المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413839
يتصفح الموقع حاليا : 292

البحث

البحث

عرض المادة

استشهاد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وما فيه من دروس وعبر وفوائد

لقد تركت معركة النهروان في نفوس الخوارج جرحاً غائراً لم تزده الأيام والليالي إلا إيلاماً وحسرة، فاتفق نفر منهم على أن يفتكوا بعلي رضي الله عنه، ويثأروا لمن قتل من إخوانهم في النهروان. وأجمع أهل السير والمؤرخون على ذكر رواية مشهورة[1]، لا تسلم من انتقادات لاحتوائها على عناصر متضاربة وأخرى مختلفة، ولا نستبعد بدورنا أن تكون هذه الحادثة المهمة قد تعرضت مثل غيرها إلى إضافات وزيادات في الفترات المتأخرة، ويبدو من خلال المصادر والدراسات أن هناك إجماعاً على أن عملية قتل علي تمت على أيدي عناصر خارجية انتقاماً لضحايا معركة النهروان، أما بقية المعلومات الخاصة بالعملية مثل قصة الحب بين ابن ملجم وقطام والدور المزعوم للأشعث الكندي - وسيأتي بيان براءته بإذن الله لاحقاً - وغيرها فيصعب قبولها والتصديق بها، وإليك تفصيل مقتله رضي الله عنه.

1 - اجتماع المتآمرين:

كان من حديث ابن مُلجَم وأصحابه أن ابن ملجم والبُرَك بن عبد الله وعمرو بن بكر التيمي اجتمعوا، فتذاكروا أمر الناس، وعابوا على ولاتهم، ثم ذكروا أهل النهروان، فترحموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بهم شيئاً، إخواننا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم، والذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسهم فأتينا أئمة الضلالة فالتمسنا قتلهم فأرحنا منهم البلاد، وثأرنا بهم إخواننا، فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم علي بن أبي طالب - وكان من أهل مصر - وقال البُرَك بن عبد الله: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص، فتعاهدوا وتواثقوا بالله لا ينكص رجل منا عن صاحبه الذي توجه إليه يقتله أو يموت دونه، فأخذوا أسيافهم، فسموها واتعدوا لسبع عشرة تخلو من رمضان أن يثبت كل واحد منهم على صاحبه الذي توجه إليه، وأقبل كل رجل منهم إلى المصر الذي صاحبه فيه يطلب[2].

2 - خروج ابن ملجم ولقاؤه بقطام ابنة الشّجنة:

فأما ابن ملجم المرادي فكان عداده في كِنْده، فخرج فلقي أصحابه بالكوفة وكاتمهم أمره كراهة أن يظهروا شيئاً من أمره، فإنه رأى ذات يوم أصحاباً من تَيْم الربّاب - وكان علي قتل منهم يوم النهر عشرة - فذكروا قتلاهم، ولقي من يومه ذلك امرأة من تيم الرباب يقال لها: قَطَام ابنة الشّجنة - وقد قتل أبوها وأخوها يوم النهر، وكانت فائقة الجمال - فلما رآها التبست بعقله، ونسي حاجته التي جاء لها، ثم خطبها، فقالت: لا أتزوجك حتى تشفي لي، قال: وما يشفيك؟ قالت: ثلاثة آلاف وعبد وقينة وقتل علي بن أبي طالب، قال: هو مهر لك، فأما قتل علي فلا أراك ذكرته لي وأنت تريديني، قالت: بلى التمس غرته، فإن أصبت شفيت نفسك ونفسي، ويهنئك العيش معي، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وزينة أهلها. قال: فوالله ما جاء بي إلى هذا المصر إلا قتل علي، فلك ما سألت، قالت: إني أطلب من يسند ظهرك، ويساعدك على أمرك، فبعثت إلى رجل من قومها من تيم الرباب يقال له: وردان فكلمته فأجابها، وأتى ابن ملجم رجلاً من أشجع يقال له شبيب بن بجرة فقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما ذاك؟ قال: قتل علي بن أبي طالب، قال: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئاً إدّاً، كيف تقدر على عليٍّ، قال: أكمن له في المسجد فإذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا شفينا أنفسنا وأدركنا ثأرنا، وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها، قال: ويحك لو كان غير عليٍّ لكان أهون عليَّ، قد عرفت بلاءه في الإسلام، وسابقته مع النبي صلى الله عليه وسلم وما أجدني أنشرح لقتله، قال: أما تعلم أنه قتل أهل النهر العباد الصالحين؟ قال: بلى، قال: فنقتله بمن قتل من إخواننا، فأجابه - فجاؤوا قطام وهي في المسجد الأعظم معتكفة - فقالوا لها: قد أجمع رأينا على قتل علي، قالت: فإذا أردتم فأتوني، ثم عاد إليها ابن ملجم في ليلةالجمعة التي قتل في صبيحتها عليّ سنة 40 للهجرة - فقال: هذه الليلة التي وعدت فيها صاحبي أن يقتل كل منا صاحبه، فدعت لهم بالحرير فعصبتهم به، وأخذوا أسيافهم وجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي، فلما خرج ضربه شبيب بالسيف، فوقع سيفه بعضادة الباب أو الطاق، وضربه ابن ملجم في قرنه بالسيف وهرب وردان حتى دخل منزله، فدخل عليه رجل من أبيه وهو ينزع الحرير عن صدره، فقال: ما هذا الحرير والسيف؟ فأخبره بما كان وانصرف فجاء بسيفه فعلا به وردان حتى قتله، وخرج شبيب نحو أبواب كندة في الغلس، وصاح الناس، فلحقه رجل من حضرموت يقال له عويمر، وفي يد شبيب السيف، فأخذه، وجثم عليه الحضرمي، فلما رأى الناس قد أقبلوا في طلبه، وسيف شبيب في يده، خشي على نفسه، فتركه، ونجا شبيب في غمار الناس فشدوا على ابن ملجم، فأخذوه، إلا أن رجلاً من همدان يكنى أبا أدماء أخذ سيفه فضرب به رجله، فصرعه، وتأخر علي، ورفع في ظهره جعدة بن هبيرة بن أبي وهب، فصلى بالناس الغداة، قال عليٌّ: علي بالرجل، فأدخل عليه، ثم قال: أي عدو الله، ألم أحسن إليك، قال: بلى، قال: ما حملك على هذا؟ قال: شحذته أربعين صباحاً، وسألت الله أن يقتل به شر خلقه، فقال علي رضي الله عنه : لا أراك إلا مقتولاً به، ولا أراك إلا من شر خلقه[3].

3 - محمد ابن حنفية يروي قصة مقتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:

قال ابن الحنفية: كنت والله إني لأصلي تلك الليلة التي ضرب فيها علي في المسجد الأعظم في رجال كثير من أهل المصر قريباً من السدّة، ما هم إلا قيام وركوع وسجود، وما يسأمون من أول الليل إلى آخره، إذ خرج علي لصلاة الغداة، فجعل ينادي: أيها الناس، الصلاة الصلاة، فما أدري أخرج من السدة، فتكلم بهذه الكلمات أم لا، فنظرت إلى بريق، وسمعت: الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك، فرأيت سيفاً، ثم رأيت ثانياً، ثم سمعت علياً يقول: لا يفوتنكم الرجل، وشد الناس عليه من كل جانب. قال: فلم أبرح حتى أخذ ابن ملجم وأدخل على عليٍّ، فدخلت فيمن دخل الناس، فسمعت علياً يقول: النفس بالنفس، أنا إن مت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي. وذكر أن الناس دخلوا على الحسن فزعين لما حدث من أمر علي، فبينما هم عنده وابن ملجم مكتوف بين يديه، إذ نادته أم كلثوم بنت علي وهي تبكي: أي عدو الله، لا بأس على أبي، والله مخزيك، قال: فعلى من تبكين؟ والله لقد اشتريته بألف، وسمَمْته بألف، ولو كانت هذه الضربة على جميع أهل المصر ما بقي منهم أحد[4].

4 - وصية الطبيب لعلي وميل أمير المؤمنين للشورى:

عن عبد الله بن مالك، قال: جمع الأطباء لعلي رضي الله عنه يوم جرح، وكان أبصرهم بالطب أثير بن عمرو السّكوني، وكان صاحب كسرى يتطبب، فأخذ أثير رئة شاة حارة، فتتبع عِرْقاً منها، فاستخرجه فأدخله في جراحة علي، ثم نفخ العرق فاستخرجه فإذا عليه بياض الدماغ، وإذا الضربة قد وصلت إلى أم رأسه فقال: يا أمير المؤمنين، اعهد عهدك فإنك ميت[5] .

وذكر أن جندب بن عبد الله دخل على علي فسأله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن فقدناك - ولا نفقدك - فنبايع الحسن؟ قال: ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر[6].

5 - وصية أمير المؤمنين علي لأولاده الحسن والحسين رضي الله عنهما:

دعا أمير المؤمنين علي حسناً وحسيناً، فقال: «أوصيكما بتقوى الله، وألا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تبكيا على شيء زُوِي عنكما، وقولا الحق، وارحما اليتيم، أغيثا الملهوف، واصنعا للآخرة، وكونا للظالم وللمظلوم ناصراً، واعملا بما في الكتاب ولا تأخذكما في الله لومة لائم» ثم نظر إلى محمد ابن الحنفية، فقال: هل حفظت ما أوصيت به أخويك[7]؟

قال: نعم، قال: فإني أوصيك بمثله وأوصيك بتوقير أخويك، لعظيم حقهما عليك، فاتبع أمرهما، ولا تقطع أمراً دونهما. ثم قال: أوصيكما به، فإنه ابن أبيكما، وقد علمتما أن أباكما كان يحبه، وقال للحسن: «أوصيك أي بنيّ بتقوى الله، وإقام الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة عند محلها، وحسن الوضوء، فإنه لا صلاة إلا بطهور، ولا تقبل صلاة من مانع زكاة، وأوصيك بغفر الذنب، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والحلم عند الجهل، والتفقه في الدين، والتثبت في الأمر، والتعهد للقرآن، وحسن الجوار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش»[8].

فلما حضرته الوفاة أوصى، فكانت وصيته:

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. ثم إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، ثم أوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهلي بتقوى الله ربكم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا، فإني سمعت أبا القاسم يقول: إن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوهم يهوّن الله عليكم الحساب، الله الله في الأيتام، فلا تُعنوا أفواههم، ولا يضيعون بحضرتكم، والله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم صلى الله عليه وسلم، ما زال يوصي به حتى ظننا أنه سيورثه، والله الله في القرآن، فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم، والله والله في الصلاة، فإنهاعمود دينكم. والله الله في بيت ربكم فلا تخلوه ما بقيتم، فإنه إن ترك لم يناظر، والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، والله الله في الزكاة، فإنها تطفىء غضب الرب، والله الله في ذمة نبيكم، فلا يظلمن بين أظهركم، والله الله في أصحاب نبيكم، فإن رسول الله أوصى بهم، والله الله في الفقراء والمساكين، فأشركوهم في معايشكم، والله الله فيما ملكت أيمانكم، الصلاة الصلاة، لا تخافنّ في الله لومة لائم، يكفيكم من أرادكم وبغى عليكم وقولوا للناس حسناً كما أمركم الله، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّى الأمر أشراركم ثم تدعون لا يستجاب لكم، وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ فيكم نبيكم. أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله» ثم لم ينطق إلا (بلا إله إلا الله) حتى قبض رضي الله عنه في شهر رمضان سنة أربعين[9]، وجاء في رواية أنه قتل في صبيحة إحدى وعشرين من رمضان[10]، وتحمل هذه الرواية على اليوم الذي فارق فيه الدنيا، لأنه بقي ثلاثة أيام بعد ضربة الشقي[11].

6 - نهي أمير المؤمنين عن المثلة بقاتله:

فقد قال رضي الله عنه : احبسوا الرجل فإن مت فاقتلوه، وإن أعش فالجروح قصاص[12]. وفي رواية أخرى قال: أطعموه واسقوه وأحسنوا إساره، فإن صححت فأنا ولي دمي أعفو إن شئت وإن شئت استقدت[13]، وفي رواية أخرى زيادة، وهي قوله: إن مت فاقتلوه قتلتي ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين[14]، وقد كان علي نهى الحسن عن المُثْلة، وقال: يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون: قتل أمير المؤمنين، قتل أمير المؤمنين، ألا لا يُقَتلنّ. انظر يا حسن، إن متُّ من ضربته هذه فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثل بالرجل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول: «إياكم والمثلة ولو أنها بالكلب العقور»[15]. وقد جاء في شأن وصية أمير المؤمنين بأمر قاتله روايات كثيرة تتفاوت منها الصحيح ومنها الضعيف، فالرواية التي فيها أمر علي رضي الله عنه بإحراق الشقي بعد قتله إسنادها ضعيف، والروايات الأخرى تسير في اتجاه واحد فكلها فيها أمر علي رضي الله عنه بقتل الرجل إن مات من ضربته ونهاهم عما سوى ذلك، فهذه الروايات يعضد بعضها، وتنهض للاحتجاج بها، هذا من جهة. كما أن أمير المؤمنين علي لم يجعله مرتداً، فيأمر بقتله، بل نهاهم عن ذلك لما همّ بعض المسلمين بقتله، وقال: لا تقتلوا الرجل، فإن برئت فالجروح قصاص، وإن مت فاقتلوه[16]. وتذكر الرواية المشهورة: فلما قُبض علي رضي الله عنه بعث الحسن إلى ابن ملجم، فقال للحسن: هل لك في خصلة؟ إني والله ما أعطيت الله عهداً إلا وفيت به، إني كنت قد أعطيت الله عهداً عند الحطيم أن أقتل عليًّا ومعاوية أو أموت دونهما، فإن شئت خليت بيني وبينه، ولك الله علي إن لم أقتله - أو قتلته - ثم بقيت، أن آتيك حتى أضع يدي في يدك. فقال له الحسن: أما والله حتى تعاين النار ثم قدمه فقتله[17]، ثم إن الناس أخذوه فأحرقوه بالنار، ولكن هذه الرواية منقطعة[18].

والصحيح من الروايات والذي يليق بالحسن والحسين وأبناء أهل البيت أنهم التزموا بوصية أمير المؤمنين علي في معاملة عبد الرحمن بن ملجم، ولا تثبت الرواية التي تقول: فلما دفن أحضروا ابن ملجم، فاجتمع الناس، وجاؤوا بالنفط والبواري، فقال محمد ابن الحنفية، والحسين، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب: دعنا نشتفّ منه، فقطع عبد الله يديه ورجليه، فلم يجزع ولم يتكلم، فكحل عينيه بمسمارٍ محمّى، فلم يجزع، وجعل يقول: إنك لتكحل عيني عمّك بملمولٍ مضٍّ، وجعل يقرأ: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1]. حتى ختمها، وإن عينيه لتسيلان، ثم أمر به فعولج عن لسانه ليقطع، فجزع، فقيل له في ذلك فقال: ما ذاك منّي من جزع، ولكني أكره أن أبقى في الدنيا فُواقاً لا أذكر الله، فقطعوا لسانه، ثم أحرقوه، وكان أسمر، حسن الوجه، أفلج، شعره مع شحمة أذنيه، وفي جبهته أثر السُجود[19].

وقال الذهبي عن عبد الرحمن بن ملجم: قاتل علي رضي الله عنه، خارجي مُفْتَر.. شهد فتح مصر، واختط بها مع الأشراف، وكان ممن قرأ القرآن والفقه، وهو أحد بني تدول وكان فارسهم بمصر، قرأ القرآن على معاذ بن جبل، وكان من العبّاد، ويقال: هو الذي أرسل صَبيغاً التميمي إلى عمر رضي الله عنه فسأله عمّا سأله من مستعجم القرآن.. إلى أن قال الذهبي: ثم أدركه الكتاب وفعل ما فعل، وهو عند الخوارج من أفضل الأمّة، وفي ابن ملجم يقول عمران بن حطّان الخارجي:

يا ضربة من تُقى مـا أراد بـها

إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكـره حيناً فأحسبه

أوفى البـريّة عند الله ميزانا

 

وابن ملجم عند الروافض أشقى الخلق في الآخرة، وهو عندنا أهل السنة ممن نرجو له النار، ونجوز أن الله يتجاوز عنه، لا كما يقول الخوارج والروافض فيه، وحكمه حكم قاتل عثمان وقاتل الزبير، وقاتل طلحة، وقاتل سعيد بن جبير، وقاتل عمّار وقاتل خارجة، وقاتل الحسين، فكل هؤلاء نبرأ منهم ونبغضهم في الله، ونكل أمورهم إلى الله عز وجل[20].

وأما البُرَك بن عبد الله فإنه في تلك الليلة التي ضرب فيها عليّ قعد لمعاوية، فلما خرج يصلي الغداة شد عليه بسيفه، فوقع السيف في إليته، فأخذ، فقال: إن عندي خبراً أسرك به، فلأن أخبرتك فنافعني ذلك عندك؟ قال: نعم، قال: إن أخاً لي قتل عليّاً في مثل هذه الليلة، قال: فلعله لم يقدر على ذلك، قال: بلى، إن عليّاً يخرج ليس معه من يحرسه، فأمر به معاوية فقتل، وبعث معاوية إلى الساعدي - وكان طبيباً - فلما نظر إليه قال: اختر إحدى خصلتين: إما أن أحمي حديدة، فأضعها موضع السيف، وإما أن أسقيك شربة تقطع منك الولد، وتبرأ منها، فإن ضربتك مسمومة، فقال معاوية: أما النار فلا صبر لي عليها، وأما انقطاع الولد فإن في يزيد وعبد الله ما تقرّ به عيني، فسقاه تلك الشربة فبرأ، ولم يولد له بعدها، وأمر معاوية عند ذلك بالمقصورات وحرس الليل وقيام الشرطة على رأسه إذا سجد، وأما عمرو بن بكر فجلس لعمرو ابن العاص تلك الليلة، فلم يخرج، وكان اشتكى بطنه، فأمر خارجة ابن حذافة، وكان صاحب شرطته، وكان من بني عامر بن لؤي، فخرج ليصلي، فشد عليه وهو يرى أنه عمرو، فضربه فقتله، فأخذه الناس، فانطلقوا به إلى عمرو يسلمون عليه بالإمرة، فقال: من هذا؟ قالوا: عمرو. قال: فمن قتلت؟ قالوا: خارجة بن حذافة، قال: أما والله يا فاسق ماظننته غيرك، فقال عمرو: أردتني وأراد الله خارجة، فقدمه عمرو فقتله[21].

7 - مدة خلافة أمير المؤمنين علي، وموضع قبره وسنّه يوم قتل:

كانت مدة خلافته على قول خليفة بن خياط: أربع سنين وتسعة أشهر وستة أيام، ويقال ثلاثة أيام، ويقال أربعة عشر يوماً[22]، والذي يظهر أنها أربعة سنين وتسعة أشهر وثلاثة أيام، وذلك لأنه بويع بالخلافة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عام خمس وثلاثين، وكانت وفاته شهيداً في اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان عام أربعين للهجرة[23].

وقد تولى غسل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، رضوان الله عليهم، وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص[24]، وصلى عليه الحسن بن علي رضي الله عنهما فكبر عليه أربع تكبيرات[25] وفي رواية دون إسناد كبر عليه تسع تكبيرات[26].

وأما موضع قبره، فقد اختلف فيه، وذكر ابن الجوزي عدداً من الروايات في ذلك ثم قال: والله أعلم أي الأقوال أصح[27]، ومن الروايات التي جاءت في هذا الشأن ما يلي:

* أن الحسن بن علي رضي الله عنهما دفنه عند مسجد الجماعة في الرحبة مما يلي أبواب كنده قبل أن ينصرف الناس من صلاة الفجر[28] .

* رواية مثلها، أنه دفن بالكوفة عند قصر الإمارة عند المسجد الجامع ليلاً وعمي موضع قبره[29].

* رواية تذكر أن ابنه الحسن رضي الله عنه نقله إلى المدينة[30].

* رواية تذكر أن القبر الذي بظاهر الكوفة المشهد الذي بالنجف هو قبر علي رضي الله عنه، وأنكر بعض أهل العلم مثل شريك بن عبد الله النخعي قاضي الكوفة (ت 178 هـ) ومحمد بن سليمان الحضرمي (ت 297هـ)[31]، وفي الحقيقة إن ابتداع ما يسمى مشهد علي رضي الله عنه بالنجف كان أيام بني بويه في عهد الدولة العباسية وكانوا من الشيعة الروافض، وقد صنع الشيعة ذلك على عاداتهم في القرن الرابع، وأهل المعرفة متفقون أنه ليس بقبر علي رضي الله عنه بل قيل: هو قبر المغيرة ابن شعبة، قال ابن تيمية: وأما المشهد الذي بالنجف، فأهل المعرفة متفقون أنه ليس بقبر علي بل قيل: إنه قبر المغيرة بن شعبة، ولم يكن أحد يذكر أن هذا قبر علي ولا يقصده أحد أكثر من ثلاثمائة سنة، مع كثرة المسلمين من أهل البيت والشيعة وغيرهم وحكمهم بالكوفة، إنما اتخذ ذلك مشهداً في ملك بني بويه - الأعاجم - بعد موت علي بأكثر من ثلاثمائةسنة[32] وقال: وأما مشهد علي فعامة العلماء على أنه ليس قبره، بل قد قيل: إنه قبر المغيرة بن شعبة، وذلك أنه إنما أظهر بعد نحو ثلاثمائة سنة من موت علي في إمارة بني بويه[33].

واختلف في سنّه يوم قتل، فقال بعضهم: وهو ابن تسع وخمسين سنة، وقيل: وهو ابن خمس وستين سنة، وقيل وهو ابن ثلاث وستين سنة، وذلك أصح ما قيل فيه[34].

8 - خطورة الفرق الضالة والفرق المنحرفة على المسلمين:

إن الفرق الضالة والطوائف المنحرفة عندما تنتشر في بلاد الإسلام تعرض أهله للخطر، وتهدد الأمن والاستقرار وتشكك الناس في عقيدتهم، وتعيث في الأرض فساداً وخراباً، وتلك هي حال الخوارج المارقين الذين خرجوا على علي رضي الله عنه وكفّروه وقتله نفرٌ منهم على حين بغتة كما بيّنا ذلك من قبل، زاعمين أنهم يشرون أنفسهم بهذا الفعل ابتغاء مرضاة الله، وماعندهم في ذلك مستند ولا برهان، إن هو إلا اتباع الأهواء وطاعة الشياطين، وإذا تبيَّن لنا مما سبق أن الخوارج قد تسببوا في قتل علي رضي الله عنه وعرفنا مناهجهم الفاسدة، فالواجب على أمة الإسلام أن تحذر منهم، وتحارب مناهجهم، ويقوم العلماء والدعاة بواجبهم في ذلك ليستقر الأمن، وتظهر أنوار السنة، وتخمد نيران البدعة، وفعل ذلك وأداؤه على الوجه الأمثل بالتمكين لعقيدة أهل السنة والجماعة، ومقارعة البدعة والمبتدعين، وهذا كله من أسباب نهوض المجتمعات، وهذه هي الطريقة المثلى لجمع الشمل ووحدة الصف، ومن تأمل تاريخ الإسلام الطويل وجد أن الدول التي قامت على السنة هي التي جمعت شمل المسلمين، وقام بها الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعز به الإسلام قديماً وحديثاً، وهذا بخلاف الدول التي قامت على البدعة، وأشاعت الفوضى والفرقة والمحدثات، وفرقت الشمل، فهذه سرعان ما تندثر، وتنقرض[35].

9 - الحقد الدفين الذي امتلأت به قلوب الحاقدين من الخوارج على المؤمنين الصادقين:

الكشف عن الحقد الدفين الذي امتلأت به قلوب الحاقدين من الخوارج على المؤمنين الصادقين، دلّ على ذلك قول عبد الرحمن بن ملجم - يعني سيفه -: والله لقد اشتريته بألف، وسممته بألف، ولو كانت هذه الضربة على جميع أهل المصر ما بقي منهم أحد[36].

إن كلماته هذه تبرز لنا العداء السافر الذي يكنه هؤلاء الخوارج، لا على عموم المؤمنين فحسب، بل على القادة الكبار من أمثال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي تجتمع في شخصه رضي الله عنه أعظم المناقب وأجلّ السجايا، وانظر - رعاك الله - كيف تورد المناهج الباطلة، والأفكار المنحرفة أصحابها إلى دركات من التعاسة والشقاء، عندما يغتالون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان[37].

10 - تأثير البيئة الفاسدة على أصحابها:

إن البيئة الفاسدة تؤثر على أصحابها حتى لو كان منهم من يحب العدل ويسعى إليه، فهذا عبد الرحمن بن ملجم يقابل شبيب بن بجرة فيقول له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما ذاك؟ قال: قتل علي بن أبي طالب، قال: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئاً إدًّا، كيف تقدر على عليّ! قال: أكمن له في المسجد، فإذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا شفينا أنفسنا، وأدركنا ثأرنا، وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها. قال: ويحك! لو كان غير علي لكان أهون عليّ، قد عرفت بلاءه في الإسلام، وسابقته مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما أجدني أنشرح لقتله، قال: أما تعلم أنه قتل العباد الصالحين؟! قال: بلى، قال: فنقتله بمن قتل من إخواننا. تقول رواية الطبري: فأجابه[38].

فانظر - رعاك الله - كيف يؤثر أصحاب الآراء الضالة والأفكار المنحرفة على من يخالطونهم ويجلسون معهم؟ إنه على الرغم من أن شبيباً لم ينشرح صدره لقتل علي لما يعلمه عنه من بلائه في الإسلام وسابقته مع النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه استجاب لابن ملجم لما أثر عليه بالشبهة التي ألقاها عليه عندما ذكره بقتل علي رضي الله عنه لإخوانه من الخوارج المارقين، فأثار فيه العاطفة تجاههم، رغم أنهم قتلوا بالحق لا بالباطل، فاستجاب لصاحبه، وانقاد له فكانت النتيجة إفساد الأفكار، وتلويث السمعة، والخسران المبين، وذلك يدعو كل مسلم أن يحذر من مصاحبة من كان على نهج هؤلاء من فاسدي الاعتقاد، ملوثي الأفكار، وأن يسارع إلى مجالسة العلماء الربانيين الذين يعلمون الحق ويعملون به، ويرشدونه إلى ما فيه صلاحه في الدنيا والآخرة، وإن لم يرض بهذه السبيل القويمة وخالط أولئك المنحرفين في عقيدتهم فسيعض أصابع الندم، ولات ساعة مندم[39] كما قال تعالى: {قويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} [الفرقان: 27-29].

هذه بعض الدروس والعبر والفوائد من حادثة مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه العالم الرباني، الذي أفنى عمره كله خاشعاً لله تعالى، أواهاً منيباً وخط لنا طريقاً مباركاً للاقتداء والتأسي به.

 

هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الخميس الساعة واحدة إلا خمس دقائق ظهراً بتاريخ 11شوال 1435 هـ الموافق 7 أغسطس 2014 م، والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده، وقال تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم} [فاطر: 2].

 

[1]الطبقات لابن سعد (3/35)، تاريخ الطبري (6/58 إلى 66) بسند منقطع، مروج الذهب (3/423)، الطبراني (1/55-58)، مجمع الزوائد (6/249) تاريخ الإسلام والخلفاء الراشدون للذهبي، ص (649)، وفيات الأعيان (7/218)، البداية والنهاية (7/325).

 

[2]تاريخ الطبري (6/59).

 

[3]تاريخ الطبري (6/62).

 

[4]المصدر نفسه.

 

[5]الاستيعاب (3/1128).

 

[6]تاريخ الطبري (6/62).

 

[7]المصدر نفسه (6/63).

 

[8]

[9]تاريخ الطبري (6/64).

 

[10]التاريخ الكبير للبخاري (1/99) بسند صحيح.

 

[11]خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد، ص (439).

 

[12]فضائل الصحابة (2/560) بسند حسن.

 

[13]المحن لأبي العرب، خلافة علي بن أبي طالب، ص(439).

 

[14]الطبقات (3/35) تاريخ الإسلام.

 

[15]تاريخ الطبري (6/64).

 

[16]منهاج السنة (5/245) (7/405،406) منهج ابن تيمية في مسألة التكفير، ص (309).

 

[17]تاريخ الطبري (6/64).

 

[18]خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد، ص (440).

 

[19]طبقات ابن سعد (3/39،40) الأخبار الطوال، ص (215).

 

[20]تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء الراشدين، ص (654).

 

[21]تاريخ الطبري (6/65).

 

[22]التاريخ، ص (199).

 

[23]التاريخ الكبير للبخاري (1/99) سنده، صحيح.

 

[24]المنتظم (5/175)، الطبقات (3/27).

 

[25]الطبقات (3/337،338).

 

[26]المنتظم (5/175).

 

[27]المنتظم (5/178).

 

[28]الطبقات (3/38)، خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد ص (441).

 

[29]المنتظم (5/77)، تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء ص (651).

 

[30]تاريخ بغداد (1/137).

 

[31]خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد، ص(441).

 

[32]الفتاوى (4/502)، دراسات في الأهواء والفرق والبدع، (280).

 

[33]الفتاوى (27/446).

 

[34]تاريخ الطبري (6/67).

 

[35]سير الشهداء دروس وعبر، عبد الحميد السحيباني، ص (77).

 

[36]تاريخ الطبري (6/62).

 

[37]سير الشهداء دروس وعبر، ص (78).

 

[38]تاريخ الطبري (6/62).

 

[39]سير الشهداء.. دروس وعبر، ص (79).

 

  • الاربعاء AM 08:40
    2020-12-09
  • 1958
Powered by: GateGold