المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415570
يتصفح الموقع حاليا : 320

البحث

البحث

عرض المادة

القــبَّالاه المســيحية

القــبَّالاه المســيحية

Christian Kabbalah

مُصطلَح «قبَّالاه مسيحية» مُصطلَح يشير إلى مجموعة الكتابات التي وضعها مؤلفون مسيحيون تبنَّوا المنظومة المعرفية القبَّالية. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن القبَّالاه المسيحية ثمرة احتكاك الفكر الديني المسيحي بالفكر الديني اليهودي الذي سيطرت عليه القبَّالاه، وأن الفكر الديني اليهودي « أثَّر» في المسيحية. ولا شك في أن مثل هذا الاحتكاك كان له أكبر الأثر في شيوع الفكر القبَّالي بين المسيحيين. ولكننا، في الواقع، نميل إلى الأخذ بنموذج توليدي في التفسير، ونذهب إلى أن ثمة طبقة غنوصية حلولية كامنة في كل المجتمعات، وخصوصاً بين الطبقات الشعبية التي تجد أن من العسير عليها أن تتجرَّد من الواقع المباشر لتدرك العالم من خلال فكرة الإله الواحد المنزَّه عن المادة التي تُخلَق من العدم، فالكثرة المادية أمر تدركه حواس الإنسان بصورة أكثر يسراً من إدراك فكرة الإله الواحد المتجاوز، والكل أكثر صعوبة في إدراكه من الجزء إذ يتطلب تجرُّداً من الذات وتجاوزاً لها. وهذه الطبقة الغنوصية تولِّد أنساقاً دينية مختلفة، والنسق القبَّالي لا يعدو كونه أحد هذه الأنساق. ويُلاحَظ، على سبيل المثال، أن الفكر القبَّالي اليهودي قد ازدهر في مقاطعة بروفانس في الوقت الذي ازدهر فيه الفكر الغنوصي بين المسيحيين (الهرطقة الألبيجينية). وقد ازدهرت القبَّالاه اليهودية في شبه جزيرة أيبريا مع بداية ازدهار التصوُّف الحلولي المسيحي. كما أن كتاب الزوهار قد بدأ انتشاره مع ازدهار المتصوف الألماني المعلم مايستر إيكهارت Meister Eckhart (1260 ـ 1329). فالتربة التي ساعدت على ازدهار القبَّالاه الغنوصية بين اليهود هي نفسها التي ساعدت على ازدهار أنماط غنوصية في التفكير بين بقية أعضاء المجتمع، خصوصاً في الطبقات الشعبية. كما تنبغي الإشارة إلى أن الفكر الديني المسيحي نفسه دخلته عناصر غنوصية تبناها من الفكر الهيليني أو من العهد القديم. كما أن التأملات الثيو صوفية المسيحية مسألة تسبق ظهور القبَّالاه بزمن طويل. وقد كان الفكر الأفلوطيني (بكل منظومته الأسطورية) أمراً راسخاً هو الآخر في العقل المسيحي الرسمي والشعبي. ولعل أهم العوامل التي خلقت لدى الغرب المسيحي استعداداً كامناً قوياً لتَقبُّل القبَّالاه اليهودية هو اتجاهه نحو تبنِّي رؤية حلولية كمونية تجسدية للكون (مع نهاية العصور الوسطى)، ويتضح هذا في هيمنة الرؤية الهرمسية وشيوع فكرة اللاهوت القديم، أي أن كل الأديان تعود إلى أصل واحد، وتزايد ظهور الرؤية المعرفية الإمبريالية حيث يصبح هدف الوجود الإنساني السيطرة على الكون لا التوازن معه.

 

ويمكن القول بأن القبَّالاه المسيحية تعود إلى القرن الخامس عشر، وكانت تهدف إلى تحقيق عدة أغراض: محاولة تنصير اليهود عن طريق التوفيق بين أفكار القبَّالاه اليهودية والعقائد المسيحية، وإظهار أن المعنى الحقيقي للرموز القبَّالية يشير إلى اتجاه مسيحي. وهذه المحاولة لم تكن تبشيرية متعسِّفة كما قد يبدو لأول وهلة، فكثير من رموز القبَّالاه نشأت في تربة مسـيحية (إسـبانيا الكاثوليكية) وهي عبارة عن تشويه لهذه الرموز. كما أن الفكر القبَّالي فكر تجسيدي يجعله يقترب إلى حدٍّ ما من الفكر المسيحي. وبطبيعة الحال، فإن هناك الطبقة الغنوصية الكامنة في كلٍّ من النسق الديني اليهودي والنسق الديني المسيحي، تلك الغنوصية التي تزدحم بها صفحات العهد القديم؛ الكتاب المقدَّس عند المسيحيين واليهود جميعاً. وإلى جانب هذا، كانت هناك الرغبة في اكتشاف الصيغة السحرية التي يمكن التحكم من خلالها في الكون والتي عبرت عن نفسها في انتشار الرؤية الهرمسية واكتساحها كثيراً من المفكرين الغربيين. كانت هناك رغبة وثنية عميقة سادت أوربا مع بدايات عصر النهضة غايتها التوصل إلى كل الحقيقة من خلال دراسة نصٍّ ما، وقد كان ظهور القبَّالاه مناسباً لهذا الغرض. ومع تزايد معدلات العلمنة وتصاعد الرؤية المعرفية الإمبريالية، ازداد الاهتمام بالقبَّالاه باعتبارها مفتاحاً للعلم (كل العلم) والعالم (كل العالم) وهي الرغبة التي تحولت إلى المشروع العلمي الحديث الذي يتصور أن بوسع الإنسان الإحاطة بقوانين الحركة في الطبيعة والتحكم الكامل فيها عن طريق هذه المعرفة.

 

هذا هو الأساس التوليدي لتغلغل القبَّالاه، فهو استعداد كامن في الحضارة الغربية نفسها، كان قد بدأ يتحقق من خلال عدة عناصر داخلية. ولم يكن شيوع نصوص القبَّالاه اليهودية سوى عنصر مساعد ساهم في الإسراع بالعملية وساعد على بلورتها.

 

ويبدو أن عدداً كبيراً من اليهود الذين تنصروا قد ساهموا بشكل فعال في نقل الأفكار القبَّالية، ثم انضم إليهم العديد من يهود المارانو. ومن أهم مراكز الفكر القبَّالي المسيحي الأكاديميات الأفلاطونية التي شيدها آل مدتشي في فلورنسا والتي اكتشف علماؤها القبَّالاه اليهودية والنصوص الهرمسـية ورأوا أنها تحتوي على كشف إلهي للجنس البشري فُقد بعض الوقت وتم استرجاعه. وقد ذهبوا إلى أن العالم بوسعه فهم فلسفة فيثاغورس وأفلاطون بل العقيدة الكاثوليكية نفسها من خلال النصوص القبَّالية. ومن أهم الشخصيات التي ساهمت في نقل القبَّالاه إلى العالم المسيحي، اليهودي المتنصر فلافيوس مثراديتيس Flavius Mithradites (ويُقال إنه هو نفسه صمويل نسيم أبو الفرج الذي كان يعيش في صقلية في القرن الخامس عشر) والذي ترجم مقطوعات طويلة من القبَّالاه إلى اللاتينية لتلميذه العالم الفلورنسي بيكو ديلا ميراندولا Pico della Mirandola (1463 ـ 1494) الذي قام بصياغة 900 أطروحة طرحها للمناظرة العامة، كان من بينها 47 أطروحة مستقاة بشـكل مباشـر من القبَّالاه و72 أطروحة اسـتخلصها هو من قراءته للقبَّالاه. بل إنه ذهب إلى أن العلم القبَّالي (والسحر) أفضل السبل لإقناع الإنسان بألوهية المسيح. وتُعَدُّ هذه اللحظة النقطة التي وُلدت فيها القبَّالاه المسيحية كمنظومة تتحدى المنظومة المسيحية الأرثوذكسية أو تقوضها من الداخل (وهو الأمر الأكثر شيوعاً). وقد بيَّن بيكو أنه يمكن التدليل على صدق عقيدة التثليث والتجسد على أساس ما ورد في القبَّالاه.

 

ومن أهم تلاميذ بيكو ديلا ميراندولا، العَالم الألماني يوحانيس ريوشلين Johannes Reuchlin (1455 ـ 1522) الذي درس القبَّالاه بعمق ونشر كتابين باللاتينية عن الموضوع: الكلمة صادقة المعجزات (1494) أول كتاب باللاتينية في القبَّالاه، و في علم القبَّالاه (1517). وقد ربط ريوشلين بين مفهوم التجسد المسيحي وفكرة أسماء الإله المقدَّسة.

 

وقد اكتشف المسيحيون كلاًّ من القبَّالاه النظرية التأملية والقبَّالاه العملية (السحر). وتُعدُّ أعمال هنري كورنيليوس أجريبا النتيشيمي Henri Cornelius Agrippa von Nettesheim (1486ـ 1535) من أهم الأعمال التي تناولت القبَّالاه العملية. واستمر الاهتمام بالقبَّالاه في الأوساط المسيحية، فكتب الكاردينال إديجيو دا فيتربو Edigio da Viterbo (1465ـ 1532) عدة دراسات متأثرة بالزوهار، وألَّف الراهب الفرنسي فرانسيسكو جيورجيو البندقي Francesco Giorgio of Venice (1460 ـ 1540) كتابين ضخمين تشكل القبَّالاه فيهما الموضوع الأساسي. وقد كان جيورجيو أول كاتب مسيحي يقتبس من كتاب الزوهار باستفاضة. وتُبيِّن كتابات المتصوِّف الفرنسي جويوم بوستل Guillaume Postel (1510 ـ 1581) مدى اهتمامه بالقبَّالاه، فقد ترجم الزوهار وسفر يتسيراه إلى اللاتينية (حتى قبل أن يُطبعا بلغتهما الأصلية) وكتب لهما تفسيراً مستفيضاً. وقد نشر عام 1548 تعليقاً قبَّالياً عن المعنى الصوفي لشمعدان المينوراه. وقد ازداد الحماس المسيحي للقبَّالاه، حتى أن بعض المفكرين بدأوا في جمع النصوص القبَّالية التي كانت لا تزال مخطوطة. ومن بين هؤلاء يوهان ألبرخت ويدمانستتر Johanne Albrecht Widmanstetter (1506-1557) وقد ظلت مراكز دراسات القبَّالاه على يد المسيحيين في إيطاليا وفرنسا طوال القرن السادس عشر، ولكنها انتقلت إلى ألمانيا وإنجلترا في القرن السابع عشر.

 

وقد تبنَّى المتصوِّف الألماني جيكوب بومه Jacob Boehme (1545 ـ 1624) نسقاً قبَّالياً غنوصياً. ويتحدث بومه عن «أون جروند Ungrund» وهي الهوَّة (حرفياً: «اللا أرض»)، وهي أيضاً الإرادة الأولى أو العدم الأزلي، وكلها عبارات تذكرنا بالإيين والإرادة الإلهية الأولى في القبَّالاه. وقد شبه بومه اللا أرض هذه بالنار الخفيَّة التي توجد ولا توجد (وهي عبارة وردت في الزوهار). ويتضح النسق القبَّالي وبحدة في الثنائيات الصلبة التي تسم نسق بومه. كما أن مفهوم بومه الخاص بالسقوط باعتباره خللاً أو عدم اتزان بين عناصر الكون الأربعة يشبه تماماً فكرة الخلل الكوني في القبَّالاه (وعند هذه النقطة يصبح من العسير التحدث عن القبَّالاه مستقلةً عن النسق الغنوصي الذي يَصدُر عن فكرة أن السقوط ليس ناجماً عن الخطيئة وإنما عن خلل ما).

 

ومهما كان الأمر، فإن تبنِّي بومه لهذا النسق قد جعله من أهم القنوات التي تحولت من خلالها القبَّالاه إلى رافد أساسي في الفكر الديني المسيحي واليهودي. وقد بدأت الأفكار القبَّالية تتبدَّى في كتابات وأعمال بعض الفنانين مثل الفنان الألماني دورر Durer. وقد قام كريستيان نور فون روزينروث Christian Knorr Von Rosenrotth بنشر أجزاء ضخمة من الزوهار والقبَّالاه اللوريانية في كتابه كشف القبَّالاه (1684)، وقد حقق الكتاب ذيوعاً كبيراً بين أعضاء النخبة الثقافية في أوربا. أما العَالم اليسوعي أثاناسيوس كيرشر Athanasius Kirsher، فبيَّن التوازي بين مفهوم الآدم قدمون ومفهوم المسيح كإنسان أوَّل. وظهر اصطلاح «القبَّالاه المسيحية» لأول مرَّة في كتابات فرانسيسكوس ميركوريوس فان هلمونت Franciscus Mercurius Van Helmont، وهو عَالم دين هولندي يشكل حلقة وصل بين القبَّالاه وفلاســفة كمبردج الأفلاطونيين، وكذلك الذين تأثروا بالقبَّالاه مثل: رالف كدور Ralph Cudworth وتوماس فون Thomas Vaughn، وتوماس بيرنت Thomas Burnet.

 

ولكن هنري مور Henry More (1614 ـ 1697) هو أكثر فلاسفة كمبردج اهتماماً بالقبالاه وتأثراً بها. وقد تأثر مور بالفلسفة الفيثاغورسية وتقاليد اللاهوت القديم والأفلاطونية الحديثة (وحدة وجود روحية)، ولكنه تأثر أيضاً بالفلسفة الديكارتية (وحدة وجود مادية). وقد حسم هذا التناقض بأن جعل الحركة الآلية للمادة نتاج «روح الطبيعة»، أي الروح (الإلهية) التي تسري في المادة. وكانت القبَّالاه إحدى الآليات التي حسم بها هذا التناقض فكان يذهب إلى أن التقاليد القبَّالية (بتأكيدها على الجماتريا وغيرها من المفاهيم التي تنبع من رؤية واحدية كونية) تحوي داخلها المنظومة الديكارتية. وكان مور يرى أن القبَّالاه اليهودية أُعطيت لموسى حينما صعد إلى جبل سيناء. وأنها كانت تضم تلك الأسرار التي أتى بها فيثاغورس وأفلاطون من مصر ومن فارس. ولذا مزج مور بين تعليقاته القبَّالية وبين صوفية الأعداد الفيثاغورسية وتعاليم أفلاطون والأفلاطونية المحدثة. وهكذا تلتقي الحلولية الكمونية الروحية بالحلولية الكمونية المادية. وقد كتب مور كتاباً يُسمَّى الإشراقات القبَّالية وتظهر في كتاباته إشارات عديدة للقبَّالاه والصوفية المركبة.

 

وهناك كذلك إشارات للقبَّالاه في كتابات توماس ناش Thomas Nash وفرانسيس بيكون Francis Bacon، ففي كتابه أطلانطيس الجديدة (1627) ثمة وصف لجزيرة فيها مجتمع مثالي تضم جماعة يجتمعون في مجمع علمي يُسمَّى «بيت سليمان» ويتبعون تعاليم القبَّالاه. وهذا المجتمع يختلف تماماً عن الجامعات البريطانية في ذلك الوقت التي كانت لا تزال تُكرِّس جُلَّ وقتها للدراسات الإنسانية والفلسفية، على عكس مجمع أطلانطيس الذي كان يكرس وقته لمعرفة الأسباب والحركة الخفية للأشياء ويرمي إلى توسيع حدود الإمبراطورية الإنسانية حتى يؤثر في كل الأشياء الممكنة. وقد تبدى أثر القبَّالاه كذلك في منظومة الفيلسوف ليبنتس الحلولية. وقد يكون من المفيد أن نشير هنا إلى أن فلسفة إسبينوزا التي اكتسحت العالم الغربي بأسره هي فلسفة ذات أصول قبَّالية واضحة. ولعل إسبينوزا، الذي عَلمَن الخطاب القبَّالي والحلولي، هو أهم القنوات التي تدفَّق من خلالها الفكر الحلولي القبَّالي وخطابه على العقل الغربي.

 

ويُلاحَظ أنه منذ القرن الثامن عشر، بدأت تتضح للقبَّاليين المسيحيين العلاقة بين القبَّالاه والسحر ورموز علم الكيمياء في العصور الوسطى Alchemy والتي تتبدَّى في كتابات الدبلوماسي الفرنسي بليز دي فيجينير Blaise de Vigenere (1523 ـ 1596). ويصل هذا التيار إلى قمته في كتابات المتصوِّف الألماني فريدريك أتنجر (1702 ـ 1782) الذي تركت أعماله أثراً عميقاً في كتابات كثير من الفلاسفة الألمان مثل شلنج وهيجل.

 

وقد ذهب أوتينجر إلى القبَّالي اليهودي كويل هيخت المقيم في جيتو فرانكفورت طالباً منه المزيد من المعرفة عن القبَّالاه، فأجابه الأخير بأن ما كتبه المسيحيون عن القبَّالاه أوضح بكثير مما جاء في كتاب الزوهار، وكان على حق في هذا، فالقبَّالاه المسيحية كانت من الذيوع والوضوح بحيث أن كثيراً من المتصوفين اليهود الذين كانوا يريدون تعميق معرفتهم بالقبَّالاه كانوا يقرأون كتب القبَّالاه المسيحية بل كتب القبَّالاه اليهودية التي نشرها المسيحيون!

 

ويتضح هذا الاختلاط بين القبَّالاه والسحر في رموز الماسونيين الأحرار في منتصف القرن الثامن عشر. وقد ظهرت بعد ذلك أعمال مارتين دي باسكوالي Martin de Pasqually (1722 ـ 1774) التي تركت أثراً عميقاً في تلميذه الفرنسي لوي كلود دي سان مارتين Louis Claude de St. Martin، وهو من أهم المتصوفين الفرنسيين قبيل الثورة الفرنسية. وقد حامت الشكوك حول انتماء باسكوالي إلى يهود المارانو (وهي شكوك أيدتها البحوث الحديثة). ومن أهم الأعمال القبَّالية المسيحية، كتابات فرانز جوزيف موليتور Franz Josef Molitor الألماني (1779 ـ 1861).

 

وقد أصبحت القبَّالاه جزءاً لا يتجزأ من رؤية كثير من المثقفين الغربيين، أو النموذج أو الصورة المجازية الكامنة في فكرهم، حتى أنه لا يمكن الحديث عن أصولها اليهودية. فالمفكر الديني السويدي عمانويل سويدنبورج Swedenborg الذي أثَّر في ويليام بليك William Blake، الذي تشبع بالمنظومة القبَّالية حتى أصبحت منظومته الفكرية قبَّالية غنوصية دون أن يطلع على أية مصادر يهودية.

 

ويتبدَّى أثر قبَّالاة الزوهار على مدام بلافاتسكي Blavatsky وهي من أشهر المشتغلات بالتأملات الثيو صوفية في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر (وكانت من جماعة الدوخوبور الروسية التي تركت أثراً عميقاً في مؤسسي اليهودية الحسيدية). وقد تركت القبَّالاه أثراً عميقاً في سترندنبرج الذي كتب في مفكرته السرية ما يلي: "فتحت الكتاب فوجدت القبَّالاه... وكنت أفكر أن يهوه إن هو إلا أيون سفلى". وقد طوَّر الشاعر الأيرلندي و. ب. ييتس W. B. Yeats نسقاً قبَّالياً غنوصياً. وكان كارل يونج، معجباً أيما إعجاب بالقبَّالاه وبخاصة فكرة تهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) وكيف يشارك الإنسان في إصلاحها (تيقون) "فلأول مرة تنبثق فكرة أنه يجب على الإنسان أن يساعد الإله في رأب الصدع الحادث من عملية الخليقة".

 

وبإمكان الدارس أن يجد آثاراً عميقة كامنة للقبَّالاه في أدب فرانز كافكا وبورخيس، بل في مؤلفات الكاتب الألماني الماركسي وولتر بنجامين. ويُقال إن أشعار الشاعر الإنجليزي ناثانيل تارن Nathaniel Tarn وروايات الروائي الأسترالي باتريك وايت Patrick White، وخصوصاً روايته راكبو العربة (1961)، تُبيِّن الأثر العميق للقبَّالاه. ويتبدَّى أثر القبَّالاه بشكل واضح وصريح في كتابات الناقد الأمريكي المعاصر هارولد بلوم والفيلسوف الفرنسي ذي الأصل السفاردي جاك دريدا اللذين يؤسسان نقدهما الأدبي على أُسس غنوصية عدمية.

 

والواقع أن ذيوع القبَّالاه في الحضارة الغربية ليس مجرد تعبير عن تهويد المسيحية أو الحضارة الغربية، وإنما هي في واقع الأمر تعبير عن عنصر أكثر عمقاً وبنيوية، وهو شيوع التفكير الحلولي الكموني الذي يدور في إطار مادي تجسدي، بحيث يصبح اللوجوس كامناً في المادة لا متجاوزاً لها، ويصبح الإله متوحِّداً مع الطبيعة والتاريخ لا منزَّهاً عنهما. وهو توُّحد يتم تدريجياً إلى أن يتحقق تماماً في مرحلة وحدة الوجود التي يشحب فيها الإله ثم يموت ليبقى العالم المادي وحده واللوجوس (أو القوانين الطبيعية) الكامنة فيه. وهذا هو الإطار الذي حقَّق فيه المفكرون اليهود بروزهم، وهو إطار لا هو بالمسيحي ولا هو باليهودي، إطار معاد للتوحيد ومعاد للإله المنزَّه ويتجه نحو المادية والتجسد، وهو إطار معرفي إمبريالي علماني.

  • السبت AM 11:32
    2021-04-24
  • 1094
Powered by: GateGold