المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412300
يتصفح الموقع حاليا : 262

البحث

البحث

عرض المادة

دعوى رفض أمور الدين لتعلقها بغيبيات قد تتعارض مع العقل والمنطق

             دعوى رفض أمور الدين لتعلقها بغيبيات قد تتعارض مع العقل والمنطق (*)

 

مضمون الشبهة:

 

يرفض بعض الطاعنين أمور الدين؛ لارتباطها بالغيب وبالوحي، وبطبيعة لا تتفق مع العقل والمنطق.

 

 وجها إبطال الشبهة:

 

1)  الدين ضرورة حياتية، وحاجة نفسية وروحية، ولا توجد أمة من الأمم بلا عقيدة أو دين.

 

2) لقد أعلى الإسلام من شأن العقل الإنساني ورفع من مكانته، إلا أنه قد حدد له نطاق بحثه؛ فمنعه من أن يخوض في الأمور التي يعجز عن إدراكها لعجزه وقصوره، ومن هذه الأمور أمور العقيدة، والغيبيات.

 

التفصيل:

 

أولا. ضرورة الدين وحاجة الإنسان إليه:

 

الإيمان ضرورة حياتية،لا تصلح الحياة بدونه، وعن ضرورة الإيمان وحاجة الإنسان إليه يورد د. محمد سيد المسير الضرورات المتنوعة للإيمان فيقول: "الدين ضرورة من ضرورات الحياة للبشر في كل العصور؛ فالإنسان إذا أظلم عليه السبيل، أو هاله ليل، أو جاءته ريح عاصف رجع إلى صوت الفطرة، وتضرع إلى الله وحده؛ رجاء كشف الضر، فتتداركه عناية الله - عز وجل - وتسبغ عليه من النعم ظاهرها وباطنها، وفي تصوير معجز لحال الإنسان المضطربة أمام اعترافه بخالقه يقول سبحانه وتعالى: )وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه( (الإسراء: 67).

 

أي: أنه في حال شدة البحر وإشراف الإنسان على الغرق ينسى جميع الشركاء، ولا يعتقد إلا في قدرة الله - عزوجل - فيحقق الله رجاءه وينقذه مما هو فيه من أهوال، ولكن الإنسان تلهيه النعمة، قال سبحانه وتعالى: )فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا (67)( (الإسراء).

 

 ومما يثبت ضرورة الدين - في حياة البشر - أنه راعى مصالحهم أعظم ما تكون المراعاة؛ فمعلوم أن للدين مقاصد خمسة هي: حفظ الدين والعرض والمال والنفس والعقل، فهل للإنسان ضرورة أكثر من هذه الضرورات الخمس؟ ثم إن الدين لما حرم لم يحرم إلا الخبائث والمضار، ولما أحل لم يحل إلا الطيبات والمنافع، والدين الإسلامي هو الخاتمة الذهبية لسلسلة طويلة من الرسالات، وهو كغيره من حلقات تلك السلسلة الطويلة يفهم النفس البشرية حق فهمها، ومن ثم كان يتخذ منها منطلقا لكل إصلاح.

 

 إن الغيب واقع يتعامل معه الإنسان، والعلم يتعامل مع منطق الغيب، إذ هو بحث مجهول، والمجهول غيب، لكنه مجهول يفترض الباحث وجوده، مع أن حواسه لا تدركه، فهل من المنطق أن يقول: مادامت حواسي لا تدركه فهو غير موجود؟ وإذا افترض عدم وجوده، فكيف يبحث عنه؟! أيبحث عن معدوم لا وجود له؟!

 

فما دام الغيب يبحث عنه فهو موجود، وإن غاب عن إدراكنا، وإن كان مجهولا، ومنطق الإلحاد يضاد منطق العلم، ولو طبق لأوقف العلم، كما يحاول أن يوقف الدين، فلو قال العلماء والباحثون - مثل الملاحدة -: لا نؤمن إلا بما نراه؛ لأمسكوا عن البحث، وامتنعوا عن طلب المعرفة.

 

ولا يطبق منطق الإلحاد علماء الملاحدة أنفسهم؛ لأنهم يوقنون أنه ضد طريق العلم وضد العقل السليم، وأخيرا فإن التاريخ وواقع الإنسان - على مستوى الأفراد والجماعات - يشهد بتأثير الدين في الأفراد والأمم تأثيرا لا يضارعه أي أمر أو أية قوة أخرى.

 

الدين ضرورة نفسية للإنسان:

 

ما خلدت رسالات النبيين، وكونت حولها جماهير المؤمنين، إلا لأن النفس الإنسانية كانت موضوع عملها ومحور نشاطها، فلم تكن تعاليمهم قشورا ملصقة؛ فتسقط في مضرب الحياة المتحركة، ولا ألوانا مفتعلة؛ فتبهت على مر الأيام.

 

فبالدين يتحقق التوازن النفسي للإنسان، ومن هنا كانت العقيدة الدينية مكونا أساسيا من مكوناته؛ لأن اختلال التوازن النفسي للإنسان يهدمها هدما.

 

والعقيدة الدينية تكاد تكون غريزية فطرية، شأنها شأن الغرائز الفطرية الأخرى، كالمحافظة على النفس، والمحافظة على النوع، وغير ذلك، فلم تخل أمة من الأمم من أقدم العصور إلى الآن من عقيدة دينية.

 

فالإنسان يولد في الحياة وعنده إحساس عميق - يظل يلازمه طيلة حياته - بأن هناك قوة عليا تسيطر عليه، وعندما يفتقد هذا الشعور يحس بفراغ عظيم.

 

وتجارب التاريخ تقرر لنا أصالة الدين في جميع حركات التاريخ الكبرى، ولا تسمح لأحد أن يزعم أن العقيدة الدينية شيء تستطيع الجماعة أن تلغيه، أو يستطيع الفرد أن يستغني عنه، في علاقته بتلك الجماعة، أو فيما بينه وبين سريرته المطوية عمن حوله، ولو كانوا أقرب الناس إليه.

 

ويقرر التاريخ أيضا أنه لم يكن قط لعامل من عوامل الحركات الإنسانية أثر أقوى وأعظم من عامل الدين، وكل ما عداه من العوامل المؤثرة في حركات الأمم تتفاوت بمقدار ما بينها وبين العقيدة الدينية من المشابهة في التمكن من أصالة الشعور وبواطن السريرة، فقوة الدين لا تضارعها قوة أخرى من عصبية، أو وطنية، أو عرف، أو قانون، أو غير ذلك.

 

وواقع الإنسان يشهد بذلك؛ لأن الناس بغير الدين يأكل قويهم ضعيفهم، ويستعبد غنيهم فقيرهم، ولننظر إلى قول فيلسوف ملحد مثل فريدريك نيتشه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت": "إذا ما رأيتم متداعيا إلى السقوط، فادفعوه بأيديكم، وأجهزوا عليه، وكل إنسان تعجزون عن تعليمه الطيران علموه - على الأقل - أن يسرع بالسقوط". سقوط الموت والهلاك، ولا ضير، فالمهم أن تستقر الحياة للملاحدة أو من بدلوا وغيروا دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها، وسواهم لا وزن له ولا قيمة"[1].

 

ثانيا. أعلى الإسلام من شأن العقل، إلا أنه حدد له نطاق بحثه، وحظر عليه أن يخوض في أمور العقيدة والغيبيات:

 

لقد خلق الله الإنسان، وجعله خليفة في الأرض، وسخر له الكون كله، وطلب منه عمارة الأرض، وذلك يدل على أن الله - عز وجل - أراد للإنسان أن يكون سيدا في هذا الكون، ولكنه في الوقت نفسه مخلوق لله، فلا يجوز له أن ينسى هذه الحقيقة.

 

وبهذا المعنى فهو عبد لله، ولكن ليس معنى ذلك عبودية المذلة والاحتقار؛ فقد أعطى الله - عز وجل - للإنسان الحرية الكاملة لقبول طاعة الله أو عصيانه، وللإيمان أو الكفر به قال سبحانه وتعالى: )فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف: 29).

 

 الإسلام هو الدين الوحيد الذي أعلى من شأن العقل الإنساني، ورفع من مكانته، فالعقل هو مناط التكليف والمسئولية، وبه يتعرف الإنسان على خالقه، ويدرك أسرار الخلق وعظمة الخالق - عز وجل - والقرآن الكريم في خطابه للإنسان يخاطب عقله، ويحثه على النظر في الكون والتأمل فيه، ودراسته؛ من أجل خير البشرية وعمارة الأرض ماديا ومعنويا، وليس في الإسلام شيء يناقض العقل أو يصادم الفكر السليم.

 

لقد طلب الإسلام من الإنسان ضرورة استخدام العقل وعاب على الذين يعطلون قواهم الإدراكية - وعلى رأسها العقل - عن أداء وظائفها، ولذلك يعد القرآن هؤلاء أناسا تخلوا عن إنسانيتهم، قال سبحانه وتعالى: )ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعـون بهـا أولئـك كالأنعـام بـل هـم أضـل أولئـك هـم الغافلـون (179)( (الأعراف)، فجعل القرآن الكريم تعطيل القوى الإدراكية - وعلى رأسها العقل - ذنبا من الذنوب[2].

 

ولهذا كان لا بد أن تجتمع رسالات السماء في رسالة تخاطب العقل مراعية نموه، وتتخذ من هذا العقل منطلقا إلى صحة العقيدة، وتضع للناس - في كل زمان ومكان - إطارا عاما عريضا للحياة الفاضلة، في مجتمع مثالي، كثيرا ما حلم به الفلاسفة ولم يجدوا إلى تحقيقه سبيلا، فكانت رسالة الإسلام.

 

وعلى الرغم من أن الإسلام أعلى من شأن العقل الإنساني ورفع من مكانته، إلا أنه قد حدد له مهمته، وبين له نطاق بحثه، موضحا الأمور التي يناط به أن يعمل في إرطارها، فلا يقف حيال هذه الأمور إلا مذعنا مستسلما.

 

ومن هذه الأمور التي لا يصح للعقل الإنساني أن يخوض في البحث عنها أمور العقيدة والغيبيات؛ فلا يصح لهذا العقل أن يفكر في هذه الأمور أو أن يبحث عن أوجه المطابقة بينها وبينه؛ فلا يصح له تجاه أمور العقيدة أن يسأل التساؤلات التالية:

 

لـم جعلت أركان الإسلام خمسة فحسب، ولم تزد عن هذا الرقم، أو تنقص عنه؟ ولم فرض على المسلم خمس صلوات فحسب؟ ولم لا نصلي صلاة الظهر والعصر والعشاء ثلاث ركعات؟ ولم لا نصلي صلاة المغرب أربع ركعات، أو أكثر؟

 

ولم يصوم المسلم في رمضان دون غيره من أشهر السنة؟... إلخ.

 

ولا يصح لهذا العقل كذلك أن يبحث في أمور الغيب؛ فلا يصح للمسلم أن يعرض أمور: البعث والحشر والثواب والعقاب والحساب وعذاب القبر ونعيمه.

 

وهكذا فإن العقل لا يهتدي إلى الأمور السابقة جميعها إلا في ضوء الشرع الذي أرسل الله به الرسل، وأنزل الكتب. فإذا ثبتت هذه الأمور عن طريق الشرع الذي يتمثل في النقل الصحيح، غير المزيف أو المحرف - فليس على العقل إلا أن يستسلم ويعلق السمع والطاعة[3].

 

وإن الملحدين الذين أثاروا هذه الشبهة - لا يؤمنون إلا بالمادة، وبما تدركه حواسهم، وإذا كانوا لا يؤمنون بالله - عز وجل - الذي خلقهم وخلق الكون كله من حولهم - فلا غرو ولا عجب ألا يؤمنوا بالأديان التي أرسل بها رسله وأنزل بها كتبه، وأن يدعوا أن أمور الدين تتنافى وتتعارض مع عقولهم.

 

الخلاصة:

 

  • الدين ضرورة تقتضيها الفطرة وتحتمها الحياة النفسية لبني البشر، والتاريخ يشهد بأثر الدين القوي في مواقفه الحاسمة، فقد كانت أبوابه الرئيسية قصة الصراع الفكري بين الإيمان والكفر.

 

  • لم تخل أمة من الأمم - قديما وحديثا - من التدين الذي هو فطرة أو غريزة موجودة داخل الإنسان.

 

  • كان الدين يقود خطى البشرية، فارتبطت به الحضارات على مر العصور، سواء كان اعتقادهم صحيحا أم فاسدا، ولم تخل أمة من الأمم من الدين.

 

  • الدين هو الذي يقود العقل ويرشده إلى الحقائق التي تغيب عنه، مما يكون فيه النفع للإنسان. ولقد ارتقى العقل في ظل الدين الإسلامي، الذي رفع مكانته، ولم يأت في الإسلام شيء يناقض العقل، بل إنه طلب من الإنسان استخدام عقله، وعاب من عطل وظائفه الإدراكية، وقد بين الشرع الإلهي أن حدود العقل مجالها الكون كله، بيد أنها تضيق عن معرفة العلل المتصلة بالتشريعات والإلهيات والغيبيات، مما يفوق قدرة العقل.

 

 

 

 

 

(*) العقيدة الإسلامية والأيدلوجيات المعاصرة، د. عبد الغني عبود، دار الفكر العربي، القاهرة، ط2، 1980م.

 

[1]. الألهيات في العقيدة الإسلامية، د. محمد سيد المسير، دار الاعتصام، مصر، 1999م، ص41 وما بعدها.

 

[2]. حقائق إسلامية في مواجهة حملات التشكيك، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص73 وما بعدها.

 

[3]. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، ط2، 2004م، ص112 وما بعدها.

  • الاحد AM 08:45
    2020-11-22
  • 998
Powered by: GateGold