المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 414021
يتصفح الموقع حاليا : 268

البحث

البحث

عرض المادة

السنة في عصر الصحابة والتابعين

لقد أحب الصحابة هذا الدين الحق الذي ملأ عليهم حياتهم، وأقبلوا عليه بإخلاص وصدق ويقين ورغبة وجدية، وفدوه بأرواحهم وما يملكون، وجاهدوا من أجله وفارقوا الأوطان والأهل والأموال، وصبروا على تبعاته رغبة في جزيل المثوبة وحملاً للأمانة على وجهها.

وما إن توفي النبي صلى الله عليه وسلم حتى ازداد إحساس الصحابة الكرام بالمسؤولية الكبرى والأمانة العظمى الملقاة على عواتقهم، وهي الاستمرار في السير قدماً بهذا الدين نشراً له ودعوة إليه وجهاداً في سبيله بالإضافة إلى ما هو معلوم من التمسك به والعض عليه بالنواجذ.

ولقد استجاب الصحابة لله ورسوله في الأمر بالتمسك بالسنة والذود عن حماها، قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ([1])، وعن العرباض ابن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: "أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" ([2])، وقال صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي" ([3]).

وعلى هذا المنهج من المحبة للسنة والتمسك بها ونشرها وحمايتها سار التابعون لهم بإحسان، قال رجل للتابعي مطرف بن عبد الله: لا تحدثونا إلا بالقرآن، فقال له مطرف: "والله ما نريد بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا" ([4]) وفيما يلي عرض مختصر ولكنه كاف لبيان تمسك الصحابة والتابعين بالسنة، ومنهجهم في حملها وحمايتها ونشرها، وعوامل انتشار السنة في ذلك العصر.

أولا- تمسك الصحابة والتابعين بالسنة:

لقد ضرب الصحابة ومن بعدهم التابعون المثل الأعلى لسائر المسلمين في حسن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والائتمار بأوامره والانتهاء عما نهى عنه، لا فرق في ذلك بين فترة حياته وبعد وفاته، فإن الطاعة واجبة في الحالين على السواء، ولقد تضافرت جهودهم على ذلك، يحدوهم قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} ([5])، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله))([6])، وقد كان هذا الاقتداء في السراء والضراء، وفي السلم والحرب، بل كانوا يحرصون على التمسك بالسنة ومتابعتها وإن لم يهتدوا إلى حكمة ظاهرة في ذلك الاتباع، كما سيأتي في النماذج.

أ- نماذج من اقتداء الصحابة وتسليمهم للسنة:

1- جاءت فاطمة إلى أبي بكر رضي الله عنهما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تطلب سهمه فقال لها أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل إذا أطعم نبياً طعمة ثم قبضه جعله للذي يقوم من بعده، فرأيت أن أرده على المسلمين، فقالت: أنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم"([7]). وفي رواية: "لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، وإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ" ([8]).

2- وقف عمر رضي الله عنه عند الركن وقال: "إني لأعلم أنك حجر، ولو لم أر حبيبي صلى الله عليه وسلم قبلك أو استلمك ما استلمتك ولا قبلتك {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} ([9])، وفيما يتعلق بالهرولة في الطواف والتي شرعت في الأصل ليرى المشركون قوة المسلمين وجلدهم فلما قويت شوكة الإسلام ذهبت العلة الظاهرة لهذا الأمر، قال عمر: "فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب، وقد وطأ الله الإسلام ونفي الكفر وأهله؟ ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم" ([10]).

3- عن سعيد بن المسيب قال: رأيت عثمان قاعدا في المقاعد فدعا بطعام مما مسته النار فأكله، ثم قام إلى الصلاة فصلى، ثم قال: "قعدت مقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكلت طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصليت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" ([11]).

4- عن علي بن ربيعة قال: رأيت عليا أتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى عليها قال: الحمد لله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم حمد الله ثلاثا وكبر ثلاثا، ثم قال: سبحانك لا إله إلا أنت، قد ظلمت نفسي فاغفر لي، ثم ضحك، فقلت: مم ضحكت ياأمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعلت، ثم ضحك. فقلت: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: "يعجب الرب من عبده إذا قال رب اغفر
لي، ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري" ([12]).

5- قيل لعبد الله بن عمر: لانجد صلاة السفر في القرآن؟ فقال: "إن الله عز وجل بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأينا محمدا صلى الله عليه وسلم يفعل" ([13]).

6- عن عبد الله بن مغفل أنه كان جالسا إلى جنبه ابن أخ له فخذف، فنهاه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، وقال: "إنها لاتصيد صيدا ولا تنكي عدوا، وإنها تكسر السن، وتفقأ العين"، فعاد ابن أخيه يخذف، فقال: أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، ثم عدت تخذف، إذا لا أكلمك
أبدا" ([14]).

7- قيل لعمران بن حصين رضي الله عنه: إنكم تحدثوننا بأحاديث لم نجد لها أصلا في القرآن، فغضب عمران، وقال للسائل: "قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعا، والمغرب ثلاثا، والغداة ركعتين، والظهر أربعا، والعصر أربعا؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أوجدتم في القرآن: في كل أربعين شاةً شاةٌ، وفي كل كذا بعيراً كذا، وفي كل كذا درهماً كذا؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟... أما سمعتم الله قال في كتابه: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ([15]).

وقال عمران أيضا: "نزل القرآن، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اتبعونا، فوالله إن لم تفعلوا تضلوا" ([16]).

ب- نماذج من تمسك التابعين بالسنة:

1- عن أيوب السختياني أنه قال: "إذا حدثت الرجل بالسنة، فقال: دعنا من هذا وأنبئنا عن القرآن فاعلم أنه ضال مضل" ([17]).

2- وقال حسان بن عطية: "كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن" ([18]).

3- وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: "لا تفت برأيك إلا أن تكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتاب منزل" ([19]).

4- قال مكحول: "السنة سنتان، سنة الأخذ بها فريضة وتركها كفر، وسنة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غيرها حرج" ([20]).

5- وقال عمر بن عبد العزيز: "والسنة إنما سنها من علم ما في خلافها من
الزلل، ولهم كانوا على المنازعة والجدل أقدر منكم، فاتبعوا ولاتبتدعوا." ([21]).

6- وقال شريح القاضي: "إن السنة سبقت قياسكم فاتبع ولاتبتدع" ([22]).

7- وقال عون بن عبد الله: "من مات على الإسلام والسنة فله بشير بكل
خير" ([23]).

8- وقال الزهري: "كان من مضى من علمائنا يقول: الاعتصام بالسنة
نجاة" ([24]).

9- وقال ابن شوذب: "من نعمة الله على الشاب والأعجمي أن يوفقا لصاحب سنة" ([25]).

10- وقال الحسن البصري: "إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا" ([26]).

* بهذا الحرص على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والتزام سنته عاش أولئك الأخيار، عرفوا الحق فلزموه ودعوا إليه ونشروه في الآفاق وسادوا به الدنيا، وليس من سبيل غير السنة لاستعادة مجد الأسلاف وعزة الإسلام.

ثانياً: منهج الصحابة والتابعين في رواية السنة وحمايتها:

1- أهم معالم منهج الصحابة:

أدرك الصحابة والتابعون منزلة السنة في دين الله، وأنها وحي تعبدنا الله تعالى به، وأن من أوجب الواجبات نشرها وصيانتها من أي تغيير وحمايتها من أي دخيل، فالتزموا المناهج التي تخدم غرض النشر مع ضمان الحفاظ عليها من الخطأ فضلا عن الكذب والتحريف، ومن أهم ملامح منهجهم في ذلك ما يلي:

أ- الاحتياط في رواية الحديث حرصا على صيانته.

ب- الإقلال من الرواية حماية للسنة.  

جـ- الإكثار من الرواية للمتقن المحتاج إلى علمه.   

د- التثبت في قبول الحديث.

هـ- نقد المرويات.                   

و- الاحتياط في أداء الحديث بلفظه.

وفيما يلي توضيح هذه الملامح باختصار مع التمثيل لها:

أ- الاحتياط في رواية الحديث حرصا على صيانته:

لقد كان التحوط في الرواية منهجا عاما سلكه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم حرصا على صيانة السنة المطهرة من الدخيل وحماية لها من شائبة التغيير والتحريف، ولهذا نجدهم لايروون الحديث إلا إذا احتيج إليهم في ذلك مع التيقن من إتقان تبليغه على الوجه الذي سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن كلا منهم يود لوأن أخاه كفاه مؤونة التحديث، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

1- قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، مامنهم أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه إياه"، وفي رواية: "يسأل أحدهم المسألة فيردّها هذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول" ([27]).

2- كان يقال لزيد بن أرقم رضي الله عنه: حدثنا، فيقول: "كبرنا ونسينا والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد" ([28]).

3- عن عمرو بن ميمون قال: "ما أخطأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته
فيه، قال: فما سمعته يقول بشيء قط "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فلما كان ذات عشية قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فنكس رأسه، فنظرت إليه فإذا هو قائم محللة أزرار قميصه، قد اغرورقت عيناه وانتفخت أوداجه" ثم قال: "أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريبا من ذلك، أو شبيها بذلك" ([29]).

وكان ابن مسعود يقول: "ليس العلم بكثرة الحديث ولكن العلم الخشية" ([30]).

4- عن عبد الله بن عامر قال: "سمعت معاوية على المنبر بدمشق يقول: أيها الناس، إياكم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثا كان يذكر على عهد عمر رضي الله عنه فإن عمر كان يخيف الناس في الله عز وجل"([31]).

ب- الإقلال من الرواية حماية للسنة:

1- ابتكار عمر لهذا المنهج ومساعدة الصحابة له عليه:

كان الإقلال من رواية الحديث منهجا في حمايتها ابتكره عمر رضي الله عنه وسار عليه سائر الصحابة الكرام، قال ابن قتيبة: "كان عمر شديد الإنكار على من أكثر الرواية أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه، وكان يأمرهم بأن يقلوا الرواية، يريد بذلك ألا يتسع الناس فيها، ويدخلها الشوب، ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي، وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصّة برسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس.. يقلون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا كسعيد بن زيد وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة" ([32]).

وكان عمر رضي الله عنه يأمر بالإقلال من الرواية تحوطا للسنة وصيانة
لها، ويوصي بذلك بعوثه إلى الآفاق، من ذلك وصيته لوفده إلى الكوفة، قال قرظة بن كعب: "بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة، وشيعنا إلى موضع قرب المدينة يقال له: صرار، قال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قلنا: لحق صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحق الأنصار، قال: لكني مشيت معكم لحديث أردت أن أحدثكم به فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم، إنكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم هزيز كهزيز
المرجل، فإذا رأوكم مدوا إليكم أعناقهم وقالوا أصحاب محمد، فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم"([33])، فلما قدم قرظة بن كعب الكوفة قالوا: حدثنا، فقال: نهانا عمر بن الخطاب ([34]).

وهكذا سن عمر منهج التثبت العلمي والإقلال من الرواية مخافة الوقوع في
الخطأ، وحمل الناس على التثبت مما يسمعون والتروي فيما يؤدون، فكان له الفضل الكبير في صيانة السنة المطهرة وحمايتها من الشوائب، وقد رغب الصحابة هذا المنهج وطبقوه، قال عثمان رضي الله عنه وهو على المنبر: "لا يحل لأحد يروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر، فإنه لم يمنعنا أن نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون أوعى لأصحابه عنه، إلا أني سمعته يقول: "من قال عليّ ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار" ([35]).

2- ما وجه هذا المسلك من عمر والصحابة؟   

فعل الصحابة ذلك كله احتياطا للدين ورعاية لأمانة حفظ السنة من الدخيل،
لا زهداً في الحديث النبوي ولا تعطيلا له، ولا يجوز أن يفهم من هذا المنهاج غير هذا الاجتهاد في صيانة السنة، ولايقول بغير ذلك إلا جاهل مبتدع أو مغرض صاحب
هوى.

قال الخطيب البغدادي في توجيه مسلك عمر رضي الله عنه: "إن قال قائل: ما وجه إنكار عمر على الصحابة روايتهم وتشديده عليهم في ذلك؟.

- قيل له: إنما فعل عمر ذلك احتياطاً للدين وحسن نظر للمسلمين...

- وفي تشديد عمر أيضا حفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترهيب لمن لم يكن من الصحابة أن يدخل في السنن ما ليس منها، لأنه إذا رأى الصحابي المقبول القول، المشهور بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم قد تشدد عليه في روايته، كان هو أجدر أن يكون للرواية أهيب" ([36]).

3- دحض شبهة قد تخطر على الجهلة والمغرضين:

قال الحافظ ابن عبد البر:([37]) "احتج بعض من لا علم له ولا معرفة من أهل البدع وغيرهم الطاعنين في السنن بحديث عمر هذا وقوله: "أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وجعلوا ذلك ذريعة إلى الزهد في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا يوصل إلى مراد كتاب الله إلا بها، والطعن على أهلها ولا حجة في هذا الحديث، ولا دليل على شيء مما ذهبوا إليه من وجوه قد ذكرها أهل العلم"، وبعد إيراد بعض الوجوه أورد حديثاً لعمر رضي الله عنه يقول فيه: إني أريد أن أقول مقالة قد قدر لي أن أقولها، من وعاها وعقلها وحفظها فليحدث بها حيث تنتهي راحلته، ومن خشي أن لايعيها فإني لا أحل له أن يكذب علي".

قال ابن عبد البر: "وهذا يدل على أن نهيه عن الإكثار وأمره بالإقلال من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان خوف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخوفا من أن يكونوا مع الإكثار يحدثون بما لم يتيقنوا حفظه ولم يعوه، لأن ضبط من قلت روايته أكثر من ضبط المستكثر، وهو أبعد من السهو والغلط الذي لا يؤمن مع الإكثار، فلهذا أمرهم عمر بالإقلال من الرواية، ولو كره الرواية وذمها لنهى عن الإقلال والإكثار.. فكيف يتوهم أحد على عمر أنه يأمر بخلاف ما أمر به الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها"، والكلام في هذا أوضح من النهار لأولي النُّهى والاعتبار... وهذا يدلك أنه إنما أمرهم بذلك خوف مواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخوف الاشتغال عن تدبر السنن والقرآن لأن المكثر لا تكاد تراه إلا غير متدبر ولا متفقه.

ومما يدل على هذا ما ذكرناه فيما يروى عن عمر أنه كان يقول: "تعلموا السنة والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن"، وعمر هو الناشد للناس في غير موقف، بل في مواقف شتى: من عنده علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا، وكيف يتوهم على عمر ما توهمه الذين ذكرنا قولهم وهو القائل: "إياكم والرأي ، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها" ، وهو القائل: "سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله ".

و الآثار كلها عن عمر صحيحة متفقة ، ويخرج معناها على أن من شك في شيء تركه، ومن حفظ شيئا وأتقنه جاز له أن يحدث به، وإن كان الإكثار يحمل الإنسان على التقحم في أن يحدث بكل ماسمع من جيد ورديء وغث وسمين، وقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفي بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع" ([38]).

وما ذكره الخطيب البغدادي وما انتهى إليه الحافظ ابن عبد البر في هذه المسألة هو الحق الذي لا محيد عنه، فقد حمل لواء المحافظة والحرص على السنة الصحابة كافة مع تميز عمر رضي الله عنه في هذا الباب لأن موقعه من حيث هو أمير للمؤمنين يتطلب الإحساس بمزيد من المسؤولية والمتابعة، وقد تبين لنا من مروياته وما أثر عنه شدة اهتمامه بالسنة المطهرة وإجلاله لها وحرصه على نقاوتها، وكل ما ورد عنه إنما يخدم هذه الغاية، ويدل على المحافظة على السنة ونشرها وتبليغها صحيحة متقنة، ولا يتيسر ذلك ما لم يتثبت حاملوها من مروياتهم، وإن الإقلال من الرواية مظنة عدم الوقوع في الخطأ وقطع للطريق أمام الجاهل والمغرض وغير المتقن، ولهذا أمر به عمر رضي الله عنه.

أما ما روي من أن عمر رضي الله عنه قد حبس بعض الصحابة لأنهم أكثروا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ([39]) فإن سنده ليس بصحيح، ذكر ذلك ابن حزم وغيره، كما أنه معلول بالاضطراب في تسمية الصحابة المزعوم حبسهم بالإضافة إلى أن عمر رضي الله عنه لم يكن له حبس، ولو سلمنا جدلا بوقوع ذلك فإن المقصود بالحبس المنع من الرواية لحين التثبت في بعض ما بلغه عنهم، يؤيد ذلك ما أخرجه الرامهرمزي أن عمر بن الخطاب حبس بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ابن مسعود وأبو الدرداء، فقال: "قد أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى عليه وسلم"، قال أبو عبد الله بن البري شيخ الرامهرمزي: يعني منعهم الحديث ولم يكن لعمر حبس، أي منعهم الإكثار من الحديث.

وقد يكون المراد استبقاهم عنده بالمدينة حتى يتثبت فيما بلغه عنهم، كما في رواية الخطيب البغدادي: "بعث عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن مسعود وإلى أبي الدرداء وإلى أبي مسعود الأنصاري فقال: ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فحبسهم بالمدينة حتى استشهد "، فإذا صحَّ أصل الخبر فإنه يكون من باب تثبت عمر رضي الله عنه في الحديث وحرصه على نقاوته.

كما أن أصل الخبر يتناقض مع حال عمر نفسه فهو روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من خمسمائة حديث ، كما أن بعض الصحابة غير المذكورين في رواية الحبس كانوا أكثر حديثا من هؤلاء، ولم يرد شيء في شأنهم، مثل أبي هريرة وهو أكثر الصحابة حديثا، إذ روى 5374 حديثا، بل إن عمر استدعاه فقال: "كنت معنا يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فلان؟ قال: نعم، وقد علمتُ لأي شيء سألتني، قال: ولم سألتك؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" قال: أما لا فاذهب فحدِّث"([40]).

فكل هذا يؤكد تفنيد رواية الحبس، ويؤكد أن عمر رضي الله عنه طلب الإقلال من الرواية لحفظ السنن وترهيب من لا يتقن حديثه، أما من حفظ وأتقن ما يحدث به فلم يتعرض له عمر رضي الله عنه.

4- تطبيق سائر الصحابة لهذا المنهج حماية للسنة:

لم يكن بقية الصحابة أقل من عمر رضي الله عنهم حرصا على صيانة السنة المطهرة، وإن كان موقعه على رأس الأمة قد تطلب مزيدا من المتابعة، ولهذا فقد تضافرت جهود الجميع على هذا المنهج الرامي إلى تحقيق سلامة السنة من التغيير والتحريف، ومن نماذج ذلك ما يلي:

- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تعمد عليّ كذبا فليتبوأ مقعده من النار" ([41]). وقال أيضا: "لولا أني أخشى أن أخطئ لحدثتكم بأشياء سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم"([42]).

- وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه قال لأبيه: إني لا أسمعك تحدث
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان، قال: أما إني لم أفارقه
منذ أسلمت، ولكني سمعت منه يقول: "من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"([43]).

- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفي بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع" ([44]).

- وقال السائب بن يزيد: صحبت سعد بن مالك من المدينة إلى مكة فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رجع ([45]).

- وعن عثمان رضي الله عنه قال: إنه لم يمنعنا أن نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون أوعى لأصحابه عنه، إلا أني سمعته يقول: "من قال عليّ مالم
أقل فليتبوأ مقعده من النار" ([46])، وكان يمنع الناس من رواية حديث لم يشتهر في عهد أبي بكر وعمر.

- وقال معاوية رضي الله عنه: "أيها الناس، إياكم وأحاديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلا حديثا كان يذكر على عهد عمر رضي الله عنه، فإن عمر كان يخيف الناس في الله عز وجل"([47]).

- وقال ابن قتيبة: "كان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله
صلى الله عليه وسلم كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون
الرواية، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا كسعيد بن زيد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة"([48]).

جـ- الإكثار من الرواية للمتقن المحتاج إلى علمه:

إن منهج الإقلال من الرواية احتياطا للدين لم يمنع الصحابة الكرام من تبليغ ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم أداء للأمانة، فقد عملوا موازنة بين الأمرين، ولم يكونوا ليترددوا في التحديث عندما يحتاج إلى علمهم مع تيقنهم من أداء الحديث على وجهه، وإتقان إيصاله كما سمعوه.

1- عوامل الإكثار: كانت أهم عوامل الإكثار من الرواية ما يلي:

- إن التبليغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم مع مراعاة ضوابطه هو الأصل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقام به هؤلاء الصحابة استجابة لأمره، إذ قال: "نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع"([49])، وفي رواية: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"([50])، وقال: "حدثوا عني ولا تكذبوا، ومن كذب علـيّ متعمـدا فليتـبوأ مقعـده من النـار" ([51]) وقال: "إن كذبا علـيّ ليــس ككذب علــى أحد" ([52]).

- خشية الإثم والوقوع في معصية كتمان العلم، حذرا من الوعيد الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة"([53]).

- خوفهم ذهاب علم السنة بذهاب أهله وحملته عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أدركوا أنه لابد من توريثه لمن بعدهم، كما أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إذ قال: "إنه سيأتي بعدي قوم يسألونكم الحديث عني، فإذا جاءوكم فألطفوا بهم وحدثوهم"([54])، فكان أبو سعيد الخدري إذا رأى الشباب قال: "مرحبا بوصية
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوصانا أن نوسع لكم في المجلس وأن نفقهكم فإنكم خلوفنا وأهل الحديث بعدنا"([55]). 

- الشعور بالمسؤولية وتحمل الأمانة في نشر السنة لطالبها وبذلها لراغبها، ولهذا فإن كثيرا ممن أقلوا الرواية في البداية كأبي هريرة وأنس وغيرهما عندما كان الصحابة متوافرين وعلم السنة شائعا.. هؤلاء قد أكثروا بعد ذلك عندما ظهرت الحاجة إليهم وقل الرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى الزمن السابق.

2- المكثرون من الصحابة: تفاوت الصحابة في الرواية عن النبي صلى الله
عليه وسلم بين مقل ومستكثر([56])، وأكثرهم حديثا سبعة اتسعت مروياتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمروا واحتاج الناس إلى علمهم فنشروه بضبط وإتقان، وهم:

- أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي وعدد مروياته: 5374 حديثا.

- عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعدد مروياته: 2630 حديثا.

- أنس بن مالك، وعدد مروياته: 2286 حديثا.

- عائشة أم المؤمنين، وعدد مروياتها: 2210 أحاديث.

- عبد الله بن عباس، وعدد مروياته: 1660 حديثا.

- جابر بن عبد الله، وعدد مروياته: 1540 حديثا.

- أبو سعيد الخدري سعد بن مالك، وعدد مروياته: 1100 حديث.

د- التثبت في قبول الحديث:

مما يكتمل به منهج الصحابة في حفظ السنة وحمايتها من الدخيل والحفاظ على نقاوتها وصفائها: شدة تحريهم ودقة تثبتهم في قبول الحديث، ووضعهم جملة من الضوابط التي تمنع دخول الدخن والتحريف والتزيد والتغيير على سنة المصطفي
صلى الله عليه سلم، فبينوا لمن بعدهم في هذا الباب سبيلا قويما، وسنوا لحماية السنة نهجا دقيقا، وقد تقدم معنا احتياطهم في الرواية والإقلال منها خشية الوقوع في الخطأ، وهو يخدم هدف حماية السنة من الدخيل، ومن الأسس المكملة لهذا المنهج ما يلي:

- التثبت في قبول الرواية للتأكد من ضبطها:

وكان هذا الأمر مسلكا عاما للصحابة، ومن أمثلته ما يلي:

1- من سيرة أبي بكر رضي الله عنه:

قال الحافظ الذهبي: "كان أبو بكر رضي الله عنه أول من احتاط في قبول الأخبار"، وقال: "وإليه المنتهى في التحري والقبول"([57]).

- عن قبصة بن ذؤيب "أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورَّث، فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئا، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس، فقال له: هل معك أحد، فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها
أبو بكر رضي الله عنه"([58])، قال الذهبي معلقا على هذا الخبر: "فعل ذلك للتثبت في الرواية، وللاحتياط في الضبط، لا لتهمة أو سوء ظن"([59])، لأن الصحابة عدول، ولم يكونوا يعرفون الكذب، ولا يتهم بعضهم بعضا،كما تقدم نقله عن أنس وغيره.

- وعن الزهري أن أبا بكر حدث رجلا حديثا، فاستفهمه الرجل إياه فقال
أبو بكر: "هو كما حدثتك، أي أرض تقلني إذا قلت ما لم أعلم"([60]).

- وعن ابن أبي مليكة أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: "إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرموا حرامه"([61])، قال الذهبي: "إن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري، لا سد باب الرواية، ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنن، فلما أخبره ما اكتفي به حتى استظهر بثقة آخر، ولم يقل حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوارج"([62]).

2- من سيرة عمر رضي الله عنه:

لقد تقدم معنا ابتكار عمر لمنهج الإقلال من الرواية ومتابعته لذلك
حماية للدين، وتضافر جهـود الصـحابة علـى ذلـك وقـد قـال الذهـبي: "هو الـذي سـن للمحـدثين التثـبت فـي النقل"([63])، وفيما يلي نماذج من تثبت عمر رضي الله عنه في قبول الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- عن أبي سعيد الخدري قال: "كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء
أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع"، فقال: والله لتقيمن عليه
ببينة، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟، فقال أبي بن كعب: والله
لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فأخبرت عمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك"، فقال عمر لأبي موسى: "إني لم أتهمك، ولكني أحببت أن أتثبت"([64])، وفي رواية: "أما إني لم أتهمك، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم"([65]).

- عن مالك بن أوس قال: سمعت عمر يقول لعبد الرحمن بن عوف وطلحة
ابن الزبير وسعد: نشدتكم الله الذي تقوم السماء والأرض به أعلمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنا لا نورث ما تركنا صدقة"، قالوا: اللهم نعم([66]).

3- من سيرة عثمان رضي الله عنه:

أتى عثمان المقاعد فدعا بوضوء، فتمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا، ثم مسح برأسه ورجليه ثلاثا ثلاثا، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا يتوضأ، يا هؤلاء أكذاك؟ قالوا: نعم، لنفر من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم عنده([67]).

4- من سيرة علي رضي الله عنه:

قـال الذهبي([68]): "كان إماماً عالما متحريا في الأخذ، بحيث إنه يستحلف من يحدثـه بالحديث" وعن علي رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر حدثني وصدق أبو بكر، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له"([69]).

تلك نماذج كافية من منهج الصحابة في حماية السنة وتثبتهم في قبولها، وينبغي ملاحظة ما يلي:

- إنهم أرادوا من تلك المسالك المتنوعة في قبول الرواية صيانة السنة والتثبت فيها، والمحافظة على لفظها، ولم يكن الدافع له تهمة بعضهم بعضاً، كما تقدم من كلامهم، فإن جميع الصحابة عدول بتعديل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والقدح فيهم بعد هذا التعديل يقدح في إيمان صاحبه.

- أراد الصحابة أن يسنوا منهجا بينا لمن بعدهم حتى لا يتقوّل الناس على النبي صلى الله عليه وسلم بلا علم، وهذا واضح من كلام عمر وأبي بكر وغيرهما رضي الله عنهم، فقد كانوا يحتاطون للأزمنة التالية عندما يقل الصحابة ويكثر غيرهم، فوضعوا تلك الضوابط لئلا يتجرأ غير الصحابة على التساهل في الرواية فيدخل في السنة ما ليس منها.

- لم يكن غرض الصحابة مما تقدم من التثبت اشتراط أكثر من راو لقبول الحديث، وإنما كانوا يكتفون في قبول الخبر بالراوي الواحد الثقة وإنما طلبوا الشهادة على الخبر أحيانا لسن منهج التثبت كما تقدم وحتى لا يتجرأ الناس على التساهل في رواية الحديث.

ومما يزداد به توضيح المسألة ما يلي:

- لم يكن جميع الصحابة يطلبون شاهدا آخر على الرواية بل كانت مسالكهم
في ذلك متعددة، فبعضهم يستحلف، وبعضهم يطلب راويا آخر، وبعضهم يسأل للتثبت، وبعضهم إذا حدث أعلن براءته من الكذب، وبعضهم إذا حدث ذكّر سامعه بخوفه من الله أن يحدث بما لا يعلم، فهذا التنوع دال على أن الغرض التثبت وليس اشتراط أكثر من راو واحد.

- وكما طلب بعض الصحابة من الراوي شهادة غيره، فإنهم أيضا قبلوا أكثر الأحاديث برواية ثقة واحد فقط، فدل ذلك على أنه ليس من منهجهم اشتراط راويين، فالعبرة إذا بثقة الناقل لا بكثرة عدد النقلة، ولو كان اشتراط الاثنين فأكثر مطلوبا لاتفقوا عليه جميعا والتزموه دائما، فطلب راو آخر أحيانا إنما هو لمجرد التأكد وسن منهج التثبت.

ولهذا فإن من ذكر أن الصحابة يشترطون اثنين لقبول الرواية فقد غلط في هذا الباب، ولم ينظر في مجموع عملهم نظرة دراسة وتفحص، وإنما أخذ بظاهر بعض الأخبار دون أن ينظر في بقيتها، وقد رد الحافظ ابن حجر وغيره من الحفاظ والمحققين على هذا الزعم وأبطلوه من وجوه متعددة([70]).

- إن الأمثلة لقبولهم عن ثقة واحد أكثر من أن تحصى، منها:     

* أن عمر رضي الله عنه كان يقول: الدية للعاقلة، ولاترث المرأة من دية زوجها شيئا، حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضباني من ديته، فرجع إليه عمر([71]).

* وأخذ عمر رضي الله عنه بخبر سعد بن أبي وقاص في المسح على الخفين، وأمر ابنه عبد الله ألا ينكر عليه، وقال له: "إذا حدثك سعد بشيء فلا ترد عليه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين"([72]).

* وأمر عمر برجم مولاة حاطب فذكّره عثمان بأن الجاهل لاحد عليه فأمسك عن رجمها([73]).

* وَقِبل أبو بكر خبر عائشة رضي الله عنهما وحْدَها في صفة كفن الرسول
صلى الله عليه وسلم([74]).

* وقبل عثمان رضي الله عنه حديث الفريعة بنت مالك حول عدتها لوفاة
زوجها، وقضى بخبرها([75]).

* وأخذ علي بخبر المقداد بن الأسود رضي الله عنهما في حكم المذي([76])، دون أن يحلفه.

هـ - نقد المرويات:

من مسالك الصحابة في حماية السنة فحصهم للمرويات بعرضها على نصوص الوحي قرآنا وسنة ، وعلى ما علموه يقينا من قواعد الدين وأصوله حتى لا يتزيّد أحد على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

* عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن زوجها طلقها ثلاثا، فلم يجعل
لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنا ولا نفقة، فلما علم عمر بحديثها قال: "لا
نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}([77]).

* جاء بشير العدوي إلى ابن عباس وأخذ يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأذن ابن عباس لحديثه ولم ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس مالي أراك لا تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟، فقال ابن عباس: "إنا كنا إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف"([78]).

* نقد عائشة رضي الله عـنها للمرويات: تعتـبر عائشة مـن أكثر الصـحابة فحصـاً للمرويات واستدراكا على الرواية، وقد جمع بدر الدين الزركشي ذلك في كتاب سماه: الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، جمع فيه أكثر من سبعين حديثا من استدراكاتها.

ومن ذلك أنها سمعت حديث عمر يرفعه([79]): "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" فقالت: "رحم الله عمر، ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يعذب المؤمنين ببكاء أحد، ولكن قال: "إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه"، وقالت: حسبكم القرآن: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ، وفي رواية مسلم: "إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطىء".

و- الاحتياط في أداء الحديث بلفظه:

لقد تبين لنا في المباحث السابقة أهم معالم منهج الصحابة في حماية السنة، وشدة ورعهم في ذلك، وخوفهم من الوقوع في الخطأ على النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على بيان منهج التحري والدقة والتثبت لمن بعدهم، فكانوا يقلون من الرواية مع ضمان نشر السنة بدقة وتحرٍّ، وكانوا يتثبتون غاية التثبت في قبول الأخبار ويفحصون الروايات حتى لا يتزيد أحد على السنة، وحتى يقوم الحفاظ المتقنون بأداء الأمانة، ويحجم الناسي وقليل الحفظ فلا يحدث بشيء، ومما يكتمل به بيان منهجهم ما عرف عنهم من الحرص الشديد على تحري لفظ الحديث عند الأداء والرواية، وعدم روايتهم للحديث بالمعنى إلا بشروط وضوابط دقيقة يستحيل معها تغيير شيء من معناه الذي قصده الشارع، فهم يدركون تماما أن السنة دين، وأنهم يبلغون في ذلك عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكان منهجهم العام هو المحافظة على لفظ الحديث وروايته كما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، تطبيقا لتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك إذ قال: "نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فأداه كما سمعه"([80])، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علّم البراء بن عازب حديث النوم، قال البراء: "فقلت كما علّمني، غير أني قلت "ورسولك" فقال بيده في صدري "وبنبيك"([81]).

من نماذج ذلك ما يلي:

* قال الخطيب البغدادي: "كان ابن عمر إذا سمع الحديث لم يزد فيه، ولم ينقص منه، ولم يجاوزه، ولم يقصر عنه"([82]).

* وعن محمد بن سوقة قال: سمعت أبا جعفر يقول: كان عبد الله بن عمر إذا سمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئا أو شهد معه مشهدا، لم يقصر دونه أو يعدوه، قال: فبينما هو جالس وعبيد بن عمير يقص على أهل مكة إذ قال عبيد بن عمير: مثل المنافق كمثل الشاة بين الغنمين إن أقبلت إلى هذه الغنم نطحتها وإن أقبلت إلى هذه نطحتها، فقال له عبد الله: ليس هكذا، فغضب عبيد بن عمير، وفي المجلس عبد الله
ابن صفوان، فقال: يا أبا عبد الرحمن، كيف قال رحمك الله؟ فقال: قال: مثل المنافق مثل الشاة بين الربيضتين، إن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها، وإن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها، فقال له: رحمك الله هما واحد، قال: كذا سمعت([83]).

* وروى ابن عمر حديث بني الإسلام على خمس، فأعاده رجل وأخل فيه بالترتيب، فقال له ابن عمر: "لا، اجعل صيام رمضان آخرهن، كما سمعت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم"([84]).

* وعن العلاء بن سعد بن مسعود قال: قيل لرجل من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه سلم: مالك لا تحدث كما يحدث فلان وفلان؟ فقال: ما بي ألا
أكون سمعت مثل ما سمعوا أو حضرت مثل ما حضروا، ولكن لم يدرس الأمر بعد، والناس متماسكون، فأنا أجد من يكفيني، وأكره التزيد والنقصان في حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم"([85]).

* وقال عمر رضي الله عنه: "من سمع حديثا فحدث به كما سمع فقد سلم"([86]).

وروي نحو هذا عن عبد الله بن عمر وزيد بن أرقم.

* وعن خالد بن زيد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قريش والأنصار، وأسلم وغفار- أو غفار وأسلم"([87])، فبيّن موضع شكه حيث لم يتأكد من الترتيب في سياق ما سمعه من النبي صلى الله عليه سلم.

وقال الأعمش عن الصحابة: "كان هذا العلم عند أقوام، كان أحدهم لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يزيد فيه واوا أو ألفا أو دالا"([88]).

هذا وغيره من الأمثلة كثير يدل على التزام الصحابة لأداء الحديث بلفظه الذي صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ملتزمين في ذلك بتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم.

كان ذلك هو مسلك عامة الصحابة لما عرفنا من إحساسهم بالأمانة ووقوفهم عند حدود الله، وذمتهم في رواية الأخبار وتحفظهم وتثبتهم فيما يسمعون ويروون، بالإضافة إلى ما حباهم الله به من قوة الحافظة ومتانة الدين.

ومع هذا يوجد عدد من الصحابة وإن لم يكن كبيرا -إذا صح النقل عنهم- يجيزون الرواية بالمعنى بضابطين:

الضابط الأول: الضرورة الملجئة إلى ذلك، حيث يحتاج للحديث للتبليغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتذكر الراوي اللفظ بدقة، فيرويه أو يروي بعضه بلفظ مقارب.

الضابط الثاني: التيقن الكامل من أن المعنى دال على مراد الشارع دون أدنى تغيير في الحكم ودون زيادة أو نقصان، وهذا ممكن لهم لأنهم أهل اللغة، مع ملازمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك مستبعد من غيرهم من حيث الجملة، ولهذا قال ابن العربي: "إن غير الصحابة ممنوعون من رواية الحديث بالمعنى، وإنما جاز للصحابة ذلك لأنهم اجتمع فيهم أمران عظيمان:

أحدهما: الفصاحة والبلاغة، إذ جبلتهم عربية ولغتهم سليقة.

الثاني: أنهم شاهدوا قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله فأفادتهم المشاهدة عقل المعنى جملة، واستيفاء المقصد كله، وليس من أُخبر كمن عاين"([89]). 

وممن نقل عنهم من الصحابة جواز الرواية بالمعنى بهذه الضوابط:

علي وابن عباس وأنس وأبو الدرداء وأبو هريرة رضي الله عنهم.

وقد روي في ذلك حديث ضعيف عن سليمان بن أكيمة الليثي قال: قلت
يا رسول الله، إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أرويه كما أسمع منك، يزيد حرفا
أو ينقص حرفا، فقال عليه الصلاة والسلام: " إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس"([90]).

أما بالنسبة لغير الصحابة فقد أجمع أهل العلم على عدم جواز الرواية بالمعنى لمن لم يكن عالما باللغة ومدلولاتها ومقاصدها وأساليب بلاغتها، ولا خبيرا بما يحيل معانيها، ولا بصيرا بمقادير التفاوت بينها. ثم اختلفوا بعد ذلك في جواز الرواية بالمعنى بالنسبة للعالم العارف بكل ما تقدم، فمنعها بعض العلماء بإطلاق، وأجازها آخرون بشروط متعددة، أهمها:

- أن يكون عالما بدقائق الألفاظ، بصيرا بمقدار التفاوت بينها، خبيرا بما يحيل معانيها، ضابطا لفقه الحديث وأحكامه وفوائده، عالما بالمحتمل وغير المحتمل، والظاهر والأظهر، والعام والأعم.

- أن تكون الرواية في خبر ظاهر الدلالة، أما الخبر المحتمل لعدة معان فلا يجوز فيه ذلك.

- ألا تكون رواية الحديث بالمعنى قاصرة عن الأصل في إفادة المعنى والحكم.

- ألا يكون من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، أو مما تُعبّد بلفظه كأذكار الصلاة ونحوها.

ومما ينبغي التنبيه عليه أن الخلاف في جواز نقل الحديث بالمعنى إنما هو فيما لم يدون ولم يودع في المصنفات، أما ما دخل منه في المصنفات فلا يجوز تبديل ألفاظه من غير خلاف بين أهل العلم([91]).

بهذه المعالم المتعددة ندرك دقة منهج الصحابة في حماية سنة المصطفي صلى الله عليه وسلم تحملا وأداء وتثبتا وفحصا، حتى أدوا الأمانة على وجهها، رضوان الله عليهم أجمعين.

2- أهم معالم منهج التابعين في حفظ السنة وحمايتها:

إن التابعين هم أقرب الناس إلى الصحابة من حيث الاقتداء والاهتداء، والتدين والورع، والعلم والاجتهاد، والحرص الصادق على حماية الدين، واستشعار المسؤولية الملقاة على عواتقهم في ذلك وإدراك الأمانة العظمى التي ينبغي عليهم أداؤها، فساروا على خطى الصحابة في جميع ما تقدم تعلما وتعليما وتثبتا وفحصا واحتياطا للسنة المطهرة.

ولقد توسعت رقعة البلاد الإسلامية في هذا العهد، وكثر عدد الداخلين للإسلام من أهل الديانات الأخرى، كاليهود والنصارى، كما كثر عدد الداخلين للإسلام
من أهل الأجناس الأخرى كالفرس والروم وغيرهم، وكان لكل هؤلاء ثقافاتهم ومعتقداتهم، وكان هؤلاء الداخلون للإسلام فريقين من حيث الجملة:

- فريق دخل الإسلام بصدق وإخلاص، وهم النسبة الغالبة بحمد الله.

- وفريق دخل الإسلام لإفساده وتخريبه من داخله، وهم أقلية، ومن أساليبهم في ذلك الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ومزج السنة بما ليس منها لإدخال معتقدات باطلة وأفكار خاطئة ليست من دين الله في شيء كما فعل عبد الله بن سبأ اليهودي وطائفته.ومن هنا برزت الحاجة الملحة إلى مزيد من التيقظ من قبل أهل العلم لحماية السنة من التغيير والتحريف، ولرد كيد الأعداء في نحورهم وصيانة السنة من شرورهم حتى تبقى صافية كما صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد هيأ الله لهذه المهمة السامية علماء التابعين، فقاموا بها خير قيام، ووجدوا في جهود الصحابة في ذلك نبراسا يضيء لهم الطريق، فاستفادوا من ذلك المنهج وطوروه لمواجهة مستجدات عصرهم.

وليس من غرض هذا المبحث استقصاء جهودهم فإن ذلك يطول، إنما الغرض إبراز أهم معالم منهجهم لندرك مدى العناية التي أولاها أولئك الكرام لخدمة السنة المطهرة ، وضرْب أمثلة يستدلّ بها على ما سواها:

أ- سلوك التابعين منهج الصحابة في محبة السنة وطلبها وحمايتها ومذاكرتها، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم:

كانت عاطفة التابعين جياشة بحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودين
الإسلام، وحب الصحابة الذين نقلوا إليهم تعاليم هذا الدين، فتأسى بهم التابعون في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبة سنته، وتأثروا بهم في ذلك، فكانوا قدوة وأساتذة لهم، تعلموا منهم العلم والعمل والأدب، وتلقوا عنهم الحديث وفقهه، وسألوهم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم جميعها، وحفظوها وعملوا بها وحموها وبلّغوها مَنْ وراءهم.

وكانوا يقبلون بشغف عظيم على طلب الحديث ثم يتذاكرونه فيما بينهم ليحفظوه ويحافظوا على لفظه كما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، قال عطاء: "كنا عند جابر ابن عبد الله فيحدثنا، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا حديثه، فكان أبو الزبير من أحفظنا حديثا"([92]).

وقال إسماعيل بن أبي خالد: "كان الشعبي وأبو الضحى وإبراهيم النخعي وأصحابنا يجتمعون في المسجد فيتذاكرون الحديث، فإذا جاءهم شيء وليس فيه رواية رموا أبصارهم إلى إبراهيم"([93]).

وقد تتلمذ على كل صحابي عدة مئات بل أحيانا عدة آلاف يحملون علمه ويعملون بتوجيهاته، قال أنس بن سيرين: "قدمت الكوفة قبل الجماجم فرأيت أربعة آلاف يطلبون الحديث"([94]).

وفي عهد عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي كان المسجد الحرام يغص بطلاب العلم من التابعين، فسأل عن شيوخ هذه الحلقات فكان منهم: عطاء وسعيد بن جبير، وميمون بن مهران، ومكحول ومجاهد وغيرهم، فحث أبناء قريش على طلب العلم والمحافظة عليه([95]).

وكانت حلقة أبي الدرداء وحدها في جامع دمشق تضم أكثر من ألف وخمسمائة طالب من التابعين عدا حلقات غيره من العلماء([96]).

وكان الصحابة يرحبون بتلاميذهم من التابعين ويوجهونهم إلى طلب الحديث ومذاكرته، ويذكرونهم بمسؤولية تبليغه، من ذلك قول ابن عباس للتابعين: "تذاكروا الحديث فإنه ليس بمنزلة القرآن، القرآن مجموع محفوظ. وإنكم إن لم تذاكروا هذا الحديث تفلت منكم، ولا يقل أحدكم حدثت أمس لا أحدث اليوم، بل حدّث أمس وحدث اليوم وحدث غدا"([97]).

وكان أبو سعيد الخدري يقول لطلابه: "تحدثوا فإن الحديث يذكّر بعضه بعضا"([98]).

وقال أبو أمامة الباهلي لتلاميذه: "إن هذا المجلس من بلاغ الله إياكم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أرسل به، وأنتم فبلغوا عنا أحسن ما تسمعون"، وكان يقول: "اعقلوا، بلغوا عنا كما بلغناكم"([99]).

وكان التابعون يشجعون أبناءهم على طلب الحديث، ويقدمون لهم الجوائز على حفظه، قال إبراهيم بن أدهم: قال لي أبي: يابني اطلب الحديث، فكلما سمعت حديثا وحفظته فلك درهم، فطلبت الحديث على هذا([100]).

وقد تفاوت التابعون في رواية الحديث قلة وكثرة كما هو الحال على عهد الصحابة، فمنهم مكثرون، مثل عامر الشعبي، وشعبة بن الحجاج، وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد بن جبير، وغيرهم.ومنهم المقل، مثل أبي قلابة، قال أبو خالد الحذاء: كنا نأتي أبا قلابة، فإذا حدثنا بثلاثة أحاديث قال: قد أكثرت([101]).

ب - وضع الضوابط لصيانة السنة([102]):

عندما ظهرت الفتن، وبرزت الفرق المنحرفة، وبدأت ظاهرة الوضع في الحديث كان التابعون قد جعلوا جملة من القوانين والضوابط المتعلقة بتحمل السنة وأدائها، ومواصفات رواتها، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

1- قال محمد بن سيرين: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم".

2- وقال عبد الله بن ذكوان: "أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمونون ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله"، أي إنهم ليسوا من المشتغلين بعلم الحديث المتقنين له، وإن كانوا عدولا أمناء.

3- وقال أيوب السختياني: "أرأيت رجلا لا تأمنه على دينه فكيف تأمنه على الحديث".

4- وقال شعبة بن الحجاج: "خذوا العلم عن المشهورين"، وقال: "التدليس في الحديث أشد من الزنا".

5- وقال عقبة بن نافع: "لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عن ثقة".

وسيأتي مزيد بيان لمعالم منهج التابعين في مواضعه من البحث.

ثالثا: منهج الصحابة والتابعين في التعليم([103]):

راعى الصحابة والتابعون جملة من الضوابط في تعليم الحديث يمكن اختصارها في ما يلي:

1- العناية بالناشئة:

وذلك لأنهم حملة الأمانة من بعدهم، من ذلك قول عمرو بن العاص رضي الله عنه: "مالكم قد طرحتم هذه الأُغَيلمة؟ لا تفعلوا أوسعوا لهم في المجلس، وأسمعوهم الحديث، وأفهموهم إياه، فإنهم صغار قوم أوشكوا أن يكونوا كبار قوم، وقد كنتم صغار قوم فأنتم اليوم كبار قوم"([104])، وأوصى عروة بن الزبـير بذلك طـلابه وبنيه([105])، وكذا فعل غيره من التابعين.

2- مراعاة أحوال المحدثين:

حرص الصحابة والتابعون على اعتبار مستوى الطلاب عند التحديث، فيحدثونهم بما يناسب مداركهم، ويبينون لهم من الفقه ما يستطيعون فهمه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت محدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم"([106])، وقال أيوب السختياني:"لا تحدثوا الناس بما لا يعلمون فتضروهم"([107]).

3- تحري أهلية السامع:

كانوا يحرصون على أن يكون حفظة الحديث وطلبته من أهل الاستقامة والجد، ويحذرون من أن يحمله السفهاء وأهل الأهواء فيخدعون به الناس وينزلون به عن
مكانته، ولا يُظن أن في هذا منعا لنشر العلم، وإنما كان منهجهم في ذلك يرمي إلى الحفاظ على السنة وحمايتها، قال الأعمش: "من إضاعة الحديث التحديث به عند غير أهله"([108])، وقال الزهري: "وهُجْنته (أي الحديث) نشره عند غير أهله"([109]).وكان زائدة بن قدامة لا يحدث أحدا حتى يمتحنه ويسأل عنه، فسئل عن ذلك فقال: "أكره أن يكون العلم عندهم (أي أهل الأهواء) فيصيروا أئمة يُحتاج إليهم فيبدلوا كيف شاءوا"([110]).

4- طلب القرآن أولا ثم طلب السنة:

كانوا يحرصون على حفظ القرآن أو بعضه قبل الإقبال على الحديث حتى يُبنى علم السنة على علم الكتاب، قال حفص بن غياث: أتيت الأعمش فقلت: حدثني، قال: أتحفظ القرآن؟ قلت: لا، قال: اذهب فاحفظ القرآن ثم هلم أحدثك، قال: فذهبت فحفظت القرآن ثم جئته، فاستقرأني فقرأته، فحدثني([111]).

5- البعد عن الغريب والمنكر من الحديث:

خشي الصحابة والتابعون أن يدخل في السنة ما ليس منها، فأمروا بنشر الأحاديث التي يعرفها الحفاظ ويتداولونها، قال علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ماينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟"([112])،قال الذهبي معلقا: "فقد زجر الإمام علي رضي الله عنه عن رواية المنكر، وحث على التحديث بالمشهور، وهذا أصل كبير في الكف عن بث الأشياء الواهية والمنكرة من الأحاديث في الفضائل والعقائد والرقائق، ولا سبيل إلى معرفة هذا من هذا إلا بالإمعان في معرفة الرجال"([113]).

6- التنويع والاختصار دفعا للملل:     

وذلك لتجديد النشاط الذهني، وحتى لا يسأم الناس الحديث، قالت عائشة رضي الله عنها: "إياك وإملال الناس وتقنيطهم"([114])،وقال الزهري: "إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب"([115]).

7- توقير الحديث والاستعداد لمجالسه:

كان الصحابة والتابعون يعظمون حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويستعدون لمجالسه بالوضوء ولبس أحسن الثياب، والتأدب في المشي إليها، وكذا عند التحديث
أو الاستماع، فعن ضرار بن مرة قال: "كانوا يكرهون أن يحدثوا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم على غير وضوء"([116]).

وأراد سعيد بن المسيب أن يحدث وهو على فراش الموت فقال: أجلسوني فإني أكره أن أحدث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع"([117]).

وقال أبو العالية: "إذا حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فازدهر"([118]).

وقال الرامهرمزي: "كانوا يتطهرون عندما يتصدرون للتحديث، فيلبس العالم أحسن ثيابه، ويتوضأ وضوءه للصلاة.." ([119]).

8- الانضباط في حضور مجالس التحديث:

لم يكن حضور مجالس الحديث عند المتقدمين للتسلية وشغل أوقات الفراغ، ولكنهم كانوا يدركون أنها الوسيلة لتعلم الدين، فكانوا يحضرون في أوقات معينة يعرفها الجميع بتحديد الشيخ لها، فيتسابق الطلاب إلى الحلقة قبل انعقادها ليتخذوا أماكنهم قريبا من المحدث، فإذا حضر الشيخ كان الجميع على استعداد للتلقي عنه، وقد يغيب طالب فيسأل عنه الشيخ ليعرف سبب غيابه، وقد يكلف بعض الطلاب بالسؤال عنه، فإذا كان مريضا زاروه، وإذا كان غافلا ذكروه، وإذا كان محتاجا لِعَون ساعدوه.

9- مذاكرة الحديث:

كان الصحابة والتابعون قد اتخذوا المذاكرة الفردية والجماعية منهجا ثابتا لتثبيت حفظ الحديث، بل كانوا ينتهزون كل فرصة لذلك، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فعسى أن نكون ستين رجلا، يحدثنا الحديث ثم يريد الحاجة، فنتراجعه بيننا، فنقوم كأنما غرس في قلوبنا"([120]).

وقال أيضا: "كنا نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسمع منه الحديث فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه"([121]).

وعن أبي هريرة قال: "إني لأجزئ الليل ثلاثة أجزاء، فثلث أنام، وثلث أقوم
- أي للصلاة- وثلث أتذكر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"([122]).

وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: "إحياء الحديث مذاكرته، فتذاكروه، فقال
عبد الله بن شداد: يرحمك الله كم من حديث أحييته من صدري قد كان مات"([123]).

وعن مسلم البطين قال: "رأيت أبا يحيى الأعرج- وكان عالما بحديث ابن عباس- اجتمع هو وسعيد بن جبير في مسجد الكوفة فتذاكرا حديث ابن عباس"([124]).

بهذا المنهج البديع في التعليم حفظت السنة، وانتشرت في الآفاق كما سيتضح في المبحث التالي:

رابعا: انتشار السنة في هذا العصر([125]):

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة
على وجهها، وعم الإسلام جزيرة العرب، فأصبحت منطلق الهداية والنور إلى الأرض جميعها، وفي سنة 17 فتحت كامل بلاد الشام (فلسطين والأردن وسوريا ولبنان)، والعراق، وفتحت مصر سنة 21، وفتحت فارس سنة 21، ثم كانت فتوحات إفريقية والمغرب والأندلس التي انتهت سنة 93 ، وفي الشرق وصلت الفتوحات إلى مشارف بلاد الصين سنة 97هـ.

و لم يكن الفاتحون غزاة متوحشين، بل كانوا حملة رسالة هادين مهتدين، غرضهم إنقاذ الناس بإذن الله من النار باعتناق دين الإسلام العظيم وتوحيد الله رب العالمين.

وكان الصحابة - حملة الأمانة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم- هم قادة جيوش الفتح وطلائعها، فكلما دخلوا بلدا بنوا فيه المساجد، وأقام فيه بعضهم لتعهد المسلمين بالرعاية ولنشر الدعوة بين من لم يسلم، وكان الخلفاء يوجهون العلماء إلى كل البلاد لنشر علوم الكتاب والسنة فاستوطن كثير من الصحابة والتابعين بلادا نائية عن جزيرة العرب، وماتوا بها ودفنوا في أرضها ونسبوا إليها.

وعندما يشاهد أهل البلاد المفتوحة ما عليه الصحابة الكرام من التواضع والإحسان والعدل فإنهم يدركون أنهم أمام نوعية جديدة من الناس هذبها الإسلام ورباها نبيه صلى الله عليه وسلم فيتسابقون إلى دين الله طائعين ويلتفون حول الصحابة
متعلمين، وقد برز منهم بعد ذلك علماء أفذاذ تخرجوا على أيدي الصحابة والتابعين، وكان لهم إسهامهم الوافر في خدمة علوم الإسلام.

ولم تلبث حواضر العالم الإسلامي المفتوحة، بل ومدنه الصغيرة أن أصبحت مراكز علمية يحتشد فيها الطلاب للتعلم، وكادت تنافس في ذلك مراكز العلم الأساسية التي أمدت هذه الأقطار بالعلماء، ولا يخفي أن انتشار العلم يقاس بكثرة مراكزه وأساتذته وطلابه، وفيما يلي بيان ذلك باختصار:

1- المدينة المنورة:

يشهد التاريخ لمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أنها كانت أقوى المراكز العلمية في بلاد الإسلام على الإطلاق، عاش فيها الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ولاحظ المسلمون كل تصرفاته وأحواله، وبها نزل القسم الأكبر من القرآن، وفيها تمهد أمر التشريع في جوانب العبادات والمعاملات وفي الحرب والسلم، وقد حرص الصحابة على مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم وملازمته للأخذ عنه، فلم يعد أكثرهم إلى بلده
أو قبيلته، فكانت المدينة المنورة تعج بالصحابة وتشع بنور العلم، فكل منهم يعتبر مدرسة تخرج عليها بعد ذلك مئات من التابعين، ومن أشهر هؤلاء الصحابة المدنيين: الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وأبو هريرة وعائشة أم المؤمنين، وعبد الله ابن عمر وأبو سعيد الخدري وزيد بن ثابت وغيرهم.  

وعلى يد هؤلاء الصحابة تخرجت الطبقة الأولى من علماء التابعين بالمدينة، مثل سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ومحمد بن شهاب الزهري، وعبيد الله بن عتبة
ابن مسعود، وسالم بن عبد الله بن عمر ومحمد بن المنكدر ، وغيرهم ممن أخذ علم الصحابة، وأصبح مرجعا في علوم الكتاب والسنة والقضاء والفتوى.

2- مكة المكرمة:

لما فتح الله مكة لنبيه صلى الله عليه وسلم ودخل أهلها ومن جاورها في دين الله أفواجا خلّف فيهم جماعة من الصحابة يفقهونهم في الدين، ويعلمونهم القرآن والسنة، على رأسهم: معاذ بن جبل، وخالد بن أسيد،والحكم بن أبي العاص وعثمان بن طلحة، ثم التحق بهم غيرهم بعد ذلك مثل عبد الله بن عباس.   

وقد تخرج على يد هؤلاء الصحابة جماعة كثيرة من علماء التابعين، منهم: مجاهد ابن جبر وعطاء بن أبي رباح وطاوس بن كيسان وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد
ابن جبير، وغيرهم.وكان الصحابة والتابعون يأتون مكة للحج وللرواية فيحمل الناس عنهم علمهم وينشرونه في الآفاق.

3- الكوفة:

فتحت الكوفة في عهد عمر فأرسل إليهم ابن مسعود في وفد من الصحابة لتعليمهم، وقد نزل الكوفة ثلاثمائة من أهل بيعة الرضوان، وسبعون بدريا، من أشهرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.

وقد تخرج عليهم عدد كبير من علماء التابعين وحفاظهم، فقد كان تلاميذ
ابن مسعود الملازمون له ستين شيخا، عدا تلاميذ غيره من الصحابة، ومن أشهرهم:

عامر بن شراحيل الشعبي وسعيد بن جبير الأسدي وإبراهيم النخعي وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهم.

4- البصرة:

كانت البصرة مع الكوفة قاعدتي الفتح الإسلامي في خراسان وفارس والهند، ولهذا كان حظهما من علم الصحابة كبيرا، فممن نزل البصرة وعلم بها من الصحابة: أنس بن مالك وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس وعتبة بن غزوان وعمران
ابن حصين وأبو برزة الأسلمي.

وقد تخرج عليهم كثير من علماء التابعين، أشهرهم: الحسن البصري الذي أدرك خمسمائة من الصحابة، ومحمد بن سيرين وأيوب السختياني وبهز بن حكيم وعبد الله بن عون وقتادة بن دعامة.

5- الشام:

دخل الشام أكثر من عشرة آلاف من الصحابة الكرام، ثم أمدهم عمر بوفد للتعليم خاصة فيه معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء، ثم لحقهم عبد الرحمن ابن غنم، فانتشروا في نواحي بلاد الشام معلمين.

وممن استوطنها من الصحابة أيضا: عبد الرحمن بن يزيد الأزدي، وأبو عبيدة بن الجراح وبلال بن رباح وخالد بن الوليد والفضل بن عباس وعوف بن مالك وغيرهم.    

وقد تخرج عليهم عدد وافر من علماء التابعين، منهم: سالم بن عبد الله المحاربي، وعائذ بن عبد الله الخولاني، وأبو سليمان الداراني وعمير بن هانئ وغيرهم.

6- مصر:

دخل مصر عدد كبير من الصحابة، واستقر بها كثير منهم، وطال مقامهم بها، وأخذ عنهم الحديث عدد كبير من أهلها وممن أقام بها من التابعين،ومن هؤلاء الصحابة: عمرو بن العاص وابنه عبد الله، والزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت، وعقبة
ابن عامر، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومعاوية بن خديج، وغيرهم.

وقد تخرج على أيديهم كثير من محدثي التابعين، منهم: يزيد بن أبي حبيب، وعمر بن الحارث، وعبد الله بن سليمان، وعبد الرحمن بن شريح، وحيوة بن سريج وغيرهم.

7- إفريقية والمغرب والأندلس:

دخل عدد كبير من الصحابة إفريقية والمغرب فاتحين ومعلمين، ونشروا فيها علوم الكتاب والسنة، وقد استمر قدومهم إليها بين سنتي 27هـ و78هـ، ومنهم جماعة من المكثرين من الرواية مثل: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله
ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وجبلة بن عمرو الأنصاري، ورويفع بن ثابت الأنصاري، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وسفيان بن وهب الخولاني الذي طال مقامه بها وانتفع أهلها بعلمه، وأبي زمعة البلوي وقد دفن بالقيروان، وغيرهم.

وقد انتشرت السنة بإفريقية والمغرب على يد هؤلاء الصحابة، وزادت انتشارا عن طريق من دخلها وطال مكثه بها من التابعين، بل إن عمر بن عبد العزيز قد أرسل إلى القيروان بعثة تتكون من عشرة من التابعين لتفقيه أهل القيروان وإفريقية، ومن أشهر هؤلاء التابعين: إسماعيل بن أبي المهاجر، وبكر بن سوداة، وحبان بن جبلة، وسعد بن مسعود التجيبي، وعبد الرحمن بن رافع، وعبد الله بن المغيرة، وإسماعيل بن عبيد، وغيرهم. أما الأندلس فلم يثبت دخول أحد من الصحابة إليها، وإنما دخلها عدد من التابعين، كان لهم الفضل في غرس نواة علوم السنة بها.

8- وقد دخل عدد كبير من الصحابة والتابعين بلاداً أخرى كثيرة، نشروا فيها علوم الرواية المتعلقة بالكتاب والسنة، مثل اليمن، وخراسان وبخارى وسمرقند وغيرها. وكان هدفهم الأسمى نشر الإسلام وما أخذوه من العلم، ومساعدة الناس على سلوك
طريق الهداية متوخين في ذلك أرفق السبل وأيسر المناهج وأرحمها، فأحبهم أهل البلاد المفتوحة، ودخلوا في دين الله أفواجا، ونبغ كثير منهم في العلم حتى أصبحوا من أئمة الإسلام.

 

المراجع المساعدة

1- السنة قبل التدوين للخطيب: 75 – 175.

2- السنة ومكانتها في التشريع للسباعي: 56 ، 62- 71 .

3- الحديث والمحدثون لأبي زهو: 63- 79.

4- السنة للسلفي 181 – 188.

5- منهج النقد في علوم الحديث للعتر 37.

6- دراسات في السنة النبوية 81- 98 .

7- معالم السنة النبوية للعتر 38- 58 .

أسئلة التقويم الذاتي:

1- ما هو موقف الصحابة من السنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟

2- اذكر خمسة نماذج من اقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم، مع التعليق عليها.

3- اذكر خمسة نماذج من أقوال التابعين في مجال التمسك بالسنة ، مع التعليق عليها.

4- تحدث عن احتياط الصحابة والتابعين في تلقي الحديث وروايته.

5- قارن بين منهجي الإقلال والإكثار من الرواية، وكيف خدم كل منهما السنة.

6- كيف كان الصحابة والتابعون يتثبتون في قبول الحديث ويفحصون المرويات؟

7- وضح وجه مسالك الصحابة في الإقلال من الرواية، وادفع الشبهات حول ذلك.

8- هل كان الصحابة يشترطون راويين للحديث؟ مع الاستدلال.

9- ماهي عوامل الإكثار من رواية الحديث في ذلك العصر؟

 10- هل جمع الصحابة كل السنة وما درجاتهم في ذلك؟

11- من هم المكثرون من الرواية وعدد مرويات كل منهم؟

 12- هل روي الحديث في ذلك العصر باللفظ أم بالمعنى؟

 13- هل هناك خاصية للصحابة في باب الرواية بالمعنى؟

 14- ما حكم الرواية بالمعنى؟

 15- اذكر أهم ملامح منهج الصحابة والتابعين في نشر السنة؟

 16- اذكر خمسة من أهم حواضر العالم الإسلامي التي انتشرت فيها السنة آنذاك، مع التمثيل لمن نزلها من الصحابة والتابعين.

17- اكتب خمس صفحات بتعبيرك تضمنها عصارة ما خرجت به من هذا المبحث.

 

 

 

([1]) الحشر : (7) .

([2]) سنن ابن ماجه 1/1615 ح42 .

([3]) رواه الحاكم فى المستدرك 1/92 .

([4]) جامع بيان العلم 2/191 .

([5]) الأحزاب : (21) .

([6]) البخاري مع الفتح 6/217 ح957 .

([7]) مسند أحمد 1/160 .

([8]) مسند أحمد 1/167 .

([9]) مسند أحمد 1/197 .

([10]) مسند أحمد 1/293 .

([11]) مسند أحمد 1/135 .

([12]) مسند أحمد 1/378 .

([13]) مسند أحمد 2/109 .

([14]) سنن ابن ماجه 1/6 .

([15]) الحشر : (7) ، وقول عمران أخرجه البيهقى فى المدخل .

([16]) أخرجه الإمام أحمد فى المسند 4/445 .

([17]) أخرجه البيهقى فى المدخل .

([18]) الشرح والإبانة 128 .

([19]) سنن الدارمى 1/59 .

([20]) سنن الدارمى 1/145 .

([21]) البدع لابن وضاح 66 ، الشرح والإبانة 123 .

([22]) سنن الدارمى 1/66 .

([23]) أصول اعتقاد أهل السنة 1/67 .

([24]) سنن الدارمى 1/45 .

([25]) الشرح والإبانة 133 .

([26]) جامع بيان العلم لابن عبد البر 1/168 .

([27]) مختصر كتاب المؤمل فى الرد إلى الأمر الأول لأبى شامة 13 .

([28]) سنن ابن ماجه 1/8 ، سنن البيهقى 10/11 .

([29]) سنن ابن ماجه 1/8 .

([30]) مختصر كتاب المؤمل 6 .

([31]) انظر : تذكرة الحفاظ 1/7 .

([32]) تأويل مختلف الحديث 48 .

([33]) سنن ابن ماجه 1/9 ، طبقات ابن سعد 6/2 .

([34]) تذكرة الحفاظ 1/7 ، جامع بيان العلم 2/120 .

([35]) مسند أحمد 1/363 .

([36]) انظر شرف أصحاب الحديث 89 ، 90 .

([37]) جامع بيان العلم وفضله 2/121-124 باختصار .

([38]) سنن أبى داود 5/265-266 ح 4992 .

([39]) انظر فى هذه الرواية ونقدها : تذكرة الحفاظ 1/7 ، الإحكام لابن حزم 2/239 ، السنة قبل التدوين 106-110 شرف أصحاب الحديث 97 .

([40]) سير أعلام النبلاء 2/434 .

([41]) البخاري مع الفتح 1/271 ح107 .

([42]) سنن الدارمى 1/177 .

([43]) سنن ابن ماجه 1/10 .

([44]) سنن أبى داود 5/265-266 ح 4992 .

([45]) طبقات ابن سعد 3/102 .

([46]) مسند أحمد 1/363 .

([47]) انظر : تذكرة الحفاظ 1/7 .

([48]) تأويل مختلف الحديث 48 .

([49]) أخرجه الترمذي وغيره ، انظر جامع الأصول 2/452 .

([50]) سنن الترمذي 5/33 ح 2656 .

([51]) تقييد العلم 29-32 .

([52]) مسند أحمد 4/245 .

([53]) سنن الترمذي برقم 5/29 ح 2649 .

([54]) شرف أصحاب الحديث 72 .

([55]) شرف أصحاب الحديث 72 .

([56]) راجع فى أسماء الصحابة الرواة وعدد مروياتهم : جوامع السيرة لابن حزم ، مقدمة مسند بقى ابن مخلد .

([57]) تذكرة الحفاظ 1/103 .

([58]) سنن أبى داود 3/316 -  317 ح 2894 .

([59]) تذكرة الحفاظ 1/5 .

([60]) تذكرة الحفاظ 1/153 .

([61]) تذكرة الحفاظ 1/3 ، 4 .

([62]) تذكرة الحفاظ 1/3 ، 4 .

([63]) تذكرة الحفاظ 1/7 .

([64]) البخاري مع الفتح 12/290 ، 291 ح 6245 .

([65]) موطأ مالك 2/964 ، الرسالة 435 .

([66]) مسند أحمد 1/228 .

([67]) مسند أحمد 1/372 .

([68]) تذكرة الحفاظ 1/10 .

([69]) مسند أحمد 1/154 ، سنن الترمذي 2/257 ، وانظر الكفاية 28 .

([70]) انظر : تدريب الراوى 1/28 ، السنة ومكانتها فى التشريع 81 .

([71]) الرسالة 426 .

([72]) مسند الإمام أحمد 1/191 .

([73]) الإحكام لابن حزم 2/13 .

([74]) الإحكام لابن حزم 2/12 .

([75]) أخرجه أصحاب السنن الأربعة ، وانظر الإحكام لابن حزم 2/15 .

([76]) البخاري مع الفتح 1/310 ح 132 .

([77]) الآية الأولى من سورة الطلاق ، صحيح مسلم 2/1118-1119 ح46 .

([78]) أخرجه مسلم 1/81 .

([79]) البخاري مع الفتح 3/496 ح 1286 .

([80]) سنن الترمذي 5/33 ح2656 .

([81]) الكفاية 175 .

([82]) الكفاية 206 .

([83]) مسند أحمد 7/297 .

([84]) الكفاية 176 .

([85]) الكفاية 172 .

([86]) الكفاية 172 .

([87]) الكفاية 177 .

([88]) الكفاية 178 .

([89]) أحكام القرآن 1/10 .

([90]) انظر مجمع الزوائد 1/154 ، وعزاه القاسمى لابن عبد البر ، قواعد التحديث 208 .

([91]) للتوسع فى موضوع الرواية باللفظ والمعنى راجع : الكفاية فى علم الرواية للخطيب البغدادى198- 213 ، فتح المغيث للسخاوى 3/48 ، تدريب الراوى للسيوطى 311 ، توجيه
النظر للجزائرى 298 ، الرسالة للشافعى 744 ، السنة قبل التدوين 126 ، المستصفى للغزالى 1/168 .

([92]) سنن الدارمى 1/149 .

([93]) سنن الدارمى 1/149 .

([94]) المحدث الفاصل 81 .

([95]) المحدث الفاصل 35 .

([96]) التاريخ الكبير لابن عساكر 1/69 .

([97]) شرف أصحاب الحديث 99 .

([98]) شرف أصحاب الحديث 105 .

([99]) شرف أصحاب الحديث 105 .

([100]) شرف أصحاب الحديث 90 .

([101]) مقدمة التمهيد لابن عبد البر .

([102]) انظر : منهج النقد فى علوم الحديث 59 ، نزهة النظر 8 ، السنة قبل التدوين 220 ، مقدمة صحيح مسلم ، مقدمة التمهيد لابن عبد البر .

([103]) انظر : السنة قبل التدوين 153 - 162 .

([104]) شرف أصحاب الحديث 9 .

([105]) طبقات ابن سعد 2/134 .

([106]) تذكرة الحفاظ 1/15 .

([107]) الجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع 129 .

([108]) المحدث الفاصل 141 .

([109]) المحدث الفاصل 142 .

([110]) المحدث الفاصل 19 .

([111]) المحدث الفاصل 19 .

([112]) تذكرة الحفاظ 1/12 .

([113]) تذكرة الحفاظ 1/12 .

([114]) الجامع لأخلاق الراوى 136 .

([115]) الجامع لأخلاق الراوى 136 .

([116]) جامع بيان العلم 2/198 .

([117]) جامع بيان العلم 2/199 .

([118]) المحدث الفاصل 146 .

([119]) المحدث الفاصل 146 .

([120]) انظر الإلماع 142 .

([121]) الجامع لأخلاق الراوى 46 .

([122]) سنن الدارمى 1/82 .

([123]) الجامع لأخلاق الراوى 191 .

([124]) الجامع لأخلاق الراوى 184 .

([125]) انظر : السنة قبل التدوين 163-175 ، دراسات فى السنة النبوية 95-97 ، مدرسة الحديث فى القيروان 2/463-539 .

  • الاحد AM 11:33
    2020-11-29
  • 5941
Powered by: GateGold