المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415235
يتصفح الموقع حاليا : 263

البحث

البحث

عرض المادة

هارولــد بلــوم (1930 - )

هارولــد بلــوم (1930  (–
Harold Bloom
ناقد أدبي أمريكي يهودي وُلد في نيويورك. يُدرِّس الأدب الإنجليزي في جامعة ييل منذ عام 1955. وهو حلولي ذو رؤية غنوصية قبَّالية واعية تماماً بغنوصيتها وعدميتها. نشر في الستينيات ثلاث دراسات تدور حول الشعر الرومانتيكي الإنجليزي، هي شيللي وصياغة الأسطورة (1959)، و الجماعة الرؤياوية (1961)، و رؤى (أبوكاليبس) بليك (1963).


وقد استخدم بلوم في هذه الدراسات مقولات تحليلية مستقاة إما من القبَّالاه أو من فلسفة بوبر (الحلولية الحسيدية الجديدة). ويذهب بلوم إلى أن الشعراء الرومانسيين الإنجليز كانوا يرمون إلى تحويل الطبيعة من موضوع إلى ذات من خلال رؤية أسطورية للواقع فيدخلون في علاقة حب مع الطبيعة، وهي ليست علاقة آلية (الأنا مع الهو) وإنما علاقة متعيِّنة مباشرة (الأنا مع الأنت) حيث يصبح الآخر (أي الطبيعة) كياناً حياً مفعماً بالحياة، تماماً مثل الإنسان، فهي لذلك علاقة حوارية يتساوى فيها الإنسان مع الطبيعة ويظهر الإنسان الطبيعي (أو الإنسان/الطبيعة) وتتضخم الأنا الإنسانية لتسم الطبيعة بميسمها، ولكنها في الوقت نفسه تذوب في الطبيعة حيث يصبح هناك كيان واحد تسري فيه الروح المقدَّسة، ومعنى ذلك أن الثالوث الحلولي يكتمل تماماً في شعر كبار الشعراء الرومانتيكيين. وأهم الشعراء على الإطلاق هو شيللي، فصوته ـ في تصوُّر بلوم ـ مثل صوت أنبياء العهد القديم بعد أن يتخلوا عن الرؤية التوحيدية التي تفترض انفصال الإنسان عن الطبيعة، وتفترض وجود مساحة بين الخالق والمخلوق، ليصبحوا أنبياء حلوليين لا يتلقون الكلمة الإلهية لإبلاغها وإنما يتوحدون بها ثم يصبحون تجسـيداً لها: صوتهم هو صوت الإله (والطبيعة). وقد قدَّم بلوم تحليلاً كاملاً لنسق بليك باعتباره نسقاً غنوصياً. وفي السبعينيات، صَدَر لبلوم عدة دراسات، هي ييتس (1970)، و قلق التأثر (1973)، وخريطة إساءة القراءة (1975)، و القبَّالاه والنقد (1975)، ولشعر والكبت (1976). كما نشر رواية بعنوان هرب لوسيفر: فانتازيا غنوصية (1979(.

ولفهم نقد بلوم، لابد أن نفهم منظومته الغنوصية الصراعية التي تضرب بجذورها في كل من الغنوص اليهودي القديم والغنوص العلماني الحديث. وتعود هذه الرؤية الصراعية إلى عالم الجسيلشافت التعاقدي حيث يتشيأ كل من الإنسان والطبيعة وحيث يصبح الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان. ولكن هذه الرؤية تعبِّر عن نفسها في ديباجات غنوصية مثل أصحاب الغنوص الروحانيين (النيوما) الذين يعيشون مغتربين عن أصلهم النوراني. وحتى يتغلب الغنوصي على غربته، فإنه يؤكد اتصاله بالجوهـر الإلهي. بل إنـه يبيِّن أحياناً أنه هو نفسه الإله، فهو خالق وليس مخلوقـاً. وهذا هو ما يفعله بلوم الذي يشير إلى قول نيتشه: «إن كان هناك إله، فماذا أكون أنا إذن؟» فالإنسان حين يكتشف أنه مخلوق وليس خالقاً، أنه إنسان وليس إلهاً، أنه لم يخلق نفسه بنفسه وأن له أصلاً ربانياً فإنه يشعر بالاغتراب، وخصوصاً أنه قُذف به في عالم ليس من صنعه. ولذا، لابد أن يثور الإنسان فينكر أصله الرباني ويمحوه تماماً ليصبح هو نفسه مرجعية ذاته وليكون العبد والمعبود والمعبد، وليس أمامه سوى أن يعيد خلق العالم في صورته. وبذلك يصبح العالم المخلوق من خلقه هو، ويصبح الإنسان خالقاً لنفسه ولعالمه. وإحدى الحيل الأساسية في هذا المضمار هي تأكيد أن العالم صيرورة كاملة ونسبية كاملة بحيث تتساوى كل الأمور ويختفي السبب والنتيجة والخالق والمخلوق وكل ثنائية تدل على وجود أصل يسبق النسخة، فالصيرورة هنا هي الآلية الأساسية حيث لا توجد أية معيارية يمكن الإهابة بها ولذا لا يبقى إلا الصراع اللانهائي في إطار الصيرورة الأزلية.

هذه المنظومة الغنوصية تكتسب أبعاداً يهودية في كتابات بلوم، فتجربة اليهود الأساسية هي كارثة المنفى حين ينفصل اليهود عن أصلهم النوراني فيتم نفيهم من صهيون ويُقذَف بهم في عالم الأغيار. وكارثة النفي هي كارثة «إحلال» (بالإنجليزية: ديسبليسمنت displacement، من كلمة «ديسبليس displace» الإنجليزية التي تعني «يُشرِّد» و«يزيح» و«يحل محل») إذ تم تشريد اليهود وإزاحتهم من مكانهم وإحلال شعب آخر محلهم. ولم يبق أمام اليهود سوى البكاء أمام حائط المبكى. واليهود، هؤلاء المنفيون الأزليون، هم رمز التجوال الأزلي والصيرورة الأزلية (على عكس المسيحيين الذين أصبحوا إسرائيل الحقيقية الثابتة المستقرة المؤسسية التي فسرت العهد القديم تفسيراً رمزياً مستقراً). وفي مقابل الكنيسة بأيقوناتها المفعمة بالدلالة، يوجد حائط المبكى (بقية الهيكل)، أي أنه مجرد شظايا؛ بقايا معنى؛ دال دون مدلول، أو دال ابتعد مدلوله حتى أمّحي.

وقد تَعمَّق انفصال الدال عن المدلول عند الشعب اليهودي؛ فهذا الشعب المختار أصبح الشعب المنبوذ، وهذا الشعب صاحب الهوية أصبح بلا هوية، وهذا الشعب الذي كان يحلم بسيادة العالم أصبح مسلوب الإرادة والسلطة. وبدلاً من أرض الميعاد النهائية، توجد أرض المنفى والتجوال الأزلية؛ وبدلاً من دال له مدلول واضح، أصبحت هناك رموز شظايا ليس لها معنى (على عكس التجسد المسيحي حيث يلتصق الدال بالمدلول ويصبح الدال مدلولاً ويصبح تجسُّد المسيح ابن الإله هو ما يعطي معنى لفوضى التاريخ).

ولهذا السبب، أصبح اليهود قوى الظلام والإحلال والتقويض في العالم. وقد لجأوا لاستراتيجية الهرمنيوطيقا المهرطقة التي تتلخص ببساطة في أن الهرطقات الإلحادية دخلت التراث الديني من خلال التفسيرات الحاخامية الغنوصية التي اكتسبت مركزية في حالة القبَّالاه. ثم تدريجياً أصبحت التفسيرات الغنوصية هي نفسها التراث وحلت محل الكتاب المقدَّس وتداخل المقدَّس والمدنَّس تماماً. إن الهرمنيوطيقا المهرطقة تعبير عن الصراع الماكر بين اليهود والقوى التي نفتهم وشردتهم وأحلت شعباً محلهم، وتعبير عن انتقامهم من عدوهم الهيليني المسيحي الذي يزعم أن العالم يدور حول اللوجوس، ولذا فقد جعلوا همهم ضرب اللوجوس عن طريق تَبنِّي اللامعنى والتغير وانفصال الدال عن المدلول.

وعلى هذا فإن الناقدة الأمريكية اليهودية سوزان هاندلمان شبَّهت هارولد بلوم بيهوذا الإسقريوطي حواريّ المسيح الذي باعه للرومان بحفنة فضة (ومع هذا لم تهدأ روحه فرفضه الرومان). كما شبَّهته بيهودا الحشموني (المكابي) الذي دخل معبد النقد الأدبي ليطهره من المسيحية ومن رغبتها المحمومة في الاتحاد بالخالق وفي الثبات.

تقارن هاندلمان بين بلوم ونقاد (مسيحيين) مثل إليوت وفراي يؤمنون بالتجسد حيث يظهر المسيح في التاريخ فيُنهى التاريخ اليهودي. ولكن تجسد المسيح هو لا تاريخ، هو ثبات وتَوقُّف، هو اللوجوس الذي أدَّى إلى ظهور الفكر الغربي الأونطوثيولوجي، وهو الحضور في التاريخ ونقطة الثبات التي تفلت من قبضة الصيرورة. وانطلاقاً من أرضيتهما المسيحية، يرى إليوت وفراي أن الهرب من الذات (النسبية ـ المتغيرة ـ الضيقة) يتم عن طريقه فهم التقاليد والانتماء إليها أو عن طريق ما سماه فراي « النمط الأوليّ » (وهو شكل من أشكال التجسد). أما بالنسـبة لليهـودي بلوم، فإن الهرب من الذات يتم عن طريق فتـح النص.

كتب بلوم دراسة بعنوان أجون (الصراع) وهي محاولة من جانبه لمراجعة النظرية النقدية الغربية. ويذهب بلوم في هذه الدراسة إلى أن النص الأدبي حلبة صراع بين الشعراء فيما بينهم، وبين الشعراء والنقاد، وبين النص والمفسر، حيث يحاول كل متصارع أن يؤكد إرادته ويمليها على الآخر (يمحو الآخر). والقراءة النقدية شكل من أشكال الصراع المستمر (تماماً مثل قوانين الحركة المادية، فالعالم صيرورة مطلقة وكل شيء يسقط فيها). أما النص نفسه فليس له معنى محدد، فهو صامت (كما يقول الباطنيون) ومن ثم لا توجد قراءة دقيقة وقراءة غير دقيقة. فالقراءة أمر مستحيل لأن القراءة تفسير، والتفسير يفترض وجود مركز ومعنى محدد ومعيارية لم تسقط في قبضة الصيرورة ونص ثابت مستقر وأصل ثابت للنص. ولكن، في واقع الأمر، لا يوجد نص في ذاته ولا توجد قصيدة في ذاتها، ولا يوجد سوى نصوص متداخلة (بالإنجليزية: إنترتكست intertext)، ولا يوجد ما هو داخل النص وما هو خارجه، ولا يوجد سوى مفسر تفسيره هو رؤيته للنص، ولذا فإن ما يوجد هو عبارة عن سوء قراءة ليس إلا. ومعنى القصيدة لا يوجد في بطن القصيدة ولا في بطن الشاعر وإنما في بطن الناقد أو في إرادته إن أردنا توخِّي الدقة، والفعل النقدي فعل نيتشوي صراعي يتضمن فرض الإرادة. ومعنى القصيدة، بهذا المعنى، هو قصيدة أخرى، فلا مفر من الذاتية الكاملة ولا مفر من إساءة القراءة. ولهذا، ركَّز بلوم على الناقد صاحب الإرادة النيتشوية (الذي يشبه الحاخام ممثل الشـريعة الشـفوية التي تحل محل الشـريعة المكتوبة). وما يوجد هو، إذن، إساءة قراءة، قد تكون قوية أو ضعيفة، ولكنها قوية كانت أم ضعيفة إساءة قراءة ليس إلا.

وتمتد الرؤية الصراعية لتتجاوز الصراع بين الناقد والنص لتصبح صراعاً بين الشاعر والشاعر. فكل نص قديم يُشكل أصلاً يترك أثره فيما بعده، فهو حاضر/غائب، ومهمة الشاعر المبدع أن يحاول أن التحرر من أي أصل ثابت، وتتحدد درجة الإبداع بمدى الإفلات من أثر الأسلاف بل من أي أثر لأي أصول، أي أن الإبداع هو إنكار الأصول الربانية أو الإنسانية، هو عملية تأله، فالإله وحده هو الذي لا أصل له. وثمة صور صراعية عديدة في كتابات بلوم فهو يشير إلى واقعة صراع يعقوب مع الإله (في صورة ملاك) فصرع يعقوب الإله/الملاك، ولذا فإنه سُمِّي «يسرائيل» (وهي كلمة معناها «يصارع الإله» أو «صرع الإله»).

كما يمجد بلوم شيطان جون ملتون (في ملحمة الفردوس المفقود) لأن الشيطان في حالة غيرة من الإله (الأصول) بسبب مقدرة الإله على الخلق وعجزه هو. فالشيطان هو الغنوصي الحقيقي الذي يصر على أنه قديم وليس مخلوقاً، تماماً مثل الإله نفسه وقادر على الخلق مثله. والشيطان يرفض تجسُّد المسيح (لحظة التجسد تشكل لحظة ثبات في الصيرورة التاريخية). ولأن الشيطان يود تأكيد مقدرته على الخلق، فإنه يتزوج من الرذيلة متحدياً الإله فتلد له الرذيلة ابناً يُسمَّى «الموت»، هو القصيدة الوحيدة التي يسمح له الإله بنظمها. فالشيطان هو مثال الشاعر القوي الذي يصارع الإله ويأتي بوحي بديل لوحي الإله والذي يود أن يزيل أثر الإله تماماً.

وتُشبِّه هاندلمان اليهودي بشيطان الشاعر جون ملتون في ملحمته الفردوس المفقود، فهو أيضاً يرفض التجسد. وعلاقة القبَّالاه بالتوراة تشبه علاقة الشيطان بالإله، فالقبَّالاه تمحو المعنى الإلهي وتأتي بالمعنى الغنوصي البديل. وكما يرفض الشيطان اللوجوس (رمز الثبات ومصدر اليقين)، يرفض اليهودي المسيح (اللوجوس)، فهو يعيش في المنفى الدائم في حالة الإرجاء والاختلاف (الاخترجلاف) وفي حالة تفسير مستمرة لا تنتهي للنص المقدَّس وبذلك يصبح اليهودي عدو التجسد وعدو أي يقين معرفي. والتفسير المستمر للنص هو إستراتيجية اليهودي للتغلب على غربته وهي إستراتيجيته التقويضية لينتقم من الأغيار فيأخذ نصوصهم المقدَّسة أو المركزية ويحل محل معناها الأصلي معنى غنوصياً مظلماً فكأنه انتقم مما حلَّ به من إحلال.

والصراع مع الأصل يأخذ شكل الصراع مع الأب، فالأب هو الذي يمنحنا الحياة، فإن قتلنا الأب محونا الأصل ووصلنا إلى عالم بلا أصل ولا ثبات، بلا مركز ولا مطلقات.

وهنا يشير بلوم إلى أسطورة أوديب (في المصطلح الفرويدي) حيث يدخل الشاعر في صراع مع من سبقه من شعراء (آبائه) فإما أن يصرعهم وإما أن يصرعوه. ويؤكد بلوم دائماً (مثله مثل كثير من دعاة ما بعد الحداثة) أن الرغبة تسبق الفعل أو أن الرغبة هي المحرك، فالرغبة تتجاوز الحدود وتتجاوز التاريخ والزمان والمكان، هي الذاتية الكاملة والنسبية والصيرورة. لكل هذا، نجد أن الموضوعات الأساسية في كتابات بلوم هي التقويض والمراجعة والانقطاع والتفسيرات التفكيكية والإحلال. ويرى بلوم أن آليات الدفاع عن الذات هي أشكال بلاغية سماها في البداية بأسماء يونانية، فهناك: كلينامن Clinamen، أي الإنحراف، وتيسيرا Tesera، أي الاكتمال والتناقض، وكينوسيس Kenosis، أي السعي إلى الانقطاع عن الشاعر السابق، والديمنة Daemonization (من «ديمون demon»، أي «الشيطان»)، وهي الشيطنة، ولكنه في دراسة لاحقة أسقط هذه المصطلحات وأحل محلها مصطلحات من القبَّالاه مثل تهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) والانكماش (تسيم تسوم) والإصلاح)تيقون).

ويثير مفهوم التسيم تسوم على وجه الخصوص اهتمام بلوم. فالخلق، حسب الأسطورة اللوريانية، تم من خلال عملية انكماش أي غياب، ولكن هذا الغياب الإلهي ضروري للحضور الإلهي، فكأن الغياب والحضور يتداخلان. والحضور الإلهي ليس كاملاً فهو عملية مستمرة عبر التاريخ، هو نقطة غياب وحضور. وبهذا، يكون التسيم تسوم تعبيراً عن المفارقة (أيروني irony). كما يربط بلوم بين حادثة تهشُّم الأوعية ونفي اليهود فتهشُّم الأوعية أدَّى إلى تناثُر الأشعة الإلهية واختلاطها بمادة الكون الرديئة. وهذا هو نفسه نفي اليهود وتناثرهم في بقاع الأرض واختلاطهم بالأغيار، كما أن اليهود بعد نفيهم تم إحلال شعب آخر محلهم. ثم يربط بلوم بين هذا كله والكناية حيث يحل الكل محل الجزء.

وبجسارة غير عادية، ورغم عدم معرفته اللغات القديمة، كتب بلوم مقالاً عن المصدر اليهوي للعهد القديم بيَّن فيه أن يهوه الذي يُشار إليه في هذا المصدر ليس له أدنى علاقة بإله العهد القديم ككل، وأن مؤلف هذا النص ليس رجلاً بل امرأة وأنها امرأة متقدمة في السن تنظر إلى يهوه باعتبارها أماً تنظر إلى ابنها الذي بدأ يشب عن الطوق ويزداد قوة ولكنه ابن سريع الغضب بشكل شاذ. ومن الواضح أن بلوم هنا يغازل حركة التمركز حول الأنثى التي تحاول أن ترد كل شيء إلى الأنثى وتبين أن أصول الإنسان ليست إلهية وإنما أنثوية، فهو حلول أنثوي.

ولا يركز نقد بلوم الأدبي على النص وإنما يركز على أهم قارئ للنص وهو قارئ يتسم بالقوة: أي الناقد، فكأن النص يموت وكاتب النص يموت وينتصر الناقد الذي يفرض إرادته النيتشوية على الكلمات التي أمامه، ومن ثم يذوب النص المكتوب في صوت الناقد (الذي يصبح اللوجوس في العملية الأدبية). ولذا، يصبح النقد الأدبي مناسبة أو تكأة للناقد لأن يطلق صوته وكأنه كاهن حلولي يتصور أن الإله قد تلبَّسه وأن اللوجوس حل فيه فأصبح هو نفسه اللوجوس. ويُلاحَظ أن السيولة الحلولية هنا تؤدي إلى انثيال المصطلحات وتَغيُّرها من عمل إلى عمل، فالمصطلحات البوبرية التي استُخدمت في المرحلة الأولى أُسقطَت في المرحلة الثانية حيث حلت محلها مصطلحات من القبَّالاه اللوريانية ثم من الفكر الغنوصي وأخيراً من فكر التمركز حول الأنثى، ولكن الثابت في كل هذا هو الصيرورة. وعلى كلٍّ، فإن هذه صفة أساسية في النقد الأدبي الحديث لعصر ما بعد الحداثة في الغرب حيث يتسم كل شيء بالسيولة بعد غياب اليقين المعرفي والأخلاقي. ومن ثم، فلا يمكن الحديث عن بلوم باعتباره ناقداً يهودياً، فهو ناقد علماني غربي من نقاد عصر ما بعد الحداثة وقد أصبحت القبَّالاه نفسها جزءاً من التراث الفكري الغربي بحيث لا يوجـد فـارق كبير بين القبَّالاه المســيحية والقبَّالاه اليهودية.

وقد صَدَر لبلوم مؤخراً كتاب العقيدة الأمريكية: ظهور الأمة ما بعد المسيحية (1992) يذهب فيه إلى أن الأمريكيين يؤمنون بعقيدة واحدة ذات بنية غنوصية تؤله الذات الأمريكية وترى أنها قديمة وليست مخلوقة. والحرية في هذا الإطار هي الخلاص الغنوصي، أي الاتصال الأبدي بالخالق والعودة إلى حالة الامتلاء الأولى (بليروما). ويرى بلوم أن المسيحية الأمريكية لم تَعُد مسيحية رغم استخدامها المصطلحات المسيحية. وأهم تجليات هذه العقيدة شبه المسيحية هي المورمونية وشهود يهوه. ويرى بلوم أن الطوائف المسيحية كلها وجميع الطوائف الدينية الأخرى تتبع هذا الإطار الغنوصي الأمريكي.

  • الاربعاء AM 06:14
    2021-04-28
  • 1148
Powered by: GateGold