المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 414939
يتصفح الموقع حاليا : 264

البحث

البحث

عرض المادة

التعارض والترجيح

التعارض والترجيح

       روى الكلينى في أصول الكافى عن عمر بن حنظلة قال :

    " سألت أبا عبدالله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان ، وإلى القضاة ، أيحل ذلك ؟ قال : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً ، وإن كان حقاً ثابتاً له ، لأنه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به قال تعالى : ] يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ[ ([1][57]) قلت : فكيف يصنعان ؟ قال ينظران إلى ما كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً فإنى قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد ، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله .

     قلت : فإن كان كل رجل اختار رجلاً من أصحابنا ، فرضيا أن يكون الناظرين في حقهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما : اختلفا في حديثكم ؟

    قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر .

    قال - قلت فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على الآخر ؟

     قال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذى حكما به المجمع عليه من أصحابك فيأخذ به من حكمنا . ويترك الشاذ الذى ليس بمشهور عند أصحابك .

     قلت : فإن كان الخبران عنكما ([2][58]) مشهورين  قد رواهما الثقات عنكم ؟

     قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة ، وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة .

     قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفاً حكمه من الكتاب والسنة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم بأى الخبرين يؤخذ ؟

     قال : ما خالف العامة ففيه الرشاد .

    فقلت : جعلت فداك ، فإن وافقهما الخبران جميعاً ؟

      قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل ، حكامهم وقضاتهم ، فيترك ، ويؤخذ بالآخر .

      قلت : فإن وافق حكامهم الخبران جميعاً ؟

    قال : إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك ، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ([3][59]) . 

     هذه الرواية يسميها الجعفرية الرافضة مقبولة ابن حنظلة ، وفى باب الترجيح عندهم هى " العمدة في الباب ، المقبولة التي قبلها العلماء بأن راويها صفوان بن يحيى الذى هو من أصحاب الإجماع ، أى الذين أجمع العصابة على تصحيح ما يصح عنهم : كما رواها المشايخ الثلاثة في كتبهم " ([4][60]) .

      ويقول المظفر : " من الواضح أن موردها التعارض بين الحاكمين ، لا بين الراويين ، ولكن لما كان الحكم والفتوى في الصدر الأول يقعان بنص الأحاديث ، لا أنهما يقعان بتعبير من المحاكم أو المفتى كالعصور المتأخرة استنباطاً من الأحاديث تعرضت هذه المقبولة للرواية والراوى ، لارتباط الرواية بالحكم . ومن هنا استدل بها على الترجيح للرواية المتعارضة " ([5][61]) .

     ثم يقول بعد بيان انحصار دليل مخالفة العامة في هذه المقبولة : والنتيجة أن المستفاد من الأخبار أن المرجحات المنصوصة ثلاثة : الشهرة وموافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة . وهذا ما استفاده الشيخ الكلينى في مقدمة الكافى ([6][62]).

      وهذه المقبولة التي اعتبرت العمدة في باب الترجيح  بصفة عامة ، والدليل الوحيد على مخالفة العامة ـ–أى جمهور المسلمين ـ– بصفة خاصة ، أقول : هذه المقبولة مرفوضة من وجهة نظرنا لما يأتى :

  1. أنها اعتبرت كل حاكم أو قاض غير جعفرى اثنى عشرى طاغوتاً أمرنا أن نكفر به بنص القرآن الكريم .
  2. أنها اعتبرت أخذ الحق الثابت سحتاً ما دام أخذه عن طريق هؤلاء الحكام والقضاة .
  3. أنها جعلت حكم الحكم الجعفرى الرافضى كحكم الله تعالى ، ومن لم يقبله فكأنما أشرك بالله سبحانه .
  4. أنها تدعو إلى مخالفة جمهور المسلمين حتى عند ظهور موافقتهم للكتاب والسنة .

      فالإمام الصادق أعمق إيماناً ، وأرفع شأنا من أن يصدر منه هذه الجهالة ، وإنما تصدر هذه الرواية عن غال ، يفترى على الأئمة ، يريد لأمة الإسلام أن تفترق ولا تتحد .

      وبعد هذا نرى أثر عقيدة الإمامة في باب الترجيح عند الجعفرية يظهر فيما يأتى :

  1. جعلوا المشهور عندهم مقدما على غيره ، حتى قدموه على ما وافق الكتاب والسنة ، فالمشهور الجعفرى المخالف للكتاب والسنة مقدم على غيره الموافق للكتاب والسنة .

      ثم " إنهم لا يزالون يقدمون المشهور على غيره ولو كان راوى الغير أعدل وأصدق " ([7][63]) وهذا مما جعل غلاة الجعفرية يسيرون إلى أهدافهم من طريق ممهد ، ولنضرب لهذا مثلا لعله كاف لما أردنا توضيحه .

    صاحب كتاب " فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب " قال عن الروايات التي يرى أنها تثبت - على حد افترائه - تحريف القرآن الكريم :" الأخبار الدالة على ذلك تزيد على ألفى حديث ، وادعى استفاضتها جماعة كالمفيد، والمحقق والداماد ، والعلامة المجلسى وغيرهم " ([8][64]) فهذه روايات جعفرية مشهورة مستفيضة ، فلما تعارضت مع كتاب الله تعالى : حيث أخبر سبحانه بأنه الحافظ لكتابه العزيز ولا تبديل لكلماته ، حرفوا معناه كما رأينا من قبل في الجزء الثانى ، فهؤلاء القوم لم يناقضوا أنفسهم هنا ، فهم غلاة في المبدأ وغلاة في التطبيق . ولكن الذين يمثلون جانب الاعتدال النسبى عند الجعفرية أبوا أن يهدم الإسلام من أساسه فرفضوا الأخذ بهذه الروايات ، وكان عليهم إذن أن يغيروا المبدأ حتى لا يناقضوا أنفسهم عند التطبيق . فهم يتفقون مع الغلاة في تقديم المشهور ، واختلفوا معهم عندما جاء المشهور الجعفرى لتقويض البناء الإسلامى .

  1. جعلوا من المرجحات مخالفة العامة ، أى عامة المسلمين ، فما خالف الأمة الإسلامية أولى بالقبول عندهم مما وافقهم ، استناداً إلى المقبولة المرفوضة فهى مستندهم الوحيد ، وهى التي تزعم أن الإمام الصادق قال : ما خالف العامة ففيه الرشاد .

     ولعل هذا من أخطر المبادئ التي جعلت بين الجعفرية الرافضة وسائر الأمة الإسلامية هوة ـ– سحيقة عميقة ـ– فابتعد الجعفرية كثيراً عن الخط الإسلامى الصحيح ، لأنهم استقروا " على تقديم مخالف العامة على موافقهم ، من غير ملاحظة المرجحات السندية وجوداً وعدماً ، حتى لو كان الخبر مستفيضاً يحملونه على التقية عند التعارض " ([9][65]) .

    والحمل على التقية هنا يعنى أن الخبر في ذاته لا يحمل قرائن التقية لأنهم يقولون : " الذى يكون من الشرائط لحجية الخبر هو أن لا يكون في الخبر قرائن التقية بحيث يستفاد من نفس الخبر أنه صدر تقية ، والذى يكون مرجحاً ، مجرد المخالفة والموافقة للعامة من دون أن يكون في الخبر الموافق قرائن  التقية " ([10][66]) .  

      وهم يعودون بهذا المبدأ الهدام إلى عصر الصحابة الكرام : فيقولون : " بأن الرشد في خلافهم ، وأن قولهم في المسائل مبنى على مخالفة أمير المؤمنين  رضي الله عنه فيما يسمعونه منه " ([11][67]) .

     ثم يقولون : " التعليل بأن الرشد في خلافهم محتمل لوجوه :

    الأول  - أن يكون إصابة الواقع غالباً في مخالفتهم ، فهم غالباً في ضلالة وبعد عن الواقع .

    والثانى - أن يكون نفس مخالفتهم رشداً ، فالمخالفة لهم حسن ذاتاً .

    والثالث - أن يكون ذلك من جهة صدور الخبر الموافق تقية ، فيكون الأخذ بالخبر المخالف رشداً من باب تمامية وجه صدوره بخلاف الموافق " ([12][68]) .

     وبعد : فإنا لا نعجب عندما ينفث غلاة الجعفرية الرافضة وزنادقتهم سمومهم بمثل هذه الأقوال ، ولكن لا ندرى كيف يصبح هذا المبدأ مقبولا عند الجعفرية جميعاً ؟ وكنا ننتظر ، من معتدليهم نسبياً ودعاة التقريب منهم ، أن يقفوا موقفاً يتفق مع اعتدالهم الظاهرى ، ودعوتهم للتقريب بين المذاهب الإسلامية .

     ونضرب مثلا هنا - والأمثلة جد كثيرة - يبين كيف تمكن واضعو هذا المبدأ من توجيه المذهب الجعفرى وجهة بعيدة عن أمة الإسلام في كثير من الأحكام ، وبالطبع على غير أساس من الحق ، والمثل هو ما رواه الكلينى :

  " عن زرارة بن أعين ، عن أبى جعفر قال : سألته عن مسألة فأجابنى ، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابنى ، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابنى وأجاب صاحبى ، فلما خرج الرجلان قلت يا بن رسول الله ، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان ، فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه ، فقال : يا زرارة : إن هذا خير لنا ، وأبقى لنا ولكم ، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ، ولكان أقل لبقائنا وبقائكم " ([13][69]).

      فهنا إذن ثلاث فتاوى تعطى أحكاماً مختلفة لمسألة واحدة ، ولا أساس لهذا الاختلاف سوى عدم اجتماع الشيعة على حكم واحد ، حتى لا يكشف أمرهم ، فيصبحوا عرضة للقتل . ولكن هذه الفتاوى عند الجعفرية الاثنى عشرية سنة ومصدر تشريع ، فعند الترجيح يؤخذ بما خالف الأمة الإسلامية ، ويترك ما   وافقها ، حتى إذا كان المتروك موافقاً للكتاب والسنة : على أن هذا ما حضره زرارة ويمكن أن يأتى آخرون ، فتكثر الروايات ، وتختلف الأحكام بغير دليل شرعى ، والترجيح لما خالف جمهور المسلمين .

 

 

  ([1][57]) 60 : النساء .

   ([2][58]) يقصد الباقر والصادق .

  ([3][59])  الكافى 1 / 67 - 68 .

  ([4][60])  أصول الفقه للمظفر : 3 / 217 ويعنى بالمشايخ الثلاثة أصحاب كتب الحديث عندهم  وهم : الكلينى والصدوق والطوسى  .

   ([5][61])   المرجع السابق : 3 / 219 .

   ([6][62])   نفس المرجع  : 3 /223 .

     وقال السيد حسين الموسوى : لو فرضنا أن الحق كان مع العامة في مسألة ماذا يجب علينا أن نأخذ بخلاف قولهم ؟

أجابني السيد محمد باقر الصدر مرة فقال : فنعم يجب الأخذ بخلاف قولهم ، لأن الأخذ بخلاف قولهم . وإن كان خطأ فهو أهون من موافقتهم ، على افتراض وجود الحق عندهم في تلك  المسألة . " كشف الأسرار ص 92 " .  

   ([7][63])  فوائد الأصول : 4 / 291 وقال المظفر بعد حديث عن المفاضلة بين المرجحات :   " والنتيجة أنه لا قاعدة هناك تقتضي  تقديم أحد المرجحات على الآخر ، ما عدا الشهرة التي دلت المقبولة على تقديمها  "   ( أصول الفقه 3 /227 )  .

   ([8][64])  ص 227 من الكتاب المذكور وهو ينقل هذا عن ضال مثله ثم أخذ يؤيده ، راجع ما ذكرناه عن هذا الكتاب في الجزء السابق .

  ([9][65])  الحاشية على الكفاية 2 / 203  .

  ([10][66]) فوائد الأصول 4 / 293  .

  ([11][67]) الحاشية على الكفاية 2 / 190 .

  ([12][68]) المرجع السابق 2 /193  .

  ([13][69]) الكافى 1 /65 ، على أنا نرى عدم صدور هذا من سيدنا الباقر رضى الله تعالى عنه ، فمتن الرواية يعنى أنه يفتى بغير دليل من كتاب أو سنة بل يتعمد المخالفة والتضليل فى أحكام الله تعالى : فهذه الرواية كأختها المقبولة المرفوضة .

  • الثلاثاء AM 10:11
    2021-04-27
  • 1030
Powered by: GateGold