المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412388
يتصفح الموقع حاليا : 354

البحث

البحث

عرض المادة

الفهم الخاطئ للسؤال التقريري عن ربوبية الله عز وجل

                                        الفهم الخاطئ للسؤال التقريري عن ربوبية الله عز وجل (*)

مضمون الشبهة:

ينكر بعض الجاحدين سؤال الله - عز وجل - لعباده: )ألست بربكم( (الأعراف: 172)، وإجابتهم التقريرية "بلى"، مستبعدين حصول هذا الحوار، ومتسائلين: كيف، ومتى حدث هذا، وما الدليل عليه؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1) إن الحوار الذي تضمنه قوله تعالى: )ألست بربكم قالوا بلى( (الأعراف: ١٧٢) أمر من أمور الغيب التي يعجز العقل البشري عن إدراك كنهها من غير الوحي.

2)  السنة النبوية وتفاسير العلماء وجهت الحوار توجيها شرعيا ومنطقيا بحيث يجوزه العقل.

3)  محدودية الإدراك العقلي مع جحود الإيمان وراء هذا الفهم الخاطئ.

التفصيل:

أولا. الحوار الوارد في آية سورة الأعراف أمر من أمور الغيب التي يعجز العقل البشري عن إدراك كنهها مستقلا عن الوحي:

لقد أخفق العقل في أن يقدم الحقائق الصحيحة، عندما بحث في مجال الغيب، ومن ثم رفض المتسمون به - الفلاسفة العقلانيون - أخيرا الميتافيزيقا، واضطروا إلى إلغائها بحجة أن العقل لا يستطيع تجاوز المحسوس، ومن ثم فهو - المحسوس أو عالم الطبيعة - ميدان المعرفة الوحيد عندهم.

وكان من أدلة رفض الميتافيزيقيا لدى هؤلاء أن العقل مع جهوده الشاقة لم يصل إلى علم فيها، وغاية ما قدمه آراء مضطربة متناقضة، ولكن هذا الرفض لا يمكن أن يسد حاجة الناس إلى الدين في تحديد تصورهم وتنظيم حياتهم، كما أنه لن يسده دين يضعه عقل الإنسان الذي اعترف بعجزه لملء هذا الفراغ فقط.

لذا كان الإنسان بحاجة إلى مصدر آخر للمعرفة يتجاوز العقل البشري في قدرته، ولقد حاول الفلاسفة - فعلا - إيجاد مصدر آخر للمعرفة الميتافيزيقية، ولكنه لم يكن أحسن حظا من العقل، إن لم يكن نمطا من حركاته، ولن يجد الإنسان هذا المصدر إلا عند الذي وهبه المصدر الذي معه، وهو الله ليجد أنه تعالى قد أنزل عليه هذا المصدر، ممثلا في الوحي: )لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)( (فصلت).

يقول ابن تيمية: "وقد تأملت في ذلك،عامة ما تنازع فيه الناس، وكل يزعم أن قوله معلوم بضرورة العقل - فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة، يعلم بالعقل بطلانها، بل ثبوت نقيضها الموافق للشرع، تأملت هذا في مسائل الأصول الكبار، كمسائل التوحيد، والصفات، والقدر، والنبوات، وغير ذلك ووجدت ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط"[1].

ويقول ابن تيمية أيضا: "إن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي تستوي فيه أفراده؛ فإن الله ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية تستوي أفرادها، ولهذا لما سلكت طوائف من المتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية، لم يصلوا إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بعد الانتهاء الحيرة والاضطراب، لما يرونه من فساد أدلتهم وعدم تكافئها".

وهذا ما جعل المنصفين من أرباب علم الكلام يعلنون إفلاس العقل، وعجز هذه المناهج عن الإيصال إلى اليقين[2].

ولئن أفلس العقل أن يستقل بمصدرية أمور العقيدة، أو أن يكون الحكم المطلق، فإن ذلك لا يعني إبعادها عن حماه، إن له مهمة جليلة في هذا المقام تنبئ عن جليل الشرف الذي وهبه الله إياه. ونستطيع أن نعرف هذه المهمة من خلال الفطرة الأصيلة في الإنسان، فهي محطة الاستقبال التي يتجه إليها الإسلام، وقد قضى خالق هذه الفطرة، الذي بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالإسلام بالتطابق التام بينهما - الإسلام والفطرة - ويتمثل هذا التطابق في دائرتي: الإلجاء والإمكان.

فأما الإلجاء: فالمقصود به: ما تضطر الفطرة صاحبها إلى الاعتقاد به، والحكم بوجوده أو استحالته بصفتها الفطرية المجردة.

وأما الإمكان: فهو تجويز الفطرة ما جاء به الوحي من قضايا عقدية، قال الغزالي: "إن كل ما ورد به السمع ولم يقض العقل باستحالته يجب تصديقه والقضاء بثبوته". وقال ابن تيمية: "نحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول، بل بما تعجز عن معرفته".

فالعقل ذو طبيعة محدودة من حيث نوعية المعقولات؛ لأنه في هذا الحكم يستطيع معرفة كثير منها على وجه صحيح لا زيف فيه، من حيث طبيعته - هو - وفي مقابل تلك أشياء أخرى ليس في طاقته علمها؛ لأنها تتجاوز حدود هذه الطاقة.

وفيما يتعلق بأمور الغيب وحقائق العقيدة تتجلى محدودية الإدراك العقلي من خلال التفريق بين وجودها وماهيتها؛ فالإدراك المطلوب إنما يتعلق من تلك الحقائق بإثبات وجودها، وما يترتب على ذلك من آثار وصفات دون تقحم إلى ما رواء ذلك؛ بتعقل الكيفيات التي عليها هذه الأشياء الغيبية؛ لأن العقل عاجز عن التكييف الصحيح لهذه الأشياء بحكم أنها خارجة عن نطاق الزمان والمكان والمادة المحدود بها عقل الإنسان، والذي لا يستطيع تجاوزها مهما حلق به الخيال؛ لأنه سيركب تصورا لماهية هذه الأشياء من الأجزاء التي يأخذها من عالم المادة، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: )ليس كمثله شيء( (الشورى: ١١)، وقال سبحانه وتعالى: )ولا يحيطون به علما (110)( (طه)، وكما جاء عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله عز وجل»[3].

وليس في هذا حجر على العقل الإنساني، ولكنه توجيه له أن يعمل في حدوده ومجاله الذي يدركه، وحفظ له من التيه والضياع في أودية ليس له فيها دليل ولا هاد.

وإذا عدنا إلى الفلسفة والعلم الطبيعي اليوم - رغم ما امتد إليه من أبعاد - نرى في ضوئه عظمة منهج العقل الذي رسمه القرآن في هذا الأمر. إن كانت يقرر في نقده للعقل - أن موضوعات العلم في المجال الطبيعي لا يعدو علمنا بها معرفة الظواهر التي تتجلى لعقلنا، فنحن لا نعرف من الأشياء إلا مظاهرها التي تتجلى لنا عليها، وهناك وراء الشيء المتجلي لنا يوجد الشيء في ذاته "إننا لا نعرف الأشياء كما هي في ذاتها، ولكن فقط كما تظهر لنا".

كما يعترف علماء الطبيعة أن كثيرا من الحقائق لا ندركها، كما ندرك الأشياء المحسوسة، وإنما نعرفها عن طريق الاستنباط والتعليل، وكلاهما طريق فكري نبتدئ فيه بواسطة حقائق معلومة حتى ننتهي إلى أن الشيء الفلاني يوجد هنا، ولم نشاهده مطلقا، فلا نستطيع توصيف وضعيته، يقول السير آرثر أونجتن: "نجد لكل شيء صورة ذات وجهين أحدهما ملحوظ، والآخر صورة فكرية، لا سبيل إلى مشاهدتها بأي ميكروسكوب أو تلسكوب".

فإذا كان هذا إقرار العلماء بعجز العقل عن إدراك ماهيات أشياء بين يديه، أو في متناول أجهزته، فلا ريب أن حقائق الغيب أبعد على العقل من أن يحيط بكنهها وماهيتها، ولا يبقى له إلا أن يثبت وجودها، ويلمس آثارها، وفق ما قدم له الوحي مفوضا علم ما وراء ذلك إلى علام الغيوب.

وصفوة القول فيما نحن بصدده: أن العقل الذي أولاه بعضهم هذه الثقة عاجز عن الاستقلال في ميدان الغيب والعقيدة؛ وذلك:

  • لاستحالة تخلص الفطرة عن عوارض المؤثرات البيئية ونحوها.
  • لقصور منهجه الذي يسلكه عن تحقيق غاياته.
  • ولأن في هذه الأمور تفاصيل ليست في محتوى الفطرة، إلا من خلال دائرة الإمكان، وليس في الإمكان سوى القبول أو الرفض، دون التصدير.
  • ولأن النتيجة التي وصل إليها هذا العقل بعدما اقتحم ميدان العقيدة - مستقلا - تثبت عجزه وإفلاسه، حيث رجع كثير من أصحاب هذا الاتجاه، وأعلنوا هذه الحقيقة[4].

ثانيا. السنة النبوية وتفسير العلماء يوضحان المبهم في هذا الأمر الذي يمكن تجويزه ولا يستحيل عقلا:

قال عز وجل: )وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172)( (الأعراف)، فالله - سبحانه وتعالى - أخذ ذرية آدم من ظهره كمثاقيل الذرة وأشهدهم على أنفسهم )ألست بربكم(؟ قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا، فمنهم من أعطى الميثاق - أو الشهادة - وهو طائع، وهؤلاء هم المؤمنون، ومنهم من قالها مكرها، وهم المجرمون.

وهناك بعض أقوال العلماء والمفسرين حول هذه الآية:

قال الطبري: القول في تأويل قوله سبحانه وتعالى: )وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172)( (الأعراف).

قال أبو جعفر: يقول - سبحانه وتعالى - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد ربك إذ استخرج ولد آدم من أصلاب آبائهم، فقررهم بتوحيده، وأشهد بعضهم على بعض شهادتهم بذلك، وإقرارهم به. كما حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدثنا الحسين بن محمد قال: حدثنا جرير بن حازم، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني عرفة - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا، فقال: )ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولـوا يــوم القيامـة إنـا كنـا عـن هـذا غافليــن (172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173)( (الأعراف)» [5][6].

قال الرازي: اعلم أنه - سبحانه وتعالى - لما شرح قصة موسى - عليه السلام ـمع توابعها على أقصى الوجوه، ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين.

 وفي تفسير هذه الآية قولان:

الأول: وهو مذهب المفسرين وأهل الأثر، ما رواه مسلم بن يسار الجهني أن عمر - رضي الله عنه - سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عنها فقال: «إن الله تبارك وتعالى خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخل الجنة، وإذا خلق العبد استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله ربه النار»[7].

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة تكون إلى يوم القيامة...»[8].

وقال مقاتل: إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فخرج منه ذرية بيضاء كهيئة الذر تتحرك ثم مسح صفحة ظهره اليسرى، فخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك.

ثم قال لهم: )ألست بربكم قالوا بلى(، فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين، وقال للسود: هؤلاء في النار، ولا أبالي، وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة، ثم أعادهم جميعا في صلب آدم.

وقال - سبحانه وتعالى - فيمن نقض العهد الأول: )وما وجدنا لأكثرهم من عهد( (الأعراف:102)، وهذا القول قد ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والضحاك، وعكرمة، والكلبي.

أما القول الثاني: فلقد ذهب القائلون به - وهم أصحاب النظر وأرباب المعقولات - إلى أن الله - عز وجل - أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم، وذلك الإخراج تمثل في أنهم كانوا نطفة[9] فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات وجعلها علقة[10]، ثم مضغة[11]، ثم جعلهم بشرا سويا، وخلقا كاملا، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقه، وغرائب صنعه، فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا: بلى، وإن لم يكن هناك قول باللسان[12].

وقال الشوكاني في "فتح القدير": و "إذ" منصوب بفعل مقدر معطوف على ما قبله قوله: )من بني آدم( استدل بهذا على أن المراد بالمأخوذين هنا: هم ذرية بني آدم، أخرجهم الله من أصلابهم نسلا بعد نسل.

وقد ذهب إلى هذا جماعة من المفسرين، قالوا: ومعنى قوله سبحانه وتعالى: )وأشهدهم على أنفسهم( دلهم بخلقه على أنه خالقهم، فقامت هذه الدلالة مقام الإشهاد. فتكون هذه الآية من باب التمثيل، كما في قوله سبحانه وتعالى: )فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11)( (فصلت).

 وقيل: المعنى: أن الله سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجسام، وأنه جعل فيها من المعرفة، ما فهمت به خطابه عز وجل.

 وقيل: المراد ببني آدم هنا: آدم نفسه، كما وقع في غير هذا الموضع، والمعنى أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره، فاستخرج منه ذريته، وأخذ عليهم العهد وهم في عالم الذر، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا المصير إلى غيره، لثبوته مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وموقوفا على غيره من الصحابة، ولا ملجيء للمصير إلى المجاز. قوله: )من ظهورهم( هو بدل من بني آدم، بدل بعض من كل. وقيل بدل اشتمال قوله: )ذريتهم(: قرأ الكوفيون وابن كثير "ذريتهم" بالتوحيد، وهي تقع على الواحد والجمع. وقرأ الباقون "ذرياتهم" بالجمع. )وأشهدهم على أنفسهم( أي: أشهد كل واحد منهم )ألست بربكم( أي: قائلا: ألست بربكم، فهو على إرادة القول: )قالوا بلى شهدنا( أي: على أنفسنا بأنك ربنا[13].

قال الإمام محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار": "هذه الآيات بدء سياق جديد في شئون البشر العامة المتعلقة بهداية الله لهم بما أودع في فطرتهم، وركب في عقولهم من الاستعداد للإيمان به وتمجيده وشكره، في إثر بيان هدايته لهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب في قصة بني إسرائيل. فالمناسبة بين هذا وما قبله ظاهرة، ولذلك عطف عليه عطف جملة على جملة، أو سياق على سياق.

قال سبحانه وتعالى: )وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم( (الأعراف: 172) "الظهور": جمع ظهر، وهوالعمود الفقري لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته، و"الذرية": سلالة الإنسان من الذكور والإناث.

في إثر ذكر أخذ ميثاق الوحي على بني إسرائيل خاصة ما أخذه الله من ميثاق الفطرة والعقل على البشر عامة؛ إذ استخرج من بني آدم ذريتهم بطنا بعد بطن، فخلقهم على فطرة الإسلام، وأودع في أنفسهم غريزة الإيمان، وجعل من مدارك عقولهم الضرورية أن كل فعل لا بد له من فاعل، وكل حادث لا بد له من محدث، وأن فوق كل العوالم الممكنة القائمة على سنة الأسباب والمسببات، والعلل والمعلولات - سلطانا أعلى على جميع الكائنات، وهو الأول والآخر، وهو المستحق للعبادة وحده".[14]

ثالثا. محدودية الإدراك العقلي مع جحود الإيمان،هما اللذان أوقعا هؤلاء في هذا الفهم الخاطئ:

هناك بعض المسائل يصعب إيضاحها عقليا، ولكن يمكن بحث إمكانيتها وعدم استحالتها، وإذا كان الله تعالى يقول شيئا فلا يبقى هناك مجال لأي اعتراض، ونستطيع تناول الحوار الذي تضمنته آية سورة الأعراف من جهتين:

  • أحدث هذا الأمر؟ وإذا حدث فكيف يمكن البرهنة عليه؟
  • هل شعر الفرد المؤمن بهذا الأمر؟

قسم من المفسرين يقولون: إن أخذ هذا العهد تم في عالم الذرة، عندما كان في شكل ذرات، وأنه تم أخذ هذا العهد من هذه الذرات التي ستتركب فيما بعد، ومن روحها أيضا، وقال آخرون: إن هذا العهد يؤخذ عندما يسقط الطفل في رحم أمه.

والحقيقة أن تكلم الله مع مخلوقاته يكون بأشكال مختلفة لا يعلم كيفيتها إلا هو، ونحن نتكلم بشكل وأسلوب معين، ولكن لنا أيضا أساليب أخرى في الكلام النفسي واللفظي؛ لأن لنا مشاعر داخلية وخارجية، وعقلا، وروحا، وظاهرا، وباطنا. فمثلا نتكلم في أحلامنا، ونسمع كلام الآخرين كذلك، ولكن الموجودين بالقرب منا لا يسمعون هذه الأحاديث، ثم نقوم وننقل ما قلناه وما سمعناه في الحلم إلى الآخرين.

والوحي شكل آخر، وكان رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - يأتيه الوحي، وهو في كامل وعيه، ولم يكن أي شخص عدا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسمع أو يفهم شيئا. والإلهام الذي يحل في قلب الولي شكل آخر من أشكال التحدث، فعلى الإنسان أن يلتفت إلى أنه إن قام بمحاولة قياس ما يراه ويسمعه في عالم المثال، وفي عالم البرزخ[15]، وفي عالم الأرواح بمقاييس هذا العالم فإنه يقع في خطأ جسيم، فالصادق الأمين صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن سؤال القبر، وكيف يتم، ولكن أحدا من الموجودين لا يسمع أو يرى شيئا، لذا فإن قول الله سبحانه وتعالى: )ألست بربكم( هو خطاب خاص للأرواح، ولا يمكن توقع سماعه، أو حفظه من قبلنا، فربما انعكس هذا في وجداننا، أي نستطيع أن نشعر بهذا الإلهام الذي انعكس على وجداننا.. وعندما يستمع الإنسان إلى وجدانه وينزل إلى أعماقه، يرى ويحس هناك بوجود رغبة شديدة في الإيمان بمعبود أزلي وأبدي، إذن فهذا الجو هو الدليل على الجواب )قالوا بلى(، للخطاب الإلهي: )ألست بربكم(.

وإذ أتينا إلى الإثبات العقلي، فمن الطبيعي ألا يستطيع العقل إلا إثبات المحسوسات كإثبات وجود شجرة الصنوبر.. فمثل هذا الإثبات غير وارد هنا، ولكن من استمع إلى وجدانه واستبطن داخله رأى هذا وسمع ذلك الصوت وأدركه وأحس به.

إن العلم يقين، وظن، وغلبة ظن، وتكافؤ في أدلة، وشك، وفرض، واليقين نفسه مراتب أقلها علم اليقين[16]، ثم عين اليقين[17]، ثم حق اليقين[18].

 وقد يشك الإنسان فيما يحصله عن طريق حواسه، لكنه لا يشك فيما يأتيه عن طريق الوحي، فالاعتراف يعرف بسيد الأدلة، وقد يشك في العلم الذي يأتي عن طريقه؛ لأن المعترف ربما يتستر على غيره ولد أو قريب، أما خبر السماء فصدق وحق.

وقد أتانا في الوحي المعصوم - القرآن - أن الله قد أخذ الذر من أصلاب وظهور بني آدم، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم، وشهدوا من خبر السنة أن الله أذن للكائنات أن تلبي إبراهيم بالحج، فمن لبى مرة حج مرة، ومن لبى عددا حج بقدر العدد الذي لبى.

وإن هذا غيب يمثل الإيمان به إيمانا بالغيب يمدح المؤمنون بقدر تحققه فيهم، فالأصل أن ما لا يستطيع المؤمن أن يبرهن عليه طبق فيه قوانين الغيب، فأجراه على ذهنه مجرى الغيب. وإن أهل التصديق بالغيب أحسوا أنهم يتذكرون هذا اليوم من فرط إيمانهم بصدق الوحي عن هذا الغيب.

 وليقارن الناس بين موقف أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وموقف غيره من حادثة الإسراء، وقد كانت غيبا على الناس، فقال أبو بكر: إني أصدقه في أبعد من ذلك.

ثم: إن الذي يطلب دليلا على ما أخبر الله في كتابه، يبرهن على أنه شاك في خبر الله نفسه، وفي كتابه، وإن لم يكن هذا فكرا له، فليراجع إيمانه بخبر الله وكتابه أولا، وليقم له الدليل على أن هذا خبر الله الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

فليسأل نفسه أولا: هل قال الله هذا أو لم يقل؟ فإذا كان على يقين بأن الله تعالى قال هذا، فليسأل: هل هذا الخبر الذي أيقنت أنه من عند الله على طريقة الحوار، حدث بالفعل؟ أو أنه صورة تمثيلية حوارية، لما أودعه الله في النفس البشرية من فطرة غريزية ميالة إلى الإيمان بالله؟

وبناء على هذا يثبت اليقين بالخبر، ويبقى الأمر في فهم الخبر، وإيماننا بفهم الخبر فرع عن إيماننا بالمخبر، ثم إيماننا بمضمون الخبر وكيفيته، أيا كان فهمنا له، ففيكل الأحوال لا يبعد عن الله تعالى الذي آمنا به أن يفعل أية كيفية[19].

ونخلص مما سبق كله إلى أن الذي أوقع مثيري هذه الشبهة في إثارتها اهتمامهم بالمدركات الحسية وبعالم المحسوسات والماديات فحسب وإنكارهم لعالم الغيبيات.

ومن ثم راحوا ينكرون مضمون قوله سبحانه وتعالى: )ألست بربكم قالوا بلى(؛ وذلك لأن منهجهم الحسي دفعهم دفعا إلى أن يثيروا مثل هذه الأسئلة:

كيف حدث مثل هذا الحوار؟ ومتى؟ وما الدليل عليه؟

وواضح أن مرد هذه الأسئلة يرجع إلى افتقادهم الدليل الحسي الذي يثبت وقوع مثل هذا الحوار السابق.

وإن فيما ذكرناه في تفسير هذه الآية - من أدلة واضحة تؤكد خطأ هؤلاء، وخطأ ما استندوا إليه.

الخلاصة:

  • توحيد الربوبية: هو الاعتقاد الجازم بأن الله - عز وجل - رب كل شيء ولا رب غيره، وبعبارة أخرى: هو الإقرار بأن الله هو الخالق لكل شيء، وهو المدبر وهو الذي يعطي ويمنع، ويحي ويميت، لا يشاركه أحد في فعله سبحانه وتعالى.
  • الذي قاد هؤلاء المدعين إلى التساؤل عن كيفية السؤال التقريري )ألست بربكم( وعن حدوثه ووقته ودليله - هو فهمهم الخاطئ،واهتمامهم بالمدركات الحسية وعالم الماديات والمحسوسات فحسب وإنكارهم لعالم الغيبيات، ومن ثم فقدوا الدليل الحسي على الاقتناع بهذا الأمر، بيد أن الإدراك العقلي لأمور الغيب محدود؛ لأن العقل عاجز على التكييف الصحيح لهذه الأشياء بحكم أنها خارجة عن نطاق الزمان والمكان والمادة المحدود بها عقل الإنسان.
  • تنص كتب التفسير على أن الله - عز وجل - أشهد العباد على أنه سبحانه الرب المستحق للعبادة، وهم في صلب آدم، ولا غرابة في ذلك، مع عدم وجود الدليل المادي؛ فليس غياب الدليل المادي دليلا على عدم الحدوث من الأصل، وليس الجهل بالشيء دليلا على عدم وجود الشيء، وهناك مئات الأشياء تحدث للإنسان، وليس عليها دليل مادي، وأبسطها الحلم الذي يراه الإنسان، فهو يتحدث مع الآخرين ويسمع منهم دون أن يشعر به غيره، بل ودون أن يشعر به من يحدثه في الحلم، فهل يمكن مع هذا إنكار حديث الذرات في صلب آدم مع ربها؟!

 

 

 

(*) الإلحاد الديني في مجتمعات المسلمين: نشأته وتطوره ومذاهبه المعاصرة، د. صابر عبد الرحمن طعيمة، دار الجيل، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م.

[1]. درء التعارض بين العقل والنقل، ابن تيمية، دار الكنوز الأدبية، الرياض، 1391هـ، ج1، ص83.

[2]. درء التعارض بين العقل والنقل، ابن تيمية، دار الكنوز الأدبية، الرياض، 1391هـ، ج1، ص19.

[3]. حسن: أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، باب الميم من اسمه محمد (6319)، والبيهقي في شعب الإيمان، باب في الإيمان بالله عز وجل، فصل في الإشارة إلى أطراف الأدلة في معرفة الله ـ عز وجل ـ في حدوث العالم (120)، وحسنه الالباني في السلسلة الصحيحة (1788).

[4]. مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي، د. عبد الرحمن الزنيدي، ضمن منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مكتبة المؤيد، السعودية، ط1، 1424هـ/ 1992م، ص411: 414 بتصرف.

[5]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (2455)، والنسائي في سننه الكبرى، كتاب التفسير، سورة الأعراف (11191)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1623).

[6]. جامع البيان في تأويل القرآن، الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ج13، ص222.

[7]. صحيح: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الجامع، باب النهي عن القول بالقدر (3337)، وأحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه (311)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4703).

[8]. حسن: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، سورة الأعراف (3076)، وأبو يعلى في مسنده، مسند الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه (6377)، وحسنه الألباني في المشكاة (118).

[9]. النطفة: الخلية الجنسية الذكرية الموجودة في المني.

[10]. العلقة: قطعة من دم غليظ جامد، وهي طور من أطوار تكوين الجنين.

[11]. المضغة: العلقة التي خلق الإنسان منها إذا صارت لحمة.

[12]. التفسير الكبير، الرازي، المطبعة البهية المصرية، القاهرة، 1301هـ، عند تفسير هذه الآية.

[13]. فتح القدير، الشوكاني، دار الفكر، بيروت، 1983م، عند تفسير هذه الآية.

[14]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج9، ص386، 387.

[15]. البرزخ: ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى يوم البعث، فمن مات فقد دخل البرزخ.

[16]. علم اليقين: هو ما حصل عن نظر واستدلال.

[17]. عين اليقين: هو ما حصل عن مشاهدة وعيان.

[18]. حق اليقين: هو ما حصل عن العيان مع المباشرة.

[19]. انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة، أحمد فريد، مكتبة فياض، مصر، 2005م. العقيدة الإسلامية في مواجهة التيارات الإلحادية، فرج الله عبد الباري، دار الآفاق العربية، القاهرة، ط1، 2004م. شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية، محمد صالح العثيمين، دار ابن الجوزي، الرياض، ط3، 1416هـ. مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي، د. عبد الرحمن الزنيدي، ضمن منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مكتبة المؤيد، السعودية، ط1، 1424هـ/ 1992م.

  • الاحد PM 09:33
    2020-11-22
  • 987
Powered by: GateGold