المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 414270
يتصفح الموقع حاليا : 200

البحث

البحث

عرض المادة

إنجلــترا منــذ عصـــر النهضــة

إنجلــترا منــذ عصـــر النهضــة
England since the Renaissance
ظلت إنجلترا خالية من اليهود تقريباً حتى نهاية القرن السادس عشر. ومع بداية القرن السابع عشر، ساد إنجلترا (بعد ظهور الحركة البيوريتانية) جو استرجاعي قوي يستند إلى أسطورة عودة المسيح. وظهر فكر مسيحي صهيوني يدعو إلى ضرورة تَواجُد اليهود في كل أنحاء الأرض وضرورة هدايتهم، أي تنصيرهم كشرط أساسي للخلاص. ولا شك في أن هذه الفرق الاسترجاعية المسيحانية (مقابل المشيحانية) تعود في جانب منها إلى تطلعات المجتمع الإنجليزي التجارية الاستعمارية. وقد لعب التجار من يهود المارانو (برتغاليين وإسباناً)، الذين استقرت أعداد كبيرة منهم في لندن، دوراً مهماً في الحرب مع إسبانيا سواء من الناحية المالية أم الناحية الاستخبارية (قام أنطونيو فرنانديز بجمع المعلومات عن القوات الإسبانية وتوصيلها للإنجليز). ومن ثم، بدأ التفكير في الأوساط البيوريتانية في الاستفادة من خبرات اليهود التجارية واتصالاتهم الدولية. وكان كرومويل شخصياً من أكبر المتحمسين لذلك، وخصوصاً أنه كان يرى إمكانية استخدام اليهود كجواسيس له. وتَقدَّم منَسَّى بن إسرائيل، عام 1655، بطلب السماح لليهود بالاستيطان. كما أن بعض أثرياء اليهود المارانو قدَّموا إلتماساً عام 1656 لإقامة مقبرة خاصة بهم وطالبوا بتوفير الحماية لهم عند ممارستهم شعائرهم الدينية باعتبارهم يهوداً. ومع أن الطلب لم يُقبَل ولم يُرفَض رسمياً، فإن الاعتراف بالمارانو كيهود كان في حد ذاته اعترافاً بحق اليهود في الاستقرار في إنجلترا، ولذا أصدر كرومويل قراراً لسلطات لندن بأن تزيح جميع الحواجز من طريق استقرار الجماعة اليهودية، بل سمح لهم بإنشاء معبد يهودي ثم مقبرة خاصة بهم. وتم الاعتراف بالجماعات اليهودية في عصر تشارلز الثاني (عام 1664). وأُعيدت أملاكهم التي صودرت أثناء الحرب مع إسبانيا (لأنهم كانوا يُعتبَرون حتى ذلك الوقـت مسـيحيين إسـبان أمـام القانون). وفي عام 1673، حصلوا على وعد بحرية العبادة وأُعيد تأكيد هذا الوعد عام 1685. وفي عام 1698 تم تقنين ممارسة الديانة اليهودية من خلال تشريع برلماني.وبالتدريج، ازداد يهود إنجلترا أهمية بتزايد أهمية لندن ـ قياساً إلى أمـستردام ـ كمركز للتجــارة العالمية.


واستقرت أعداد صغيرة من اليهود الإشكناز (ممن أتوا من ألمانيا ووسط أوربا) في إنجلترا، ولكن ظلت الأغلبية العظمى من أعضاء الجماعة اليهودية فيها من السفارد. ولم يُفرَض على أعضاء الجماعة اليهودية السكنى في جيتو خاص بهم، بل ألغيت معظم القيود المفروضة عليهم، كما حصلوا على حقوق المواطنة بالتدريج ابتداءً من عام 1718 حينما صدر قرار بالسماح لليهود المولودين في إنجلترا، حتى لو كانوا من أبوين أجنبيين، بأن يمتلكوا الأراضي الزراعية. ولم تقم ضد يهود إنجلترا أية حركات شعبية عنيفة. ولعل هذا يعود إلى أنه حينما أُعيد توطين اليهود، تم توطينهم كعنصر تجاري مُستوعَب في التشكيل التجاري الأكبر. ولذا، فإنهم لم يكونوا متميِّزين وظيفياً، ولم يكن لهم حقوق خاصة، كما لم يكونوا موضوعين تحت حماية الملك أو غيره من السلطات، وإنما كانوا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع.

وساعد كل ذلك على نمو الجماعة اليهودية في إنجلترا وعلى تزايد حجم المهاجرين اليهود القادمين من أمستردام وإسبانيا والبرتغال. كما ازداد هؤلاء ثراءً وأهمية بتزايُد أهمية لندن (قياساً إلى أمستردام) كمركز للتجارة العالمية. وعمل أثرياء اليهود في السمسرة والتجارة الخارجية، وكانوا مُمثَّلين بشكل كبير في مستعمرات الإمبراطورية البريطانية المتنامية، وخصوصاً في نيويورك وبومباي وجزر الهند الغربية. ومن الشخصيات اليهودية البارزة في تلك الفترة سامسون جدعون ويوسف سالفادور اللذان قدما استشارتهما المالية المهمة للوزارات الإنجليزية المتعاقبة.

وظلت الجماعة اليهودية في إنجلترا مُشكَّلة في أغلبها من السفارد وإن بدأت بعض الجماعات الصغيرة من اليهود الإشكناز القادمين من أمستردام وهامبورج ثم ألمانيا وشرق أوربا الاستقرار في إنجلترا في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر. وكان أغلب اليهود الإشكناز أقل في المرتبة الاجتماعية من السفارد، وعمل قطاع كبير منهم كباعة متجولين في القرى والمناطق الريفية، وبالتالي نمت تجمعات من يهود الإشكناز في كثير من المدن الريفية والموانئ والمراكز الصناعية. وأسَّس الإشكناز المعبد الكبير في لندن عام 1722.

وبدأت حركة حصل بموجبها أعضاء الجماعة اليهودية على حقوقهم المدنية في القرن الثامن عشر حيث صدر عام 1718 قرار بالسماح لليهود المولودين في إنجلترا حتى لو كانوا من أبوين أجنبيين بأن يمتلكوا الأراضي الزراعية. وفي عام 1753، قُدِّم مشروع للبرلمان البريطاني يطالب بمنح اليهود المولودين خارج البلاد حقوق المواطنة نفسها الممنوحة لأبنائهم. لكن هذا المشروع سرعان ما فشل، الأمر الذي دفع كثيراً من أثرياء اليهود إلى التخلي عن اليهودية واعتناق المسيحية. وتذهب بعض التقديرات إلى أن عدد المتنصِّرين من اليهود في القرن التاسع عشر بلغ 29 ألفاً، أي نحو ثُلث يهود إنجلترا. وهذا الرقم دليل أيضاً على تَزايُد اندماج اليهود في المجتمع البريطاني.

وأتاحت الحروب النابليونية لبعض العائلات اليهودية الإشكنازية، مثل عائلتي روتشيلد وجولدسميد، احتلال مواقع مرموقة في المجتمع الإنجليزي بفضل خدماتهم المالية المهمة، الأمر الذي أعطى ثقلاً للحركة المطالبة بانعتاق اليهود. وفي الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، سُمح لليهود بالعمل في وظائف مدنية، وعُيِّن أول شريف يهودي عام 1835. ووصلت هذه الحركة إلى قمتها بدخول ليونيل دي روتشيلد البرلمان عام 1858. كما أصبح ابنه ناثانيل دي روتشيلد أول يهودي بريطاني يحصل على لقب لورد عام 1885. وفي عام 1890، تم إلغاء آخر القيود الدينية على اعتلاء مناصب ووظائف سياسية، وبالتالي أصبح انعتاق اليهود كاملاً. واحتل بعض أعضاء الجماعة مواقع ومراكز مهمة في الإدارات والوزارات البريطانية اللاحقة.

ولكن، مع نهاية القرن التاسع عشر، تغيَّر التكوين الإثني ليهود إنجلترا نتيجة تَدفُّق جحافل يهود اليديشية من شرق أوربا ووسطها على إنجلترا، وغيرها من الدول، بسبب تَعثُّر التحديث. وفيما يلي إحصاء بعدد يهود إنجلترا من عام 1690 حتى عام 1985:

السنة / عدد أعضاء الجماعة اليهودية

1690 / 350 - 400

1734 / 6000

1753 / 8000

1800 / 20.000

1830 / 27.000

1845 / 35.000

1849 / 40.000

1851 / 35.000

1853 / 25.000

1880 / 60.000

1890 / 100.000

1900 / 160.000

1910 / 242.000

1920 / 297.000

1930 / 333.000

1940 / 385000

1950 / 450.000

1960 / 450.000

1970 / 410.000

1985 / 330.000


وهكذا، فبينما كان يوجد في عام 1853 نحو 25 ألف يهودي في إنجلترا، وصل عددهم إلى 242 ألفاً عام 1910، أي بزيادة نحو عشرة أضعاف خلال ستين عاماً في مجتمع متجانس مثل المجتمع الإنجليزي. ورغم صدور تشريعات تَحُد من هجرتهم، فإن عدد يهود إنجلترا وصل عام 1914، أي عشية وعد بلفور، إلى ما بين 250 ألفاً وإلى 300 ألف نصفهم من يهود اليديشية، أي أن عدد يهود إنجلترا من يهود اليديشية زاد خمسة عشر ضعفاً فيما يقارب أربعين عاماً. وخلق هذا جواً من القلق في إنجلترا، وسادت شائعات تقول إن عدد المهاجرين بلغ 750 ألفاً.

وكان يهود اليديشية تجاراً صغاراً متخلفين يحملون معهم إحساساً جيتوياً عميقاً بعدم الأمن والطمأنينة. وأدَّى تواجدهم بهذه الأعداد الضخمة إلى ازدياد البطالة وازدحام المدن والجريمة. وفي بداية الأمر انخرط يهود اليديشية في الأعمال اليدوية شبه الماهرة، وخصوصاً في مجال صناعة الملابس الجاهزة. وكان الطلب على الملابس الجاهزة الرخيصة قد بدأ يزداد نسبياً في إنجلترا وغيرها من الدول الصناعية الغربية مع تنامي الطبقات المتوسطة في هذه البلاد. وكان ميراث يهود اليديشية، باعتبارهم جماعة وظيفية وسيطة، يؤهلهم لدخول هذه المجالات الجديدة والهامشية والتي كانت مازالت تتَّسم بقدر من المخاطرة وتحتاج إلى خبرات تجارية. فعملوا في «ورش العرْق»، وهي مصانع لم تكن ظروف العمل فيها إنسانية وكان العمال يعملون فيها ساعات طويلة. وأحضروا معهم أطفالهم الذين كانوا يشكِّلون عبئاً ضخماً على المؤسسات الصحية والتعليمية. وكانت ثقافتهم يديشية أساساً ويتحدثون هذه اللغة في الشوارع، كما كانت لهم مطابعهم وجرائدهم ومعابدهم وحاخاماتهم. ولم تكن لهم هوية سياسية أو وضع قانوني محدَّد. كل هذا يناقض وضع يهود إنجلترا السفارد، أو حتى الإشكناز الذين تم صبغهم بالصبغة الإنجليزية والذين كانوا جزءاً من الأرستقراطية المالية وكانت أعدادهم صغيرة وكانوا مندمجين في مجتمعهم الإنجليزي يتحدثون بلغته، ويتمتعون بحقوقهم السياسية والمدنية والدينية الكاملة. وأدَّى هذا الوضع إلى توتر العلاقات بين الفريقين، إذ كان اليهود الإنجليز يعتبرون اليهود المتحدثين باليديشية عنصراً غريباً متخلفاً وعنصرياً يهدد مواقعهم الطبقية ومكانتهم الاجتماعية. ويضاف إلى هذا أنهم أحضروا معهم المسألة اليهودية من شرق أوربا. وكان يهود اليديشية بدورهم ينظرون إلى اليهود الإنجليز باعتبارهم باردين ومندمجين في مجتمعهم، منعزلين تماماً عن الحركات السائدة بين أعضاء الجماعات اليهودية في شرق أوربا (الصهيونية والحسيدية والتنويرية) بين يهود الشرق. ولذا، ظل الفريقان كلٌّ منهما بمعزل عن الآخر، كما أنهم لم يتزاوجوا فيما بينهم.

وأدَّى وفود العناصر اليديشية إلى قيام محاولات لوقف سيل الهجرة عن طريق تأليف لجنة ملكية لدراسة القضية. ومما زاد الجو توتراً، بالنسبة إلى الجماعة اليهودية، ظهور إحساس بين العناصر الاشتراكية الراديكالية بأن اليهود يشكلون جزءاً مهماً من السياسة الإمبريالية الإنجليزية، ومن هنا كان أعداء الإمبريالية أعداء لليهود. وكان عدد اليهود بين المستوطنين الإنجليز في جنوب أفريقيا كبيراً، وبعضهم كان على علاقة قوية بملنر ورودس. وقد تحدث جـ.أ. هوبسون (الزعيم الاشتراكي وأهم المثقفين الإنجليز المعارضين للإمبريالية) عن مجموعة صغيرة من الممولين الدوليين « ألمان في أصلهم ويهود في عنصرهم » حققوا نفوذاً قوياً في جوهانسبرج. وقد وصفهم بأنهم الحثالة الحقيقية لأوربا، يسيطرون على حقول الذهب ويحتكرون صناعة الديناميت وتجارة الكحول السرية. كما يتحكمون مع سيسل رودس في الصحافة، ويتلاعبون بسوق الرقيق، ويديرون الأعمال التجارية الأساسية في كل من جوهانسبرج وبريتوريا. ويُلاحَظ أن أعداداً كبيرة أيضاً من يهود إنجلترا، وخصوصاً يهود اليديشية، انخرطوا في صفوف الحركات اليسارية والعمالية والعدمية. وأدَّى هذا إلى ارتباط أعضاء الجماعات اليهودية بأقصى اليمين والرجعية، وبأقصى اليسار والثورية، في وقت واحد.

في هذا الجو، شُكلت لجنة خاصة لمناقشة هجرة يهود شرق أوربا. وقدمت حكومة بلفور، الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء آنذاك، مشروع قانون عام 1902 يُسمَّى «قانون الغرباء» الذي ووفق عليه عام 1905. ودافع رئيس الوزراء عن المشروع فأشار إلى أنه لا يمكن تَجاهُل مسألة العرْق بأية حال في أمور الهجرة، كما أشار إلى المشاكل التي حاقت بإنجلترا نتيجة الهجرة اليهودية مؤكداً ضرورة الحد منها.

وفي هذا الإطار، طُرحت الفكرة الصهيونية، فعارضها اليهود الإنجليز وأيدها يهود اليديشية. وزار هرتزل إنجلترا لأول مرة عام 1895 وألقى خطبة في حيّ إيست إند عن موضوع الهجرة، وكانت هذه أول مواجهة حقيقية بينه وبين يهود اليديشية.

ثم عُقد المؤتمر الصهيوني الرابع (1900) في لندن. وحيث إن يهود إنجلترا الأصليين كانوا من كبار معارضي المشروع الصهيوني، توجه هرتزل أساساً إلى يهود اليديشية، كما وضع نصب عينيه الوصول إلى السلطات الحاكمة مباشرة لعرض المشروع الصهيوني كرقعة تلتقي فيها المصالح العنصرية والاستعمارية بالرؤية الصهيونية. وفي عام 1902، نجح أحد أصدقاء هرتزل في دعوته للمثول أمام اللجنة الملكية، حيث قدَّم حلاًّ صهيونياً مفاده تحويل الهجرة من إنجلترا إلى أية بقعة أخرى خارج أوربا. وانطلاقاً من هذا، عُرض مشروع شرق أفريقيا، ثم صدر وعد بلفور الذي جاء انتصاراً للمنظمة الصهيونية على يهود إنجلترا.

وبعد صدور وعد بلفور، تغيَّرت الأوضاع كثيراً، ذلك أن تأييد الصهيونية لم يَعُد تأييداً لحركة قومية غربية وإنما أصبح تأييداً للمصالح الإمبريالية البريطانية. وبذا، اختفت معارضة الصهيونية بين صفوف اليهود الإنجليز، كما أن العناصر اليديشية نفسها بدأت تصطبغ بالصبغة البريطانية، وخصوصاً أنهم لم يجدوا أية عراقيل قانونية تقف في طريقهم نحو الاندماج.

ومع صعود النازية في ألمانيا، هاجر ما بين 40 و50 ألف يهودي من ألمانيا ووسط أوربا إلى إنجلترا. ورغم أن هذه الهجرة كانت أقل في حجمهـا من هـجرة يهود اليديشية إلا أن المهاجرين الألمان كانوا أكثر ثراء، وتشير التقديرات إلى أنه تم تحويل مبالغ ضخمة من ألمانيا إلى بريطانيا. كما أعاد المهاجرون تأسيس أعمالهم المالية والتجارية في إنجلترا، وخصوصاً في مجالات المنتجات الصيدلية والملابس الثمينة وبعض الصناعات الخفيفة الأخرى، وأصبحت لندن مركز تجارة الفراء بدلاً من ليبزيج.

  • الثلاثاء PM 05:56
    2021-04-20
  • 947
Powered by: GateGold