المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412169
يتصفح الموقع حاليا : 296

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء التماثل بين مفهوم التقوى في الإسلام والرهبنة النصرانية

                     ادعاء التماثل بين مفهوم التقوى في الإسلام والرهبنة النصرانية(*)

 

مضمون الشبهة:

 

يدعي بعض المشككين أن الرهبانية في بعض الأديان تعني التقوى في الإسلام، فالسمو في الآخرة في زعمهم لا يتحقق مع وجود هذا الجسد اللعين، ويتساءلون: إن كان هذا هو شأن الدين الإسلامي، فلماذا يتدخل في شئون الحكم ويحرص على الأمور الدنيوية؟!

 

وجوه إبطال الشبهة:

 

1) الإسلام ليس مجرد دين روحي، بل هو منهج حياة يسمو بالسلوك والأخلاق، ويتسم بالشمول، والعالمية، والصفاء الروحي.

 

2) ليس في الإسلام رهبنة، ولكنه دين الوسطية عبادة وتشريفا، وهناك فرق بين وسطية الإسلام وإفراط الرهبنة وتطرفها.

 

3)  لا ينبغي أن نخلط بين الإسلام نفسه وما ظهر في تاريخه من بعض المذاهب المنحرفة التي لم تلتزم تعاليمه.

 

التفصيل:

 

أولا. الدين الإسلامي منهج حياة متكامل الجوانب:

 

إن الدين الإسلامي بعقيدته الشاملة قد عرض لكل جوانب الحياة، فكان له دور على المستوى الفكري، والخلقي، والاجتماعي، والتعبدي، والعملي - فهو نظام شامل، يشمل كل مناحي الحياة، فهو دين ودولة، أو حكومة وأمة، وهو علم وقضاء، أو ثقافة وقانون، وهو قوة وعدالة، أو خلق ورحمة، وهو جيش وفكرة، أو جهاد ودعوة، وهو مادة وثروة، أو كسب وغنى، كما أنه عقيدة صادقة، وعبادة صحيحة سواء بسواء: )قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162)( (الأنعام)، فالإسلام يضع الأسس الاعتقادية لإنسان يعيش في الدنيا بنواحيها المختلفة، من سياسة، واقتصاد، واجتماع، وعمل.. وعينه تتطلع إلى الآخرة، لهذا كان التصور الإسلامي في مجال العقيدة هو التصور الوحيد الشامل الذي يكفل للإنسان توفير جميع احتياجاته على الأرض، وتطلعات نفسه نحو العالم[1].

 

وقد أحسن العقاد حين قال: إن الإسلام هو العقيدة المثلى للإنسان، منفردا أو مجتمعا، وعاملا لروحه أو عاملا لجسده، وناظرا إلى دنياه أو ناظرا إلى آخرته، مسالما أو محاربا، ومعطيا حق نفسه أو معطيا حق حاكمه وحكومته، فلا يكون مسلما وهو يطلب الآخرة دون الدنيا، ولا يكون مسلما وهو يطلب الدنيا دون الآخرة، ولا يكون مسلما لأنه روح تنكر الجسد، أو لأنه جسد ينكر الروح، أو لأنه يصحب إسلامه في حالة ويدعه في حالة، ولكنما هو مسلم بعقيدته كلها مجتمعة لديه، في جميع حالاته، سواء تفرد وحده أو جمعته بالناس أواصر الاجتماع[2].

 

والعبادة في الإسلام هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأعمال الباطنة والظاهرة فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانات، وبر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكافرين والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله[3].

 

ولما كان الدين الإسلامي مشتملا على مناحي الحياة بأسرها، والعبادة فيه تناولت كل حركات الإنسان المسلم وسكناته، فإن العقيدة الإسلامية قد تناولت كل القضايا الكبرى في هذا الوجود، التي شغلت الفكر الإنساني ولا تزال تشغله وتلح عليه بالسؤال، وتتطلب الجواب الحاسم الذي يخرج الإنسان من الضياع والشك والحيرة، وينتشله من متاهات الفلسفات والنحل المتضاربة قديما وحديثا، وهى: قضية الألوهية، قضية الكون، قضية الإنسان، قضية النبوة، قضية المصير.

 

فإذا كانت بعض العقائد تعنى بقضية الإنسان دون قضية الألوهية والتوحيد، أو بقضية الألوهية دون قضية النبوة والرسالة، أو بقضية النبوة دون قضية الجزاء الأخروي، فإن عقيدة الإسلام قد عنيت بهذه القضايا كلها، وقالت فيها كلمتها، بوضوح شامل وشمول واضح.

 

فهي - العقيدة الإسلامية - توصف بالشمولية؛ لأنها لا تجزئ الإنسان بين إلهين اثنين: إله الخير والنور، وإله الشر والظلام، كما هو عند المجوس، أو بين الله والشيطان، الذي سمي في الأناجيل باسم رئيس هذا العالم أو إله هذا الدهر، وانقسم العالم بينه وبين الله، فله مملكة الدنيا ولله السماء، فيوشك أن يكون عمله في نظر المسيحية مضارعا أو مضاهئا لعمل "أهريمان" إله الظلام في المجوسية.

 

وتوصف بالشمولية أيضا لأنها لا تعتمد في ثبوتها على الوجدان أو الشعور وحده، كما هو شأن الفلسفات الإشراقية والمذاهب الصوفية، وكما هو شأن المسيحية التي ترفض تدخل العقل في العقيدة رفضا باتا، بحيث لا تؤخذ إلا بالتسليم المطلق، على حد قولهم: اعتقد وأنت أعمى، وهي كذلك لا تعتمد على العقل وحده، كما هو شأن جل الفلسفات البشرية، التي تعتمد على العقل - اعتمادا كليا - في معرفة الله وحل ألغاز الوجود.

 

وإنما تعتمد على الفكر والشعور معا، أو العقل والقلب جميعا، باعتبارهما أداتين متكاملتين من أدوات المعرفة الإنسانية والوعي الإنساني، إن الإيمان الإسلامي الصحيح هو الذي ينبعث من ضياء العقل وحرارة القلب، وبذلك يؤتي أكله في الحياة. وهي - العقيدة الإسلامية - عقيدة شاملة؛ لأنها لا تقبل التجزئة، ولا بد أن تؤخذ كلها بكل محتوياتها دون إنكار، أو حتى شك، في أي جزء منها، فمن آمن بتسعة وتسعين جزءا، وكفر بجزء واحد لم يعد مسلما، فالإسلام يقتضي أن يسلم الإنسان قياده لله، ويؤمن بكل ما جاء من عنده[4].

 

ثمرات التقوى في الإسلام:

 

  1. تزكية النفس:

 

فللإيمان بالله - سبحانه وتعالى - وبما أمر به أثر في النفس البشرية، يجعلها تترفع عن كل ما هو دنىء، وكل ما هو من قبيل الرذيلة، ويجعل النفس تحلق في آفاق السماء لأنها لم تخلق لتركن إلى الأرض.

 

والعقيدة الإسلامية تزكي النفس، وتهذبها وتخليها من الرذائل، وتحليها بالفضائل، ولذلك جاءت الفرائض الإسلامية بأسرها ابتداء بالشهادة التي تطهر قلب الإنسان من كل خضوع لما هو دون الله - عز وجل - من آلهة مزعومة، والصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي صلة بين العبد وربه ينقطع فيها العبد عن كل شىء سوى الله، ويصعد بروحانيته، إلى أفاق السماء ليبعد عن هذه الأرض، فأي سمو بعد ذلك؟ وكذلك الزكاة أيضا هي تزكية للنفس وطهارة للقلب من البخل والشح، وكذلك الحج غفران للذنوب ورفعة للأرواح، وتدريب على المرابطة في طاعة الله - عز وجل - ثم كانت الغاية من الصوم، هي التقوى: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183)( (البقرة)، وإلى آخر ذلك من الفرائض الإلهية، التي شرعت من أجل الارتقاء بالجانب الروحي للإنسان بالدرجة الأولى.

 

وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أثر الإيمان بالله على النفس الإنسانية، فقال: «ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا»[5]، وفي هذه المدرسة الروحية تخرج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخلاصهم وأخلاقهم النبيلة، التي كانت نتيجتها هذا المجتمع الصالح، والنموذج المثالي الفاضل، الذي لا نظير له في التاريخ: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (2)( (الجمعة).

 

  1. التحرر من عبودية الأنانية والشهوات:

 

فهذه العقيدة الربانية، حين تستقر في أعماق النفس، تحرر الإنسان من عبوديته لأنانيته وشهوات نفسه ولذات حسه، ومن الخضوع والاستسلام لمطالبه المادية ورغباته الشخصية؛ وذلك أن الإنسان الرباني يوقفه إيمانه بالله وباليوم الآخر موقف الموازنة بين رغبات نفسه ومتطلبات دينه، بين ما تدفعه إليه شهوته وما يأمره به ربه، بين ما يمليه عليه الهوى وما يمليه عليه الواجب، بين متعة اليوم وحساب الغد، أو بين لذة عاجلة في دنيا فانية وحساب عسير ينتظره في آخرته.

 

وهذه الموازنة والمساءلة جدير بها أن تخلع عنه نير العبودية للهوى والشهوات، وأن ترتفع به إلى أفق أعلى من البهيمية والأنانية، أفق الإنسانية المتحررة التي تتصرف بوعيها وإرادتها، لا بوحي بطنها وفرجها وغريزتها الحيوانية[6].

 

ثانيا. ليس في الإسلام رهبنة، ولكنه دين الوسطية في العبادات والشعائر:

 

الإنسان المسلم ليس راهبا، بل هو إنسان عمل وإنتاج للحياة، يعطيها كما يأخذ منها، ويعد عمارتها هدفا من أهداف خلقه واستخلافه في الأرض: )يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها( (هود: 61)؛ أي: طلب إليكم عمارتها، والأصل في الطلب الوجوب، وعمارة الأرض لا تنافي العبادة، بل هي - إذا استقامت على أمر الله، وانضبطت بتعاليم شرعه - تصبح عبادة وقربة إلى الله تعالى[7].

 

ووضح الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن: «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان، أو طير، أو بهيمة إلا كان له به صدقة»[8]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل»[9].

 

وهذه هي الفسيلة التي لا تنتج إلا بعد عشرات السنين، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حث على غرسها، سواء كان فيها نفع مرجو‍ أم لم يكن.

 

والإنسان مطالب بالعمل، فهو عبادة وجهاد مقدس، ومن المعلوم عندنا - نحن المسلمين، بل وفي كل الملل والنحل - أن الإنسان جسم وروح، وللجسم حظ ومتعة، وللروح حظ ومتعة، والإسلام يراعي الإنسان كله: جسمه، وروحه، وعقله، فهو في كثير من نصوصه يرفع عن الإنسان الحرج في التمتع بملاذ الجسم المعتدلة، ويأمره بالطيبات في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه، وفي حاجة نفسه من الزوجة والمال والولد، وينكر أشد الإنكار على من حرم على نفسه شيئا من ذلك مع القدرة عليه[10].

 

والتقوى في الإسلام لا تعني بأية حال الرهبانية المعروفة في المسيحية وغيرها، فالتقوى - لغة واصطلاحا - يتجه معناها نحو الخوف من الله والحرص على امتثال أمره واجتناب نواهيه، ومن ثم فالحكم على معنى التقوى في الإسلام بأنه هو الرهبانية المسيحية حكم بلا دليل دعوى، وبلا برهان، فإن المعاني العامة التي تضمنتها آيات القرآن وأقوال النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بمفهوم التقوى، وصفات المتقين تؤكد تأكيدا واضحا على أن التقوى قيمة لا يمكن تحققها من خلال العزلة والانسحاب من الحياة الاجتماعية العامة، فكيف يصبح الإنسان تقيا وهو يعيش وحده يعفي نفسه من فرص الاختبار الحقيقي لدينه وأمانته؟! كيف للمرء أن يدعي أنه صادق دون أن يخوض التجربة الحقيقية التي يقارن فيها بين المنافع الكثيرة العاجلة للكذب، والمضار الكثيرة المتوقعة من وراء الصدق؟!

 

كيف للمرء أن يدعي أنه زاهد في الحياة دون أن تكون لديه الفرصة المناسبة للتمتع بمباهجها فيؤثر الآخرة على الدنيا؟! أما الفقير العاجز الذي لايجد شيئا من ذلك فلا يمكن أن يطلق على نفسه لقب الزاهد القانع.

 

إن المعدن النفيس لا نستطيع الحكم على أصالته ونفاسته ما لم نعرضه للمحنة والابتلاء: )ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون (37)( (الأنفال).

 

أما القول بأن السمو الروحي لا يمكن أن يتحقق أو يتصور مع وجود الجسد بشهواته، فذلك زعم يحتاج إلى برهان؛ فالإنسان المخاطب بالتكليف الإلهي هو هذا الكيان المتكامل المكون من الجسد والروح، والتكاليف الشرعية لا يمكن لها أن تتحقق بروح دون جسد، ومن ثم فالدعوة إلى التخلص من الجسد وتعذيبه ينطوي على مبالغة ومعاندة للقانون الإلهي الفطري.

 

ثم هناك فرق بين التقوى في الإسلام بوسطيتها، وطهرها ونقائها، وبين رهبانية المسيحية بإفراطها وتزمتها؛ ومن ذلك:

 

  • العزوبة: من أهم شروط الرهبنة في العقيدة المسيحية أن يكون الراهب عزبا؛ إذ لا معنى للرهبنة مع وجود زوجة، ومعلوم أن المسيح - عليه السلام - لم يتزوج، ومن ثم تمسك هؤلاء المدعون بتلك الخصيصة في عيسى، وأقاموا على ذلك مذهبهم في الرهبنة.

 

وأما التقوى في الإسلام فلا تمنع من الزواج مطلقا، بل حث عليه الإسلام حثا أكيدا: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21)( (الروم).

 

وأكد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير حديث، فقال: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة[11] فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»[12] [13].

 

 

 ولما جاءه ثلاثة رجال يحكون له - صلى الله عليه وسلم - حالتهم من الورع والتقوى، أو قل: الرهبنة والتزمت، فقال أحدهم للنبي صلى الله عليه وسلم: «إني أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء، وهذه سنتي، ومن رغب عن سنتي فليس منى»[14].

 

بل إن المرأة التي تعد شيطانا في نظر الرهبنة المسيحية كانت أحد الأشياء المحببة لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: «حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة»[15].

 

فهذه هي نظرة الإسلام للمرأة باعتبارها نصف هذا المجتمع، والسكن الذي يأوى إليه الرجل بعدما يناله عنت النهار.

 

وكانت من المشاكل المستعصية على الكنيسة مشكلة زواج رجال الدين من غير الرهبان، وكانت الكنيسة من زمن بعيد تعارض زواج رجال الدين بحجة أن القس المتزوج يضع ولاءه لزوجته وأبنائه في منزلة أعلى بالنسبة للكنيسة، "وأنه سيحاول أن ينقل كرسيه أو مرتبته لأحد أبنائه، يضاف إلى هذا - كما هو مقرر عندهم - أن القس يجب أن يكون خالصا لله وبني البشر، وأن مستواه الأخلاقي يجب أن يكون أعلى من مستوى أخلاق الشعب، وأن يكون على مستوى المكانة التي لا بد منها لاكتساب ثقة الناس وإجلالهم إياه، وذلك بإيجاب التبتل على رجال الدين وتطليق المتزوجين منهم، وكان بهذا الأمر أثر امتد إلى القرن السادس عشر، وانتهت بنجاح الكنيسة في منع رجال الدين من الزواج. وإذا كان هذا هو الحال مع رجال الدين من غير الرهبان، فكيف تكون الحال مع الرهبان أنفسهم[16]؟

 

  • أمر آخر من شروط الرهبنة عند النصارى وهو التجرد الكامل من الدنيا، وقطع النظر عن كل ما فيها، والاكتفاء من الرزق بالكفاف، ونبذ كل المطالب الجسدية حتى الضروريات الإنسانية منها: كالملبس والمأكل والنظافة والتنزه عن النجاسات، فإذا كانت المسيحية المحرفة تأمر الأفراد العاديين باحتقار الحياة، بل وتعد ذلك من أولى الواجبات، فكيف تكون الحال مع الرهبان الزاهدين في الدنيا؟

 

أما الإسلام فلم يذم الدنيا ذما مطلقا، ولكنه ذم منها ما يشغل الإنسان عن الغاية التي خلق من أجلها، وهي عبادة الله - عز وجل - لأنه خلق كل شىء للإنسان وخلق الإنسان لعبادته سبحانه وتعالى فلا يتصور أن يشغل عن هذه الغاية السامية، بحطام لا بد أن يزول.

 

وأما الدنيا من حيث كونها دنيا فقد أمر الإنسان بتعميرها: )هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها( (هود: 61)؛ أي: طلب إليكم تعميرها، والأصل في الطلب من الله - عز وجل - الوجوب، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعمارة الأرض كذلك، وقد تقدم حديث: «ما من مسلم يغرس غرسا...» وحديث: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة...». وكانت سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - شاهدا عظيما على ذلك؛ إذ إنه عمل برعي الغنم وفي التجارة. وفي المقام الثالث تأتي سيرة الصحابة الكرام، فنجد أبا بكر يعمل تاجرا، وكذلك أبو عبيدة وعثمان وغيرهم.

 

  • وأما مبدأ الاكتفاء بالكفاف من الرزق عند الرهبان النصارى، فهو مبدأ منبوذ أيضا؛ لأن الإسلام دين المعالي ودين السيادة، وليس دين الأديرة أو المساجد فحسب، وإن كانت المساجد هي أولى الدعائم التي يقوم عليها الإسلام، لكنه دين الأستاذية والقيادة، كما قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير وأحب إلى الله من اليد السفلى»[17].

 

وقال سعد بن أبي وقاص: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالى؟ قال: "لا"، قلت: بالشطر؟ فقال: "لا"، ثم قال: "الثلث والثلث كبير - أو كثير - إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تتبغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك»[18].

 

  • وآخر هذه المبادئ وأشدها على النفس هو مبدأ إهمال الذات في أخص الحاجات الإنسانية الضرورية؛ كالملبس أو المأكل أو النظافة، وهذا المبدأ بارز جدا في الرهبنة النصرانية، ولكن الإسلام قد نهى عن ذلك المبدأ نهيا تاما، فقال الله عز وجل: )قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة( (الأعراف: ٣٢).

 

والله تبارك وتعالى جميل يحب الجمال، وأكثر الناس حرصا على النظافة والجمال هم أقربهم لله - عز وجل - وكان أكثرهم حرصا على ذلك الرسول - عز وجل - حتى قال: «من كان له شعر فليكرمه» [19]، فلماذا تتهمون الإسلام بالرهبنة؟

 

كذلك من شروط الرهبنة العبادة الدائمة، صلاة شبه دائمة، فإذا انتهى العابد من الصلاة ذهب إلى الترانيم والتراتيل وسائر الطقوس، فلا يكاد ينتهي من عبادة حتى يذهب إلى الأخرى، فإذا انتهى به الأمر إلى مبيته راح إليه منهوك الجسد يتخطفه النوم وهو في طريقه إلى فراشه.

 

إن الإسلام دين الوسطية الوحيد في العبادة والشعائر من بين سائر الأديان والنحل، التي منها ما طلب الجانب الرباني - جانب العبادة والنسك والتأله - فشغل بفلسفتها وواجباتها، كالبوذية مثلا التي اقتصرت فروضها على الجانب الأخلاقي الإنساني وحده، ومنها ما طلب من أتباعه التفرغ للعبادة والانقطاع عن الحياة والإنتاج كالرهبانية المسيحية.

 

ولعل أبرز دليل نذكره هنا الآيات القرآنية الآمرة بالصلاة - وهي أعظم الشعائر الإسلامية )يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (9)( (الجمعة)، فهذا هو شأن المسلم مع الدين والحياة، حتى في يوم الجمعة: بيع وعمل للدنيا قبل الصلاة، ثم سعى إلى ذكر الله وإلى الصلاة، وترك للبيع والشراء، وما أشبهه من مشاغل الدنيا، ثم انتشار في الأرض وابتغاء الرزق من جديد بعد انقضاء الصلاة، مع عدم الغفلة عن ذكر الله كثيرا في كل حال، فهو أساس الفلاح والنجاح[20].

 

ثالثا. الخلط بين الإسلام وانحرافات بعض متبعيه:

 

لعل الذي حدا بهؤلاء المدعين إلى القول بالرهبنة في الإسلام هو ما ظهر في بلاد الإسلام من المغالين والمتواكلين، فبعض هؤلاء اعتقد أن الصلاة والصوم والحج والزكاة عبادات العوام من الناس، وأما هم فيسمون أنفسهم الخاصة فعبادتهم عبادة خاصة وإن تشابهت في ظاهرها، وإذا كانت العبادة في الإسلام لتزكية النفس وتطهير المجتمع، فإن العبادة عندهم لربط القلب بالله ليتلقى عنه - عز وجل - مباشرة - حسب زعمهم - ثم الفناء فيه، ولا يهم هذا الفريق أن تخالف شريعته شريعة الإسلام، فالحشيش والخمر واختلاط النساء بالرجال في الموالد وحلقات الذكر، كل ذلك لا يهم فإنه تلقى تلك الشريعة - في زعمهم - عن الله عز وجل.

 

والعجب أن من مبادئهم التجرد عن الدنيا وهجر المال والأولاد، وتعذيب النفس والبدن بالسهر الطويل وعدم التزوج؛ لأن اتخاذ مثل هذه الأشياء، يعد سلوكا سلبيا - في نظرهم - يؤدي إلى الفساد واختلال اليقين.

 

والظاهر أن تلك المبادئ جاءت من تأثير الفلسفات اليونانية والمذاهب الرهبانية النصرانية. وقد حملت هذه الطائفة من المسلمين المشككين في الإسلام، أو قل إن شئت استغل المشككون هذه الفرصة ليطعنوا في الإسلام بها، زاعمين أن الإسلام دين رهبنة، وأن التقوى في الإسلام - في زعمهم - ما هي إلا نسخة ثانية من الرهبنة النصرانية. ولكن الإسلام بمنأى عن كل هذه الخزعبلات، فإنه جاء بمنهج حياة متكامل، وطريق يرسم الخطى للسير إلى الدار الآخرة رسما دقيقا محددا: )قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162)( (الأنعام). )وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب (61)( (هود).

 

الخلاصة:

 

  • الإسلام منهج حياة أو نظام شامل، يشمل كل مناحي الحياة؛ فهو دين ودولة، أو حكومة وأمة، وهو علم وقضاء أو ثقافة وقانون، وهو قوة وعدالة، أو خلق ورحمة، وهو جيش وفكرة، أو جهاد ودعوة، وهو مادة وثروة، أو كسب وغنى، كما أنه عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء.

 

  • إن الغاية الكبرى من الفرائض الإسلامية هي تزكية النفس من الشح والبخل والحقد والضغينة، وكذلك السمو بالنفس لتنتشلها من الركون إلى الأرض إلى التحليق في فضاء السماء.

 

  • التقوى توقف الإنسان موقف الموازنة بين رغبات نفسه ومتطلبات دينه، بين ما تدفعه إليه شهواته وما تمليه عليه أوامر ربه، بين ما يميل إليه بهواه وما يفرضه عليه الواجب، بين متعة اليوم وحساب الغد، بين لذة عاجلة في دنيا فانية وحساب عسير ينتظره في آخرته، وهذه الموازنة جدير بها أن تخلع عنه العبودية للهوى والشهوات.

 

  • الإسلام دعا إلى عمارة الأرض، ولم يرض للمسلم الرهبنة ولا مجافاة الحياة؛ لأنه جاء لتعمير الكون والعمل للآخرة معا.

 

  • للرهبانية شروط وأسباب لم يتحقق منها واحد في التقوى الإسلامية، ومن ثم فلا علاقة بين التقوى والرهبنة، ولا ينبغي أن نخلط بين ما جاء به الإسلام نفسه وما ظهر في تاريخه من مذاهب انحرفت عن تعاليمه وخضعت لتأثير عقائد أخرى.

 

 

 

 

(*) مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2004م.

 

[1]. انظر: أصول العقيدة الإسلامية: دراسات وبحوث، د. محمد سلامة أبو خليفة، دار الهاني، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص24 وما بعدها.

 

[2]. مدخل لمعرفة الإسلام: مقوماته.. خصائصه.. أهدافه.. مصادره، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1422هـ/ 2001م، ص156، 157.

 

[3]. مدخل لمعرفة الإسلام: مقوماته.. خصائصه.. أهدافه.. مصادره، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1422هـ/ 2001م، ص68.

 

[4]. مدخل لمعرفة الإسلام: مقوماته.. خصائصه.. أهدافه.. مصادره، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1422هـ/ 2001م، ص157، 158.

 

[5]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا (160).

 

[6]. مدخل لمعرفة الإسلام: مقوماته.. خصائصه.. أهدافه.. مصادره، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1422هـ/ 2001م، ص136.

 

[7]. مدخل لمعرفة الإسلام: مقوماته.. خصائصه.. أهدافه.. مصادره، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1422هـ/ 2001م، ص73: 79 بتصرف.

 

[8]. أخرجـه البخــاري في صحيحـه، كتـاب المزارعـة، بـاب فضــل الـزرع والغـرس (2195)، مسلـم في صحيحــه، كتـاب المساقـاة، بـاب فضـل الغـرس والـــزرع (4055).

 

[9]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه، والبخاري في الأدب المفرد، باب اصطناع المال (479)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (9).

 

[10]. انظر: منهج القرآن في بناء المجتمع، الشيخ محمود شلتوت.

 

[11]. الباءة: النكاح.

 

[12]. الوجاء: الحماية.

 

[13]. أخرجـه البخـاري في صحيحـه، كتـاب النكــاح، بـاب مـن لـم يستطـع البــاءة فليصـم (4779)، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه (3466).

 

[14]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (4776)، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة (3469).

 

[15]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (12315)، والنسائي في المجتبى، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء (3939)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1809).

 

[16]. مقال منشور بموقع سفر الحوالي على شبكة المعلومات.

 

[17]. أخرجـه البخـاري في صحيحـه، كتـاب الزكـاه، بـاب لا صدقـة إلا مـن ظهـر غنـي (1361)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى (2433).

 

[18]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب رثى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خزامة بن سعد (1233)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث (4296).

 

[19]. صحيـح: أخرجـه أبـو داود في سننـه، كتـاب الترجـل، بـاب في إصـلاح الشعــر (4165)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (770).

 

[20]. مدخل لمعرفة الإسلام: مقوماته.. خصائصه.. أهدافه.. مصادره، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1422هـ/ 2001م، ص164، 165.

  • الاثنين AM 04:23
    2020-11-23
  • 1191
Powered by: GateGold