المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415455
يتصفح الموقع حاليا : 222

البحث

البحث

عرض المادة

القــبَّالاه اللوريانيـة

القــبَّالاه اللوريانيـة
Lurianic Kabbalah
أهم تطور حدث في داخل تاريخ القبَّالاه هو ظهور القبَّالاه اللوريانية (نسبة إلى إسحق لوريا). ولكن لا يمكن إغفال موسى كوردوفيرو الذي ساهم في صياغة أفكارها الأساسية (وقد تأثر إسبينوزا فيما بعد بأفكاره). ويمكن القول بأن القبَّالاه اللوريانية لا تختلف في أساسياتها عن قبَّالاة الزوهار، إذ أن البنية الحلولية القبَّالية العامة كامنة في القبَّالاه اللوريانية كمونها في قبَّالاة الزوهار. ولكن، مع هذا، يمكن أن نلخص بعض الاختلافات الأساسية بينهما فيما يلي:


1 ـ قبَّالاة الزوهار تعنى بأسرار الخلق، أي ببداية الكون، بينما تعنى القبَّالاه اللوريانية أساساً بالخلاص وبالنهاية. وينبع اهتمام قبَّالاة الزوهار بأسرار الخلق من اهتمامها بالخلاص المشيحاني بالنهاية، ولذا فهي تتناول البدايات كي تفسر النهايات.

2 ـ أسطورة الخلق في القبَّالاه اللوريانية أكثر تعقيداً وتناقضاً منها في قبَّالاة الزوهار.

3 ـ والاختلاف الأسـاسي هـو أن القبَّالاه اللوريانية تربط البداية بالنهاية، كما ربطت الباطن بالتاريخ والتأمل بالنزعة المشيحانية.

4 ـ الصورة المجازية الأساسية في قبَّالاة الزوهار هي الجنس، ولكنها في القبَّالاه اللوريانية تتمثل في كل من الجنس والنفي.

وتبدأ أسطورة الخلق في قبَّالاة الزوهار بفيض الإله الخفي، ولكنها في القبَّالاه اللوريانية تبدأ بعملية «تسيم تسوم» التي يمكن أن تُترجَم حرفياً بكلمة «انكماش» أو «تركُّز». ولكن يُستحسن تأدية معناها بتعبير «انسحاب نتج عنه تركُّز». فالإله المتخفي (الإين سوف) ينكمش داخل نفسه ليخلق فراغاً روحياً كاملاً. ويمكن تفسير هذا الانسحاب بأنه شكل من أشكال النفي، كأن الإله ينفي نفسه بنفسه إلى داخل نفسه، بعـيداً عن وجوده الكلي. وقد نتج عن هذا الانسحاب ميلاد الشر، فالحكم الصارم (الحدود والقيود التي تُفرَض على الأشياء التي ستنبع منها الأوامر والنواهي والتشريعات) كان قبل الانكماش جزءاً من كل، قطرةً في المحيط، ولكنه بعد عملية الانسحاب يتبلور ويصبح هو المحور. ثم يرسل الإين سوف في الفراغ شعاعاً ودروباً من نوره الذاتي وهي التجليات النورانية العشرة (سفيروت)، وهي مرحلة الفيض الإلهي على الكون (وتُعرف في العبرية باسم «أتسيلوت») التي أدَّت إلى ظهور آدم قدمون (الإنسان الأصلي)، وهو غير آدم أبى البشر. ويُلاحَظ أن الإنسان الأصلي في قبَّالاة الزوهار هو رمز لبناء التجليات ككل. أما عند لوريا، فهو يظهر قبل التجليات، ثم تخرج أشعة النور الإلهي من عيون الإنسان الأصلي وأذنيه وأنفه وفمه. وهذا الضوء الخارجي الذي انبثق من الإنسان الأصلي، آخذاً شكل شرارات، كان من المفترض جمعه في أوعية (كليم) من ضوء تتخذ أشكالاً تتناسب مع عملها في مرحلة الخلق. ولكن هذه الأوعية تحطمت، حسب رؤية لوريا، أثناء ملئها. ويعود هذا إلى أن الضوء الإلهي كان أقوى من أن تتحمله الأوعية فتحطمت، الأمر الذي أدَّى إلى تشتت الشرارات الإلهية وتبعثرها. ويُشار إلى هذه الواقعة بمصطلح «حادثة تَهشُّم الأوعية» (شفيرات هكليم) وهي الأخرى حادثة نفي. وإذا كان الانكماش (تسيم تسوم) هو نفي من خلال الانسحاب، فإن النفي هنا يتم من خلال الانتشار والتشتت. وقد سادت الفوضى واختلط النور والظلام، والروحاني والمادي، وهكذا دخل الشر والظلام إلى العالم. وقد عاد كثير من الشرارات إلى مصدرها الأصلي، ولكن نحو 288 شرارة التصقت بشظايا الأوعية المهشمة، وأصبحت هذه الأجزاء هي القشرة الخارجية (قليبوت)، أي قوى الشر التي أحاطت بالشرارات الباقية وحبستها.

ومنذ ذلك الوقت الذي حدث فيه هذا التهشُّم، لم يَعُد في الكون أي شيء كامل متكامل. فالنور الإلهي الذي كان يجب أن يستمر في مكان مخصص له، أي في الأوعية التي صنعها الإله، لم يَعُد في مكانه الصحيح لأن الأوعية تحطمت. وتظهر الخطة الإلهية للخلاص من خلال صور تُسمَّى «برتسوفيم» (حرفياً: «الوجوه» أو «السيمياء»، أي «القسمات» أو «ملامح الوجه») وهي مقابلة للتجليات النورانية العشرة (سفيروت) في قبَّالاة الزوهار ولكنها تأخذ هنا شكلاً أكثر بشرية وعددها خمسة:

1 ـ أريخ أنبين (عبارة أرامية وتعني حرفياً: «ذو الأنف الطويل» أي «الصبور» أو «المتحمل» أو «الذي عانى كثيراً» باعتبار أن الأنف دليل على الصبر)، وهو يقابل التجلي النوراني الأول «الكيتر» أو «التاج» في قبَّالاة الزوهار.

2، 3 ـ أبا وأما (الأب والأم). وهما يقابلان التجليين الثاني والثالث. وهما النمط الأعلى لهذا الزواج المقدَّس الذي يُعَدُّ نمطاً لكل وحدة فكرية وجنسية فيما بعد (ولنلاحظ هنا الأثر العميق للعقيدة والرموز المسيحية ولتواتر الصورة المجازية الجنسية في النسق الحلولي). وهذا التزاوج يزداد عمقاً بصعود الـ 228 شرارة التي تساقطت مع الأوعية المهشمة، والتي بعودتها إلى رحم البيناه تصبح قوة تبعث الحيوية، ولذا تُسمَّى «المياه الأنثوية» (ماييم نقفين).

4 ـ زعير أنبين (عبارة أرامية وتعني حرفياً: «ذو الوجه القصير»، أي «الذي لا يطيق صبراً»، أو «نافد الصبر»). وهو عكس «أريخ أنبين» ويقابل التجليات الستة التي ترد بعد الثلاثة الأولى من الجبوراه حتى اليسود.

5 ـ نقيفاه دي زعير (عبارة أرامية وتعني حرفياً: «أنثى زعير» أي «أنثى نافد الصبر»). وهي تقابل التجلي العاشر أو الشخيناه.

وتتخذ الذات الإلهية من خلال هذه القوى الخمس شكلاً محدداً، وتؤدي وظيفة محددة. والتجلي الأساسي للإين سوف يحدث من خلال زعير أنبين الذي وُلد من خلال اتحاد الأب والأم، ثم يكبر ليتزوج من الشخيناه ليُولِّد اتحاداً ووئاماً بين العدل والرحمة في الذات الإلهية. وتُلاحَظ مرة أخرى أصداء العقيدة المسيحية.

وتمثل هذه القوى في الحقيقة العملية التي يلد الإله بها نفسه. وحسب رؤية لوريا، كانت عملية جمع الشرارات (أي ولادة الإله واكتماله) على وشك الاكتمال حين خلق الإله آدم (أبا البشر) ليساعده في الجهد المبذول لاستعادة النظام والكمال ولهزيمة القوى الشريرة الشيطانية. وكان من المفترض أن يقوم آدم بالخطوات الأخيرة، ولكن خطيئته ومعصيته للإله أوقفت العملية، ونجم عن ذلك انتشار فوضى في الأرض تُماثل الفوضى الناجمة عن تَهشُّم الأوعية في الأعالي. فآدم، حينما خلقه الإله، كان يحوي كل أرواح البشر التي كانت توجد في حالة التصاق بالإله، وبسقوطه انفصلت الأرواح عن جذورها وتبعثرت ودخلت الأجسام المادية، وجاء الموت والشر والعالم وانحرف كل شيء عن موضعه، وأصبحت كل المخلوقات في حالة شتات دائم (جالوت)، وهي حالة مستمرة تنسحب على الكون كله وعلى الخالق نفسه الذي تبعثرت شراراته وتناثرت مرة أخرى. وقد سقطت الشخيناه ضمن ما سقط من شرارات. وما دامت الشرارات الإلهية لم تُجمَع، فإن الإله سيظل مجزأ غير مكتمل وغير متوحِّد مع نفسه.

وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن إصلاح هذا الخلل ورأب هذا الصدع، لابد أن نؤكد فكرة التقابل القبَّالية، وهي تقابل كل الأشياء واللحظات نتيجة توحُّدها النهائي. فالعالم العلوي يشبه العالم السفلي، والإله يشبه مخلوقاته، وعملية الخلق والتبعثر هي مقلوب عملية الخلاص، وطريق النهاية هو طريق البداية. ويقابل عملية الفيض الإلهي عمليات كونية مماثلة تغمر أربعة عوالم مختلفة. والنفس البشرية تشبه الذات الإلهية، ومستوياتها تشبه التجليات المختلفة، ولحظة التشتت الإلهية تشبه لحظة التشتت الفردية، ونفي الشخيناه يشبه نفي الشعب (ويُلاحَظ أن فكرة التقابل تُسقط فكرة الزمان والتتالي والاختلاف تماماً، فهي فكرة هندسية دائرية تحوِّل الزمان إلى ما يشبه المكان والبدايات تشبه النهايات). كما أن إصلاح الخلل الكوني، وعودة كل شيء إلى مكانه، وإنهاء حالة النفي الكونية، وخلاص الإله بل لادته ووجوده من جديد، هي عملية يُطلَق عليها الإصلاح (تيقون)، وهي عملية تخليص الشرارت الإلهية المبعثرة من اللحاء أو المحارات (قليبوت). وهي عملية كونية تاريخية باطنية شاملة يشارك فيها الإنسان ولكنها تعتمد بالدرجة الأولى على جماعة يسرائيل، فاليهودي الذي يعرف التوراة ومعناها الباطني (وينفذ الأوامر والنواهي ويتلو الصلوات) بوسعه أن يسرع بعملية الإصلاح (تيقوُّن)، أي عملية ولادة الإله، كما أن بوسعه أيضاً أن يوقفها إذا هو أهمل تنفيذ الأوامر والنواهي وإقامة الصلوات. وهذا من الممكن إنجازه نظراً لتقابل العالم السفلي والعالم العلوي، والتأثير في العالم العلوي من خلال أفعال يقوم بها الإنسان (اليهودي) في العالم السفلي. لكن عملية الإصلاح تدريجية، وهي تُتوَّج بظهور الماشيَّح وبعودة جماعة يسرائيل من المنفى إلى فلسطين، ومن هناك فإنه سيحكم العالم، وستسود جماعة يسرائيل على العالمين، هذا هو الجانب التاريخي. وإذا كانت حالة النفي مرتبطة بالانكماش والحدود والفرائض والانسحاب، فإن حالة التيقون مرتبطة بالتحرر الكامل من الحدود، كما أنها مرتبطة بالترخيصية والإباحية الكاملة، وهذا هو ما كان يفعله المشحاء الدجالون، وهو الجانب النفسي أو الأخلاقي للإصلاح (تيقون). وسينتهي التيقون بأن يُجمِّع الإله ذاته ويتوحد مع نفسه بعد تجميع الشرارات المبعثرة كما أنه سوف يتوحد مع شعبه (وسوف نكتشف أن الشعب اليهودي هو في واقع الأمر الشرارات الإلهية المشتتة). ومعنى هذا أن اليهود هم جزء من الإله، فهم الإله أو على الأقل أحد تجلياته. وهم إلى جانب ذلك الأداة التي تسترد بها الذات الإلهية وحدتها، فهم بذلك الأداة والغاية. وهم أيضاً سبب النفي (بذنوبهم)، وهم وسيلة العودة (بصلاحهم وتقواهم)، فاليهودي هو مركز الكون وسيده. وهكذا نُلاحظ دائرية النسق القبَّالي الحلولي المغلق.

ويُلاحَظ هنا كيف ارتبط التأمل في المعنى الباطني للتوراة، وكذلك تلاوة الصلوات وأداء الفرائض (وكلها أمور فردية ذاتية باطنية)، بحدث كوني مثل ولادة الإله، وكيف تتوحد ذاته من خلال حدث تاريخي هو ظهور الماشيَّح وعودة جماعة يسرائيل. وقد انعكس كل هذا مرة أخرى على عالم الفرد والباطن، بالترخيصية وإبطال الحدود والشرائع في العصر المشيحاني، فيتداخل الكون والإله والإنسان والزمان وكل شيء.

ومما يجدر ذكره أن تجربة يهود إسبانيا (طردهم منها) تشكل الصور المجازية الأساسية في القبَّالاه اللوريانية، فالنفي والتبعثر والتشتت كانت حقائق أساسية في حياتهم، وكان الاهتمام بالباطن دون الظاهر سمة أساسية لتجربة المارانو. وقد تبدَّى فقدانهم السلطة، مع رغبتهم الحادة فيها، في فكرة مركزية اليهود في الكون واعتماد الإله عليهـم، وتوقعهـم وصول الماشيَّح الذي سيجعلهم أسياد الأرض. ومع هذا، تظل الصور المجازية الأساسية الخاصة بالأب والابن والأم والشخيناه صوراً مجازية مسيحية.

  • السبت AM 11:18
    2021-04-24
  • 1044
Powered by: GateGold