المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412294
يتصفح الموقع حاليا : 295

البحث

البحث

عرض المادة

الوضع في الحديث وجهود العلماء في مقاومته

لقد تعرضت السنة المطهرة قديماً وحديثاً إلى محاولات خبيثة تهدف إلى الدس عليها وتحريفها . فقد سعى كثير من المغرضين والجهلة لاستغلال الدس على السنة والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم في خدمة آرائهم السياسية أو اتجاهاتهم المذهبية أو مصالحهم الشخصية.

ولكن الله تعالى حمى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}([1])، فهيأ لها جهابذة المحدثين الذين نالوا شرف صيانة السنة وحمايتها من الدخيل، وبذلوا جهوداً جبارة في مقاومة الوضع وفضح أهله، وتتبعوا الأسانيد والمتون بالفحص والدراسة، وميزوا المقبول من المردود، ووضعوا لذلك قواعد محكمة وضوابط دقيقة يستحيل معها أن يدخل في السنة ما ليس منها، وصنفوا في الحديث الموضوع لينتبه إليه المسلمون ويحذروه، وصنفوا في تراجم الوضاعين لتجنب الرواية عنهم ومعرفة حالهم من العداوة لدين الله.

والحديث الموضوع هو المختلق المصنوع المنسوب كذباً وزوراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد أجمع العلماء على تحريم روايته إلا مقروناً ببيان وضعه، قال صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين"([2])،كما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) ([3]).

أولاً- نشأة الوضع:

ظلت السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وعصر الخلفاء الراشدين صافية نقية، لا يشوبها كدر ولا يعتورها تغيير ولا كذب، وكان أولئك الأخيار من الصحابة وكبار التابعين وعلمائهم خير حراس للوحي وأفضل حماة لهذا الدين. وقد تقدم في مبحث السنة في عصر الصحابة والتابعين ما يكفي للدلالة على شدة محبتهم للسنة واحتياطهم في تلقيها وروايتها ، وتيقظهم التام في فحصها والمحافظة على نقاوتها كما صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم اندس في الأمة أهل المصالح والأهواء والزنادقة والحاقدون على الإسلام فنفثوا سمومهم بالكذب على الشريعة الغراء ليشوهوا بزعمهم حقائق الدين الناصعة وليحاربوا الإسلام من داخله بعد أن عجزوا عن مواجهته في ميادين النزال الشريفة.

وكان أول أثر لهؤلاء الأعداء في صفوف الأمة أن تسببوا في إحداث الفتنة الكبرى التي انتهت بمقتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وما لحق ذلك من الاضطرابات الكثيرة والحروب الطاحنة المبيرة التي فرقت وحدة الأمة، فظهرت فرقة السبئية المنسوبة إلى عبد الله بن سبأ اليهودي، وفرقة الخوارج الذين انشقوا على عليٍّ رضي الله عنه لقبوله التحكيم في موقعة صفين، وفرقة الشيعة التي ادعت التحزّب لعليٍّ وآل البيت...

وهكذا نشأت الفرق والتحزّبات، واتخذت طابعاً دينياً لتتمكن من البقاء، وسعى أهل كل فرقة جاهدين لنصرة آرائهم ودعم توجهاتهم بالنصوص الشرعية وأنّى لهم
ذلك، فراحوا يؤولون آيات الكتاب بما تمليه أهواؤهم، ووضعوا الأحاديث وكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم لتأييد آرائهم، وقام مخالفوهم بالرد عليهم بمثل ذلك، فنشطت جريمة الوضع، وازداد نموها مع ظهور المزيد من الفرق، فوضعت الأحاديث في فضائل ومثالب الأشخاص من رؤساء الفرق وزعماء الأحزاب، وفي فضائل البلدان، وفي دعم الآراء والأفكار العقائدية والسياسية، بل تعدى الأمر إلى وضع أحاديث في كثير من أبواب الفقه من العبادات والمعاملات والأطعمة والرقائق وغيرها، وقد تتبع جهابذة النقاد جميع ذلك وبينوا زيفه، وجمعوه في مصنفات كثيرة، منها ما صنف على الأبواب الفقهية، ومنها ما هو على أوائل الحروف، وحافظت السنة بحفظ الله لها على نقاوتها ولم يخالطها شيء من غيرها على سبيل الاستمرار بحمد الله تعالى، كما قرر ذلك الحافظ ابن حزم وغيره، ولله الفضل والمنة.

ومما تجب الإشارة إليه في هذا المدخل براءة الصحابة من هذه الجريمة النكراء لأن بعض المتحذلقين من المستشرقين يحاول الضرب على هذا الوتر ليغرر بجهلة المسلمين وليطعن على السنة بالطعن على حملتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نسي هؤلاء أو تناسوا أن عدالة الصحابة نزل بها الوحي من السماء فأنى يستطيع أهل الأرض التلبيس عليها، كما أغفل هؤلاء عن جهل أو إغراض ذكر ما عرف عن الصحابة من محبة السنة والحرص عليها والذود عن حماها والخوف من الخطأ في الحرف والكلمة الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يتصور بعد هذا منصف أنهم قد يتجرأون على الوضع في الحديث.

وقد ساق الخطيب البغدادي حشداً من الآيات والأحاديث الدالة على تعديل الصحابة رضوان الله عليهم ثم قال: "وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق لهم، على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين: القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين، هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء"([4]).     

ثانياً- أسباب الوضع:

درس العلماء بواعث الوضع وأسبابه، وصنفوا الوضاعين بحسب الدوافع التي أدت بهم إلى الوضع، وذلك في إطار تحليل حركة الوضع والكشف على الأحاديث الموضوعة، وأهم الأسباب التي ذكروها ما يلي:

1- الخلافات السياسية ونصرة الفرق والأحزاب:

كان الشيعة أسبق الفرق إلى الوضع وأكثرها جرأة عليه، قال ابن أبي
الحديد الشيعي: "إن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم، وحملهم على وضعها عداوة خصومهم، فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث"([5]).

وجارى الشيعة في ذلك جهال عوام أهل السنة، قال ابن تيمية: "أما الفضائل فلا تحصي كم وضع الرافضة في فضل أهل البيت، وعارضهم جهلة أهل السنة بفضائل معاوية بدءاً، وبفضائل الشيخين.. "([6]).

قال شريك بن عبد الله: "احمل عن كل من لقيت إلا الرافضة فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه ديناً"([7]). 

وقال حماد بن سلمة: "حدثني شيخ لهم- يعني الرافضة- قال: كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئاً جعلناه حديثاً([8]).

ومن أمثلة([9]) ما وضعه الشيعة: "علي خير البشر من شك فيه كفر"، ومما وضعه جهلة أهل السنة: "أبو بكر يلي أمتي بعدي".

أما الخوارج فهم أقل الفرق كذباً لاعتقادهم بكفر مرتكب الكبيرة، حتى إن بعض أهل العلم ذكروا أنهم من أصدق الناس حديثاً لهذا المعتقد([10])، غير أنه قد يقع من بعضهم كما روي عن ابن لهيعة أنه قال: "سمعت شيخاً من الخوارج تاب ورجع، وهو يقول: إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيرناه حديثاً" ([11]).

ومما وضعه القدرية الذين ينفون خلق الله لأفعال العباد، قولهم: "إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فالسعيد من وجد لقدمه موضعاً، فينادي مناد من تحت العرش: ألا من برأ ربه من ذنبه فليدخل الجنة".

ومما وضعه المرجئة القائلون بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، قولهم: "الإيمان مثبت في القلب كالجبال الرواسي، وزيادته كفر ونقصانه كفر".

ومما وضعه جهلة الممالئين للعباسيين قولهم: "العباس وصيي ووارثي".

وروي أن المختار بن أبي عبيد الثقفي قال لرجل من أصحاب الحديث: "ضع لي حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أني كائن بعده خليفة وطالب له بترة ولده، وهذه عشرة آلاف درهم وخلعة ومركوب وخادم، فقال الرجل: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا، ولكن اختر من شئت من الصحابة، وأحطك من الثمن ما شئت"([12]).

ومن أكثر البلاد التي اشتهرت بالوضع في الزمن المتقدم: العراق، لأنها موطن التشيع، حتى إنها سميت "دار الضرب"، أي تضرب فيها الأحاديث المكذوبة كضرب الدراهم المزيفة([13]).

2- الزندقة ومعاداة الإسلام وقصد تشويهه:

الزنادقة هم الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وهم في الأغلب ينتمون إلى أمم زال سلطانها على يد المسلمين فحقدوا عليه إذ لم يدركوا الخيرية العظيمة الذي جاء بها هذا الدين، وراحوا يكيدون للإسلام من الداخل، وظنوا أن بغيتهم تتحقق بوضع الأحاديث للتلبيس على المسلمين، لكن الله أخزاهم وأظهر باطلهم على أيدي علماء الحديث.

قال العلامة الجزائري: "إن قوماً من الفرس واليهود وغيرهم لما رأوا الإسلام قد ظهر وعم، ودوخ وأذل جميع الأمم، ورأوا أنه لا سبيل إلى مناصبته رجعوا إلى الحيلة والمكيدة، فأظهروا الإسلام من غير رغبة، وأخذوا أنفسهم بالتعبد والتقشف، فلما حمد الناس طريقتهم ولّدوا الأحاديث والمقالات وفرقوا الناس فرقاً"([14]).

قال حماد بن سلمة: "وضعت الزنادقة على النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألف حديث"([15]).

واعترف عبد الكريم بن أبي العوجاء قبيل قتله أنه وضع أربعة آلاف حديث يحرم فيها الحلال ويحل فيها الحرام.

وقد سن الوالي خالد بن عبد الله القسري في الزنادقة سنة حسنة حينما ضحّى بالجعد بن درهم الكذاب، ثم سار خلفاء بني العباس سيرته، فتتبعوهم، بل إن المهدي أنشأ ديواناً خاصاً لتعقب الزنادقة وقطع دابرهم، كما تتبع العلماء أحاديثهم وبينوا زيفها.

3- التعصب للجنس أو البلد أو المذهب:

إن التعصب داء عضال، من مرض به تعب وأتعب، بل قد يؤدي به ذلك
إلى الغلو، وربما إلى الخروج من الملة نسأل الله العافية، وقد برأ الله أئمة المسلمين من ذلك، ولكنه وقع من بعض الجهال والعوام، فقد حملهم التعصب لما ينتمون إليه أن يضعوا الأحاديث في فضله وفي مثالب ما يقابله.

ومن أمثلة الموضوعات تعصباً للجنس قولهم: "إن الله إذا غضب أنزل الوحي بالعربية وإذا رضي أنزل الوحي بالفارسية".والموضوعات في فضائل البلدان والقبائل كثيرة، مثل: "إذا ذهب الإيمان من الأرض وجد ببطن الأردن"، "الجفاء والبغي في الشام". ومن الموضوعات تعصباً للمذهب قولهم: "سيكون في أمتي رجل يقال له
أبو حنيفة النعمان هو سراج أمتي".

4- الترغيب في الخير والترهيب عن الشر:

حمل الجهل الفادح بعض أهله المنسوبين إلى الزهد والتعبد أن يضعوا جملة
من الأحاديث لحث الناس على الخير، وزجرهم عن الشر بزعمهم الفاسد، وقد نسوا أن الله قد أكمل الدين وأتم النعمة، وأن في مقبول السنة غناء لكل مسلم. وهذا النوع من أشد الوضاعين خطراً لأنهم يخدعون الناس بمظاهرهم فيأنسون لأقوالهم.

من هؤلاء غلام الخليل الذي سئل عما يحدّث به من الرقائق، فقال: "وضعناها لنرقق بها قلوب العامة"([16]).

ومن هذا النوع حديث فضائل القرآن سورة سورة، الذي وضعه نوح بن
أبي مريم.

5- النفاق للحكام وطلب ودّهم وصلاتهم:

قام بعض من لاخلاق له في الدين بوضع الأحاديث تزلفاً للحكام، من ذلك ما فعله غياث بن إبراهيم الذي دخل على المهدي فوجد عنده حماماً، وكان المهدي يحب اللعب بالحمام، فقال غياث حدثنا فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا سبق إلا في نصل أو حافر أو جناح"، أضاف لفظ "أو جناح" ليرضي المهدي، فأمر له المهدي بجائزة، ثم عاد إليه رشده فلما قام غياث قال المهدي: "أشهد أنّ قفاك قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ثم قال: "أنا حملته على ذلك"، وأمر بذبح الحمام وترك ما كان فيه من اللهو.

6- رغبة القصاص في الإغراب:

كان بعض القصاص مرضى بالرغبة في جلب اهتمام الناس واستدرار أموالهم باختراع غرائب القصص والأحاديث ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم زوراً
وبهتاناً، ومن شأن العوام ملازمة القصاص والولع بكل غريب دون تحقيق في مصدره، قال ابن قتيبة عن هؤلاء القصاص: "إنهم يميلون وجوه العوام إليهم ويستدرون ما عندهم بالمناكير والغرائب من الأحاديث"([17]).

ومما جاء في ذلك أن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين صليا بمسجد الرصافة،
فقام بين أيديهم قاص فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: حدثنا عبد الرزاق عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله
خلق الله من كل كلمة طيراً منقاره من ذهب وريشه من مرجان"، واستمر في هذا الحديث بنحو عشرين ورقة، فجعل أحمد ويحيى ينظران إلى بعضهما مندهشين، ثم سأله يحيى: من حدثك بهذا؟ فقال القاص: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، فقال له يحيى: أنا يحيى وهذا أحمد ، ماسمعت بهذا قط في حديث رسول الله ، فإن كان ولابد فعن غيرنا، فقال القاص: أليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما ، لقد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحيى بن معين([18]).

7- أسباب أخرى للوضع:

هناك أسباب أخرى متنوعة حمل أصحابَها عليها المصالحُ الشخصية طمعاً وجشعاً أو غضباً وانتقاماً،... من ذلك حديث فضل الهريسة الذي وضعه بائعها لترويج بضاعته.وحديث "من قاد أعمى أربعين خطوة وجبت له الجنة"، الذي وضعه محمد بن عبد الملك الأنصاري الأعمى.

وحديث "معلمو صبيانكم شراركم، أقلهم رحمة لليتيم وأغلظهم على المسكين"، وقد وضعه سعيد بن طريف عندما جاءه ابنه من الكتّاب يبكي لأن معلمه ضربه، فغضب سعيد وقال: أما والله لأخزينهم حدثني عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً... وذكره.

ثالثا: جهود العلماء في مقاومة الوضع:

انبرى جهابذة المحدثين لمحاربة الوضع وتتبع أخبار الوضاعين، وفحص أسانيد الأحاديث الموضوعة ومتونها واحداً واحداً، فكشفوا زيفها، متتبعين في ذلك أدق الوسائل العلمية، ومبتكرين أضبط القواعد المنهجية التي نالت إعجاب كل منصف، فقد قال مرجليوث: "ليفتخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم"([19]).

وقد قيل لعبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: يعيش لها
الجهابذة ، ثم قرأ: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}([20]).

وقد أمر الرشيد بقتل زنديق فقال له: "أين أنت عن أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام، ما قال النبي منها حرفاً"، فقال له الرشيد: "أين أنت يا زنديق من عبد الله المبارك وأبي إسحق الفزاري ينخلانها نخلاً فيخرجانها حرفاً حرفاً"([21]).

ويمكن تلخيص الأسس المنهجية التي سار عليها المحدثون في حماية السنة من الدخيل وتنقيتها من شوائب الوضع والتحريف فيما يلي:

1- اشتراط الإسناد:

إن الإسناد من خصائص هذه الأمة، كما ذكر أهل العلم، وكان المحدثون يشترطون ذكر الإسناد عند الرواية، ولا يعيرون اهتماماً لأي حديث لم تذكر رواته، فقطع بذلك الطريق أمام الدجاجلة والوضاعين.

وقد بدأ ذلك في وقت مبكر عندما أخذت الفتن تطل برأسها، قال التابعي ابن سيرين: "لم يكونوا- أي الصحابة- يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"([22]). 

وقال عبد الله بن المبارك: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"([23]).

وقال هشام بن عروة: "إذا حدثك رجل بحديث فقل عمن هذا؟ "([24]).

وقال سفيان الثـوري: "الإسنـاد سـلاح المؤمـن فإذا لـم يـكن معـه سلاح فبأي شـيء يقاتل؟"([25]).

2- استخدام التاريخ لفضح الكذابين:

أتقن المحدثون علم تاريخ رواة الحديث، فحددوا مواليدهم، ووفياتهم، ورحلاتهم، والبلاد التي دخلوها، وتواريخ دخولهم لها، وعمن أخذوا في كل بلد، فضبطوا بذلك تحركات الرواة وتواريخها، فكان لذلك أثر كبير في فضح الوضاعين وضبط أكاذبيهم، قال سفيان الثوري: "لـمّا استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ"([26]).

3- تتبع الكذابين والتحذير منهم:

حرص المحدثون على فضح الكذابين والإعلان بكذبهم على رؤوس الناس، قال يحيى بن سعيد: "سألت شعبة وسفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة عن الرجل يتهم في الحديث، قالوا: بيّنْ أمره للناس"([27]).

وكانوا يحذرون من مجالسة الكذابين ويرشدون إلى حضور مجالس الثقات، من ذلك أن جعفر بن الزبير الكذاب كان مع عمران بن جدير المحدث الثقة يجلسان للناس في مسجد واحد، فكان الناس يأتون إلى جعفر قبل أن يعرفوا أمره فكان شعبة بن الحجاج يمر بهم ويقول رافعاً صوته: يا عجبا للناس! اجتمعوا على أكذب الناس وتركوا أصدق الناس، فما أتى عليه قليل حتى ترك الناس مجلس جعفر وكثر الزحام على حلقة عمران([28]).

وقال معاذ العنبري: "كتبت إلى شعبة أساله عن أبي شيبة قاضي واسط، فكتب إليّ: لا تكتب عنه"([29]).

4- بيان أحوال الرواة:

تتبع المحدثون أحوال الرواة في جميع أحوالهم، وجمعوا ما فيهم من التعديل أو التجريح، وحددوا شيوخهم وتلاميذهم، وميّزوا مروياتهم حتى عرفوا الحافظ والأحفظ والضابط والأضبط، والمتقن والأتقن، وعرفوا سيء الحفظ، والمغفل والمدلس وكثير الأوهام وفاحش الغلط والمتهم بالكذب والكذاب، عرفوا جميع ذلك بدقة، ونشروا علمه بين طلابهم، ودونوه في مصنفات علم الرجال، فصنفوا في الثقات، وصنفوا في الضعفاء، وصنفوا في الوضاعين... وحددوا ألفاظاً للجرح والتعديل تعرف بها منازل الرواة.

وكانوا يخصصون أياماً لبيان أحوال الرواة في مجالسهم، قال أبو زيد الأنصاري: "أتينا شعبة يوم مطر، فقال: ليس هذا يوم حديث، اليوم غيبة، تعالوا نغتاب الكذابين"([30]).

وكانوا لا يحابون في ذلك والداً ولا ولداً ولا قريباً، قال زيد بن أبي أنيسة: "لا تأخذوا عن أخي "([31])، وقال علي بن المديني حين سئل عن والده: "هو الدين، إنه ضعيف"([32]).

وكان المحدثون من الدقة في ذلك بحيث لا يفوتهم شيء من أحوال الرواة، قال الشعبي: "والله لو أصبت تسعاً وتسعين مرة وأخطأت مرة لعدوا عليّ تلك الواحدة"([33]).

5- تقسيم الحديث إلى مراتب شرها الموضوع:

قسم المحدثون الحديث إلى مراتب بناء على قواعدهم في نقد الحديث سنداً ومتناً، فالمتواتر أعلى أنواعه ثم الصحيح وهو مراتب، ثم الحسن، ثم الضعيف، وهو أكثر من خمسين نوعاً، ثم الموضوع، وذلك بحسب توافر أو فقد شروط القبول الستة، وهي: اتصال السند، وعدالة الرواة، وضبط الرواة، وعدم الشذوذ، وعدم العلة القادحة، ووجود العاضد عند الاحتياج إليه.

6- التصنيف في الحديث الموضوع:

خصص المحدثون للموضوع مؤلفات مستقلة، لتسهل معرفته والاحتراز منه، وسيأتي ذكر نماذج لها في المبحث الخامس إن شاء الله.

7- تحديد علامات الحديث الموضوع:

وضع المحدثون قواعد دقيقة لمعرفة الوضع في الحديث سنداً ومتناً، سيأتي ذكرها في المبحث التالي.

رابعاً: علامات الحديث الموضوع:

سبر المحدثون أحوال الأحاديث الموضوعة ببحث جاد، وتنقيب لا يكل وتتبع لا يمل، واستقراء جامع، فكانت نتيجة أبحاثهم استخلاص جملة من العلامات التي يعرف بها وضع الحديث، بعضها متصل بالسند، وبعضها متصل بالمتن:

أ- علامات الوضع في السند:

السند هو سلسلة رواة الحديث، فإذا كان في الحديث راو كذاب أو أكثر فهو حديث موضوع، ويعرف كذب الراوي بأمور أهمها:

1- إقرار الراوي نفسه بوضع الحديث، مثلما تقدم عن غلام الخليل، والزنديق الذي أمر الرشيد بقتله، ومثل إقرار نوح بن أبي مريم بوضع حديث فضائل القرآن سورة سورة.

2- أن يحكم عليه علماء الجرح والتعديل بالكذب بعد تتبع أحواله وفحص أحاديثه وعرضها على أحاديث الحفاظ الأثبات.

3- أن يروي الراوي عمن لم يثبت أنه لقيه بصيغة تدل على السماع، أو عمن ولد بعد وفاته، أو كان في مكان آخر ولم يلتق به، وقد كشف المحدثون عن كثير من ذلك بتتبعهم لأحوال الرواة.من ذلك تحديث عمر بن موسى عن خالد بن معدان، فقيل له: متى لقيته؟ قال: سنة ثمان ومائة، قيل: أين لقيته؟ قال: في غزاة أرمينية، فقيل له: اتق الله يا شيخ، ولا تكذب، مات خالد بن معدان سنة أربع ومائة، وأنت تزعم أنك لقيته بعد موته بأربع سنين، ثم إنه لم يغز أرمينية قط، كان يغزو الروم([34]).

ب- علامات الوضع في المتن:

عني المحدثون بنقد متون الأحاديث، ووضعوا معايير كثيرة تساعد في معرفة الحديث الموضوع، وهي أكثر عدداً من معايير نقد الإسناد، وهذا كفيل بالرد على من يجهلون هذا الميدان ويدّعون أن علماء الحديث قد عنوا بنقد الإسناد دون العناية بنقد المتن. ومن أهم علامات الوضع في المتن ما يلي:

1- ركاكة لفظه وسماجة أسلوبه، سماجةً يمجها سمع من يعرف لغة العرب، ويدفعها الطبع السليم، وذلك يتنافي مع ما عرف به حديث النبي صلي الله عليه وسلم من الفصاحة والبلاغة والحلاوة والطراوة، قال الربيع بن خثيم: "إن من الحديث حديثاً له ضوء كضوء النهار نعرفه به، وإن من الحديث حديثاً له ظلمة كظلمة الليل نعرفه بها"([35]).

وقال ابن الجوزي في كتاب الموضوعات: "الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم وينفر منه قلبه في الغالب".

ومن أمثلته قولهم: "من فارق الدنيا وهو سكران دخل القبر وهو سكران وبعث من قبره سكران، وأمر به إلى النار سكران إلى جبل يقال له: سكران".

ومن هذا النوع أيضاً ما يشتمل على خطأ لغوي، مثل:"لا تُسَيِّدوني في الصلاة".

2- فساد معنى الحديث ومخالفته لبدهيات العقول السليمة، مثل: "إن سفينة نوح طافت بالبيت سبعاً، وصلت عند المقام ركعتين".

3- أن يعرف بالاستقراء لجميع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس
منها، وهذا إنما يعرفه الحفاظ المستوعبون للسنة، قال العلائي: "وهذا إنما يقوم به الحافظ الكبير الذي قد أحاط حفظه بجميع الحديث أو معظمه كالإمام أحمد وعلي بن المديني ويحيى بن معين، ومن بعدهم كالبخاري وأبي حاتم وأبي زرعة، ومن دونهم كالنسائي ثم الدارقطني... وأما من لم يصل إلى هذه المرتبة فكيف يقضي بعدم وجدانه للحديث أنه موضوع، هذا مما يأباه تصرفهم"، قال ابن عراق معلقاً: "فاستفدنا من هذا أن الحفاظ الذين ذكرهم وأضرابهم إذا قال أحدهم في حديث: لا أعرفه أو لا أصل له كفي ذلك في الحكم عليه بالوضع والله أعلم"([36]) "، ومثاله قول الإمام القاري في حديث "إن الله لا يقبل دعاء ملحوناً": "لا يعرف له أصل"([37]).

ومن هذا النوع أن يقوم الحفاظ باستقراء الأبواب والموضوعات، ثم يجزموا بأن ما ورد فيها موضوع، مثل قولهم: أحاديث ذم الأولاد كلها كذب، وأحاديث مدح العزوبة كلها باطل، وأحاديث فضائل الأزهار كلها كذب....

4- أن يخالف صريح القرآن: مثل حديث"ولد الزنى لا يدخل الجنة"، فإنه مخالف لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}([38]).

5- مخالفته لصحيح السنة: مثل حديث "إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به حدثت به أو لم أحدث" فهو مناقض للحديث المتواتر "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".

6- مخالفته للإجماع: مثل حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي بن أبي طالب بمحضر من الصحابة كلهم وهم راجعون من حجة الوداع فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع ثم قال: هذا وصيي وأخي والخليفة من بعدي فاسمعوا له وأطيعوه"، فهذا مخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على تولية أحد بعده.

7- مخالفته للمعلوم من الدين بالضرورة: مثل حديث "من قضى صلوات من الفرائض في آخر من رمضان كان ذلك جابراً لكل صلاة فاتته من عمره إلى سبعين سنة"، فهذا مخالف للمعلوم من الدين بالضرورة من أن الفائتة من العبادات لا يقوم مقامها شيء، بل لابد من قضاء كل صلاة منفردة، مع التوبة والاستغفار عسى أن يقبلها الله ويعفو عن صاحبها.

8- أن يخالف حقائق التاريخ المعروفة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم: مثل حديث "إن النبي وضع الجزية عن أهل خيبر بشهادة سعد بن معاذ وكتابة معاوية"، والثابت أن الجزية لم تكن معروفة عام خيبر، وأن سعد بن معاذ توفي قبل عام خيبر، ومعاوية أسلم بعد ذلك يوم الفتح.

9- الإفراط في الوعد والوعيد لأفعال لا تستوجب ذلك:مثل حديث "من صلى الضحى أعطي ثواب سبعين نبياً"، وحديث "من صلى ركعتين فله ثواب موسى وعيسى".قال ابن القيم: "وأمثال هذه المجازفات الباردة لا يخلو حال واضعها من أحد أمرين: إما أن يكون في غاية الجهل والحمق، وإما أن يكون زنديقاً قصد التنقيص بالرسول صلى الله عليه وسلم بإضافة مثل هذه الكلمات إليه"([39]).

10- اشتماله على سخافات وسماجات يصان عنها سائر العقلاء فكيف بنبي الهدى المسدد بالوحي صلى الله عليه وسلم: مثل حديث "لو كان الأرز رجلاً لكان حليماً ما أكله جائع إلا أشبعه"، وحديث "خلق الورد من عرقي".

خامساً: المصنفات في الحديث الموضوع:

صنف المحدثون كتباً خاصة في الأحاديث الموضوعة للتنبيه عليها والتحذير منها، من ذلك:

1- الموضوعات من الأحاديث المرفوعات، للحسين بن إبراهيم الجوزقاني
(ت543).

2- الموضوعات، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي (ت597).

3- اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911).

4- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة، لعلي بن محمد بن عراق (ت963).

5- تذكرة الموضوعات، لمحمد بن طاهر الهندي (ت986).

6- الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، لعلي بن محمد المعروف بملا علي القاري (ت1014).

7- المصنوع في معرفة الحديث الموضوع، للقاري أيضاً.

8- الفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة، لمرعي بن يوسف الكرمي
(ت1032).

9- الدرر المصنوعات في الأحاديث الموضوعات لمحمد بن أحمد السفاريني
(ت1188).

 10- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، لمحمد بن علي الشوكاني
(ت1250).
المراجع المساعدة

  • الوضع في الحديث للدكتور عمر فلاتة.
  • السنة قبل التدوين 185- 248.
  • السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي 85- 102.
  • منهج النقد في علوم الحديث 301- 320.
  • معالم السنة النبوية 103 - 133.
  • بحوث في تاريخ السنة المشرفة 19- 59.
  • الحديث النبوي 247- 277.
  • مقدمة الموضوعات لابن الجوزي.
  • خاتمة اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي.
  • مقدمة تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة لابن عراق.
  • المنار المنيف لابن القيم.

 أسئلة التقويم الذاتي

  • عرف الحديث الموضوع، وبين حكم روايته.
  • تحدث عن نشأة الوضع باختصار مبيناً براءة الصحابة وكبار التابعين من ذلك.
  • ما هي دوافع الوضع في الحديث مع التمثيل لكل منها؟
  • وضح جهود العلماء في مقاومة الوضع.
  • ما هي علامات الوضع في السند وفي المتن؟
  • كيف ترد على من ادعى أن عناية المحدثين كانت مقتصرة على الإسناد دون المتن؟
  • اذكر خمسة من كتب الموضوعات مبيناً فوائدها.
  • اكتب خمس صفحات بتعبيرك تضمنها حصيلة ما استفدته من هذا المبحث.

 

 

 

 

 

 

 

 

([1]) الحجر : (9) .

([2]) أخرجه مسلم 1/7 .

([3]) البخاري مع الفتح 1/272 ح108 .

([4]) الكفاية 96 .

([5]) شرح نهج البلاغة 3/26 ، 11/48 .

([6]) انظر : لسان الميزان 1/13 .

([7]) ميزان الاعتدال 1/28.

([8]) الموضوعات 1/39 .

([9]) جميع الأمثلة التى سأذكرها هنا للأحاديث الموضوعات مأخوذة من كتاب الموضوعات
لابن الجوزى ، وتنـزيه الشريعة لابن عراق ، والفوائد المجموعة للشوكانى واللآلى المصنوعة للسيوطى ، والمنار المنيف لابن القيم .

([10]) انظر : الكفاية 207 .

([11]) الكفاية 198 .

([12]) الموضوعات لابن الجوزى 1/39 .

([13]) انظر : منهاج السنة 1/12 .

([14]) توجيه النظر 338 .

([15]) الكفاية 80 ، 604 .

([16]) ميزان الاعتدال 1/141 .

([17]) انظر : تأويل مختلف الحديث 1/357 ، 279 .

([18]) الموضوعات لابن الجوزى 1/46 .

([19]) انظر : مقدمة الجرح والتعديل ص : ب .

([20]) الجرح والتعديل 1/3 ، والآية فى سورة الحجر : (9) .

([21]) تذكرة الحفاظ 1/273 .

([22]) مقدمة صحيح مسلم 1/10 .

([23]) مقدمة صحيح مسلم 1/10 .

([24]) الجرح والتعديل 1/34 .

([25]) شرف أصحاب الحديث 80 .

([26]) الكفاية 119 .

([27]) الكفاية 43 .

([28]) انظر : تهذيب التهذيب 2/91 .

([29]) صحيح مسلم بشرح النووى 1/110 .

([30]) الكفاية 45 ، وذكر معايب الرواة الحقيقية ليس بغية بل هو واجب لحماية الشريعة ، وقد عبر بذلك تجوزا .

([31]) شرح النووى على مسلم 1/121 .

([32]) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ 66 .

([33]) تذكرة الحفاظ 1/77 .

([34]) الكفاية 119 .

([35]) معرفة علوم الحديث للحاكم 62 .

([36]) تنـزيه الشريعة 1/7 ، 8 .

([37]) المصنوع 35 .

([38]) فاطر : (18) .

([39]) المنار المنيف 51 .

  • الاحد PM 01:11
    2020-11-29
  • 6359
Powered by: GateGold