المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415577
يتصفح الموقع حاليا : 334

البحث

البحث

عرض المادة

التراث اليهـودي المســيحي

التراث اليهـودي المســيحي
Judeo-Christian Tradition
«التراث اليهودي المسيحي» مصطلح ازداد شيوعاً في العالم الغربي في الآونة الأخيرة، وهو يعني أن ثمة تراثاً مشتركاً بين اليهودية والمسيحية، وأنهما يكوِّنان كلاًّ واحداً. وهو ادعاء له ما يسانده داخل النسق الديني المسيحي وإن كان لا يعبِّر عن الصورة الكلية إذ أن مصطلح «التراث اليهودي المسيحي» يتجاهل حقائق دينية أساسية:


1 ـ هناك الاختلافات الأساسية الواضحة مثل الإيمان بالتثليث في المسيحية والإيمان بوحدانية الإله في اليهودية. والشيء نفسه ينطبق على موقف كلتا العقيدتين من تجسيم الإله وتصويره وتشبيهه بالبشر، إذ أن العقيدة المسيحية تقبله (وهنا لابد أن نشير إلى طبيعة اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي). ولذا، فبرغم تأكيد التوحيد وعدم التشبيه والتجسيم على مستوى من المستويات، فإن ثمة سقوطاً في الحلولية المتطرفة التي تؤدي باليهودية إلى الشرك والتجسيم والتشبيه إلى درجات متطرفة لا تعرفها المسيحية نفسها. كما أن موقف اليهودية والمسيحية من الخطيئة مختلف بشكل جوهري، فالمسيحية تؤمن بأن الإنسان ساقط بسبب الخطيئة الأولى. أما اليهودية، فلا تؤمن بالخطيئة الأولى. ولذا، فإن أداء الشعائر، واتباع الأوامر والنواهي، كافيان لخلاص الإنسان.

2 ـ وثمة خلافات بين العقيدتين حول فكرة المسيح، فبينما ترى اليهودية المسيح (أي الماشيَّح) باعتباره شخصية سياسية قومية سيقود شعبه إلى صهيون ويعيد بناء الهيكل ويؤسس المملكة اليهودية مرة أخرى، فإن المسيح في المسيحية إله إنسان مهمته خلاص كل البشرية لا الشعب اليهودي وحسب.

3 ـ تُعدُّ قضية صلب المسيح قضية أساسية ونقطة خلاف رئيسية. فمن المعروف أن كل أمة أو مجموعة عرْقية أو دينية تدَّعي أنها مدينة بوجودها لشكل من أشكال التضحية والفداء الرمزي، أو الفعلي الذي يكتسب مكانة رمزية ويصبح بمنزلة الركيزة النهائية للنسق ولحظة التأسيس. وحادثة الصلب في المسيحية هي هذه اللحظة، حين نزل ابن الإله إلى الأرض وارتضى لنفسه أن يُصلَب، وكان فعله هذا الفداء الأكبر. ولحظة الصلب هذه ليست لحظة زمنية، رغم حدوثها في الزمان، ولا ترتبط بفترة تاريخية معينة رغم وقوعها في التاريخ، فهي كونية، وفي احتفالات الجمعة الحزينة يحاول المسيحي المؤمن أن يستعيد ألم المسيح، هذه الواقعة الكونية التي لا يمكن أن تنافس واقعة أخرى. واليهود عنصر أساسي في حادثة الصلب، فحاخاماتهم هم الذين حاكموا المسيح وهم الذين أصروا على صلبه، فهم قتلة الرب، الذين يقتلونه دائماً، بإنكارهم إياه.

ورغم المحاولات العديدة، المسيحية واليهودية، لتغيير هذه البنية الرمزية للوجدان المسيحي، فإن مثل هذه المحاولات لا تُكلَّل بالنجاح نظراً لأن المجال الرمزي مجال إستراتيجي يتسم بقدر من الثبات. ولذا فكثيراً ما تنشب الصراعات فجأة وبلا مقدمات حين يقوم بعض المسيحيين بتمثيل بعض المسرحيات الدينية التي تبرز الرموز المسيحية وتسقط على اليهودي دور قاتل الرب. وقد نشب صراع حول أوشفيتس كان في جوهره صراعاً حول الرموز ومعناها. فحادثة الإبادة، أصبحت في الوجدان اليهودي لا تختلف عن حادثة الصلب في الوجدان المسيحي. ولذا حين أقامت بعض الراهبات الكرمليات ديراً في هذا المعتقل لإقامة الصلاة على الضحايا من أي عرْق أو دين أو جنسية اعترض ممثلو أعضاء الجماعات اليهودية، لأن هذا يعني فرض لحظة الصلب المسيحية، على لحظة الصلب اليهودية!

4 ـ ثمة رأي داخل المسيحية يقول بأن العهد الجديد لم ينسخ العهد القديم، ولكنه مع هذا حل محله وتجاوزه. ومع أن الكنيسة لم تستبعد العهد القديم (وقد كان مارسيون وبعض الغنوصيين يجاهرون بأن إله العهد القديم إله غيور، على حين أن إله العهد الجديد إله رحيم)، فإن الإيمان المسيحي يستند إلى أن الشريعة (أو القانون) قد تحققت من خلال المسيح وتم تجاوزها، وأن الرحمة الإلهية والإيمان بالمسيح وسيلة للخلاص حلت محل الشريعة والأوامر والنواهي، ومن ثم كان رفض الشعائر الخاصة بالطعام والختان التي تَمسَّك بها اليهود. وقد ذهب المسيحيون إلى أن اليهودية دين الظاهر والتفسير الحرفي دون إدراك المعنى الداخلي أو الباطن، وأن الكنيسة هي يسرائيل فيروس، أي يسرائيل الحقيقية، وأنها يسرائيل الروحية (حسب الروح)، أما اليهود فهم يسرائيل الزائفة الجسدية التي لا تدرك مغزى رسالتها. وبالتالي، فَقَد اليهود دورهم، وأصبحت اليهودية ديانة متدنية بالنسبة إلى المسيحيين، ووصف اليهود بأنه شعب يحمل كتباً ذكية ولكنه لا يفقه معنى ما يحمل.

5 ـ لكل هذا، أعادت الكنيسة تفسير العهد القديم بحيث اكتسب مدلولاً جديداً مختلفاً تماماً عن مدلوله عند اليهود الذين استمروا في شرحه وتفسيره على طريقتهم، وفهمه فهماً حرفياً وحلولياً وقومياً. ومن ثم اختلف النسق الديني اليهودي عن النسق الديني المسيحي. ومن أهم أشكال الاختلاف أن المسيحية أصبحت ديناً عالمياً، باب الهداية فيه مفتوح للجميع (وهذا أمر متوقع بعد أن خففت المسيحية من حدة وتطرف الحلولية اليهودية بحصرها الحلول الإلهي في المسيح واعتبار الكنيسة جسد المسيح)، على عكس اليهودية التي ظلت ديناً حلولياً مغلقاً مقصوراً على شعب أو عرْق بعينه يظل وحده موضع الحلول الإلهي. ثم تَعمَّق الاختلاف بحيث أصبحت للمسيحيين رؤية مختلفة تماماً عن رؤية اليهودية.

6 ـ وقد تبدَّى كل هذا في شكل صراع تاريخي حقيقي، فقد رفض اليهود المسيح (عيسى بن مريم) ولا يزالون يرفضونه. ويلوم الآباء المسيحيون الأوائل اليهود باعتبارهم مسئولين عما حاق بالمسيحيين الأولين من اضطهاد، وأنهم هم الذين كانوا يهيجون الرومان ضد المسيحيين ويلعنون المسيحيين في المعابد اليهودية، وأنهم هم المسئولون في نهاية الأمر عن صلب المسيح. وهم يرون أن هدم الهيكل وتشتيتهم هو العقاب الإلهي الذي حاق بهم على ما اقترفوه من ذنوب (وتشكِّل معاداة اليهود، باعتبارهم قتلة الرب، جزءاً أساسياً وجوهرياً من التراث الفني الديني المسيحي من موسيقى ورسم ومسرحيات).

وقد استمر الصراع إلى أن تغلبت المسيحية في نهاية الأمر على اليهودية، وانتشرت بين جماهير الإمبراطورية الرومانية. واستمر من تَبقَّى من اليهود في الإيمان باليهودية ويعبِّرون عن رأيهم، في كتب مثل التلمود والقبَّالاه، يتحدثون عن المسيح والمسيحيين بنبرة سلبية وعنصرية للغاية.

وقد تَحدَّد موقف الكنيسة من اليهود في مفهوم الشعب الشاهد، وهو أن اليهود هم الشعب الذي أنكر المسيح الذي أرسل إليهم، وهم لهذا قد تشتتوا عقاباً لهم على ما اقترفوه من ذنوب. ولكن رفض اليهود للمسيح سر من الأسرار. فاليهود في ضعفهم وذلتهم وتشرُّدهم يقفون شاهداً على عظمة الكنيسة، أي أن اليهود بعنادهم تحولوا إلى أداة لنشر المسيحية.

ومن ثم، يمكننا أن نقول إن العلاقة بين اليهودية والمسيحية علاقة عدائية متوترة إلى أقصى حد، ولكن مصطلح «التراث اليهودي المسيحي» يزداد مع هذا شيوعاً، وخصوصاً في الأوساط البروتستانتية واليهودية الإصلاحية وأحياناً المحافظة، أما اليهود الأرثوذكس فيرفضونه. وقد يكون قبول المصطلح من هذه الفرق تعبيراً عن عودة الحلولية داخل هذه الأنساق الدينية. ويمكن العودة إلى مداخل «القبَّالاه» حيث نبيِّن أنه بهيمنة القبَّالاه على اليهودية استولى عليها نسق حلولي كموني، عبَّر عن نفسه في بداية الأمر في هيئة انفجارات مشيحانية (شبتاي تسفي) وفلسفات علمانية حلولية (إسبينوزا) ثم فلسفات حلولية ربوبية (موسى مندلسون) وأخيراً على هيئة «اليهودية الإصلاحية» و«اليهودية المحافظة» و«اليهودية التجديدية» (انظر أيضاً: «الحلولية والتوحيد والعلمنة: حالة اليهودية [أطروحة ماكس فيبر وبيتر برجر]»). وبإمكان القارئ أن يعود إلى مدخل «البروتستانتية (القرن السادس عشر والسابع عشر)» ومدخل «عصر النهضة (القرن السادس عشر والسابع عشر)» حيث نبيِّن تصاعد الحلولية داخل النسق الديني المسيحي. فبدلاً من المفهوم الكاثوليكي للحلول (حلول مؤقت في شخص واحد ومنته ترثه الكنيسة كمؤسسة) تظهر فكرة الحلول البروتستانتية حيث ينتقل الحلول من مؤسسة الكنيسة إلى الشعب أو الفرد أو الجميع وهو حلول دائم، وهو في تصوُّرنا شكل من أشكال تهويد المسيحية. وفي الواقع فإن تزايد قبول المصطلح يعبِّر أيضاً عن تزايد علمنة الدين في الغرب (وثمة ترابط بين تزايد معدلات الحلولية ومعدلات العلمنة) بحيث يمكن الوصول إلى صيغ توفيقية تُفقد العقائد كثيراً من أبعادها وخصوصيتها، وهذا هو جوهر التسامح العلماني: أن يتخلى الجميع عن هويتهم ويلتقوا على مستوى علماني ويتوحدوا في هوية علمانية واحدة. وقد وصف أحد الباحثين التراث اليهودي المسيحي بأنه تعبير جديد عن الاتجاهات الربوبية في المجتمع الغربي التي تؤكد العناصر الأخلاقية المشتركة بين البشر وبعض افتراضاتهم الأخلاقية دون الإيمان بإله شخصي يرسل بالوحي (مع إسقاط أهمية الشعائر بسبب خصوصيتها). ولعـل عملية العلمنة هذه هي نفسها ما يُطلَق عليه «عملية التهويد» (وقد استخدم ماركس كلمة «تهويد» بهذا المعنى حين تَحدَّث عن انتشار الرأسمالية في المجتمع باعتباره عملية «تهويد»، فجعل كلمة «اليهـودية» مرادفة لكلمة «الرأسمالية«).

وفي الوقت الحاضر تختلف المواقف المسيحية من الصهيونية وإسرائيل وتتباين، وإن كانت كلها تميل الآن نحو قبول الدولة الصهيونية والاعتراف بها. وتوجد نزعة صهيونية /معادية لليهود تسري في عقائد بعض الكنائس البروتستانتية المتطرفة (انظر: «شهود يهوه» ـ «المورمون» ـ «فرسان الهيكل»). وحتى عـام 1964 كانت الكنيسة الكاثوليكية تؤكد أن اليهـود هم المسـئولون عن دم عيسى. وكانت المؤسسة الصهيونية بدورها تتهم الفاتيكان بأنه وقف متفرجاً على مذابح اليهود وإبادتهم على أيدي هتلر. وبالتدريج اختلف موقف الفاتيكان حتى اعتـرفت بالدولة الصهـيونية في ديســمبر 1994، ومع هذا يؤكد المتحدثون باسم الفاتيكان بأن الاعتراف بالدولة الصهيونية لا علاقة له بالعقائد المسيحية.

  • الثلاثاء AM 07:33
    2021-04-27
  • 1202
Powered by: GateGold