المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413779
يتصفح الموقع حاليا : 234

البحث

البحث

عرض المادة

الغنوصيـــــة والقــــبَّالاه

الغنوصيـــــة والقــــبَّالاه
Gnosticism and Kabbalah
القبَّالاه منظومة غنوصية سيطرت على اليهودية الحاخامية ابتداءً من القرن الرابع عشر. ومع هذا لا يمكن الحديث عن تعارض كامل بين اليهودية الحاخامية والغنوصية، وكما بيَّنا في موضع آخر (انظر: «الأصول اليهودية للغنوصية»)، ثمة بُعْد حلولي قوي في اليهودية، وثمة غنوصية يهودية قديمة يُقال إن تاريخها يعود إلى ما قبل غنوصية القرون الميلادية الأولى. وتوجد عناصر غنوصية في العهد القديم وكتب الرؤى (أبوكاليبس) وكتابات فيلون السكندري.


وقد أخذت المؤسسة الحاخامية موقفاً معادياً من الغنوصية، شأنها في هذا شأن كل الديانات التوحيدية. وجاء في التلمود: "إن وجَّه المرء عقله إلى هذه الأمور الأربعة كان خيراً له لو لم تلده أمه: ما هو أعلى، وما هو أسفل، وما كان قبل الخلق، وما سيحدث في نهاية الدنيا"، أي أن التلمود في هذا النص ينهى عن التفكير الغنوصي والقبَّالي والمشيحاني والأخروي. ولكن مثل هذه الفقرة تشكل في رأينا مجرد طبقة جيولوجية في التركيب الجيولوجي اليهودي ضمن طبقات أخرى أهمها الطبقة الحلولية.

وقد وردت إشارات في التلمود إلى أربع شخصيات مهمة في المؤسسة الحاخامية « دخلوا الجنة » (التعبير المستخدم للإشارة لمن يتبنَّى فكراً غنوصياً). وتذكر هذه الكتابات الفقهية ابن عزاي وابن زوما واليشا بن أبوياه وبن عقيبا، وقد هلكوا جميعهم إلا آخرهم الذي تمكَّن من العودة وسجل ما رأى، أي أنه عاد بالعرفان، وقد رأي فيما رأى عرشين إلهيين: أحدهما للإله والآخر للإنسان، وتُعَدُّ هذه أول إشارة للآدم قدمون (الإنسان الأول) التي أصبحت صورة أساسية في النصوص القبَّالية. والحاخام ابن عقيبا ظل شخصية مركزية في التراث الحاخامي رغم غنوصيته، الأمر الذي يعني تَقبُّل هذا التراث للفكر الغنوصي. وفي فترة الفقهاء (جاؤنيم)، ظهر النازلون بالمركبة (بالعبرية: يوردي همركفاه) الذين حاولوا الاتحاد بالإله. وثمة إشارات في سفر هميخالوت الذي نشره أدولف جلنيك (أشهر واعظ يهودي في فيينا في أواخرالقرن التاسع عشر) ذات طابع غنوصي واضح. وقد تبلورت كل هذه الإرهاصات في القبَّالاه، وخصوصاً القبَّالاه اللوريانية التي هي من أهم الأنساق الغنوصية وأكثرها حدة وتفجراً. ومن القبَّالاه اللوريانية انتشرت الغنوصية بين المفكرين اليهود المحدثين.

وقد ظهرت الغنوصية في القرنين الأول والثاني الميلاديين، بينما ظهرت القبَّالاه بعد ذلك بزمن طويل. ولا يملك الدارس إلا أن يُلاحظ التماثل البنيوي بين المنظومة الغنوصية والقبَّالاه، وأن البنية الغنوصية الأسـطورية العامـة تتحقق بشـكل مذهـل في القبَّالاه، وخصوصاً اللوريانية. وكل من الغنوصـية والقبَّالاه نسـق حلولي واحـدي عضوي مغلق، يلغي المسافة بين الإله والإنسان والطبيعة وبين الكل والجزء. وكل هذا يطرح قضية التأثير والتأثر. ومما لا شك فيه أن ثمة علاقة تأثير وتأثر بين الكتابات الغنوصية والقبَّالاه. فاليهودية تُعَد أهم روافد الغنوصية، كما أن كثيراً من أعضاء الحركات الغنوصية كانوا يهوداً. ولكننا، مع هذا، نفضل استخدام نموذج تفسيري توليدي لتفسير تشابه المنظومة الغنوصية والقبَّالاه ومن ثم يصبح عنصر التأثير والتأثر عنصراً واحداً ضمن عناصر عديدة، وهو ليس أهم العناصر.

وفي مجال تفسير التشابه من منظور توليدي يمكننا أن نقول إنهما يعودان إلى رغبة الإنسان الجنينية نفسها في الانسحاب من العالم إلى سكون الرحم وإلى الالتصاق بثدي الأم، وهي رغبة كونية كامنة في عقل الإنسان، وإغراء دائم للإنسان بأن يرفض النضج والحدود والعالم والتدافـع ليظـل قابعاً في حالة البليروما الجنينية الرحمية المحيطية السائلة. ويمكننا الآن أن ندرج ما نتصوره نقط التماثل بين المنظومة الغنوصية والقبَّالاه:

1 ـ الغنوصية والقبَّالاه منظومتان واحديتان تتداخل فيهما الأسماء والشخصيات والمفاهيم. فالآدم قدمون هو العالم وهو التجليات العشرة النورانية (سفيروت) ومن ثم فهو الإله وهو أيضاً الإنسان. والشخيناه هي التعبير الأنثوي عن الإله، ولكنها في واقع الأمر كنيست يسرائيل، أي الشعب اليهودي.

2 ـ توجد نقط تشابه كبيرة بين الإله الخفي في المنظومة الغنوصية والإين سوف (الجوهر الإلهي اللانهائي والذي لا نظير له) في القبَّالاه:

أ) الإين سوف إله غير شخصي، علاقته بالعالم أنطولوجية، تماماً مثل علاقة الإله الخفي بالعالم في المنظومة الغنوصية، فهو إله لا يكترث بالعالم، ولكنه في الوقت نفسه سبب الوجود.

ب) الإين سوف نشيط دائماً ومفكر دائماً، ومن خلال عملية تفكيره في ذاته يفيض العالم عنه، تماماً كما يحدث في المنظومة الغنوصية.

جـ) تأخذ عملية الفيض شكل درجات تُسمَّى الأيونات في المنظومة الغنوصية والسفيروت أو التجليات النورانية العشرة في القبَّالاه.

د) يبلغ عدد كل من الأيونات والتجليات عشرة (وإن كان عدد الأيونات في بعض المنظومات الغنوصية يبلغ أربعة عشر بل بضع مئات).

هـ) تحمل كل من التجـليات النـورانية والأيونات أسـماء مجـردة للغاية، عادة لعمليات عقلية مثل الفكر والحكمة والجلال.

و) جماع التجليات النورانية يأخذ شكل إنسان، تماماً مثل الأيونات، هذا الإنسان هو العالم الأكبر (الماكروكوزم) والذي يشاكل العالم الأصغر، أي الإنسان الفرد (الميكروكوزم). وهذا التماثل الكامل بل التطابق بين العالمين تعبير عن البنية والعلاقات الهندسية وعن التماسك العضوي حيث يصبح كل شيء هو الشيء الآخر.

ز) فاضت كل من التجليات والأيونات من الخالق حتى يتم سد الهوة بين الإله الخفي والعالم (من أجل تحقيق عملية الخلاص). وعملية الفيض هذه لا تعني انفصال التجليات أو الأيونات عن الخالق (فهذا يخلق ثغرة وهو أمر مستحيل في المنظومات الحلولية الواحدية) وإنما هي عملية تمايز وحسب لجوانب مختلفة للمطلق. ولذا، بعد عملية الفيض والتمايز، تشكل الأيونات البليروما وتشكل التجليات هرم الملكوت الملكي.

3 ـ يمكننا هنا أن نتناول قضية مفردات الحلولية (الجنس - الجنين - الجسد... إلخ) التي تُستخدَم في كلٍّ من الغنوصية والقبَّالاه:

أ) يوجد دائماً أيون أنثوي أساسي في المنظومات الغنوصية هي صوفيا أما في القبَّالاه فهي الشخيناه.

ب) تحمل كل من الأيونات والتجليات أحياناً أسماء جنسية وطبيعية مباشرة فتُسـمَّى بأسـماء أعضاء الجسـم الإنساني (وخصوصاً الأعضاء التناسلية).

جـ) الأيونات مثل التجليات ثمرة الجماع الجنسي بين الإله الأب والأم وهو تزاوج يعني التلاحق الجسدي الكامل وسد الثغرات.

د ) تأخذ عملية الخلق شكل فيض وسلسلة لا تنقطع، وهي صورة مجازية في جوهرها جنسية.

هـ) يأخذ الإله أحياناً في كل من القبَّالاه وفي المنظومة الغنوصية شكل إله خنثى (ذكر وأنثى) وتأخذ عملية الخلق شكل انفصال بين العنصرين.

و) تأخذ عملية الخلاص شكل اقتراب تدريجي من الخالق إلى أن يتحقق التوحد الكامل، وهو توحُّد جنسي في بعض المنظومات. وتُستخدَم كلمة «يحود» لوصف هذا التوحد، وهي كلمة تعني «التوحد مع الخالق» وتعني أيضاً «الجماع الجنسي».

ز) يمكن أن نتخيل العالم الغنوصي على هيئة مخروط: مجموعة من الدوائر المتداخلة التي تَدق كلما تحركنا من القاعدة إلى القمة، وهي دوائر متداخلة ذات مركز واحد تختلف في الحجم ولا تختلف في البنية. وعضو التذكير هو قمة المخروط أما قاعدته فهي عضو التأنيث، فهو إذن الإله الذكر والأنثى. وهذا أيضاً هو شكل العالم في المفاهيم اليهودية وفي القبَّالاه، فالإين سوف هو رأس المخروط المدبب وهو عضو التذكير، والشخيناه قاعدته، وهي امتداد الإله في الدنيا، والشعب اليهودي بنت صهيون وهي أيضاً عضو التأنيث الذي ستفيض فيه الرحمة الإلهية لتوزع على العالمين.

4 ـ تحاول كل من المنظومة الغنوصية والقبَّالاه حل مشكلة الشر في العالم عن طريق قصص أسطورية جوهرها إسقاط البُعد الأخلاقي للقضية.

أ) فالشر في المنظومة الغنوصية ناجم عن خلل حدث في المنظومة نتيجة حب صوفيا العارم والمفرط للإله (ويأخذ شكل عشق ذاتها وصورتها، فهي من صلب الإله) الأمر الذي يؤدي إلى سقوطها أو سقوط بعض الشرارات النورانية الإلهية واختلاطها بقوى الظلام والمادة. وتُسمَّى هذه الحادثة في المنظومة القبَّالية حادثة تهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) وهي ناجمة عن حـب الشـخيناه العارم والمتطرف للإين سوف. وفي رواية أخرى، ينجم الخلل وتبعثر الشرارات عن أن النور الإلهي يثقل الأوعية فيهشمها، ويُقال إن ما يسبب حادثة التهشم والتبعثر هذه هو تطرُّف تجلِّي الحكمة على حساب تجلِّي العاطفة.

ب) ينجم الشر في إحدى المنظومات الغنوصية عن خديعة الإله الصانع (الأرضي) إذ يسرق الشرارة الإلهية ويحبسها في المادة أو يخلق إنساناً على هيئة الأنثروبوس ويضع فيه الشرارة. وفي المنظومة القبَّالية يُقال إن الشخيناه تلد الشر دون أن تدري، إذ يتقمص أحد الشياطين شكل الإين سوف ويعاشرها جنسياً فتلد الأغيار والشياطين الذين يحوِّلون العالم إلى مكان معاد لليهود.

جـ) وتطرح المنظومة الغنوصية فكرة صوفيا المزدوجة: واحدة سماوية والأخرى أرضية فتحارب صوفيا ضد الشر (وتلحق بعد ذلك بالسماوية)، وكذا في المنظومة القبَّالية توجد شخيناه سماوية وأخرى أرضية رهيبة ستنتقم من أعداء جماعة يسرائيل ثم تلتحق بقرينتها السماوية (وهذا تعبير آخر عن الثنائية الصلبة الوهمية).

5 ـ ثمة تشابه عميق بين مفهوم الخلاص والخير والشر والبعث في كل من المنظومة الغنوصية والقبَّالاه.

أ ) العالم فاسد والزمان رديء في المنظومة الغنوصية ولا جدوى من فعل الخير أو محاولة التسامي، والخلاص لا علاقة له بالأخلاق أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لهذا، لا يوجد بعث فردي ولا حساب وإنما التحام للروح في الكل الإلهي وذوبان فيه. وعالم الأغيار في القبَّالاه عالم فاسد والتاريخ الإنساني رديء، وتبهت فكرة البعث في القبَّالاه وتحل محلها فكرة تناسخ الأرواح التي تنكر المسئولية الخلقية والثواب والعقاب (وتشبه فكرة العود الأزلي عند نيتشه). والعودة إلى أرض الميعاد فكرة قومية جماعية تلغي أيضاً المسئولية الخلقية والخلود الفردي للروح.
ب) لفهم عملية الخلاص وحدودها، لابد أن ندرك الهرمية الصارمة التي يتسم بها كل من العالم الغنوصي وعالم القبَّالاه. فالبشر الروحانيون (في المنظومة الغنوصية) يوجدون في قمة الهرم والنفسانيون في وسطه والجسمانيون في قاعدته، والاختلافات بينهم ليست اختلافات أخلاقية أو حتى معرفية وإنما اختلافات أنطولوجية. وفكرة الاختلاف الأنطولوجي بين اليهود والأغيار فكرة أساسية في القبَّالاه، فالأغيار مثل الجسمانيين والنفسانيين ليسوا بشراً، ومخطَّط الخلاص لا ينصرف إليهم. وأكدت القبَّالاه المفهوم النخبوي داخل اليهودية بالتركيز على مفهوم البقية الصالحة وهـم نخبة الروحـانيين أو نخبة النخبة، خـير من في الشـعب اليهودي.

جـ) في المنظومة الغنوصية، يعيش الإنسان (الروحاني) منفياً في العالم المادي، فقد سقط فيه عن طريق الخطأ أو الخلل الذي حدث. ووجوده في هذا العالم هو مصدر تعاسته، وهو يحلم دائماً بالعودة إلى أصله الرباني النوراني ليلتحم به مرة أخرى ولن تتحق سعادته إلا بهذه العودة حيث يُترَك البشر النفسانيون والجسمانيون في كوكبهم الأرضي المدنَّس، فهم لا قداسة لهم مستبعدون من عملية الخلاص، وتنسحب الشرارات الإلهية تماماً من الكون بانسحاب أصحاب العرفان منه (يصبح العالم مادة محضة وقد يختفي ويذوب). وكل هذه العناصر توجد في القبَّالاه، فسقوط الإنسان (وصوفيا) يشبه سقوط الشعب اليهودي والشخيناه. وقد كان اليهود جزءاً من الآدم قدمون والإله قبل السقوط فتبعثروا وسقطت الشرارات أو الأرواح في أجساد مادية زائلة، وحُبست الشرارات في المادة وفي عالم الأغيار المعادي. ولذا، فاليهود يعيشون حالة نفي يحلمون بالعودة إلى أصلهم الإلهي أو إلى أرض الميعاد. وحالة النفي حالة نهائية مادامت هناك دنيا ومادام هناك تاريخ، ومن ثم فلا جدوى من البحث عن السعادة والمتعة (في عالم المادة بين الأغيار) إذ ليس بإمكان اليهود (النورانيين) أن يحصلوا على السعادة إلا بالعودة إلى الأصل الإلهي في أرض صهيون والالتحام بها في نهاية التاريخ حين ينتصرون على كل شعوب الأرض من الأغيار، الذين يُستبعَدون تماماً من عملية الخلاص.

د) وخلاص الإنسان في المنظومة الغنوصية هو عودة الإنسان باعتباره شرارة إلهية إلى الواحدية الإلهية (البليروما)، وعودة كل الشرارات هو كمال للذات الإلهية وخلاص لها، فكأن الإنسان بتخليصه نفسه يخلِّص الإله أيضاً (وهذه هي أيضاً فكرة الخلاص أو التيقون في القبَّالاه، فهي عودة الإنسان إلى بداياته النورانية وعودة الشعب اليهودي إلى أرض الميعاد والتحامه بالخالق، وهي عودة تعني أن الخالق ينهي حالة تبعثره ويعود لوحدته الأصلية).

هـ) تتسم الغنوصية بميل إلى رفض الشرائع المُرسَلة للبشر، فالغنوصيون نورانيون لا يخضعون لمثل هذه الشرائع، فهم جزء لا يتجزأ من الإله ولذا لا يسري عليهم ما يسري على الآخرين (الأغيار) ولهذا يقدس الغنوصيون الشخصيات الملعونة في العهد القديم والجديد مثل قابيل، وهم يعبدون الشيطان تعبيراً عن رفضهم النواميس البشرية والشرائع الإلهية. ويظهر هذا أيضاً في الحركات الشبتانية اليهودية فأتباع الحركة الفرانكية كانوا يقدسون عيسو وقابيل وكانوا يسمون الأدوميين أي الحمر نسبة إلى أدوم وهو اسم آخر لعيسو. بل إن الثعبان الذي كشف لآدم وحواء سر شجرة المعرفة هو بطل قصة الخلق الحقيقي من وجهة نظر الغنوصية، فهو رمز تحدِّي الخالق، ورفض الحدود والشريعة، ورفض الجهل الذي ضربه الإله الصانع على الإنسان، أي أنه رمز رفض الكون.

و ) ولأن الشر في العالم ليست له علاقة بالأخلاق، فإن الخلاص لا يتم من خلال التوبة والغفران وإنما من خلال البحث عن الصيغة السحرية المناسبة. والقبَّالاه ليست تمارين أخلاقية تهدف إلى كبح جماح الجسد أو إلى تهذيب نفس المؤمن وإنما تهدف إلى حل طلاسم الروح والعالم وكلمات التوراة للوصول إلى الخالق والقوة الحيوية في الكون وإلى التوراة الخفية أي الغنوص التي عن طريقها يمكن التحكم في العالم. والإصلاح (تيقون) يتم من خلال اتباع اليهود الأوامر والنواهي التي تحولت إلى شعائر مجردة تشبه التعويذات والصيغ الدقيقة، وما يهم فيها هو طريقة أدائها لا مضمونها الأخلاقي. بل إن المضمون الأخلاقي نفسه قد طُمس تماماً وحل محله مضمون ميتافيزيقي (بغير أخلاق) فهي تهدف إلى تقريب اليهود من الخالق للتعجيل بالخلاص ولتحقيق «يحود»، وهي كلمة عبرية تعني التوحد مع الخالق (وتعني أيضاً الجماع الجنسي). والغنوصية والقبَّالاه، في هذا، يشبهان تماماً العلم الحديث بنزعته الفاوستية للتحكم في العالم من خلال الصيغ الدقيقة، وهو يقدم ميتافيزيقا (ضرورة التحكم في العالم) دون أية أعباء أخلاقية.

ز) المخلّص في المنظومة الغنوصية شخصية عجائبية، تتجاوز قوانين الطبيعة، وهو شخصية أزلية أبدية تتجسد من خلال شخصيات تاريخية (زائلة) يأتي هو لها بالعرفان الثابت. والماشيَّح في اليهودية (والقبَّالاه) شخصية عجائبية. وتتسم اليهودية بتعدد المشحاء الدجالين باعتبار أن كل واحد منهم هو تَجسُّد زمني للإله ويحمل العرفان. ويمكن القول بأن تقاليد النبوة المفتوحة في اليهودية تعبير عن النمط نفسه، نمط الحلول والوحي المستمر عبر التاريخ. وشخصية التساديك في المنظومة الحسيدية تعبير متطرف عن هذا النمط من التجسد المستمر للماشيَّح في التاريخ.

ح) والمخلِّص في المنظومة الغنوصية مُرسَل من الإله، ولكن عملية الخلاص هي جمع الشرارات الإلهية الكامنة في الروحانيين، ولذا فإن المخلّص، حيـنما يُخلّص أصـحاب الغنـوص، إنما يُخلِّـص نفسه. وصوفيا قد تكون هي هدف الخلاص، فقد سقطت مع الشرارات الإلهية، ولكنها هي أيضاً أداته. والماشيَّح في القبَّالاه اللوريانية يأتي لينقذ الشخيناه المشتتة (الشعب اليهودي المشتت) التي هي الشرارات الإلهية فيجمعهم أي بقايا الشخيناه (صوفيا)، ويعود بها إلى الأصل الإلهي أي يجمع المنفيين من اليهود ويعود بهم إلى صهيون. والشخيناه هي هدف الخلاص وأداته، فالشعب اليهودي (الشخيناه) هو الذي سيُجمَع في أرض الميعاد، ومن خلال خلاصه (وجمعه) يعم السلام في العالم ويأتي الخلاص (مثل عودة النيوما إلى البليروما).ولكن الشخيناه (الشعب اليهودي) جزء من الإله/الآدم قدمون، وبالتالي فخلاصها هو خلاص الإله. ومن خلال عودة الشخيناه من المنفى والتبعثر، تعود للإله وحدته، فالمخلَّص إذن هو المخلِّص الذي يُخلِّص نفسه ويُخلِّص الآخرين، فهو المخلِّص المخلَّص.

6 ـ المنظومة الغنوصية تتسم بالواحدية، ولذا فهي تتسم أيضاً بالثنائية الصلبة الزائفة، إذ تنحل الثنائية في واحدية سائلة. والقبَّالاه أيضاً نظام ثنائي صلب في ثنائيته، فهناك النور والظلام، والخير والشـر، واليمين واليسـار، وهي ثنائية واهية لأن الشر غير موجود أساسـاً، فهـو وهم. أو لأنه إن وُجد فهو جزء من الخير وصورة أخرى منه، فإن ما يظهر باعتباره شراً هو في واقع الأمر خير (وقد بعثت القبَّالاه العناصر الثنوية: الاهتمام المفرط بالملائكة والشياطين باعتبارها شريكة للإله عز وجل في الخلق، وميتاترون وليليت، وهي مفاهيم من بقايا الوثنيات الحلولية دخلت اليهودية).

وتتضح الثنائية في المنظومة «الأخلاقية» الغنوصية والقبَّالية، فسلوك الإنسان قد يأخذ شكل رهبنة كاملة وإنكار متطرف للعالم ورفض له، وقد يأخذ شكل انغماس في الرذيلة هو في جوهره رفض للعالم (فهو مكان شرير وزمان رديء).

والمخلِّص في القبَّالاه هو الماشيَّح الذي ينزل في عالم الظلمات أيضاً، وقد يكون هو المخلِّص الداعر الذي يرتكب الموبقات حتى ترهق الطبيعة (مثل جيكوب فرانك)، وهو ما يُسمَّى «الهبوط من أجل الصعود» (بالعبرية: يريداه بشفيل عالياه). وقد يكون راهباً منسحباً، وقد ينتقل من حالة إلى أخرى مثل شبتاي تسفي الذي كان يتأرجح بين الرهبنة الكاملة والعهر الكامل (وضمنه الشذوذ الجنسي)، ومثل البعل شيم طوف مؤسس الحركة الحسيدية الذي يُقال إنه امتنع عن معاشرة زوجته جنسياً لمدة أربعة عشر عاماً، ويذهب أتباعه إلى أن زوجته حملت ابنها هرشل «من خلال الكلمة». ومع هذا كان معروفاً عنه إقباله الشديد على النساء وشغفه بهن، وخصوصاً الجميلات منهن. وكثير من المخلِّصين أسقط الشريعة تماماً. وتحولت نواه مثل «لا تزن» إلى وصايا مثل «فلتزن».

وتوجد تفاصيل أخرى عديدة تبين مدى التقابل المدهش بين الغنوصية والقبَّالاه، ولكن ما حاولنا حصره هو بعض السمات البنيوية المشتركة وتجلِّيها في بعض التفاصيل.

  • الاربعاء PM 03:41
    2021-04-21
  • 1445
Powered by: GateGold