المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415309
يتصفح الموقع حاليا : 228

البحث

البحث

عرض المادة

الطرق التي يعلم بها كذب المنقول

الطرق  التي يعلم بها كذب المنقول

 في مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية للرافضى ابن المطهر الحلى بين بيانا شافيا الطرق  التي يعلم بها كذب المنقول ، وذلك في الجزء السابع من كتابه (ص437 : 479 ) وما ذكره شيخ الإسلام في غاية الأهمية ، وعلى الأخص بالنسبة لغير علماء الحديث والمتخصصين ، ولهذا رأيت أن أجعل كلامه القيم ختاما لهذا الفصل . قال رحمه الله تعالى وأنزله الفردوس الأعلى :

 

فصل

      في الطرق  التي يعلم بها كذب المنقول .

      منها : أن يروى خلاف ما علم بالتواتر والاستفاضة ، مثل أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة ، واتبعه طوائف كثيرة من بنى حنيفة ، فكانوا مرتدين لإيمانهم بهذا المتنبئ الكذاب ، وأن أبا لؤلؤة قاتل عمر كان مجوسيا كافرا ، وأن الهرمزان كان مجوسيا أسلم ، وأن أبا بكر كان يصلى بالناس مدة مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويخلفه في الإمامة بالناس لمرضه ، وأن أبا بكر وعمر دفنا في حجرة عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم  ، ومثل ما يعلم من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم   التي كان فيها القتال كبدر ثم أحد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف ، والتى لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها ، وما نزل من القرآن في الغزوات ، كنزول الأنفال بسبب بدر ، ونزول آخر آل عمران بسبب أحد ، ونزول أولها بسبب نصارى نجران ، ونزول سورة الحشر بسبب بنى النضير ، ونزول الأحزاب بسبب الخندق ، ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية ، ونزول براءة بسبب غزوة تبوك ، وغيرها وأمثال ذلك .

      فإذا روى في الغزوات ـ وما يتعلق بها ما يعلم أنه خلاف الواقع ، علم أنه كذب ، مثل ما يروى هذا الرافضي ، وأمثاله من الرافضة وغيرهم ، من الأكاذيب الباطلة الظاهرة في الغزوات ، كما تقّدم التنبيه عليه ، ومثل أن يُعلم نزول القرآن في أي وقت كان ، كما يعلم أن سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة ، وأن الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف و الكهف وطه ومريم واقتربت الساعة وهل أتى على الإنسان وغير ذلك نزلت قبل الهجرة بمكة ، وأن المعراج كان بمكة ، وأن الصفٌةَّ كانت بالمدينة ، وأن أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم  ولم يكونوا ناساً معينين ، بل كانت الصفة منزلا ينزل بها من لا أهل له من الغرباء القادمين ، وممن دخل فيهم سعد بن أبى وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحى المؤمنين ، وكالعريين الذين ارتدوا عن الإسلام ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم  في آثارهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وألقاهم في الحرة يستسقون ، فلا يسقون وأمثال ذلك من الأمور المعلومة .

       فإذا روى الجاهل نقيض ذلك علم أنه كذب .

     ومن الطرق  التي يُعلم بها الكذب أن ينفرد الواحد والاثنان بما يعلم أنه لو كان واقعا لتوفرت الهمم والدواعى على نقله ؛ فإنه من المعلوم أنه لو أخبر الواحد لبلد عظيم بقدر بغداد والشام والعراق لعلمنا كذبه في ذلك ، لأنه لو كان موجودا لأخبر به الناس .

      وكذلك لو أخبرنا بأنه تولى رجل بين عمر وعثمان ، أو تولّى بين عثمان وعلى ، أو أخبرنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم  كان يؤذن له في العيد ، أو في صلاة الكسوف أو الاستسقاء ، أو أنه كان يقام بمدينته يوم الجمعة أكثر من جمعة واحدة ، أو يصلى يوم العيد أكثر من عيد واحد ، أو أنه كان يصلى العيد بمنى يوم العيد ، أو أن أهل مكة كانوا يتمون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى خلفه ، أو أنه كان يجمع بين الصلاتين بمنى كما كان يقصر ، أو أنه فرض صوم شهر آخر غير رمضان ، أو أنه فرض صلاة سادسة وقت الضحى أو نصف الليل ، أو أنه فرض حج بيت آخر غير الكعبة ، أو أن القرآن عارضه طائفة من العرب أو غيرهم بكلام يشابهه ، ونحو هذه الأمور ـ لكنا نعلم كذب هذا الكاذب ، فإنا نعلم انتفاء هذه الأمور بانتفاء لازمها ، فإن هذه لو كانت مما يتوفر الهمم والدواعى على نقلها عامة لبنى آدم ، وخاصة لأمتنا شرعا ، فإذا لم ينقلها أحد من أهل العلم ، فضلا عن أن تتواتر ، علم أنها كذب .

 

       ومن هذا الباب نقل النص على خلافة علىّ ، فإنّا نعلم أنه كذب من طرق كثيرة ؛ فإن هذا النص لم ينقله أحد ( من أهل العلم ) بإسناد صحيح ، فضلا عن أن يكون متواترا ، ولا نقل أن أحدا ذكره على عهد الخلفاء ، مع تنازع الناس في الخلافة وتشاورهم فيها يوم السقيفة ، وحين موت عمر ، وحين جعل الأمر شورى بينهم في ستة ، ثم لما قتل عثمان واختلف الناس على على  فمن المعلوم أن مثل هذا النص لو كان كما تقوله الرافضة من أنه نص على على نصا جليا قاطعا للعذر علمه المسلمون ، لكان من المعلوم بالضرورة أنه لابد أن ينقله الناس نقل مثله ، وأنه لابد أن يذكره لكثير من الناس ، بل أكثرهم في مثل هذه المواطن  التي تتوفر الهمم على ذكره فيها غاية التوفر ، فانتفاء ما يعلم أنه لازم يقتضى انتفاء ما يعلم أنه ملزوم ، ونظائر ذلك كثيرة . 

     ففي الجملة الكذب هو نقيض الصدق ، وأحد النقيضين يعلم انتفاؤه تارة بثبوت نقيضه ، وتارة بما يدل على انتفائه بخصوصه .

      والكلام مع الشيعة أكثره مبنى على النقل ، فمن كان خبيرا بما وقع وبالأخبار الصادقة  التي توجب العلم اليقينى علم انتفاء ما يناقض ذلك يقينا ، ولهذا ليس في أهل العلم بالأحاديث النبوية إلا ما يوجب العلم بفضل الشيخين وصحة إماماتهما ، وكذب ما تدعيه الرافضة .

       ثم كل من كان أعلم بالرسول وأحواله ، كان أعلم ببطلان مذهب الزيدية وغيرهم ، ممن يدّعى نصاً خفياً ، وأن عليا كان أفضل من الثلاثة ، أو يتوقف في التفضيل ؛ فإن هؤلاء إنما وقعوا في الجهل المركّب أو البسيط لضعف علمهم بما علمه أهل العلم بالأحاديث والآثار .

فصل

        واعلم أنه ثم أحاديث أُخر لم يذكرها هذا الرافضي ، لو كانت صحيحة لدلت على مقصوده ، وفيها ما هو أدل من بعض ما ذكره ، لكنها كلها كذب .

والناس قد رووا أحاديث مكذوبة في فضل أبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ ومعاوية رضي الله عنهم وغيرهم ، لكن المكذوب في فضل على أكثر ، لأن الشيعة أجرأ على الكذب من النواصب .

      قال أبو الفرج ابن الجوزي : " فضائل علىّ الصحيحة كثيرة ، غير أن الرافضة لم تقتنع فوضعت له ما يضع لا ما يرفع ، وحوشيت حاشيته من الاحتياج إلى الباطل " .

      قال : " فاعلم أن الرافضة ثلاثة أصناف : صنف منهم سمعوا أشياء من الحديث فوضعوا أحاديث وزادوا ونقصوا . وصنف لم يسمعوا فتراهم يكذبون على جعفر الصادق ، ويقولون : قال جعفر ، وقال فلان . وصنف ثالث عوام جهله يقولون ما يريدون مما يسوغ في العقل ومما لا يسوغ " .

      فمن أماثل الموضوعات ما رواه ابن الجوزي من طريق النسائي في كتابه الذي وضعه في خصائص على من حديث عبيد الله بن موسى ، حدثنا العلاء ابن صالح ، عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي قال : قال علىّ رضي الله عنه : أنا عبد الله ، وأخو رسول الله ، وأنا الصديقِّ الأكبر ، لا يقولها بعدى إلا كاذب ، صليت قبل الناس سبع سنين " ورواه أحمد في " الفضائل " وفى رواية له : " ولقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين " .

      ورواه من حديث العلاء بن صالح أيضا عن المنهال عن عباد .

      قال أبو الفرج : " هذا حديث موضوع والمتهم به عباد بن عبد الله . قال على بن المديني : كان ضعيف الحديث " . وقال أبو الفرج : " حماد الأزدى : روى أحاديث لا يتابع عليها . وأما المنهال فتركه شعبه . قال أبو بكر الأثرم : سألت أبا عبد الله عن حديث علىّ : " أنا عبد الله وأخو رسول الله " فقال : اضرب عليه فإنه حديث منكر " .

      قلت : وعباد يروىُ من طريقه عن علىّ ما يُعلم أنه كذب عليه قطعا ، مثل هذا الحديث ؛ فإنّا نعلم أن عليا كان أبرَّ وأصدق وأتقى لله من أن يكذب ويقول مثل هذا الكلام ، الذي هو كذب ظاهر معلوم بالضروره أنه كذب . وما علمنا أنه كذب ظاهر لا يشتبه ، فقد علمنا أن علياً لم يقله ، لعلمنا بأنه أتقى لله من أن يتعمد هذا الكذب القبيح ، وأنه ليس مما يشتبه حتى يخطئ فيه ، فالناقل عنه إما متعمد الكذب وإما مخطئ غالط ، وليس قدح المبغض لعلى من الخوارج والمتعصبين لبنى مروان وغيرهم مما يشككنا في صدقه وبره وتقواه ، كما أنه ليس قدح الرافضة في أبى بكر وعمر ، بل وقدح الشيعة في عثمان ، لا يشككنا في العلم بصدقهم وبرهم وتقواهم ، بل نحن نجزم بأن واحدا منهم لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، ولا هو فيما دون ذلك .

      فإذا كان المنقول عنه مما لا يغلط في مثله ، وقد علمنا أنه كذب ، جزمنا بكذب الناقل متعمدا أو مخطئا .

      مثل ما رواه عبد الله في " المناقب " : حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله ، عن على . وحدثنا أبو خثيمة ، حدثنا الأسود بن عامر ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله الأسدي عن على قال : لما نزلت :     "  وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ "  ( سورة الشعراء : 214 ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم  رجالا من أهل بيته : إن كان الرجل منهم لآكلا جذعة ، وإن كان شاربا فرقا ... إلى آخر الحديث .

      وهذا كذب علَى علىّ رضي الله عنه لم يروه قط ، وكذبه ظاهر من وجـوه .

      وهذا حديث رواه أحمد في " الفضائل " : حدثنا عثمان ، حدثنا أبو عوانة ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبى صادق ، عن ربيعة بن ناجز ، عن على ، وهؤلاء يعلم أنهم يروون الباطل .

      وروى أبو الفرج من طريق أجلح عن سلمة بن كهيل ، عن حبة بن جوين ، قال : سمعت عليا يقول : أنا عبدت الله عز وجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  قبل أن يعبده رجل من هذه الأمة خمس سنين أو سبع سنين " قال أبو الفرج : " حبة لا يساوى حبة فإنه كذاب . قال يحيى : ليس بشيء قال السعدى : غير ثقة . وقال ابن حبان : كان غاليا في التشيع واهيا في الحديث . وأما الأجلح فقال أحمد : قد روى غير حديث منكر . قال أبو حاتم الرازى : لا يحتج به . وقال ابن حبان : كان لا يدرى ما يقول "

      قال أبو الفرج : " ومما يبطل هذه الأحاديث أنه لا خلاف في تقدم إسلام خديجة وأبى بكر وزيد ، وأن عمر أسلم في سنة ست من النبوة بعد أربعين رجلا ، فكيف يصح هذا ؟ " .

      وذكر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم  : " أنا الصديق الأكبر " " وهو مما عملته يد أحمد ابن نصر الذراع ، فإنه كان كذابا يضع الحديث " .

      وحديثا فيه  : " أنا أولهم إيمانا ، وأوفاهم بعهد الله ، وأقومهم بأمر الله ، وأقسمهم بالسوية ، وأعدلهم في الرعية ، وأبصرهم بالقضية " قال : " وهو موضوع ، والمتهم به بشر بن إبراهيم . قال ابن عدى وابن حبان : كان يضع الحديث على الثقات " . ورواه الأبرازى الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سعيد الجوهرى ، عن مأمون عن الرشيد . قال : وهذا الأبرازى كان كذابا .

      وذكر حديثا : " أنت أول من آمن بى ، وأنت أول من يصافحنى يوم القيامة ، وأنت الصديق الأكبر ، وأنت الفاروق تفرق بين الحق والباطل ، وأنت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكافرين ، أو يعسوب الظلمة " .

      قال : " وهذا حديث موضوع . وفى طريقه الأول : عباد بن يعقوب . قال ابن حبان : يروى المناكير عن المشاهير فاستحق الترك ، وفيه علىّ بن هاشم . قال ابن حبان : كان يروى المناكير عن المشاهير . ، وكان غاليا في التشيع . وفيه محمد بن عبد الله قال يحيى : ليس بشئ . وأما الطريق الثانى ففيه أبو الصلت الهروى كان كذابا رافضيا خبيثا ، فقد اجتمع عباد وأبو الصلت في روايته ، والله أعلم بهما أيهما سرقه من صاحبه " .

      قلت : لعل الآفة فيه من محمد بن عبد الله .

      وروى عن طريق ابن عباس وفيه عبد الله بن زاهر . قال ابن معين : ليس بشئ لا يكتب عنه إنسان فيه خير . قال أبو الفرج بن الجوزي : " كان غاليا في الرفض " .

فصل

       وهنا طرق يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار من الخاصة ؛فإن كثيرا من الخاصة ـ فضلا عن العامة ـ يتعذر عليه معرفة التمييز بين الصدق والكذب من جهة الإسناد في أكثر ما يروى من الأخبار في هذا الباب وغيره . وإنما يعرف ذلك علماء الحديث ، ولهذا عدل كثير من أهل الكلام والنظر عن معرفة الأخبار بالإسناد وأحوال الرجال لعجزهم عنها ، وسلكوا طريقا آخر .

      ولكن تلك الطريق هي طريقة أهل العلم بالحديث ، العالمين بما بعث الله به رسوله . ولكن نحن نذكر طريقاً آخر فنقول : نقدِّر أن الأخبار المتنازع فيها لم توجد ، أو لم يُعلم أيها الصحيح ، ونترك الاستدلال بها في الطرفين ، ونرجع إلى ما هو معلوم بغير ذلك من التواتر ، وما يٌعلم من العقول والعادات ، وما دلت عليه النصوص المتفق عليها .

       فنقول : من المعلوم المتواتر عند الخاصة والعامة ، الذي لم يختلف فيه أهل العلم بالمنقولات والسير : أن أبا بكر رضي الله عنه لم يطلب الخلافة : لا برغبة ولا برهبة ، لا بذل فيها ما يرغّب الناس به ، ولا شهر عليهم سيفاً يرهبهم به ، ولا كانت له قبيلة ولا موالٍ تنصره وتقيمه في ذلك ، كما جرت عادة الملوك أن أقاربهم ومواليهم يعاونونهم ، ولا طلبها أيضا بلسانه ، ولا قال : بايعونى ، بل أمر بمبايعة عمر وأبى عبيدة ، ومن تخلف عن بيعته كسعد بن عبادة لم يؤذه ، ولا أكرهه على المبايعة ، ولا منعه حقا له ، ولا حرك عليهم ساكنا . وهذا غاية في عدم إكراه الناس على المبايعة . .

      ثم إن المسلمين بايعوه ودخلوا في طاعته ، والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وهم السابقون الأّولون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد ، ولم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة .

      وأما علىّ وسائر بنى هاشم فلا خلاف بين الناس أنهم بايعوه ، لكن تخلف من كان يريد الإمرة لنفسه ، رضي الله عنهم أجمعين . ثم إنه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين والمشركين ، لم يقاتل مسلمين، بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة، وأخذ يزيد الإسلام فتوحا ، وشرع في قتال فارس والروم ، ومات والمسلمون محاصرو دمشق ، وخرج منها أزهد مما دخل فيها : لم يستأثر عنهم بشئ ، ولا أمّر له قرابة .

      ثم وَلِىَ عمر بن الخطاب ، ففتح الأمصار ، وقهر الكفّار ، وأعزّ أهل الإيمان، وأذلّ أهل النفاق والعدوان ، ونشر الإسلام والدين ، وبسط العدل في العالمين ، ووضع ديوان الخراج والعطاء لأهل الدين ، ومصَّر الأمصار للمسلمين، وخرج منها أزهد مما دخل فيها : لم يتلوث لهم بمال ، ولا ولَّى أحداً من أقاربه ولاية ، فهذا أمر يعرفه كل أحد .

      وأما عثمان فإنه بنى على أمر قد استقرّ قبله بسكينة وحلٍ ، وهدى ورحمة وكرم ، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته ، ولا فيه كمال عدله وزهده ، فطُمع فيه بعض الطمع ، وتوسّعوا في الدنيا ، وأدخل من أقاربه في الولاية والمال ، ودخلت بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أنكرت عليه ، فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا ، وضعف خوفهم من الله ومنه ، ومن ضعفه هو ، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ـ ما أوجب الفتنة ، حتى قُتل مظلوما شهيداً.

      وتولىّ علىُّ علَىَ إثر ذلك ، والفتنة قائمة ، وهو عند كثير منهم متلطّخ بدم عثمان ، والله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه ، المبغضون له ، كما نعلم براءته مما نسبه إليه الغالون فيه ، المبغضون لغيره من الصحابة ؛ فإن علياّ لم يُعِن على قتل عثمان ولا رضى به ، كما ثبت عنه ـ وهو الصادق ـ أنه قال ذلك ، فلم تصف له قلوب كثير منهم ، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه ، ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يؤول إليه الأمر ، بل اقتضى رأيه القتال ،   وظن أنه به تحصل الطاعة والجماعة ، فما زاد الأمر إلا شدة ، وجانبه إلا ضعفا ، وجانب من حاربه إلا قوة ، والأمة إلا افتراقاً ، حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله ، كما كان في أول الأمر يُطلب منه الكفّ .

      وضعفت خلافة ( النبوة ) ضعفاً أوجب أن تصير ملكا ، فأقامها معاوية ملكا برحمة وحلم ، كما في الحديث المأثور  : " تكون نبوّة ورحمة ، ثم تكون خلافة نبوة ورحمة ، ثم يكون ملك ورحمة ، ثم يكون ملك " ولم يتول أحد من الملوك خيرا من معاوية ، فهو خير ملوك الإسلام ، وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده ، وعلى آخر الخلفاء الراشدين ، الذين هم ولايتهم خلافة نبوة ورحمة ، وكل من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء الله المتقين ، بل هؤلاء الأربعة أفضل خلق الله بعد النبيين ، لكن إذا جاء القادح فقال في أبى بكر وعمر : إنهما كانا ظالمين متعديين طالبين للرئاسة مانعين للحقوق ، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة ، وإنهما ـ ومن أعانهما ـ ظلموا الخليفة المستحق المنصوص عليه من جهة الرسول ، وإنهم منعوا أهل البيت ميراثهم ، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة والولاية الباطلة ، مع ما قد عُرف من سيرتهما ـ كان من المعلوم أن هذا الظن لو كان حقا فهو أولى بمن قاتل عليها حتى غُلب ، وسُفكت الدماء بسبب المنازعة  التي بينه وبين منازعه ، ولم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين ولا مصلحة الدنيا ، ولا قوتل في خلافته كافر ، ولا فرح مسلم ، فإن علياً لا يفرح بالفتنة بين المسلمين ، وشيعته لم تفرح بها ، لأنها لم تغلب ، والذين قاتلوه لم يزالوا أيضا في كرب وشدة .

      وإذا كنا ندفع من يقدح في علىّ من الخوارج ، مع ظهور هذه الشبهة ، فلأن ندفع من يقدح في أبى بكر وعمر بطريق الأولى والأحرى ..

      وإن جاز أن يظن بأبى بكر أنه كان قاصداً للرئاسة بالباطل ، مع أنه لم يُعرف منه إلا ضد ذلك ، فالظن بمن قاتل عَلَى الولاية ـ ولم يحصل له        مقصودة ـ أولى وأحرى .

      فإذا ضرب مثل هذا وهذا بإمامى مسجد ، وشيخى مكان ، أو مدرسى  مدرسة ـ كانت العقول كلها تقول : إن هذا أبعد عن طلب الرئاسة ، وأقرب إلى قصد الدين والخير .

      فإذا كنا نظن بعلىّ أنه كان قاصدا للحق والدين ، وغير مريد علواً في الأرض ولا فسادا ، فظنُّ ذلك بأبى بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ أولى وأحرى.

      وإن ظن ظان بأبى بكر أنه كان يريد العلوّ في الأرض والفساد ، فهذا الظن بعلىّ أجدر وأولى .

      أما أن يقال : إن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد ، وعلىُّ لم يكن يريد علوّا في الأرض ولا فسادا ، مع ظهور السيرتين ـ فهذا مكابرة ، وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك ، بل المتواتر من السيرتين يدل على أن سيرة أبى بكر أفضل .

      ولهذا كان الذين ادّعَوْا هذا لعلىّ أحالوا على ما لم يُعرف ، وقالوا : ثَمَّ نص على خلافته كُتم  ، وثَمَّ عداوة باطنة لم تظهر ، بسببها مُنع حقه .

      ونحن الآن مقصودنا أن نذكر ما عُلم وتيقن وتواتر عن العامة والخاصة ، وأما ما يذكر من منقول يدفعه جمهور الناس ، ومن ظنون سوء لا يقوم عليها دليل بل نعلم فسادها ، فالمحتج بذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس ، وهو من جنس الكفار وأهل الباطل ، وهى مقابلة بالأحاديث من الطرق الأخر .

      ونحن لم نحتج بالأخبار  التي رُويت من الطرفين ، فكيف بالظن الذي لا يُغنى من الحق شيئا ؟ !

      فالمعلوم المتيقَّن المتواتر عند العام والخاص أن أبا بكر كان أبعد عن إرادة العلو والفساد من عمر وعثمان وعلىّ فضلا عن علىّ وحده ، وأنه كان أولى بإرادة وجه الله تعالى وصلاح المسلمين من الثلاثة بعده ، فضلا عن على ، وأنه كان أكمل عقلا ودينا وسياسة من الثلاثة ، وأن ولايته الأمة خير من ولاية على ، وأن منفعته للمسلمين في دينهم ودنياهم أعظم من منفعة على ، رضي الله عنهم .

      وإذا كنا نعتقد أنه كان مجتهدا مريدا وجه الله بما فعل ، وأن ما تركه من المصلحة كان عاجزاً عنه ، وما حصل من المفسدة كان عاجزا عن دفعه ، وأنه لم يكن مريداً للعلوّ في الأرض ولا الفساد ـ كان هذا الاعتقاد بأبى بكر وعمر أولى وأخلق وأحرى .

      فهذا وجه لا يقدر أحد أن يعارضه إلا بما يظن أنه نقل خاص ، كالنقل لفضائل على ، ولما يقتضى أنه أولى بالإمامة ، أو أن إمامته منصوص          عليها .وحينئذ فيعارض هذا بنقل الخاصة ـ الذين هم أصدق وأكثر ـ لفضائل الصديق  التي تقضى أنه أولى بالإمامة ، وأن النصوص إنما دلت عليه .

      فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبإزائها للسنى حجة من جنسها أولى منها ؛ فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل ، فما من حجة يسلكها كتابى إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها .

      قال تعالى : " وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا  "         ( سورة الفرقان : 33) لكن صاحب الهوى الذي له غرض في جهة ، إذا وجه له المخالف لهواه ثقل عليه سمعه واتباعه .

      قال تعالى : "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ"  ( سورة المؤمنون : 71 ) .

      وهنا طريق آخر . وهو أن يُقال : دواعى المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كانت متوجهة إلى اتباع الحق ، وليس لهم ما يصرفهم عنه ، وهم قادرون على ذلك ، فإذا حصل الداعى إلى الحق ، وانتفى الصارف مع القدرة ، وجب الفعل.

      فعُلم أن المسلمين اتّبعوا فيما فعلوه الحق . وذلك أنهم خير الأمم ، وقد أكمل الله لهم الدين ، وأتم عليهم النعمة . ولم يكن عند الصديق غرض دنيوى يقدّمونه لأجله ، ولا عند علىّ غرض دنيوى يؤخرونه لأجله ، بل لو فعلوا بموجب الطبع لقدَّموا علياً . وكانت الأنصار لو اتبعت الهوى أن تتّبع رجلا من بنى هاشم أحب إليها من أن تتبع رجلا من بنى تيم . وكذلك عامة قبائل قريش ، لا سيما بنو عبد مناف وبنو مخزوم ؛ فإن طاعتهم لمنافى كانت أحب إليهم من طاعة تيمى لو اتبعوا الهوى . وكان أبو سفيان بن حرب وأمثاله يختارون تقدم علىّ .

      وقد روى أن أبا سفيان طلب من علىّ أن يتولى لأجل القرابة  التي بينهما . وقد قال أبو قحافة ، لما قيل له أن ابنك تولى ، قال : " أو رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو مخزوم ؟ " قالوا : نعم . فعجب من ذلك ، لعلمه بأن بنى تيم كانوا من أضعف القبائل ، وأن أشراف قريش كانت من تلك القبيلتين .

      وهذا وأمثاله مما إذا تدبره العاقل علم أنهم لم يقدموا أبا بكر إلا لتقديم الله ورسوله ، لأنه كان خيرهم وسيدهم وأحبهم إلى الله ؛ فإن الإسلام إنما يقدم بالتقوى لا بالنسب ، وأبو بكر كان أتقاهم .

      وهنا طريق آخر ، وهو أنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خير هذه الأمة القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهذه الأمة خير الأمم كما دل عليه الكتاب والسنة .

      وأيضا فإنه من تأمّل أحوال المسلمين في خلافة بنى أمية ، فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين ، علم أن أهل ذلك الزمان كانوا خيراً وأفضل من أهل هذا الزمان، وأن الإسلام كان في زمنهم أقوى وأظهر . فإن كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم ، ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم ، وولوا فاسقا وظالما ، ومنعوا عادلا عالما ، مع علمهم بالحق ، فهؤلاء من شر الخلق ، وهذه الأمة شر الأمم ، لأن هذا فعل خيارها ، فكيف بفعل شرارها ؟ !

      وهنا طريق آخر . وهو أنه قد عُرف بالتواتر ، الذي لا يخفى على العامة  والخاصة ، أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي صلى الله عليه وسلم اختصاص عظيم ، وكانوا من أعظم الناس اختصاصاً به ، وصحبة له ، وقربا      إليه ، واتصالا به ، وقد صاهرهم كلهم ، وما عُرف عنه أنه كان يذمهم ولا      يلعنهم ، بل المعروف عنه أنه كان يحبهم ويثنى عليهم .

      وحينئذ : فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا ، في حياته وبعد موته. وإما أن يكونوا بخلاف ذلك ، في حياته أوبعد موته . فإن كانوا على غير  الاستقامة ، مع هذا التقرب ، فأحد الأمرين لازم : إما عدم علمه بأحوالهم ، أو مداهنته لهم . وأيهما كان فهو من أعظم القدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما قيل :

      فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبة             وإن كنت تدر فالمصيبة أعظم

       وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته وأكابر أصحابه . ومن قد أخبر بما سيكون بعد ذلك ، أين كان عن علم ذلك؟ وأين الاحتياط للأمة حتى لا يولّى مثل هذا أمرها ؟ ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله ، فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين ؟ فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول ، كما قال مالك وغيره : إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول ليقول القائل : رجل سوء كان له أصحاب سوء ، ولو كان رجلا صالحاً لكان أصحابه صالحين .

        ولهذا قال أهل العلم : إن الرافضة دسيسة الزندقة ، وإنه وضع عليها.وطريق آخر أن يقال : الأسباب الموجبة لعلىّ ـ إن كان هو المستحق ـ قوية ، والصوارف منتفية ، والقدرة حاصلة ، ومع وجود الداعى والقدرة وانتفاء الصارف يجب الفعل ، وذلك أن علياً هو ابن عم نبيهم ، ومن أفضلهم نسبا ، ولم يكن بينه وبين أحدٍ عداوة : لا عداوة نسب ولا إسلام ، بأن يقول القائل : قتل أقاربهم في الجاهلية .

      وهذا المعنى منتفٍ في الأنصار ؛ فإنهم لم يقتل أحداً من أقاربهم ، ولهم الشوكة ، ولم يقتل من بنى تيم ولا عدى ولا كثير من القبائل أحدا ، والقبائل  التي قتل منها ، كبنى عبد مناف ، كانت تواليه ، وتختار ولايته ، لأنه إليها أقرب . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نص على ولايته ، أو كان هو الأفضل المستحق لها ، لم يكن هذا مما يخفى عليهم ، وعلمهم بذلك يوجب انبعاث إرادتهم إلى ولايته ، إذا لم يكن هناك صارف يمنع ، والأسباب كانت مساعدة لهذا الداعى ، ولا معارض لها ولا صارف أصلا .

      ولو قُدِّر أن الصارف كان في نفر قليل ، فجمهور المسلمين لم يكن لهم فيها صارف يصرفهم عنه ، بل هو قادرون على ولايته . ولو قالت الأنصار : علىُّ هو أحق بها من سعد ومن أبى بكر ما أمكن أولئك النفر من المهاجرين أن يدافعوهم ، وقام أكثر الناس مع علىّ ، لاسيما وكان جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم ، وبغض الكفار والمنافقين لعمر أعظم من بغضهم لعلى بما لا نسبة بينهما ، بل لم يعرف أن علياً كان يبغضه الكفّار والمنافقون ، إلا كما يبغضون أمثاله . بخلاف عمر ، فإنه كان شديدا عليهم ، وكان من القياس أن ينفروا عن جهة فيها عمر .

      ولهذا لما استخلفه أبو بكر ، كره خلافته طائفة ، حتى قال له طلحة : ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا ؟ فقال : أبا لله تخوفنى ؟ أقول : وليت عليهم خير أهلك .

       فإذا كان أهل الحق مع علىّ ، وأهل الباطل مع علىّ ، فمن الذي يغلبه إذا كان الحق معه ؟ وهب أنهم إذا قاموا لم يغلبوا ، أما كانت الدواعى المعروفة في مثل ذلك توجب أن يجرى في ذلك قيل وقال ونوع من الجدال ؟ أوليس ذلك أولى بالكلام فيه من الكلام في ولاية سعد ؟ فإذا كانت الأنصار بشبهة لا أصل لها طمعوا أن يتأمر سعد ، فمن يكون فيهم المحق ؟

       ونص الرسول الجلى كيف لا يكون أعوانه أطمع في الحق ؟ فإذا كان لم ينبز متكلم منهم بكلمة واحدة في ذلك ، ولم يّدع داع إلى علىّ : لا هو ولا غيره ، واستمر الأمر على ذلك ، إلى أن بويع له بعد مقتل عثمان ، فحينئذ قام هو وأعوانه فطلبوا وقاتلوا ولم يسكتوا ، حتى كادوا يغلبوا ـ عُلم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى ، لا لوجود المانع ، وأن القوم لم يكن عندهم علم بأن عليا هو الأحق ، فضلا عن نص جلى ، وأنه لما بدا لهم استحقاقه قاموا معه ، مع وجود المانع .

      وقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعدهم عن الممانعة من معاوية بكثير كثير ، لو كان لعلىّ حق . فإن أبا بكر لم يدع إلى نفسه ، ولا أرغب ولا أرهب ، ولا كان طالبا للرئاسة بوجه من الوجوه ، ولا كان في أول الأمر يمكن أحداً القدح في علىّ كما أمكن ذلك بعد مقتل عثمان ، فإنه حينئذ نسبه كثير من شيعة عثمان إلى أنه أعان على قتله ، وبعضهم يقول : خذله . وكان قتلة عثمان في عسكره ، وكان هذا من الأمور  التي منعت كثيرا من مبايعته .

      وهذه الصوارف كانت منتفية في أول الأمر ، فكان جنده أعظم ، وحقه إذ ذاك ـ لو كان مستحقا ـ أظهر ، ومنازعوه أضعف داعياً وأضعف قوة ، وليس هناك داع قوى يدعو إلى منعه ، كما كان بعد مقتل عثمان ، ولا جند يجمع على مقاتلته ، كما كان بعد مقتل عثمان .

      وهذه الأمور وأمثالها من تأملها تبين له انتفاء استحقاقه إذ ذاك بيانا لا يمكنه دفعه عن نفسه ، فلو تبين أن الحق لعلىّ ، وطلبه علىّ لكان أبو بكر : إما أن يُسلم إليه ، وإما أن يجامله ، وإما أن يعتذر إليه . ولو قام أبو بكر وهو ظالم يدافع عليا وهو محق ، لكانت الشريعة والعادة والعقل توجب أن يكون الناس مع على المحق المعصوم على أبى بكر المعتدى الظلوم ، لو كان الأمر كذلك ، لا سيما والنفوس تنفر عن مبايعة من ليس من بيت الولاية ، أعظم من نفرتها عن مبايعة أهل بيت المطاع ، فالدواعى لعلىّ من كل وجه كانت أعظم وأكثر ، لو كان أحق ، وهى عن أبى بكر من كل وجه كانت أبعد ، لو كان ظالما .

      لكن لما كان المقتضى مع أبى بكر ـ وهو دين الله ـ قويا ، والإسلام في جدته وطراوته وإقباله ، كان أتقى لله ألا يصرفوا الحق عمن يعلمون أنه الأحق إلى غيره ، ولو كان  لبعضهم هوى مع الغير .

      وأما أبو بكر فلم يكن لأحدٍ معه هوى إلا هوى الدين ، الذي يحبه الله ويرضاه.

      فهذه الأمور وأمثالها من تدبرها علم بالاضطرار أن القوم علموا أن أبا بكر هو الأحق بخلافة النبوة ، وأن ولايته أرضى لله ورسوله فبايعوه ، وإن لم يكن ذلك لزم أن يعرفوا ويحرفوا ، وكلاهما ممتنع عادة ودينا ، والأسباب متعددة فهذا المعلوم اليقينى لا يندفع بأخبار لا يُعلم صحتها ، فكيف إذا علم كذبها ؟ وألفاظ لا تعلم دلالتها ، فكيف إذا علم انتفاء دلالتها ؟ ومقاييس لا نظام لها ، يعارضها من المعقول والمنقول الثابت الإسناد المعلوم المدلول ما هو أقوى وأولى بالحق وأحرى .

      وهؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم يقينا بطرق كثيرة علماً لا يقبل النقيض بشبه في غاية الضعف ، هم من أعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ ، الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم ، كالنصارى والجهمية وأمثالهم من أهل البدع والأهواء ، الذين يدعون النصوص الصحيحة الصريحة  التي توجب العلم ، ويعارضونها بشبه لا تفيد إلا الشك ، لو تعرض لم تثبت . وهذا في المنقولات سفسطة كالسفسطة في العقليات ، وهو القدح فيما علم بالحس والعقل بشبهة تعارض ذلك . فمن أراد أن يدفع العلم اليقينى المستقر في القلوب بالشبه ، فقد سلك مسلك السفسطة ، فإن السفسطة أنواع : أحدها : النفى والجحد والتكذيب : إما بالوجود وإما بالعلم به .

      والثانى : الشك والريب ، وهذه طريقة اللاأدرية ، الذين يقولون : لا ندرى ، فلا يثبتون ولا ينفون ، لكنهم في الحقيقة قد نفوا العلم ، وهو نوع من النفس فعادت السفسطة إلى جحد الحق المعلوم أو جحد العلم به .

      والثالث : قول من يجعل الحقائق تبعا للعقائد ، فيقول : من اعتقد العالم قديما فهو قديم ، ومن اعتقده محدثا فهو محدث ، وإذا أريد بذلك أنه قديم عنده ومحدث عنده فهذا صحيح ، فإن هذا هو اعتقاده . لكن السفسطة أن يراد أنه كذلك في الخارج .

      وإذا كان كذلك فالقدح فيما عُلم من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخلفاء الثلاثة ، وما علم من سيرتهم بعده بأخبار يرويها الرافضة ، يكذبهم فيها جماهير الأمة من أعظم السفسطة ، ومن روى لمعاوية وأصحابه من الفضائل ما يوجب تقديمه على علىّ وأصحابه ، كان كاذباً مبطلا مسفسطاً .

      ومع هذا فكذب الرافضة الذين يروون ما يقدح في إيمان الخلفاء الثلاثة ويوجب عصمة علىّ ، أعظم من كذب من يروى ما يُفضَّل به معاوية على علىّ ، وسفسطتهم أكثر ؛ فإن ظهور إيمان الثلاثة أعظم من ظهور فضل علىّ عَلَىَ معاوية من وجوه كثيرة ، وإثبات عصمة علىّ أبعد عن الحق من إثبات فضل معاوية .

      ثم خلافة أبى بكر وعمر هي من كمال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ، ومما يُظهر أنه رسول حق ، ليس ملكا من الملوك ؛ فإن عادة الملوك إيثار أقاربهم بالولايات لوجوه : أحدهما : محبتهم لأقاربهم أكثر من الأجانب , لما في الطباع من ميل الإنسان إلى قرابته . والثانى : لأن أقاربهم يريدون إقامة ملكهم ما لا يريده  الأجنبي ، لأن في عز قريب الإنسان عز لنفسه ، ومن لم يكن له أقارب من الملوك استعان بممالكه ومواليه فقربهم واستعان بهم ، وهذا موجود في ملوك المسلمين والكفار .

      ولهذا لما كان ملوك بنو أمية وبنو العباس ملوكا ، كانوا يريدون أقاربهم ومواليهم بالولايات أكثر من غيرهم ، وكان ذلك مما يقيمون به ملكهم .

      وكذلك ملوك الطوائف ، كبنى بويه ، وبنى سلجق ، وسائر الملوك بالشرق والغرب ، والشام ، واليمن ، وغير ذلك .

      وهكذا ملوك الكفار من أهل الكتاب والمشركين ، كما يوجد في ملوك الفرنج وغيرهم ، وكما يوجد في آل جنكشخان بأن الملوك تبقى في أقارب الملك ، ويقولون : هذا من العظم ، وهذا ليس من العظم ، أي من أقارب الملك .

      وإذا كان كذلك فتولية أبى بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم دون عمه العباس وبنى عمه على وعقيل وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وغيرهم ، ودون سائر بنى عبد مناف : كعثمان بن عفان وخالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد بن العاص وغيرهم من بنى عبد مناف ، الذين كانوا أجل قريش قدراً ، وأقرب نسبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ من أعظم الأدلة على أن محمدا عبد الله ورسوله ، وأنه ليس ملكا ؛ حيث لم يقدم في خلافته أحداً : لا بقرب نسب منه ، ولا بشرف بيته ، بل إنما قدّم بالإيمان والتقوى .

      ودل ذلك على أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده إنما يعبدون الله ويطيعون أمره ، لا يريدون ما يريده غيرهم من العلو في الأرض ، ولا يريدون أيضا ما أبيح لبعض الأنبياء من الملك . فإن الله خير محمداً بين أن يكون عبداً ورسولاً وبين أن يكون ملكا نبيا فاختار أن يكون عبداً رسولاً .

      وتولية أبى بكر وعمر بعده من تمام ذلك ؛ فإنه لو قدم أحداً من أهل بيته لكانت شبهة لمن يظن أنه كان ملكا ، كما أنه لو ورث مالا لورثته لكانت شبهة لمن يظن أنه جمع المال لورثته . فلما لم يستخلف أحداً من أهل بيته ولا خلف لهم مالا، كان هذا مما يبين أنه كان من أبعد الناس عن طلب الرياسة والمال ، وإن كان ذلك مباحا ، وأنه لم يكن من الملوك الأنبياء ، بل كان عبد الله ورسـوله .

      كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " إنى والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا ، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت " .

      وقال : " إن ربى خيرنى بين أن أكون عبداً رسولا ً أو نبيا ملكا ، فقلت : بل عبدا رسولا " .

      وإذا كان هذا مما دل على تنزيهه عن كونه من ملوك الأنبياء ، فدلالة ذلك على نبوته ونزاهته عن الكذب والظلم أعظم وأعظم . ولو تولى بعده على أو واحد من أهل بيته لم تحصل هذه المصالح والإلطافات العظيمة .

      وأيضاً فإنه من المعلوم أن الإسلام في زمن علىّ كان أظهر وأكثر مما كان في خلافة أبى بكر وعمر وكان الذين قاتلهم علىّ أبعد عن الكفر من الذين قاتلهم أبو بكر وعمر ؛ فإن أبا بكر قاتل المرتدين وأهل الكتاب ، مع ما حصل للمسلمين بموت النبي صلى الله عليه وسلم من الضعف العظيم ، وما حصل من الارتداد لأكثر البوادى ، وضعف قلوب أهل الأمصار ، وشك كثير منهم في جهاد مانعى الزكاة وغيرهم .

      ثم عمر تولى قتال أمتين عظيمتين ، لم يكن في العادة المعروفة أن أهل الحجاز واليمن يقهرونهم وهما فارس والروم ، فقهرهم وفتح بلادهم . وتمم عثمان ما تمم من فتح المشرق والمغرب ، ثم فتح بعد ذلك في خلافة بنى أمية ما فتح بالمشرق والمغرب كما وراء النهر والأندلس وغيرهما مما فتح في خلافة عبد الملك .

      فمعلوم أنه لو تولى غير أبى بكر وعمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل علىّ أو عثمان ، لم يمكنه أن يفعل ما فعلا ؛ فإن عثمان لم يفعل ما فعلا ، مع قوة الإسلام في زمانه ، وعلىّ كان أعجز من عثمان ، وكان أعوانه أكثر من أعوانهما ، وعدوه أقل وأقرب إلى الإسلام من عدوهما ، ومع هذا فلم يقهر عدوه ، فكيف كان يمكنه قهر المرتدين وقهر فارس والروم ، مع قلة الأعوان وقوة العدو ؟!

       وهذا مما يبين فضل أبى بكر وعمر ، وتمام نعمة الله بهما على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الناس بعده ، وأن من أعظم نعم الله تولية أبى بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه لو تولى غيرهما كان لم يفعل ما فعلا ، إما لعدم القدرة ، وإما لعدم الإرادة.

      فإنه إذا قيل : لِمَ لمْ يغلب علىّ معاوية وأصحابة ؟ فلابد أن يكون سبب ذلك : إما عدم كمال القدرة ، وإما عدم كمال الإرادة . وإلا فمع كمال القدرة وكمال الإرادة يجب وجود الفعل ، ومن تمام القدرة طاعة الأتباع له ، ومن تمام الإرادة إرادة ما هو الأصلح الأنفع الأرضى لله ولرسوله .

      وأبو بكر وعمر كانت قدرتهما أكمل ، وإرادتهما أفضل . فبهذا نصر الله بهما الإسلام ، وأذل بهما الكفر والنفاق ، وعلى رضي الله عنه لم يؤت من كمال القدرة والإرادة ما أوتيا .

      والله تعالى كما فضّل بعض النبيين على بعض ، فضّل بعض الخلفاء على بعض . فلما لم يؤت ما أوتيا ، لم يمكنه أن يفعل في خلافته ما فعلا ، وحينئذ فكان عن ذلك بموت النبي صلى الله عليه وسلم أعجز وأعجز ؛ فإنه على أي وجه ُقدر ذلك فإن غاية ما يقول المتشيّع : إن أتباعه لم يكونوا يطيعونه .

      فيقال : إذا كان الذين بايعوه لم يطيعوه ، فكيف يطيعه من لم يبايعه ؟ وإذا قيل : لو بايعوه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لفعل بهم أعظم مما فعل أبو بكر وعمر .

      فيقال : قد بايعه أكثر ممن بايع أبا بكر وعمر ونحوهما ، وعدوه أضعف وأقرب إلى الإسلام من عدو أبى بكر وعمر ، ولم يفعل ما يشبه فعلهما ، فضلا عن أن يفعل أفضل منه .

      وإذا قال القائل : إن أتباع أبى بكر وعمر رضي الله عنهما أعظم إيمانا وتقوى ، فنصرهم الله لذلك .

      قيل : هذا يدل على فساد قول الرافضة ؛ فإنهم يقولون : إن أتباع أبى بكر وعمر كانوا مرتدين أو فاسقين ، وإذا كان نصرهم وتأييدهم لإيمانهم وتقواهم ، دل ذلك على أن الذين بايعوهما أفضل من الشيعة الذين بايعوا عليا .

      وإذا كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامة على ، دل ذلك على أنهما أفضل منه .

      وإن قالوا : إن عليا إنما لم ينتصر لأن أتباعه كانوا يبغضونه ويختلفون عليه.

      قيل : هذا أيضا يدل على فساد قول الشيعة : إن الذين بايعوا عليا وأقروا بإمامته أفضل ممن بايع أبا بكر وعمر وأقر بإمامتهما ، فإذا كان أولئك الشيعة الذين بايعوا عليا عصاة للإمام المعصوم ، كانوا من أشر الناس ، فلا يكون في الشيعة طائفة محمودة أصلا ، ولا طائفة ينتصر بها على العدو ، فيمتنع أن يكون على مع الشيعة قادرا على قهر الكفار .

     وبالجملة فلابد من كمال حال أبى بكر وعمر وأتباعهما ، فالنقص الذي حصل في خلافة علىّ من إضافة ذلك : إما إلى الإمام ، وإما إلى أتباعه ، وإما إلى المجموع .

      وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون أبو بكر وعمر وأتباعهما أفضل من علىّ وأتباعه ، فإنه إن كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه ، وإن كان من أتباعه كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامته ، فتكون أهل السنة أفضل من الشيعة ، وذلك يستلزم كونهما أفضل منه ، لأن ما امتاز به الأفضل أفضل مما امتاز به المفضول .

      وهذا بين لمن تدبره ؛ فإن الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وقاتلوا معهم ، هم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه ؛ فإن أولئك فيهم من عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه .

      وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما توفى منهم أو قتل في حياته قليل منهم .

      والذين بايعوا عليا كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع أبا بكر وعمر وعثمان . وأما سائرهم فمنهم من لم يبايعه ولم يقاتل معه ، كسعد بن أبى وقاص ، وأسامة بن زيد ، وبن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وزيد بن ثابت ، وأبى هريرة ، وأمثال هؤلاء من السابقين ، والذين اتبعوهم بإحسان .

      ومنهم من قاتله ، كالذين كانوا مع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية من السابقين والتابعين .

      وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم أفضل من الذين بايعوا عليا   وقاتلو معه ، لزم أن يكون كل من الثلاثة أفضل ، لأن عليا كان موجودا على عهد      الثلاثة ، فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره ، كما تقول الرافضة ، أو كان أفضل وأحق بها ، كما يقوله من يقوله من الشيعة ، لكان أفضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم الله به ورسوله إلى ما لم يؤمروا به ، بل ما نهوا عنه ، وكان الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به .

      ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان أفضل ممن تركه وفعل ما نهى الله عنه ورسوله ، فلزم لو كان قول الشيعة حقا أن يكون أتباع على أفضل . وإذا كانوا هم أفضل وإمامهم أفضل من الثلاثة ، لزم أن يكون ما فعلوه من الخير أفضل مما فعله الثلاثة .

      وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار ، الذي تواترت به الأخبار ، وعلمته البوادى والحضار ؛ فإنه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه ، وانتشاره ونموه وانتصاره وعزه ، وقمع المرتدين ، وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس  وغيرهم ـ ما لم يجر بعدهم مثله .

      وعلىّ رضي الله عنه فضّله الله وشرّفه بسوابقه الحميدة وفضائله العديدة ، لا بما جرى في زمن خلافته من الحوادث ، بخلاف أبى بكر وعمر وعثمان فإنهم فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة ، بما جرى في خلافتهم من الجهاد في سبيل الله ، وإنفاق كنوز كسرى وقيصر ، وغير ذلك من الحوادث المشكورة ، والأعمال المبرورة .

      وكان أبو بكر وعمر أفضل سيرة وأشرف سريرة من عثمان وعلى رضي الله عنهم أجمعين . فلهذا كانا أبعد عن الملام وأولى بالثناء العام ، حتى لم يقع في زمنهما شئ من الفتن ؛ فلم يكن للخوارج في زمنهما لا قول مأثور ولا سيف مشهور ، بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار ، وأهل الإيمان في إقبال، وأهل الكفر في إدبار .

      ثم إن الرافضة ـ أو أكثرهم ـ لفرط جهلهم وضلالهم يقولون : إنهم ومن اتبعهم كانوا كفارا مرتدين ، وإن اليهود والنصارى خير منهم ، لأن الكافر الأصلى خير من المرتد . وقد رأيت هذا في عدة من كتبهم ، وهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على أولياء الله المتقين ، وحزب الله المفلحين ، وجند الله الغالبين .

      ومن الدلائل الدالة على فساده أن يقال : من المعلوم بالاضطرار ، والمتواتر من الأخبار ، أن المهاجرين هاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة، وهاجر طائفة منهم ، كعمر وعثمان وجعفر بن أبى طالب ، هجرتين : هجرة إلى الحبشة ، وهجرة إلى المدينة ، وكان الإسلام إذ ذاك قليلا ، والكفار مستولون على عامة الأرض ، وكانوا يؤذون بمكة ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله ، وهم صابرون على الأذى ، متجرعون لمرارة البلوى ، وفارقوا الأوطان ، وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله والجهاد في سبيله ، كما وصفهم الله تعالى بقوله :

" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " ( سورة الحشر : 8 ) .

      وهذا كله فعلوه طوعا واختيارا من تلقاء أنفسهم ، لم يكرههم عليه مكره ، ولا ألجأهم إليه أحد ؛ فإنه لم يكن للإسلام  إذ ذاك من القوة ما يكره به أحد على الإسلام ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ـ هو ومن اتبعه ـ منهيين عن القتال ، مأمورين بالصفح والصبر ، فلم يسلم أحد  إلا باختياره ، ولا هاجر أحد إلا باختياره.

    ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من العلماء :  إنه لم يكن من المهاجرين من نافق ، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار لما ظهر الإسلام بالمدينة ، ودخل فيه قبائل الأوس والخزرج ، ولما صار للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون دخل في الإسلام من أهل المدينة وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفا وتقية ، وكانوا منافقين .

      كما قال تعالى :

" وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ "    ( سورة التوبة : 101 )

      ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية ، وأما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين ، فإن من أسلم قبل الهجرة بمكة لم يكن فيهم منافق ، والذين هاجروا لم يكن فيهم منافق ، بل كانوا مؤمنين بالله ورسوله ، محبين لله ولرسوله ، وكان الله ورسوله أحب إليهم من أولادهم وأهلهم وأموالهم .

 

      وإذا كان كذلك علم أن رميهم ـ أو رمى أكثرهم أو بعضهم ـ بالنفاق ، كما يقوله من يقوله من الرافضة ، من أعظم البهتان ، الذي هو نعت الرافضة وإخوانهم من اليهود ؛ فإن النفاق كثير ظاهر في الرافضة إخوان اليهود ، ولا يوجد في الطوائف أكثر وأظهر نفاقا منه ، حتى يوجد فيهم النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم ، ممن هو من أعظم الطوائف نفاقا وزندقة وعداوة لله ولرسوله .

 

      وكذلك دعواهم عليهم الردة من أعظم الأقوال بهتاناً ؛ فإن المرتد إنما يرتد بشبهة أو شهوة . ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى ، فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام ، كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه ؟!

      وأما الشهوة : فسواء كانت شهوة رياسة أو مال أو نكاح أو غير ذلك ، كانت في أول الإسلام أولى بالاتباع ، فمن خرجوا من ديارهم وأموالهم ، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعز حبا لله ولرسوله ، طوعا غير إكراه ، كيف يعادون الله ورسوله طلبا للشرف والمال ؟! 

      ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة ، وقيام المقتضى للمعاداة ، لم يكونوا معادين لله ورسوله ، بل موالين لله ورسوله ، معادين لمن عادى الله ورسوله ، فحين قوى المقتضى للموالاه ، وضعفت القدرة على المعاداة ، يفعلون نقيض هذا ؟! هل يظن هذا إلا من هو من أعظم الناس ضلالاً ؟

      وذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه ، وكمال الإرادة له وجب وجوده ، وهم في أول الإسلام كان المقتضى لإرادة معاداة الرسول أقوى ، لكثرة أعدائه وقلة أوليائه ، وعدم ظهور دينه وكانت قدرة من يعاديه باليد واللسان حينئذ أقوى ، حتى كان يعاديه آحاد الناس ويباشرون أذاه بالأيدي والألسن . ولما ظهر الإسلام وانتشر ، كان المقتضى للمعاداة أضعف ، والقدرة عليها أضعف . ومن المعلوم أن من ترك المعاداة أولا ، ثم عاداه ثانيا لم يكن إلا لتغير إرادته أو قدرته .

      ومعلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولاً أقوى ، والموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى ، ولم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم ولا قدرتهم ، فعلم علما يقينيا أن القوم لم يتجدد عندهم ما يوجب الردة عن دينهم ألبتة ، والذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن أسلم بالسيف ، كأصحاب مسيلمة وأهل نجد ، فأما المهاجرون الذين أسلموا طوعا فلم يرتد منهم ـ ولله الحمد ـ أحد ، وأهل مكة لما أسلموا بعد فتحها همَّ طائفة منهم بالردة ، ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو .

      وأهل الطائف لما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ، ثم رأوا ظهور الإسلام ، فأسلموا مغلوبين ، فهموا بالردة ، فثبتهم الله بعثمان بن أبى العاص .

      فأما أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فإنما أسلموا طوعا ، والمهاجرون منهم والأنصار ، وهم قاتلوا الناس على الإسلام ، ولهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد ، بل ضعف غالبهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه ، حتى ثبتهم الله وقواهم بأبى بكر الصديق رضي الله عنه ، فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين ، وجهاد الكافرين ، فالحمد لله الذي من على الإسلام وأهله بصديق الأمة ، الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله ، وحفظه به بعد وفاته ، فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء . انتهى كلام شيخ الإسلام رضي الله تعالى عنه .

  • الثلاثاء PM 08:21
    2021-04-27
  • 864
Powered by: GateGold