المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415170
يتصفح الموقع حاليا : 196

البحث

البحث

عرض المادة

إيمـــانويل لفــيناس (1905-1996) - شـمويل تريجانـــو (1948 - )

إيمـــانويل لفــيناس (1905-1996 (
Emanuelle Levinas
فيلسوف فرنسي يهودي. وُلد في ليتوانيا ودرس الروسية والعبرية في ليتوانيا ثم درس في جامعة ستراسبورج التي كان يُعلِّم فيها كلٌّ من هوسرل ومارتن هايدجر. درَّس في دار المعلمين اليهودية الشرقية في باريس ثم في جامعات فرنسية أخرى. ومصادر فكر لفيناس عديدة، فقد تأثر بأعمال أفلاطون وكانط وبرجسون.


وقد ترك الأدباء الروس مثل بوشكين وجوجول أثراً عميقاً فيه. ولكنه كان يرى أن أعمقهم أثراً فيه دوستويفسكي، وخصوصاً رؤيته للمسئولية نحو الآخر. ولكن المصدر الأساسي لفكره أعمال هوسرل الفلسفية، وقد كتب رسالته للدكتوراه عن نظريته في الحدس (صدرت في كتاب عام 1930)، وكان من أوائل المفكرين الذين عرَّفوا القُراء الفرنسيين بهايدجر. ولا شك في أن دراسته للتلمود ولأعمال بوبر وروزنزفايج ساهمت في صياغة وجدانه.

ينتمي لفيناس إلى هذا الجيل من الفلاسفة الذين يمكن أن يُطلَق عليهم اسم «الفلاسفة غير الفلسفيين». وهم مجموعة من الفلاسفة الذين يرفضون الميتافيزيقا بمعناها التقليدي ويثيرون الأسئلة التي يتصورون أن الفلسفة الغربية التقليدية استبعدتها. ويقف هؤلاء الفلاسفة ضد المشروع الفلسفي الغربي برمته «من طاليس لهيجل»، وهو مشروع يهدف (حسب تصورهم) إلى معرفة كل شيء وإدخال كل الظواهر في حلقة المعرفة والسببية. وهذا المشروع يودي بالذات الإنسانية الفردية من خلال هيمنة الموضوع المادي المجرد (الأشياء والحقائق المادية والموضوعية) أو هيمنة الموضوع الروحي المجرد (حتمية التاريخ وعالم الماهيات والجواهر والروح المطلقة). ويصل هذا المشروع إلى ذروته في المنظومة الهيجلية بشموليتها الصارمة، حيث يترادف الفكر مع الطبيعة مع التاريخ، وحيث لا يفلت شيء من نطاقها. كما ترجم هذا المشروع نفسه إلى مدارس فلسفية مختلفة، مثل الوضعية والبنيوية، تبدو كما لو كانت متناقضة ولكنها في واقع الأمر تتسم جميعاً بالنزوع نحو الكلية والشمول والرغبة في إدخال كل الظواهر داخل نطاق السببية. وقد هاجم لفيناس هذه الهيجلية في سياق هجومه على البنيوية التي وصفها بأنها «انتصار العقل النظري»، ولذا فهي تتسم بعدم الاكتراث والحياد والهجوم على الذات الإنسانية.

ويمكن القول بأن هذا هو الموضوع الأساسي في فلسفة لفيناس: كيف يمكن أن ندرك الجزء المتعيِّن (الموجـود) وندرك الكل المجرد (الوجود) دون أن يُستوعَب الجزء في الكل ودون أن تذوب الموجودات المختلفة في الوجود. ويرى لفيناس أن هذه هي المشكلة الأساسية عند هايدجر، فقد أعطى أولوية للوجود على الموجودات، وهو ما يعني أن الوجود أكثر جوهرية من الموجودات، بل يعني أيضاً أن الموجود لا تتحدد علاقته بالآخر إلا من خلال فكرة الوجود المجردة اللاشخصية. ونَقْد لفيناس لهايدجر لا يختلف كثيراً عن قول الوجوديين بأن الوجود يسبق الماهية، فالوجود في الخطاب الوجودي هو الموجود المتعيِّن، والماهية هي الوجود المجرد.

وحتى نفهم فلسفة لفيناس، قد يكون من المفيد أن نعرض لتعريفه لمصطلحي «أنطولوجيا» و«ميتافيزيقا». فالأنطولوجيا في تصوُّره هيجلية بطبيعتها، تَردُ الإنسان والموجودات المتعـيِّنة والمتنوعة إلى الوجـود المجرد أو إلى الكليات المتجاوزة للموجودات. ويضع لفيناس، مقابل هذا، الميتافيزيقا (حسب تعريفه) وهي ما لا يمكن التفكير فيه من خلال الأنطولوجيا. وهو تعريف سلبي غامض، ولكن لفيناس يوضحه حين يقول إن الميتافيزيقا هي التطلع نحو اللانهائي الذي لا يمكن أن يُرد إلى ما هو غيره والذي لا يذوب في أية كلية تاريخية كانت أم إلهية. والرغبة الميتافيزيقية الحقة والأصيلة هي رغبة في هذا الذي يفيض ولا يمكن أن يحيط به العقل، والذي يفلت من نطاق المنطق لأنه خارج نطاق الفكر. والفكر هنا يعني ما يلي: التوازن والتوازي بين الفكرة والشيء، وبين العقل والوجود ـ ما يمكن تمثيله وإلقاء الضوء عليه ـ ما يمكن معرفته.

إن الميتافيزيقا في داخل هذا الإطار هي تَطلُّع نحو المطلق الحق، «ما ليس بوجود» (يسميه لفيناس «أذر ذان بيينج other than being» أو «أذروايز ذان بيينج otherwise than being»). وهو لهذا السبب لا يمكن استيعابه فيما هو غيره، أي أنه وحدة نهائية لا يمكن أن تُردُّ إلى وحدة أخرى سواء أكانت أعلى أم أدنى مرتبة منها. ويبيِّن لفيناس أن الميتافيزيقا (بالمعنى التقليدي) قد تقيم تمييزاً واضحاً بين الإنسان الفرد المتعيِّن (الموجود) والآخر (الفريد ـ المتعيِّن ـ الموجود أيضاً)، ولكن التمييز مرحلي ومؤقت لأن الأنا والآخر في الإطار التقليدي ينحلان في نهاية الأمر في كيان واحد، ومن ثم فإن التحدد أو التعين الخارجي (بالإنجليزية: إكستيريوريتي exteriority) الذي يسم الآخرية الحقيقية يضيع ويختفي ويتم اسـتيعاب الآخر في الكل المجرد. ولذا نجد، في الإطار التقليدي، أن الأنطولوجيا تسبق الميتافيزيقا، تماماً كما يسبق الكل المجرد الجزء المتعيِّن، وكما يسبق الوجود الموجودات.

إن الميتافيزيقي الحقيقي (اللانهائي ـ ما ليس بوجود) يتحقق لا في الذات ولا في الموضوع. وهنا نود أن نشير إلى أن كثيراً من الفلسفات الغربية بعد نيتشه (الذي نسف تماماً ثنائية الذات والموضوع وتأكيد الذات على حساب الموضوع) تحاول أن تجد الحل لا في الذاتي ولا في الموضوعي، وإنما في نقطة تقع بينهما. هذه النقطة يمكن تسميتها بفلسفات «تيار الحياة» وهو مصطلح مشتق من ديموقريطوس («إرادة القوة» عند نيتشه ـ «وثبة الحياة» عند برجسون ـ «عالم الحياة» [ليبنزفلت] عند هوسرل وهابرماس). والعبارات كلها تعني العالم المعاش والواقع الموضوعي كما تجربه الذات. وهو عادةً يشير إلى تلك النقطة التي تلتقي فيها الذات بالموضوع أو تذوب فيها الذات في الموضوع، ومن ثم فلا يوجد فيها لا ذات ولا موضوع، فهي نقطة صيرورة كمونية كاملـة تفلت من قبضة الكل الشـامل.

تنتمي محاولة لفيناس لهذا التيار، وإن كان يحاول قدر استطاعته ألا يسقط في لحظة الذوبان هذه ويحتفظ بقدر معقول من التماسك والصـلابة. ويتصور لفيناس أنه وجد ضالته في مفهوم الآخر والعلاقة معه. فالإنسان كموجود متعين يمكنه أن يتجاوز الوجود الكلي المجرد من خلال علاقة فريدة تجعله يخرج من ذاتيته الضيقة دون أن يفقدها ويدرك ذاتية الآخر باعتبارها ذاتية وموجوداً متعيِّناً لا يمكن أن يُرد إلى الوجود المجرد، فهي ذاتية موجودة فيما وراء الكل، ولذا ليس بإمكان الفكر (بالمعنى الذي حددناه من قبل) الإحاطة بها.

وآخرية الآخر تتبدَّى بشكل خاص في وجهه، فالوجه هو التعبير عن التفرد وعن جوهر الآخر الإنساني الفردي، الكامن المتبدي. ومن ثم يضع لفيناس الوجه [الأصيل] ضد الواجهة [الزائفة]، كما يضع الوجه الخاص مقابل نور الاستنارة العام. إن الإنسان حينما يدخل في علاقة ميتافيزيقية حقيقية مع الآخر فإنه سيكتشف أن هذا الوجه هو اللامتناهي وأنه سر، بل تجلٍّ إلهي، لا يستطيع الكل ابتلاعه. والآخر بهذا المعنى، يشبه الإله في كثير من صفاته. ويمكن القول بأن لفيناس، بمعنى من المعاني، ينتمي إلى ما يُسمَّى «لاهوت موت الإله» الذي يتلخص في البحث عن منظومات معرفية وأخلاقية في عالم لا إله فيه، وإن كان لفيناس يؤكد أن غياب الإله لا يعني بالضرورة أنه غير موجود.

ولأن الآخر هو اللامتناهي وهو الزمان اللامتعاقب الذي يقع خارج نطاق الوجود، فإن العلاقة مع الآخر تصبح هي الإسكاتولوجي (آخر الأيام) الذي يشكل انقطاعاً كاملاً وتحطيماً لأية كليات مجردة متجاوزة. ولكنه إسكاتولوجي لا علاقة له بالأديان السماوية، فلاهوت هذه الديانات خاضع للأنطولوجيا، وهو إن لم يؤد إلى الشمولية الكلية التاريخية (على الطريقة الهيجلية) فإنه يؤدي إلى الكلية الإلهية.

والعلاقة مع الآخر، والوصول إلى آخريته الحقة، ليست التحاماً عاطفياً وإنما علاقة عادلة تؤدي إلى الإحساس بالالتزام والمسئولية، أي أن لفيناس قد ولَّد من مفهوم الآخر باعتباره اللامتناهي منظومة أخلاقية كاملة. والرغبة الميتافيزيقيـة الحقة نحو الآخر هي رغبة لا تتشـوق للعودة، هذا يعني من منظور لفيناس أن هذه الرغبة الحقة تفترض أن على الإنسان أن يستبعد أن يكون معاصراً لإنجازاته، فعليه أن يعمل دون أن يدخل بالضرورة «أرض الميعاد»، أي أن لفيناس، بضربة واحدة، يحل مشكلة الأخلاقيات في مجتمع علماني، فبدلاً من الأنانية والدفاع عن المصلحة الشخصية والرؤية الهوبزية الداروينية حيث يصبح الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان، يطرح لفيناس المواجهة مع الآخر وإدراكه بشكل ميتافيزيقي (غير أنطولوجي) باعتباره الحل الحقيقي للمشكلة الأخلاقية. فمن خلال مثل هذه المواجهة يمارس الإنسان إحساساً عميقاً بالمسئولية تجاه الآخر، أي من خلال إدراكه له ككيان متعيِّن متفرد له وجه فريد (ولا ندري كيف يمكن القفز بهذه البساطة من المنظومة المعرفية إلى المنظومة الأخلاقية ومن الإدراك إلى القيم). ولتوضيح وجهة نظره، يقارن لفيناس بين إبراهيم ويوليسيس، فإبراهيم يغادر وطنه ويتجه نحو أرض مجهولة ولا ينوي العودة، أما يوليسيس فهو يتحرك دائماً نحو نقطة محددة. فإبراهيم مسافر دائم لا يهمه إن كان معاصراً لإنجازاته أم لا، أما يوليسيس فهو عائد دائم يصر على إنجاز السعادة في حياته! (ولكن هل يمكن تَصوُّر إبراهيم ـ المسافر الدائم هذا ــ بدون إله؟ إن لم يكن هناك إله وأمر إلهي فالسفر الدائم حماقة دائمة وحركة بلا معنى في المكان). ويبدو أن الميتافيزيقا الحقة (حسب تعريف لفيناس) لا تولِّد أخلاقاً وحسب، وإنما هي نفسها الأخلاق. فلفيناس يُعرِّف الأخلاق بأنها سابقة على الأنطولوجيا (شأنها في هذا شأن الميتافيزيقا) وبأنها ليست مجرد قواعد وإنما هي العلاقة مع الأصل، بل هي نفسها الأصل الذي يسبق كل الأصول وهي القَبَلى والأولي a priori، هي «الميتا» في الميتافيزيقا، فهي الماوراء الحقيقي.

وتُصنِّف الموسوعة اليهودية (الجودايكا) لفيناس باعتباره يهودياً بالمعنى الديني، بل تذهب إلى أنه يهودي أرثوذكسي. وهو أمر يصعب تفسيره إلا داخل إطار حلولي كموني، فالميتافيزيقا عند لفيناس تنبع من تأمل وجه الآخر اللانهائي الذي يتحدى الكل، أي أن البشري يقوم مقام الإلهي في هذه المنظومة. وكما هو الحال دائماً مع المنظومات الحلولية، تتساقط كل التمييزات وتضيق البانوراما لتتحول إلى وثنية شوفينية، الأمر الذي يتضح في خطاب لفيناس اليهودي، وهو خطاب يعطي لكل المصطلحات بُعداً يهودياً تماماً (شأنه في هذا شأن بوبر الذي يتكلم عن الأنا والأنت في الفلسفة الحوارية، ثم نكتشف أن اليهودي والشعب اليهودي [الأنا الأزلية!] يوجد في المركز ويدخل الإله في علاقة خاصة مع اليهود الذين يتحول تاريخهم إلى وحي، ويصبح الوحي بالنسبة لهم عقيدة9.

يحاول لفيناس في فلسفته الدينية أن يميِّز بين العنصر الهيليني (يوليسيس) والعنصر اليهودي (العبري) (إبراهيم). وهو يرى أن الخطاب الهيليني يميل دائماً نحو التجسد، والإيمان داخل الإطار الهيليني يأخذ شكل محاولة التواصل مع المتجسد (وهي محاولة جنونية في تَصوُّره). أما الخطاب اليهودي (العبري)، فهو شكل من أشكال الإيمان الناضج الذي يأخذ شكل علاقة بين أرواح من خلال وساطة الكتاب المقدَّس الذي يؤكد لنا وجود الإله بيننا دون تجسُّد. فالروحي الحقيقي نشعر به لا من خلال تجسده وإنما من خلال غيابه. ويقتبس لفيناس عبارة وردت في التلمود وهي «أن يحب اليهودي التوراة (الشريعة ـ القانون) أكثر من الإله»، وهي عبارة تصدم الآذان التي تدور في إطار توحيدي ولكنها مفهومة تماماً داخل إطار حلولي. ورغم رفض لفيناس للتجسد، إلا أن الكتاب نفسه يكتسب أبعاداً تجسدية (تماماً كما أن العلاقة مع الآخر تكتسب كل أبعاد الإله). وكما أن الآخر يحل محل الإله، في سياق فلسفة لفيناس العامة، فإن التوراة تحل محله في سياق فلسفته الدينية اليهودية.

ويذهب لفيناس إلى أن الكتاب المقدَّس هدية وليس رسالة؛ هو دعوة للحوار وليس مجرد أطروحات. والهدية تتطلب من الآخر استجابة، أما الرسالة فهي غير شخصية (تشبه فكرة الكل المجرد). والتوراة ليست هدية وحسب وإنما نص مفتوح يمكن تفسيره. وكما هو الحال في المنظومات الحلولية، يتراجع النص ليظهر المفسر الذي يفرض المعنى عليه. ولفيناس، بهذا، متسق تماماً مع تقاليد الشريعة الشفوية، أي التفسير الذي يُفترض أنه أُعطي لموسى عند سيناء مع الشريعة المكتوبة (التوراة) والذي توارثه الحاخامات المفسرون عبر التاريخ حتى أصبح تفسيرهم (التلمود) أكثر أهمية من التوراة وأكثر أهمية من الإله. وهكذا ترجح كفة الحاخامات على كفة الإله من خلال فكرة النص المفتوح.

وماذا عن الشعب اليهودي؟ يشير لفيناس إلى قصة وردت في التلمود عن شخص طلب المغفرة من آخر ولكن هذا الأخير رفض طلبه لمدة ثلاثة عشر عاماً. يقول لفيناس في مجال شرح هذه الأمثولة: بإمكان اليهود أن يعفوا عن بعض الألمان ولكن هناك ألماناً من الصعب العفو عنهم (أي أن خطيئتهم مطلقة). فمثلاً يصعب العفو عن هايدجر لأنه قَبل أن يعمل في وظيفة في الجامعات الألمانية أثناء حكم النازي ولم يُقر بذنبه، أي أن هناك آخرين: آخر يُقبَل وآخر يُرفَض. وقد بيَّن لفيناس أن الإحساس بالآخر لابد أن يترجم نفسه إلى إحساس عميق بالمسئولية تجاهه. ولكنه، مع هذا، يتحفظ على هذا بقوله إن الإنسان لابد أن يفضل الآخر القريب (الزوجة والابن) على الآخر الغريب، أي أن يفضل الآخر اليهودي على الآخر غير اليهودي (يتلاعب لفيناس بالكلمات العبرية: «أح» أي «أخ» و«آحر» أي «آخر» و«أحريوت» أي «المسئولية» - فكأن الآخر هو الأخ الذي يشعر الإنسان نحوه بالآخرية أي بالمسئولية). وهذه طريقة مصقولة للغاية وحداثية (حيث إنها تتضمن لعباً بالألفاظ وبعلاقة الدال بالمدلول) للتعبير عن ثنائية اليهود أو الشعب المختار مقابل الآخر الآخر، أي الأغيار. وبالفعل، نجد أن الشعب اليهودي له مكانة خاصة في الكون، فهو شعب مختار. واختياره قد يعني مزيداً من المسئولية، ولكنه يحمل أيضاً معنى الانفصال والتميز (وهذا لا يختلف كثيراً عن الرؤية اليهودية الحلولية القديمة). والواقع أن رؤية لفيناس حلولية، رغم كل حديثه عن الآخر. فالمواجهة بين الإله والإنسان (حسب قوله) مسألة مسيحية، أما بالنسبة لليهود فالمسألة لعب بين ثلاثة: أنا وأنت وطرف ثالث، هذا الطرف الثالث هو الإله المساوي للإنسان (اليهودي!).

داخل هذا الإطار، يبدأ لفيناس في اكتشاف خصوصية اليهودية وتميُّزها، فالإنسان الغربي يبحث عن الحرية حتى أصبح العصر الحديث عالماً لا قانون له، معـادياً للإنسـان، خالياً تماماً من المسـئولية (أحريوت). أما اليهودية، فهي على النقيض من ذلك، فالحرية فيها هي حرية صعبة المنال، فاليهودي يكتسب حريته بأن يعيش تحت نير الشـريعة الذي يتطلب منه الإحسـاس بالمسـئولية الأخلاقية والاجتماعية. واليهودية ـ حسب تصوُّره ـ تستند إلى استحالة رد الإنسان إلى ما هو دونه وتصر على تَفوُّق الإنسان على الكون (فاليهودية بهذا المعنى ديانة لا أنطولوجية، ديانة ميتافيزيقية أخلاقية حسب معجم لفيناس). والإنسان اليهودي يكتشف الإنسان قبل الطبيعة، ويصل إلى فكرة الوجود حينما يرى وجه الإنسان العاري. ومن ثم، فإن اليهودية هي الإنسانية، والحرية التي تنادي بها هي حرية تستند إلى الإحساس بالمسئولية.

ومرة أخرى، قد نتصور لوهلة أن الحديث هنا عن إنسانية رحبة، ولكن لفيناس يقول: إن اليهودية، هذه الأيديولوجيا المترادفة مع الإنسانية، لا تعني إنسانية روحية عامة وإنما هي إنسانية محددة تأخذ شكل أمة، واليهودية ليست أيديولوجيا مثالية تعيش بدون خطر وإنما هي مثالية تأخذ شكل دولة تجسِّد القيم الأخلاقية للأنبياء، فهي قدر ومسئولية الشعب اليهودي المختار، الذي يتبدَّى في الدولة الصهيونية التي تستند إلى الرغبة العارمة في البقاء وفي البدء من جديد بعد أن يسقط كل شيء. هذه الدولة تقف شاهداً على إرادة اليهود وعلى رغبتهم في أن يُعرِّضوا أنفسهم للخطر وأن يضحوا بأنفسهم ليضطلعوا بمسئوليتهم، أي أن الدولة الصهيونية تجسيد للحرية التي تستند إلى المسئولية. والحلم الصهيوني يَصدُر عن تَطلُّع مؤمن متجذر ثابت غير مُحتمَل يعود إلى مصادر الوحي نفسها، وهو صدى لأعلى التوقعات. وهكذا نعود للوثنية الحلولية القديمة، حيث تصبح الدولة (التي تقتل الأطفال ولا تكترث بالآخر الآخـر) موضع الحـلول الإلهي، بل تعـود جذورها إلى الوحي الإلهي!

وقد عرَّف لفيناس مهمته الفلسفية بأنها تعريف العصر الحديث بالتلمود، وأن هذا أيضاً هو جوهر الصهيونية، فهي الدولة التي تضطلع بهذه المهمة بشكل متعيِّن.

ومن أهم مؤلفات لفيناس من الوجود إلى الموجود (1947)، والزمان والآخر (1948)، و في اكتشاف الوجود مع هوسرل وهايدجر (1949)، و الكلي واللامتناهي (1961)، و حرية صعبة (1963)، و أربع محاضرات تلمودية (1968)، و الإنسانية والإنسان الآخر (1972)، و ما وراء الآية (1982).

شـمويل تريجانـــو (1948  ( –
Shmouel Trigano
عالم اجتماع ومفكر فرنسي يهودي، وُلد في الجزائر. وهو يحاضر في علم الاجتماع في جامعة مونبييه ورئيس مركز الدراسات اليهودية التابعة للأليانس، ويقوم بتحرير مجلة بارديس . ويُعَدُّ من أهم المفكـرين الدينيـين اليهـود الجـدد في فرنسـا، وهو يـرى أن ثـمة إمكانية للعثور على حلول لمشاكل الصهيونية والجماعات اليهودية بالعودة لروح اليهودية السفاردية، وله دراسات عديدة من أهمها المسألة اليهودية الجديدة (1979) و الجمهورية واليهود (1982(.

  • الاربعاء AM 06:04
    2021-04-28
  • 1004
Powered by: GateGold