المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 416147
يتصفح الموقع حاليا : 285

البحث

البحث

عرض المادة

مدى التزام الطبري بمنهجه

" آخر تفسير سورة فاتحة الكتاب "

مدى التزام الطبري بمنهجه :

      هذا هو تفسير الطبري للآية الأخيرة من سورة الفاتحة ، وذكرنا من قبل بعض ما جاء في المقدمة عن المنهج الذي ارتضاه لتفسيره ، وخلاصة هذا المنهج هو ما يأتى :

      أولاً : الاستيعاب لكل ما بالناس إليه الحاجة بحيث يكون كتابه في التفسير جامعاً يكفى عن سائر الكتب غيره .

      ثانياً : نقل ما اتفق عليه المفسرون ، وما اختلفوا فيه ، وبيان علل كل مذهب من مذاهبهم ، وتوضيح ما صح لديه من ذلك .

      ثالثاً : ذكر الطبري أن تأويل جميع القرآن على أوجه ثلاثة :

      أحدها : لا سبيل إلى الوصول إليه .

      الوجه الثاني : لا يعلم إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم  .

      الثالث : ما كان علمه عند أهل اللسان .

      والوجه الأول يدخل في نهى الطبري عن القول في تأويل القرآن بالرأى .

      والوجه الثاني يعتمد فيه على صحة النقل .

      والوجه الثالث : يعتمد فيه على الشواهد من أشعار العرب السائرة ، ومنطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة ، ويضع الطبري هنا قيداً له أهميته وهو ألا يخرج التأويل عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة ، والخلف من التابعين وعلماء الأمة.

      هذا هو المنهج الذي رأى الطبري الأخذ به لتأليف كتابه في التفسير ، فإلى أي مدى التزم بهذا المنهج ؟

      إذا نظرنا لتفسيره لختام فاتحة الكتاب نراه قسم الآية الكريمة ثلاثة أجزاء ، وفى كل جزء يسترشد بكتاب الله تعالى لتوضيح المعنى ، فالقرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً ، ثم يسهب في ذكر الأخبار المسندة التي تؤيد هذا المعنى ، وهذه سمة غالبة في تفسيره كله . ومن الإشارة إلى تخريج الأخبار وجدنا منها الصحيح وغير الصحيح . والطبرى عند اختلاف أهل التأويل نراه غالباً يختار ويرجح ، ويصحح ويضعف :  مثال هذا ما نقلته من تفسيره في الباب الأول عند الحديث عن الغدير ، فتعقيباً على الروايات التي ذكرت في تفسيره لقوله تعالى  ]     الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا     [  قال الطبري : " وأولى الأقوال في وقت نزول الآية القول الذي روى عن عمر بن الخطاب : أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة ، لصحة سنده ، ووهى أسانيد غيره " ([1][87]) .

      ونذكر مثلا آخر يبين هذا المنهج ؛ ونراه عند تفسيره لقوله   تعـــالى : ]   وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ   [ ([2][88]) .

    حيث فسر الآية الكريمة ، وقال : " وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل" .

    ثم قال : " ثم اختلفوا في مدة الحين الذي ذكره الله في هذا الموضع :  ما هي ؟ وما نهايتها ؟ " .

      وذكر الأقوال المختلفة ، ثم عقب بقوله :

      " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أعلم المشركين المكذبين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين من غير حد منه لذلك الحين بحد ، وقد علم نبأه من أحيائهم الذين عاشوا إلى ظهور حقيقته ، ووضوح صحته في الدنيا ، ومنهم من علم حقيقته ذلك بهلاكه ببدر ، وقبل ذلك ، ولا حد عند العرب للحين ، لا يجاوز ولا يقصر عنه .

      فإذ  كان ذلك كذلك فلا قول فيه أصح من أن يطلق كما أطلقه الله من غير حصر ذلك على وقت دون وقت .

      وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل " .

      وأيد ما ذهب إليه بخبر عن عكرمة .

      ومع هذا نرى الطبري أحيانا يأخذ بأخبار غير صحيحة ، ونرى هذا مثلا عند تفسير قوله تعالى : ] وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ  [ ([3][89]) ، ولهذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره للآية الكريمة : " ذكر ابن أبى حاتم وابن جرير ههنا آثارا . عن بعض السلف ـ رضي الله عنهم ـ أحببنا أن نضرب عنها صفحا لعدم صحتها ، فلا نوردها " ([4][90]) .

      وأخذ الطبري بمثل هذه الأخبار لا يمثل  المنهج الذي ارتضاه لنفسه ، وإنما يشير إلى الخطأ عند التطبيق .

      ولقد حاول الطبري أن يلتزم بمنهجه ، ومما يبين حرصه على الالتزام بالمنهج ما ذكره عند القول في تأويل قوله تعالى : ]  وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ     [    " 35 : البقرة " ، حيث قال :

      " اختلف أهل التأويل في عين الشجرة التي نهى عن أكل ثمرها آدم ، فقال بعضهم : هي السنبلة . ذكر من قال ذلك " ([5][91]) .

      وذكر الطبري اثنى عشر خبرا ، ثم قال :

      " وقال آخرون : هي الكرمة . ذكر من قال ذلك " .

      وذكر عشرة أخبار ، وقال :

      " وقال آخرون هي التينة . ذكر من قال ذلك " .

      وذكر خبرا واحدا ، ثم عقب بقوله :

      " والقول في ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر عباده أن آدم وزوجه أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عن الأكل منها ، فأتيا الخطيئة التي نهاهما عن إتيانها بأكلهما ما أكلا منها ، بعد أن بين الله جل ثناؤه لهما عين الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها ، وأشار لهما إليها بقوله :] وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ [ ، ولم يضع الله جل ثناؤه لعباده المخاطبين بالقرآن ، دلالةً على أي أشجار الجنة كان نهيه آدم أن يقربها ، بنص عليها باسمها ، ولا بدلالة عليها . ولو كان لله في العلم بأى ذلك من أي رضا ، لم يخل عباده من نصب دلالة لهم عليها يصلون بها إلى معرفة عينها ،  ليطيعوه بعلمهم بها ، كما فعل ذلك في كل ما بالعلم به له رضا .

      فالصواب في ذلك أن يقال : إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها ، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه ، فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به ولا علم عندنا بأى شجرة كانت على التعيين ، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ، ولا في السنة الصحيحة . فأنى يأتى ذلك ؟ وقد قيل : كانت شجرة البر ، وقيل : كانت شجرة العنب وقيل : كانت شجرة التين ، وجائز أن تكون واحدة منها ، وذلك علم ،  إذا علم لم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به " ا . هـ .

      هذا كلام الطبري وهو يؤكد ما ذكره في منهجه .

      وهذا يتصل بوجهين  من أوجه التأويل الثلاثة التي ذكرها ، وهما :

الوجه الأول : الذي لا سبيل إلى الوصول إليه .

      والثاني : الذي لا يعلم إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم .

      أما الوجه الثالث ، وهو ما كان علمه عند أهل اللسان ، فيتضح في تفسيره السابق للآية الأخيرة من فاتحة الكتاب عندما تحدث عما يتصل بمحذوف وهو تمام الخبر عن النعمة التي أنعمها عليهم ، حيث أشار إلى اجتزاء العرب في منطقها ببعض من بعض ، واستدل ببيتين ، ثم قال :

والشواهد على ذلك  من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى .

      ويتضح أيضاً في بيانه لقراءة " غير " ، وذكره للخلاف بين أهل البصرة وبعض نحويى الكوفة في القول بإلغاء " لا " .

      ومما يسترعى الانتباه أنه بعد أن ذكر جواز نصب كلمة " غير "  ، رفض القراءة بالنصب قائلا :

      " وإن كنت للقراءة بها كارها لشذوذها عن قراءة القراء . وإن ما شذ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلا ظاهرا مستفيضا ، فرأى للحق مخالف ، وعن سبيل الله وسبيل رسوله صلى الله عليه وسلم متجانف . وإن كان له ـ لو كان جائزا القراءة به ـ في الصواب مخرج  ´

      وقول الطبري يؤيد التزامه بالقيد الذي ذكره في هذا الوجه الثالث ، حيث اشترط لقبول التأويل ألا يخرج عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة ، والخلف من التابعين وعلماء الأمة .

      ويؤيد هذا أيضا قوله في تأويل قول الله] صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [  ([6][92]) .

      حيث قال : قوله تعالى :  ]  صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ   [  يأتيه الرفع من وجهين ، والنصب من وجهين .  

     وبعد أن بين الأوجه الأربعة قال : " والقراءة التي هي القراءة ، الرفع دون النصب ، لأنه ليس لأحد خلاف رسوم مصاحف المسلمين . وإذا قرئ نصبا كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم " ([7][93]) .

      ونرى الطبري قبيل الانتهاء من تفسير آخر الفاتحة يرد على القدرية ، ثم نراه بعد هذا يقول : " مسألة يسأل عنها أهل الإلحاد الطاعنون في القرآن "  ، ويذكر المسألة ، ويرد على هؤلاء الطاعنين .

      ويختم الطبري تفسير فاتحة الكتاب بذكر بعض الأخبار في فضلها . وهى أخبار صحيحة الإسناد .

      ولعل هذا يرينا ما أراده من أن يكون تفسيره مستوعبا لكل ما بالناس إليه الحاجة ، جامعا يكفى عن سائر الكتب غيره . ويبين ما نقلناه من قبل في فضل هذا الكتاب القيم ، وقيمته العلمية .

 

  ([1][87])  انظر تفسير الطبري للآية الثالثة من سورة المائدة في كتابه بتحقيق شاكر 9/517ـ531، وراجع ما كتبته عن الغدير في الفصل الثاني من الباب الأول ، وعبارة الطبري تجدها في ص 104 .

  ([2][88])  الآية 88 من سورة ص ، وراجع تفسيرها في كتابه 23 / 188 ـ 189 وانظر أيضاً تفسير قوله تعالى :  ] وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ … [  " 51 : سبأ " فقد ذكر الأخبار المختلفة ، ثم رجح الصحيح منها ـ انظر 22 / 106 ـ 109 .

  ([3][89])  37 : الأحزاب .

  ([4][90])  تفسير ابن كثير 3 / 491 .

  ([5][91])  تفسير الطبري بتحقيق شاكر 1 / 516 ، وانظره إلى ص 521 .

  ([6][92])  18 : سورة البقرة .

  ([7][93])  تفسير الطبري بتحقيق شاكر 1 / 330 .

  • الاثنين AM 01:16
    2021-04-26
  • 836
Powered by: GateGold