعطوف عليه ، وتارة يكون على الموضع فله كذلك حكمه ، وهو كثير في كلام العرب ؛ قالوا : ليس فلان بقائم ولا ذاهباً ، فجعلوا ذاهباً معطوفة على موضع بقائم مع أنها مجرورة اللفظ .

 وقال الشاعر :

 معاوى إننا بشر فأسجح                         فلسنا بالجبال ولا الحديدا

 فعطف الحديد على موضع الجبال لأن موضعها النصب ، وإن كان لفظها مجروراً .

 وقال تأبط شراً:

 هل أنت باعث دينار لحاجتنا                       وعبد رب أخا عون بن مخراق

 فعطف عبد على موضع دينار ، فموضعه النصب على المفعولية لباعث ، مع أنه مجرور اللفظ بالإضافة .

   وقال آخر :

 جئنى بمثل بنى بدر لقومهم             أو مثل إخوة منظور بن سيار

 فعطف مثل الثانية على موضع بمثل الأولى .

 وعلى هذا ذهبوا إلى أن الآية تدل على وجوب المسح سواء أكان نزولها بالجر أو بالنصب ، لأنها معطوفة على الرءوس في القراءتين .

 وذهب القائلون بالغسل إلى عكس ذلك ؛([2][94]) فهم يرون أن النصب عطف على اليدين ، وبذلك يجب غسل الرجلين ، والعطف على محل الرءوس خلاف الظاهر ، وقراءة الجر لا تمنع العطف على اليدين ، فهي مجرورة للمجاورة ، وجر الجوار جائز في النعت وفي العطف ، أما النعت فقوله تعالى : "" إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ "" ( جر أليم ) وهو صفة العذاب المنصوب لمجاورته المجرور . وأما العطف فكقوله تعالى :  "" وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ""  ففي قراءة الجر لحور يكون ذلك لمجاورة " أكواب وأباريق " مع أنه معطوف على " ولدان مخلـدون ".

 وقوله تعالى :  "" عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ  "" .

 وقد وقع هذا الجر في كلام العرب العرباء ، كقول امرئ القيس :

 وظل طهاة اللحم من بين منضج          صفيف شواء أو قدير معجل

 جر قديراً مع العطف للمجاورة . وقول النابغة :

 لم يبق إلا أسير غير منفلت     وموثق في عقال الأسر مكبول

 بجر " موثق " و" مكبول " بجوار " منفلت " مع أنهما معطوفان على أسير . وتقول العرب " جحر ضب خرب " بجر خرب بالجوار.

 وفائدة الجر بالجوار في الآية الإيماء إلى وجوب الاقتصاد في الماء بغسلهما غسلاً يقرب من المسح ، لأنهما مظنة الإسراف فيه ، ولبيان أنهما يمسحان حال الاختيار على حائل وهما الخفان بخلاف سائر الأعضاء ، والفصل بقوله  " برءوسكم " إشارة إلى الترتيب .

والقول بأن الجر بالجوار إنما يصار إليه حيث الأمن من الالتباس فهنا كذلك، لأن الرسول r يبين للناس ما نزل إليهم .([3][95])

ويمكن في غير المجاورة أن يحمل المسح على الغسل ، فذلك مستعمل في كلام العرب ، قال أبو على الفارسى : العرب تسمى خفيف الغسل مسحاً ،   فيقولون : تمسحت للصلاة أي : توضأت ، وقال أبو زيد الأنصارى نحو ذلك . ويؤيد هذا أنهما محدودان بحد ينتهي إليه ، فأشبها اليدين . ثم إنه إذا اجتمع فعلان متقاربان بحسب المعنى جاز حذف أحدهما وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور ، ومن ذلك قول لبيد :

 

 فعلا فروع الأيهقان وأطفلت             بالجلهتين ظباؤها ونعامها

 أي باضت نعامها ، لأنها لا تلد .

 وقال آخر :

 تراه كأن الله يجدع أنفه                           وعينيه أن مولاه ثاب له وفر

 ومنه قول الأعرابي : علفتها تبناً وماء بارداً ، أي : وسقيتها .

 وحاول الشيعة نقض احتجاجات القائلين بالغسل فقالوا بالمنع من الجر بالجوار مستدلين بما استدل به الإمام الرازى ([4][96])، وقد رأينا الإجابة عن هذه الاعتراضات .

 وقالوا : إن ذلك يجرى مجرى " ضربت زيداً وعمراً وأكرمت خالداً وبكراً " فإن رد بكر إلى خالد في الإكرام هو الوجه في الكلام الذي لا يسوغ سواه ، ولا يجوز رده إلى الضرب الذي انقطع حكمه .

 ونلاحظ هنا بوناً شاسعاً بين هذه الجملة ، وبين الآية الكريمة ، فبكر لا يجوز  فيه إلا النصب ، ولا تقارب بين الضرب والإكرام ، ولا حكمة وراء هذا الفصل ، إلى غير ذلك مما يبين فساد هذا القياس([5][97]).

 وقالوا بأن حمل المسح على الغسل باطل ، ففائدة اللفظين في اللغة والشرع مختلفة ، وقد فرق الله سبحانه بين الأعضاء المغسولة وبين الأعضاء الممسوحة. والعطف على الرءوس يعطى نفس الحكم . ولو كان المسح بمعنى الغسل لسقط استدلال القائلين بالغسل بأن الرسول r توضأ وغسل رجليه ، فيجوز حمل ذلك على المسح . وقولهم " تمسحت للصلاة " المعنى فيه لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز ، ولم يجز أن يقولوا تغسلت للصلاة ، لأن ذلك تشبيه بالغسل ، قالوا بدلا من ذلك : تمسحت لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضاً ، فتجوزوا لذلك تعويلا على أن المراد مفهوم ، وهذا لا يقتضى أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل .

 وفي تحديد طهارة الرجلين قالوا : المسح أوجبته الشريعة كالغسل فلا ينكر تحديده ، ولم توجب الغسل في اليدين للتحديد ، بل للأمر به .

 ونلاحظ أن ردهم بأن " المغسول من الأعضاء ممسوح أيضاً فتجوزوا لذلك تعويلاً على أن المراد مفهوم " ، من الواضح أنه يؤيد القائلين بحمل المسح على الغسل ولو مجازاً ، والعكس غير صحيح ، لأن الغسل  مسح وزيادة ، وتحديد طهارة الرجلين قرينة ، وليست دلالة قائمة بذاتها .

 وقالوا في مثل " علفتها تبناً وماء بارداً " بأن ذلك إنما يجوز ـ على ضعفه إذا استحال حمله على ظاهره.

 ومما لا شك فيه أن الرسول r إذا بين أن المقصود هو المسح ، أو الغسل ، فإن الآية الكريمة لا تأبى ذلك ولا تعارضه .

 فكل من الفريقين إذا له ما يؤيد وجهة نظره ، وبهذا لا تعد الآية الكريمة نصاً في إيجاب الغسل أو المسح إلا بالرجوع إلى صاحب الشريعة r . والشيعة يذهبون إلى أنه كان يمسحهما ، والمذاهب الأربعة يذهبون إلى أنه واظب على غسلهما ، فلننظر في أدلة كل منهما .

 يروى الشيعة ([6][98]) عن الأئمة عدة روايات أنهم حكوا وضوء الرسول r ، فمسحوا رءوسهم وأرجلهم ببقية البلل ، لم يجددوا ماء . وعلى هذا ذهبوا إلى وجوب مسح الرجلين ببقية البلل .

 ووردت عن طريقهم أخبار تناقض ما ذهبوا إليه ، من ذلك ما روى عن الإمام الصادق في الرجل يتوضأ الوضوء كله إلا رجليه ، ثم يخوض الماء بهما خوضاً، فقالوا : أنه محمول على التقية ([7][99]).

 وروى عن الإمام زيد بن على عن آبائه عن على كرم الله وجهه قال : جلست أتوضأ فأقبل رسول الله r  حين ابتدأت في الوضوء فقال لى : تمضمض واستنشق واستن. ثم غسلت ثلاثاً فقال : قد يجزيك من ذلك المرتان ، فغسلت ذراعي ومسحت برأسي مرتين فقال قد يجزيك من ذلك المرة . وغسلت قدمي فقال لي : يا على خلل بين الأصابع لا تخلل بالنار ([8][100]).

 وحملهم هذا الخبر على التقية ، مرفوض فما من مسلم ذي عقل يرى أن الإمام علياً قال ذلك كذباً وتقية من المسلمين ، أما الرواة فما الذي يدعوهم إلى الكذب على الإمام وعلى الرسول r ؟

 إذا كان هناك ما يدعو إلى التقية فكان يكفيهم أن يغسلوا أرجلهم . أو  يقولوا بأن الغسل هو الواجب ، دون أن يتعمدوا الافتراء على الله ورسوله . ثم إن هذه الرواية عن الإمام زيد بن على الذي خرج على الدولة الأموية ، وقاتل من أجل حق ارتآه حتى استشهد ، فكيف إذن يصل إلى هذا الجبن والكذب ؟

 ورفض الطوسى هذا الخبر لشيء آخر أيضاً ، وهو أن رواة الخبر ليسوا إماميين ، ورجال الزيدية وما يختصون بروايته لا يعمل به ([9][101]).

 فالرواة ليسوا كذابين ، ولا وضاعين ، ولا مدلسين ، وإنما جريمتهم التى تدعونا إلى تكذيبهم ، وعدم الأخذ بروايتهم ، أنهم زيديون وليسوا إماميين ، والعترة الطاهرة وقف على الإمامية ، ومن ليس من العترة فليس أهلا لأن يروى عن رسول الله r !

 ولاشك أن الرسول وعترته بريئون من هذا الإسفاف . ولقد ناقشنا ذلك من قبل في بحثنا للسنة( [10][102])  .

 ورووا عن الإمام الصادق أنه قال : إذا توضأت فامسح قدميك ظاهرهما وباطنهما . ثم قال : هكذا : فوضع يده على الكعب وضرب الأخرى على باطن قدميه ، ثم مسحهما إلى الأصابع .

 فحملوا هذا الخبر على التقية أيضا([11][103]) ، مع أنه قال امسح ولم يقل اغسل ، وفيه أنه وضع يده على الكعب لا على الكعبين ، فمذهبهم أن الرجل لها كعب واحد وهي قبة القدم ، ولم يوافقهم في هذا التحديد إلا بعض الحنفية ([12][104]) ومع هذا حملوه على التقية لأنه يخالف ما ذهبوا إليه من عدم استيعاب الرجل في المسح .

 ورووا عنه أيضاً أنه قال في مسح الرأس ومسح القدمين ، مسح الرأس واحدة من مقدم الرأس ومؤخره ، ومسح القدمين ظاهرهما وباطنهما . وقد حملوه كالسابق على التقية " لأنهما موافقان لمذهب بعض العامة ممن يرى المسح ويقول باستيعاب الرجل "([13][105]).

 فالتعصب للرأي أدى إلى الاضطراب والتناقض في التخريج ، فمن يخشى بعض الناس ، وهم القلة النادرة ، كيف يجرؤ على الوقوف أمام الكثرة الغالبة ، ويخالف جمهور المسلمين القائلين بالغسل ؟ وهناك رواية عن الإمام الصادق  ذكرها الكليني في الكافي . والطوسى في كتابيه : التهذيب والاستبصار ، استدلوا بها فيما استدلوا على وجوب الترتيب في الوضوء ، وهذه الرواية هي :

  " عن أبى عبدالله u قال : إن نسيت فغسلت ذراعيك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم اغسل ذراعيك بعد الوجه ، فإن بدأت بذراعك.الأيسر فأعد على الأيمن ثم اغسل اليسار ، وإن نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك " ([14][106]).

 ولم يتكلم فيها الطوسى ، وإنما استدل بها على وجوب الترتيب وكفي ، فالرواية صحيحة في نظره ، فماذا يقول في غسل الرجلين ؟

 لو حمل ذلك على التقية لشك الناس في عقليته وتفكيره ، فهذه الرواية خالفت ما أجمع عليه المسلمون من عدم إيجاب الترتيب في اليدين ، ولكن العاملى في وسائله وقع فيما لم يقع فيه الطوسى ، وقال : " غسل الرجلين محمـول على التقيـة " ([15][107]).

 والتعصب للرأي الذي اقترن بالمذهب ، والذي كان له أثره فيما وجدنا من الاضطراب في التفكير والتخريج ، كان له أثر أسوأ من ذلك بكثير ، وهو وضع الأحاديث .

 ونحن بهذا  ـ علم الله ـ لا نريد الافتراء على الشيعة ، إنما نذكر ما بدا لنا عند النظر في أدلتهم . ولنذكر أمثلة لذلك :

 يروون أن الرسول r قال : " إن العبد إذا توضأ فغسل وجهه تناثرت ذنوب وجهه ، وإذا غسل يديه إلى المرفقين ، تناثرت عنه ذنوب يديه ، وإذا مسح برأسه تناثرت عنه ذنوب رأسه ، وإذا مسح رجليه أو غسلهما للتقية ، تناثرت عنه ذنوب رجليه ، وإن قال في أول وضوئه : بسم الله الرحمن الرحيم ، طهرت أعضاؤه كلها من الذنوب ، وإن قال في آخر وضوئه أو غسله من الجنابة : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك وأشهد أن علياً وليك وخليفتك بعد نبيك . وأن أولياءه خلفاؤهوأوصياؤه 000 إلخ " ([16][108]).

 ويبدو أثر الوضع واضحاً في قوله : " أو غسلهما تقية " وفي قوله : " وأشهد أن علياً وليك وخليفتك بعد نبيك ، وأن أولياءه خلفاؤه وأوصياؤه " فارتباط الرأي الفقهي بالمذهب جعل من لا خلاق لهم يضعون الأحاديث لنصرة الاثنين . ويؤيد هذا أيضا ما رووه عن الرسول r أنه قال للمقداد وسلمان وأبى ذر : أتعرفون شرائع الإسلام ؟ قالوا : نعرف ما عرفنا الله ورسوله ، فقال : هي أكثر من أن تحصى : أشهدوني على أنفسكم بشهادة أن لا إله إلا الله  ـ إلى أن قال : وأن القبلة قبلتي شطر المسجد الحرام لكم قبلة ، وأن على بن أبى طالب وصى محمد r ، وأمير المؤمنين ، وأن مودة أهل بيته مفروضة واجبة مع إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والخمس ، وحج البيت ، والجهاد في سبيل الله ، وصوم شهر رمضان ، وغسل الجنابة ، والوضوء الكامل على الوجه واليدين والذراعين إلى المرافق ، والمسح على الرأس والقدمين إلى الكعبين ، لا على خف ، ولا على خمار ، ولا على عمامة  - إلى أن قال : فهذه شروط الإسلام وقد بقى أكثر([17][109]).

 نخرج من هذا أن رواياتهم متناقضة ، فبعضها فيه مسح جزء من الرجلين ببقية البلل ، وبعضها فيه مسح مع استيعاب الرجلين ، وروايات أخرى فيها الغسل.

 وهم يرون أن عدداً من الأخبار وضع للتقية ـ على حين رأينا روايات وضعت لنصرة المذهب ، فرواياتهم إذن غير قاطعة بالمسح أو الغسل ـ وإن كانت ترجح الغسل ، لأن روايات الغسل تخالف المذهب ، ورأينا أن بعضها لا يحتمل التقية على الإطلاق ، أما روايات المسح فيحتمل أنها موضوعة انتصاراً للمذهب كما وضح في الروايتين الأخيرتين .

 أما أهل السنة فقد رووا أحاديث صحيحة متعددة في الغسل ([18][110]) ومنهاحديث عثمان رضي الله عنه ، وهو يحكى وضوء رسول الله r ففيه " ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا " متفق عليه . وفي لفظ : " ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ، ثم غسل اليسرى مثل ذلك " . وعن الإمام على أنه حكى وضوء رسول الله r فقال : " ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً ثلاثاً " . وكذلك قالت الربيع بنت معوذ ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن عمر . وعن أبى هريرة أن النبى  r رأي رجلاً لم يغسل عقبه ، فقال : " ويل للأعقاب من النار " إلى غير ذلك من الروايات التى تصل إلى حد التواتر . وهي  تبين أن الرسول  r كان يغسل رجليه في الوضوء .

 وهذه الروايات كافية لإسقاط روايات الشيعة التى توجب المسح ، بخاصة إذا نظرنا إلى رواياتهم القائلة بالغسل والتى لا تحتمل التقية ، وإلى رواياتهم الأخرى التى ثبت أنها موضوعة انتصاراً للمذهب الجعفري ، ولما ذهب إليه من آراء  فقهية .

 وقد ورد  عن طريق أهل السنة أيضاً روايات بالمسح ، ولكنها لا تتعارض مع الروايات السابقة .

 مثال ذلك : ما روى عن الإمام على كرم الله وجهه أنه مسح برأسه ورجليه ، وقد رأينا فيما رووا عن طريق أهل السنة والشيعة من أن الرسول r أمره بتخليل الأصابع وهو يغسل رجليه ، وأنه حكى وضوء الرسول r ، فغسل الرجلين . ولا يمكن بحال أن يخالف الإمام أمر الرسول r ، فبم نعلل ذلك ؟
 من روايات المسح أن علياً صلى الظهر ، ثم قعد للناس في الرحبة ، ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه ، ثم مسح برأسه ورجليه ، وقال : هذا وضوء من لم يحدث . ورواية أخرى أنه اكتال من حب فتوضأ وضوءاً فيه تجوز ، فقال هذا وضوء من لم يحدث .

 وقال عكرمة : كان على رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة ، ويقرأ هذه الآية "" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ "" . فالتجوز في وضوئه إذن لأنه لم يحدث ، وأراد أن يجدد وضوءه([19][111]).

 ولعل مثل هذه الروايات هي التى جعلت الإمامية يظنون أن هذا مذهب  الإمام ، فتعصبوا له ، وأعرضوا عن سائر الأدلة الثابتة التى ذكرت الغسل ، ووجد أعداء الإسلام  ـ الذين استتروا وراء قناع التشيع لآل البيت فرصتهم لإذكاء نار الفرقة بين المسلمين ، ومحاولة طمس سنة سيد المرسلين ، فأخذوا يكذبون عمداً على الرسول r ، وعلى الأئمة الكرام ، مبينين أن المسح هو الواجب . ومن غسل فلا وضوء له .

 وقد رأينا أمثلة للوضع في أحاديثهم . ونزيد ذلك بياناً بهذه الرواية:

 قال أبو عبد الله u : " يأتى على الرجل ستون وسبعون سنة ما قبل الله منه صلاة ، قلت : وكيف ذلك ؟ قال : لأنه يغسل ما أمر الله بمسحه " ([20][112]).

 فالإمام الصادق عاصر الإمامين أبا حنيفة ومالكاً ، ويعلم أنهما أفتيا بوجوب الغسل نتيجة أدلة ثبتت لديهما ، وتمسك بالغسل كل المسلمين ، إلا القلة النادرة ، وهم قريبو عهد من الرسول الكريم وصحابته ، وفيهم كثير من تابعيه رضي الله عنهم أجمعين ، ترى هل كان الإمام الصادق يرى أن هؤلاء جميعاً لا تقبل صلاتهم؟ لا يقول بذلك إلا عدو للإسلام والمسلمين .

 ومما ساعد على تفشى هذه الروايات المكذوبة التعصب للرأي ، فيقبل ما وافقه ، ويرفض كل ما خالفه ، ولو أدى ذلك إلى إهمال العقل ، واضطراب  التفكير ، وقد مرت أمثلة كثيرة لذلك .

 وقد رووا عن الإمام على أنه قال : " لولا أنى رأيت رسول الله r يمسح ظاهر قدميه لظننت أن باطنها أولى بالمسح من ظاهرها " .

 ويستدلون بذلك فيما يستدلون به على مسح الرجلين .

 وفي موضع آخر يستدلون برواية عن الإمام في إبطال القياس ، وهي : " لو كان الدين يؤخذ قياساً لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره " ([21][113]).

فروايات المسح إذن يمكن أن تحمل أيضاً على المسح على الخفين ، وهذا واضح بمقابلة الروايتين ، ولكنهم مع هذا يرفضون المسح على الخفين ويوجبون المسح على القدمين .

 وكذلك يمكن حمل هذه الروايات على الغسل الخفيف . فابن عباس الذي روى أنه قال بالمسح ، جاء في حديثه عن الرسول r : " أخذ ملء كف من ماء فمسح على قدميه " ، والمسح يكون بالدلك لا برش الماء والشيعة يوجبونه ببقية البلل .

 وقد مرت مناقشة حول إطلاق المسح على الغسل ، ورأينا إمكان ذلك ، ويؤيده من جهة الشيعة ما روى عن الإمام موسى الكاظم : " لا تعمق في الوضوء، ولا تلطم وجهك بالماء لطماً ، ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء   مسحاً ، وكذلك فامسح الماء على ذراعيك ورأسك وقدميك " .

 قال العاملى : المسح هنا محمول أولاً على المجاز - بمعنى الغسل ، ثم على الحقيقة([22][114]).

فلما وجب الغسل للذراعين حمل المسح على معنى الغسل ، فلماذا لا يكون كذلك بالنسبة للرجلين ما دامت أخبار الغسل ثابتة إلى حد التواتر؟

 وروى عن ابن عباس وأنس والشعبى والإمام الباقر وغيرهم أن القرآن الكريم نزل بالمسح ، ونجد في رواية أنس : " نزل القرآن الكريم بالمسح والسنة الغسل " فليس معنى ذلك أن السنة الشريفة عارضت القرآن الكريم فلا قائل بذلك، ولكن معنى هذا أن الذين نظروا إلى قراءة الجر رأوا أن الظاهر هو المسح ولكن الرسول r بين أن المقصود هو الغسل ، وفي هذا إيجاب للغسل لا للمسح. ([23][115])

 ونقل عن ابن جرير الطبرى أنه أوجب غسلهما للأحاديث ، وأوجب مسحهما للآية ، وقال ابن كثير تعقيباً على ذلك : " كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك ، فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما ، لكنه عبر عن الدلك بالمسح ، فاعتقد من يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما([24][116]) .

 وروى عن الحسن البصرى أن المضرور مخير بين الغسل والمسح ([25][117])  .

 ومعنى هذا أنه يرى جواز العدول عن أصل الطهارة وهو الغسل إلى رخصة المسح في حال الضرر.

 ونخرج من هذا البحث إلى أن الواجب في الوضوء غسل الرجلين لا مسحهما، والله سبحانه وتعالى أعلم .

 

 ([1][93]) انظر أدلتهم في المراجع الآتية :

   وسائل الشيعة ومستدركاتها : 1/369-383 ، 2/22-25 والاستبصار 1/64-66 ومجمع البيان في تفسير القرآن 1/64-167 وكنز االعرفان في فقه القرآن 9-10 والمعتبر 38-39والانتصار 13-17 والحقائق في الجوامع والفوارق 1/176-182 والوضوء في الكتاب   والسنة ، وملحق به المسح على الأرجل أو غسلهما في الوضوء .

 ([2][94]) انظر أدلتهم في المراجع الآتية.

صحيح البخارى – كتاب الوضوء : باب غسل الرجلين ، ولا يمسح على القدمين ، وفتح البارى 1/265-266 ، وصحيح مسلم – كتاب الطهارة : باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما وشرح النووي 1/525 –528  ، وصحيح ابن خزيمة 1/83-87 ، ونيل الأوطار جـ 1                ص 207- 212  ، والمبسوط جـ1 ص 8-9 ، والأم 1/27-28 ، والمغنى 1/121-125 ، ومختصر التحفة ص 25-28 ،  وتفسير الطبرى 1/52-57 ، وتفسير ابن كثير 2/22-29 ،* *والجامع لأحكام القرآن للقرطبى 6/91-96 ، والكشاف للزمخشرى 1/248-249 ، وأحكام القرآن لابن العربى 2/574-576 .

 ([3][95]) فرح الشيعة بالإمام الرازى حين ذهب إلى بطلان الكسر على الجوار بقوله " إن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذى قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر ، وكلام الله يجب تنزيهه   عنه ، وإنما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس ، وهناغير حاصل ، وكذلك إنما يكون بدون حرف العطف ، وأما مع حروف العطف فلم تتكلم به العرب". والأدلة السابقة فيها بطلان دعوى الرازى كما هو واضح . وبعد ذلك رأيناهم يهاجمونه عندما وصل إلى القول : " إن الأخبار الكثيرة ورددت بإيجاب الغسل ، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس ، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط ، فوجب المصير إليه ، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الأرجل يقوم مقام مسحها " .( انظر : المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء ص126وما بعدها ، ورأي الفخر الرازى في تفسيره جـ 6 ص 368، وقد نقلوا عنه بتصرف ) .

 

 ([4][96])  انظر المرجعين السابقين .

 ([5][97]) الشيعة – كما نعلم – لا يأخذون بمثل هذا القياس ، ولكنه الانتصار للرأي وكفي!

 (1) أدلتهم تجدها في مراجعهم التي ذكرناها من قبل .

 ([7][99]) انظر : الاستبصار جـ 1 ص 65 .

 

 ([8][100]) المرجع السابق ، ص 65-66 ، والوسائل جـ 2 ص 24 .

 ([9][101]) انظر : الاستبصار جـ ص 66 .

 ([10][102]) انظر : الحديث الصحيح ، ومناقشة اشتراط إمامية الراوى : في الجزء الثالث من هذا  الكتاب .

 ([11][103]) انظر الوسائل 2/17 .

 ([12][104]) ويرد هذا التحديد أنه خلاف المشهور في العرف ، قال أبو عبيد : الكعب هو الذي في أصل القدم ، منتهي الساق إليه ، بمنزلة كعاب القنا ، كل عقد منها يسمى كعبا ، وقد روى أبو القاسم الجزلى عن النعمان بن بشير قال : كان أحدنا يلزق كعبه بكعب صاحبه في الصلاة ، ومنكبه بمنكب صاحبه . رواه الخلال ، وقاله البخارى . وروى أن قريشا كانت ترمى كعبى رسول الله  r من ورائه حتى تدميهما ، ومشط القدم أمامه .وقد اعترض على ذلك بأن قوله تعالى ] إِلَى الْكَعْبَينِ  [  يدل على أن في الرجلين كعبين لا غير ، ولو كان لكل رجل كعبان لكانت  كعاب الرجلين أربعة . ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن المراد غسل كل رجل إلى الكعبين ، إذ لو أراد كعاب جميع الأرجل لقال : " الكعاب " كما قال تعالى :  ] وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [ . انظر : المغنى 1/125 –126  : وانظر كذلك : المبسوط 1/9 : حيث ذكر حديثا عن الرسول r  وهو : " ألصقوا الكعاب بالكعاب في الصلاة " ، واستدل كذلك بقوله تعالى : ] إِلَى الْكَعْبَينِ[، وبين أن تفسير الكعب بأنه المفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك جاء عن طريق رواية رواها هشام عن محمد ، وأن هذا سهو من هشام ، وارجع إلى أحكام القرآن لابن العربى جـ 2 ص 577 .

 ([13][105]) انظر : الوسائل 2/18 .

 

 ([14][106]) انظر : الاستبصار 1/74 .

 ([15][107]) الوسائل 2 / 52 .

 ([16][108]) الوسائل 1 / 377 ـ 378 .

 ([17][109]) الوسائل 1 / 379 . 

 ([18][110]) انظر مراجعهم التى ذكرناها من قبل .

 ([19][111]) ورد عن طريق الشيعة أن على بن أبى طالب – كرم الله وجهه – قال للناس في الرحبة :  " ألا أدلكم على وضوء رسول الله r وآله ؟ قالوا : بلى . فدعا بقعب فيه ماء فغسل وجهه وذراعيه ، ومسح على رأسه ورجليه ، وقال : هذا وضوء من لم يحدث حدثا " . وعقب الكراكجى – أحد علمائهم – بقوله : " مراده أنه الوضوء الصحيح الذي كان يتوضؤه رسول الله r ، وليس هو وضوء من غير ، وأحدث في الشريعة ما ليس منها " . ( انظر : الوسائل – المستدرك 1/381-382 ) وهذه الرواية تتفق مع ما ذكرنا ، وتفسير الكراكجى باطل ، فالإمام ذكر أنه وضوء الرسول r ، فلا داعى لأن يذكر بعد ذلك أنه وضوء من لم يغير في الشريعة . ويحدث فيها ما ليس منها ، وإنما الضرورة تلجئه أن يذكر أن هذا الوضوء في حالة تجديده    فقط ، دون أن يكون هناك حدث موجب له ، ففي الحالة الأخرى – أي عند الحدث – بين الإمام* *نفسه كيفية الوضوء بغسل الرجلين كما ورد عن طريقى السنة والشيعة . ثم إذا ذكر الحدث في مجال الوضوء أفيفهم منه التغيير ، أم الحدث الموجب للطهارة ؟ إن إطلاق الحدث هنا يحتم المعنى الأخير .

 ([20][112]) الاستبصار 1/14 ، والوسائل 2/22 ، وقد روى الحديث الكليني والصدوق والطوسى أصحاب كتب الحديث الأربعة .

 

 ([21][113]) تهذيب الوصول لعلامتهم الحلى ص 85 .

 ([22][114]) انظر الوسائل 1 / 378 . 

 ([23][115]) وروى مثل هذا أيضا عن الشعبى ، قال : نزل القرآن بالمسح والغسل سنة ،ومعنى أنه سنة هنا أي ثبت عن طريق السنة .

 ([24][116]) تفسير ابن كثير 2/26 ، وانظر تفسير الطبرى 10/61-80 ، وفيه رد على أحاديث  المسح.

 ([25][117]) انظر المبسوط 1/8 ، وإن كان بعض الباحثين يروى عنه التخيير مطلقا ، فلعله قد التبس عليهم .

  • الاربعاء AM 07:17
    2021-04-28
  • 1032
Powered by: GateGold