المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412193
يتصفح الموقع حاليا : 308

البحث

البحث

عرض المادة

دعوى أن الإسلام ليس له وجود حقيقي بعد عصر النبوة والخلافة الراشدة إلى اليوم

                  دعوى أن الإسلام ليس له وجود حقيقي بعد عصر النبوة والخلافة الراشدة إلى اليوم(*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المغرضين أن الإسلام لم يعش إلا مدة قصيرة، هي أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين، ثم اضمحل بعد ذلك ولم يعد له وجود حقيقي.

وجوه إبطال الشبهة:

1) كان للحضارة الإسلامية وجودها القوي وأثرها الضخم على مسيرة التاريخ الإنساني، برغم ما كان يصيب علاقة المسلمين بدينهم في كثير من الأحيان من فتور وضعف، أو تراوح بين مد وجزر.

2) لقد دخل صياغة التاريخ الإسلامي كثير من النقص، وشابها كثير من التشويه وعدم التوازن في العرض، وهو ما أعطى انطباعا سيئا مغلوطا عن كثير من العصور الإسلامية، وصورها على أنها سلسلة من الحروب والصراعات والأطماع والفتن.

3) غياب الدور الحضاري القوي والفاعل للأمة الإسلامية في بعض فترات التاريخ، إنما مرده استهداف الآخرين لها، واستحكام حقدهم ومعاداتهم للإسلام والمسلمين.

4) يظل الإسلام - برغم ما يثار ضده من الكيد والحقد - نافذة الأمل الوحيدة للإنسانية، وسبيلها الفرد إلى مستقبل سوي مشرق.

التفصيل:

أولا. كان للحضارة الإسلامية وجودها القوي وأثرها الضخم على مسيرة التاريخ الإنساني، برغم ما كان يصيب علاقة المسلمين بدينهم من فتور وضعف، أو تراوح بين مد وجزر:

تناغم التطبيق البشري العملي الإسلامي مع تعاليم السماء زمن النبوة، وفي عصر الراشدين - في أغلبه - فقدمت هذه الحقبة من تاريخ المسلمين الأ نموذج المثالي لتأثير رسالة سماوية توحيدية صحيحة في حياة معتنقيها أفرادا وجماعات، وصهرهم في بوتقة حضارة فريدة لا مثيل لها في إيمانها ووسطيتها واعتدالها وتسامحها وإنصافها.

وبمرور الزمن وتوالي الأحداث، تباعد المستوى السياسي والنخبة الحاكمة - في الغالب - عن الالتزام بتعاليم دينها خصوصا في مجال الشورى والعدل، ولكن المجتمعات ظلت إسلامية الطابع والمكونات - إلى حد كبير - والتزم المسلمون بتعاليم شرعهم، قربا أو بعدا، ولكنهم لم ينصرفوا عنها كاملة، ولم يتنكبوا طريقها بالكلية، حتى نسلم بهذه المقولة المجملة - في غير دقة - المعممة - في غير موضوعية - والتي مفادها أن الإسلام قد انمحى من الوجود ولا دور حقيقي له من نهاية زمن الراشدين إلى اليوم وحول هذا الموضوع يقول د. حسين مؤنس: "فقد يمكن القول أن قافلة الأمة ضلت الطريق واعتسفت سكة بعيدة عن سكة الإسلام، وانتهت - تبعا لذلك - إلى غاية لم يقصد إليها الإسلام، فالإسلام صراط أو طريق مستقيم يؤدي رأسا إلى مجتمع العدل والأمن والأمان والرخاء، وكل ما تضعه عادة تحت عبارة: "سعادة البشر"، فإذا لم تصل الأمة إلى هذه الغاية، فمعنى هذا أنها خرجت عن هذا الطريق، فوصلت إلى غاية غير تلك الغاية.

وفي موضوع خطير كهذا لا يجوز أن نرد الانتكاس الخطير الذي أوجزنا وصفه آنفا إلى نسيان الأمة دينها، وانصرافها عن عبادتها من صلاة وصوم وزكاة. فليس صحيحا أن الناس في عصرنا هذا أو حتى في عصور الظلام الماضية - كانوا أبعد عن الدين وأقل حرصا عليه ممن سبقهم، إنما هي أجيال من البشر يتوالى بعضها في أثر بعض، وفي كل جيل صالح وطالح، وفي كل جيل ناس أهل تقى ودين ومكارم وأخلاق، وناس أهل فساد وإفساد، وأهل جور وعدوان، وبين هذين الطرفين عرفنا اليوم والأمس وقبل الأمس، جميع ألوان الطيف من فوق البنفسجي إلى تحت الأحمر. وهناك دائما طوائف تعتدي على الدين، وتقارف الإثم، جرأة على الله - عز وجل - أو طمعا في عفوه، وسبحانه غفور رءوف بعباده، وهو غافر الذنب وقابل التوب.

وهذا حق حتى في أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمامنا سورة براءة، وهي أيضا سورة التوبة، وهي التاسعة في ترتيب المصحف، ولكنها في الحقيقة من أواخر ما أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سور القرآن، بل الغالب أنها آخر ما أنزل، فقد نزلت على أثر غزوة تبوك، وتبوك بدأت في أواخر رجب عام 9 للهجرة، وانتهت أوائل رمضان (أكتوبر - ديسمبر 630م)، ولم تكن على الحقيقة غزوة بل محنة وامتحانا للأمة، ولهذا تسمى "غزوة العسرة"، والعسرة نار تصهر معادن الناس فيتبين المعدن من الخبث.

ثم جاءت سورة براءة بنتيجة الامتحان، فبدأت آياتها تنزل على الرسول عقب العودة من الغزوة أي بعد الامتحان، وظل المسلمون يترقبون نزول آياتها كما يترقب الطلاب نتيجة الامتحان، وقلوبهم وجلة أشد الوجل، وكل منهم يخشى أن تنزل آيات تكشف نفسه وما كان يخفيه عن الناس، ولهذا قال حذيفة: إنكم تسمونها سورة التوبة، إنما هي سورة العذاب، وتسمى أيضا الباحثة والفاحصة والفاضحة والمتكلمة؛ لأنها كانت على الحقيقة أشعة سينية نفذت في كيان مجتمع المدينة أواخر أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكشفت حقيقته كاملة"[1].

بالطبع يمكن الاستدراك على بعض مضمون هذا الكلام بالقول: إن مسألة الصالح والطالح، والخير والشر نسبية، لكن إجمالا، فالثابت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن خير القرون قرنه ثم الذين يلونهم... إلخ، لكن خلاصة كلام د مؤنس - رحمه الله - تفيد أن الأمة - وإن انحرفت عن جادة الطريق - لم تنس دينها وتنبذه بالكلية، بل ما زالت تلتزم تعاليمه بنسبة أو بأخرى على مر عصورها، أي أن الإسلام لم يمح من الوجود كما زعم الزاعمون والمشتهون لذلك.

وصعوبة موقف الأمة الإسلامية ووضعها أنها أمة ذات رسالة، وأن تدينها ليس فرديا شخصيا، ولا انتقائيا مزاجيا، وإنما يقع على كاهل مجموعها أداء رسالة الإصلاح التي تضمنتها تعاليم دينها وحملتها إياها، إذ لا يصلح في عرف هذه الأمة الديني أن تدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فقيصر نفسه وما يملك لله مالك الملك.

في هذا أيضا يقول د. مؤنس: "وهذه الأمة لا ينبغي أن تكون كيانا سياسيا يخدم غايات سياسية؛ بل لا بد أن تكون بناء دينيا اجتماعيا خلقيا يخدم غايات إنسانية نابعة من هذا الدين القيم القائم الدائم؛ لتكون هي آخر أمة قيمة تدوم دوام الدهر وتسع لبني آدم أجمعين، وتلك كانت الغاية التي أنفق محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة سنة من عمره ليحققها في مكة.

ولو أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - اكتفى كغيره من أنبياء الله بتبليغ الرسالة لما كانت به حاجة إلى جهد ولا نصب؛ لأنه خلال العام الأول من الرسالة، وقبل دخوله دار الأرقم كان قد أبلغ الرسالة، وجمع حوله طائفة طيبة من الأتباع، لم يوفق إلى مثلها نبي مرسل قبله، فعيسى - عليه السلام - مضى إلى ربه مخلفا وراءه ثلة من الحواريين، لا يبلغون نصف الجماعة التي كسبها محمد - صلى الله عليه وسلم - للإسلام قبل أن يدخل دار الأرقم ويدعو فيها. وموسى - عليه السلام - لم يصبر حتى يكسب فرعون وآله لرسالته، بل اكتفى بقومه من بني إسرائيل، ومضى خارجا من مصر. وإبراهيم - عليه السلام - لم يكسب لدعوته إلا فئة قليلة من الناس، ومضى إلى ربه فتفرقت أتباعه من بعده بددا. بينما كان تميز محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكتف بالتبليغ، وإنما أصر على البلاغ.

والبلاغ عنده كان تحويل قريش كلها إلى جماعة الإسلام، وتوجيه الجماعة القرشية المسلمة إلى كسب العرب جميعا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى في قريش من المواهب والملكات والخصائص ما هو قمين بأن يعينه على البلاغ الأكبر، وهو إدخال البشر جميعا في دين الله"[2].

إذن الدين باق في هذه الأمة، وهي باقية به مبقية عليه بشكل أو بآخر، لكن عوامل عديدة أضعفت دوره وأثرت فيه، وفي صورته وصيرورته عبر تاريخ هذه الأمة، منها - كما أسلفنا - تحول النخبة السياسية - في الغالب - عن التزام تعاليمه خصوصا في شئون السياسة والحكم، ومنها عدم التوازن في العرض التاريخي لتاريخ الأمة، والتركيز على جوانب دون أخرى مما يستوجب محاولة إعادة كتابة هذا التاريخ، والتصويب في كثير من جوانبه.

هل حقق هذا الدين مبتغاه؟

انطلاقا مما سبق، يثير الشيخ محمد الغزالي سؤالا: هل نجح الإسلام في تحقيق أهدافه خلال تاريخه الطويل؟ أو لعل الرجل قد ووجه بهذا السؤال من بين ما يثار حول الإسلام ودوره التاريخي، فأجاب بقوله: "لماذا لا يوجه هذا السؤال إلى الدينين السابقين عليه من الناحية التاريخية؟ هل أحدهما أو كلاهما حقق أهدافه، وفرض على العالم صيغته؟! سكان العالم الآن أربعة مليارات ونصف تقريبا، فيهم مليار مسلم، ومليار نصراني، ومليار وثني، والباقي شيوعيون، ذلكم هو الانتماء الظاهر الذي يمكن حصره، غير أني أنظر في الإجابة - من ناحية أخرى - أن الإسلام لا يمثل نفسه عندما يفشل في سوق الأحياء جميعا تحت لوائه! إنه يمثل الأديان كلها في الحقيقة، فمعنى أني مسلم - أني أؤمن بموسى كأحد أتباعه الذين عاصروه وأيدوه تماما، وأؤمن كذلك بعيسى كواحد من حوارييه الذين يحبونه وينصرونه، كل ما هنالك أني أضم إلى الإيمان بهذين الرجلين الصالحين إيمانا برجل آخر هو أخ لهما ومحي لتعاليمهما، رجل تلقى عن ربه هذه العبارة: )ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك( (فصلت: 43)، فإذا لم ينجح أتباع محمد في بسط دعوته على الناس، فمعنى ذلك فشل الدين كله والرسل جميعا.

هذا عندما يكون الرفض لحقائق الرسالة المعروضة، أما إذا كان الرفض لسوء خلق العارض، وفقدانه الوعي الصحيح، فإن اللوم أو التساؤل لا يوجه إلى الإسلام، بل إلى الأمة التي أساءت البلاغ، وشانت المبادئ التي تحملها، ويبدو أن ذلك هو المقصود من السؤال، وإذا كان الأمر كذلك، فإن السؤال يجب أن يصاغ على هذا النحو: هل نجح المسلمون في خدمة رسالتهم خلال القرون الأربعة عشر أم كان فشلهم أغلب؟

ومع أني شديد اللوم لأمتي دائم التقريع لها، فإني لا أستطيع أبدا الزعم أن اليهود والنصارى كانوا خيرا منها حالا، ولا تخدعني الهزائم السياسية المعاصرة عن تقرير الحقيقة، فلا يزال المسلمون برغم جراحاتهم الخطيرة أولى بالله، وأعرف برسالاته، وأملك لأسباب العافية، وأحق بالبقاء، وما قدموه للعالم وما ينتظر منهم تقديمه، يرجح كفتهم، ويعلي حجتهم. إن الإسلام انتقل بالحياة البشرية نقلة حاسمة في عدة مجالات:

  • تنقية عقيدة الوحدانية من كل شوائب الشرك.
  • رفض أي عنصر في الإيمان يناقض العقل.
  • إقرار المساواة في الحقوق والواجبات على اختلاف الألوان والأديان.
  • التخفيف من ويلات الحروب، وتحريم الدمار الشامل.

ومع ما تعرض له التاريخ الإسلامي من مد وجزر، وازدهار، وذبول، فإن الأمة الإسلامية فرضت طابعها المتميز على الفكر البشري، وجعلت خصومها يراجعون أنفسهم ويجمدون بعض مواريثهم أو يتخلون عنها. كانت صورة الألوهية - قبل - مفزعة في كلمات بعض المتحدثين عن الله في الديانات السابقة على الإسلام، إذ يبدو رب العالمين وكأنه شخص حاسد ذاهل يخطئ ويندم، ويجهل ويتراجع، ويفتقر إلى من يرشده ويصحح له عمله، تأمل في هذه العبارات: لما قرر الله الانتقام من بني إسرائيل بعد عبادتهم للعجل، قال موسى له: ارجع عن حمو غضبك، واندم على الشر بشعبك! فندم الرب على الشر الذي قال: إنه يفعله بشعبه!. وفي مكان آخر: فندم الرب واغتاظ لما أغضبه بنوه وبناته..

فندم الرب على أنه ملك شاول على إسرائيل... الرب كجبار يبرز، كرجل قتال يثير غيرته، ويهتف ويصرخ ويظفر على أعدائه. سطع دخان من أنفه ومن فيه نار آكلة، جمر متقد، طأطأ السماوات والضباب، تحت قدميه، ركب على كروب وطار، وخطف على أجنحة الرماح... إلخ.

وقد يعجب المرء عندما يرى أن الله أخرج آدم من الجنة غيرة منه أو خوفا من مزاحمته له، والنص الوارد أنه حظر على آدم الأكل من شجرة المعرفة خشية أن يكون مثله.

إن عقيدة الوحدانية والكمال المطلق لله - سبحانه وتعالى - كما عرضها المسلمون، قهرت، وبهرت، وجعلت العالمين يستكينون إليها، ويتجاهلون ما عداها أو يذكرونه بحياء وإغماض، وهذا أثر إسلامي لا مثيل له، وقد غالى المسلمون بالحكم العقلي وقرروا أن ما يرفضه العقل يستحيل أن يكون دينا، بل هو أهواء البشر، وهذه النزعة الإسلامية شقت طريقها إلى مستقبل الإنسانية، وتخاذلت أمامها الملل والنحل.

ويسوؤنا أن نتهم الحضارة الحديثة بأنها لا تزال تحترم التفرقة العنصرية، وتتعامل مع الأجناس الملونة، ومع معتنقي الإسلام خاصة بمشاعر الضغن والزراية. إن القوانين - من الناحية النظرية - تلغي هذه التفرقة، أما من الناحية العملية، فالحيف ينزل بالضعاف من المسلمين والزنوج دون حرج، وقد أصدرت هيئة الأمم المتحدة مائتين وخمسين قرارا لمصلحة أهل فلسطين، لم ينفذ منها قرار واحد، ولم يعرف المسلمون ألبتة حروب الإبادة الجماعية، ولم يعرف العالم فاتحا أرحم من العرب، بل إن الأكراد والأتراك المسلمين كانوا أعف ألف مرة من الدول الغربية الغابرة والحاضرة على سواء.

إن سماحة المسلمين إلى حد الغفلة المعيبة هي التي تجعلهم ينسون ما حل بآبائهم وإخوانهم في أيام نحسات، لقد غزا نابليون مصر والشام، فقتل في الشام أربعة آلاف أسير بعدما أمنهم على حياتهم، واستحر القتل بسكان مصر في الوجهين البحري والقبلي والعاصمة نفسها، حتى اهتز عدد السكان، ولا يريد أن يذكر هذا أحد، ويظهر أن اغتيال الأسرى - على كثرتهم - داء قديم، فإن صلاح الدين الأيوبي أرسل إلى ريتشارد ملك إنجلترا - وكان على رأس حملة صليبية تقاتل المسلمين في الشرق - أرسل إليه بفدية كبيرة ليفك قيود هؤلاء الأسرى فماذا حدث؟

إليك ما كتبه ستيفن رنسيمان في الجزء الثالث من "تاريخ الحروب الصليبية" بعدما شرح مراوغات ريتشارد وتعنت مفاوضيه قال: "أضحى ريتشارد حريصا على أن يغادر عكا، وأن يزحف على بيت المقدس، وصار الأسرى المسلمون مصدر حيرة له، ثم انشرح صدره للخلاص منهم بعدما دبر اعتذارا رآه مقبولا، قال: إن صلاح الدين نقض عهده معه، ومن أجل ذلك فقد أمر بالإجهاز على ألفين وسبعمائة أسير من الذين بقوا على قيد الحياة من حامية عكا". قال المؤلف: "واشتد حماس عساكره للقيام بهذه المجزرة، وحمدوا الله في جذل وسرور، حسبما يروي المدافعون عن ريتشارد، فقد هيأ لهم فرصة للانتقام لرفاقهم الذين سقطوا أمام المدينة أثناء الهجوم عليها، ولقي زوجات الأسرى وأطفالهم مصارعهم إلى جوار رجالهم.ولم يبق الصليبيون إلا على بعض رجال يستفيدون منهم في أعمال السخرة، وبعض الأعيان، أما الباقون فقد فنوا جميعا، وشهد المسلمون المرابطون في أقرب المعاقل إلى عكا ما قد حدث فاندفعوا لإنقاذ إخوانهم وأهليهم، وعلى الرغم من أنهم ظلوا يقاتلون حتى حلول الظلام، فقد عجزوا عن الوصول إليهم.

ولما انتهت المذبحة غادر الإنجليز البقعة بما تناثر عليها من الجثث المشوهة، وأضحى بوسع المسلمين أن يقدموا للتعرف على أصدقائهم الذين استشهدوا.

لندع هذا المشهد الكئيب، ولنترك دلالته البينة، ولننتقل مع ستيفن رانسيمان، إلى مشهد آخر ذكره في الجزء الثاني من كتابه، بعدما انتصر صلاح الدين في حطين قال: "وقبل صلاح الدين أن يضع شروط الصلح، فعرض بأن بوسع كل مسيحي أن يفتدي نفسه على أساس عشرة دنانير للرجل، وخمسة دنانير للمرأة، ودينار للطفل، وعندئذ أشار باليان إلى أن بالمدينة حوالي عشرين ألفا من الفقراء، ليس بوسعهم أن يؤدوا هذا المبلغ، أفلا يجوز للسلطات المسيحية أن تدفع مبلغا إجماليا لافتدائهم، ووافق صلاح الدين على أن يقبل مائة ألف دينار عن جميع العشرين ألف، غير أن باليان أدرك أنه ليس من المستطاع تحصيل هذا المبلغ الضخم، فتقرر إطلاق سراح سبعة آلاف مقابل دفع ثلاثين ألف دينار، وبناء على أوامر باليان ألقى العسكر السلاح، وفي يوم الجمعة أكتوبر سنة 1187م، دخل صلاح الدين بيت المقدس، ويوافق هذا التاريخ السابع والعشرين من رجب، الذي يجري فيه الاحتفال بعيد الإسراء، حين أسري بالنبى - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس، ثم ارتقى إلى السماء.

والواقع أن المسلمين الظافرين اشتهروا بالاستقامة والإنسانية، فبينما كان الفرنج يخوضون في دماء ضحاياهم، لم تتعرض الآن دار من الدور للنهب، ولم يحل بأحد من الأشخاص مكروه؛ إذ صار رجال الشرطة بناء على أوامر صلاح الدين يطوفون بالشوارع والأبواب يمنعون كل اعتداء يقع على المسيحيين، وفي تلك الأثناء حرص كل مسيحي على أن يلتمس المال اللازم لافتدائه، وأخذ باليان كل ما في بيت المال من الأموال لدفع ما وعد به من أموال الافتداء، وقدرها ثلاثون ألف دينار، ولم يخرج الإسبتارية والداوية عن شيء من أموالهم إلا بصعوبة، ولم يحفل البطريرك وهيئة الكنيسة إلا بأنفسهم، ودهش المسلمون حينما رأوا البطريرك هرقل يؤدي عشرة دنانير، مقدار الفدية المطلوبة منه، ويغادر المدينة، وقد انحنت قامته لثقل ما يحمله من الذهب، وقد تبعته العربات التي تحمل ما بحوزته من الطنافس والأواني المصنوعة من المعادن النفيسة. وبفضل ما تبقى من منحة الملك هنري الثاني، تقرر إطلاق سراح سبعة آلاف من الفقراء، وقد كان يصح أن ينجو من الاسترقاق ألوف عديدة من المسيحيين لو أن الإسبتارية والداوية والكنسية كانوا أكثر سخاء. ولم يلبث أن تدفق من أبواب المدينة طابوران من المسيحيين، تألف الأول من أولئك الذين افتدوا أنفسهم، أو تم افتداؤهم بفضل جهود باليان، أما الطابور الثاني فشمل أولئك الذين لم يستطيعوا افتداء أنفسهم، ولذا توجهوا إلى الاسر.

ومن المناظر التي تدعو للأسى والحزن، ما حدث من التفات العادل إلى أخيه صلاح الدين يطلب منه إطلاق سراح ألف أسير، على سبيل المكافأة عن خدماته له، فوهبهم له صلاح الدين فأطلق العادل على الفور سراحهم، وإذ ابتهج البطريرك هرقل لأن يلتمس هذه الوسيلة الرخيصة لفعل الخير، لم يسعه إلا أن يطلب من صلاح الدين أن يهبه بعض الأرقاء ليعتقهم، فبذل له صلاح الدين سبعمائة أسير، كما جعل صلاح الدين لباليان خمسمائة أسير، ثم أعلن صلاح الدين أنه سوف يطلق سراح كل شيخ، وكل امرأة عجوز، ولما أقبل نساء الفرنج اللائي افتدين أنفسهن، وقد امتلأت عيونهن بالدموع، فسألن صلاح الدين أين يكون مصيرهن، بعد أن لقي أزواجهن أو آباؤهن مصرعهم، أو وقعوا في الأسر؟ أجاب بأنه وعد بإطلاق سراح كل من في الأسر من أزواجهن، وبذل للأرامل واليتامى من خزائنه العطايا كل بحسب حالته، والواقع أن رحمته وعطفه كان على نقيض أفعال الغزاة في الحملة الصليبية الأولى.

إن الأمة الإسلامية - برغم تعاسة الظروف التي ألمت بها - أرست قواعد خير كثير في هذه الحياة، وما يبقى لها - بعد معادلات الحذف والإضافة - يزينها ولا يشينها.

وأعرف أن خصمها أصفق وجها وأقدر على فعل المناكر، ودفنها فلا تعرف، وأجرأ على تلمس العيوب للبرءاء، والإصرار عليها حتى تثبت. وفي عصرنا هذا أمر رجل دين أحمق في غيانا بأمريكا الوسطى ألف شاب بالانتحار الجماعي، فماتوا كلهم في صمت، ولو فعل شيخ مسلم واحدا في المائة من هذه المأساة لرميت الأمة الإسلامية بعار لا تقدر على الإفلات منه، ولنسب للإسلام شر!

وما ننكر أن هناك منصفين صرحوا بفضل الأمة الإسلامية على العالم، مثل كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" لأستاذة ألمانية طاهرة الذمة. صحيح أن المسلمين في أوضاع بالغة السوء، وصحيح أن فساد الحكم حقبا طويلة من وراء هذا الانحدار، بيد أن الأمة الجريحة لا تزال أنبل من قاتليها، ولا تزال ثروتها الروحية أجدر بالتقدير وأحق بالتقديم.

إن الذكاء الأناني في أوربا وأمريكا سيجر الويل على أصحابه، وقد يجره على العالم كله، ما لم يرحمنا الله"[3].

ثانيا. صياغة التاريخ الإسلامي وما شابها من نقص وتشويه وأثر ذلك:

إن من أشد ما تعرض له الإسلام من ظلم هو محاولات بعض المغرضين وتدخلهم في صياغة تاريخه، وهو ما أعطى انطباعا سيئا مغلوطا عن كثير من العصور الإسلامية، وصورها على أنها سلسلة من الحروب والصراعات والأطماع والفتن، وهذا ما يرصده د. حسين مؤنس في كتابه "تنقية أصول التاريخ الإسلامي" تحت عنوان "لا بد من التنبيه إلى السلبيات والإيجابيات"؛ إذ يقول: "والحق أن تاريخنا فقد شخصيته وروحه منذ أصبح مجرد نزاع على السلطان في ذاته".

ثم يقدم مثالا واضحا على عدم التوازن في العرض التاريخي وإغفال جوانب لحساب أخرى، مما أظهر هذا التاريخ - في طابعه العام - سوداويا باهتا، تسوده الصراعات والفتن والمآسي الداخلية، فيقول عن مثال من أمثلة عديدة من تاريخنا في وجهه الإيجابي الجهادي الرائع: أغفلت، ونسيناها أو حجبت عنا، وتمددت على حسابها أخبار حوادث تافهة ونزاعات مريرة سلبية، وليس أدل على ذلك من خبر الأطروشي، وهو الحسن بن محمد بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فهذا الرجل العلوي رأى أنه لا معنى لأن ينافس في طلب الدولة الإسلامية، ويحاول انتزاعها من بني العباس، ففعل ما فعله ابن عمه إدريس ابن محمد بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، عندما ذهب إلى بلاد البربر، وأنشأ الدولة الإدريسية خارج نطاق الدولة العباسية، وخارج نطاق دولة بني أمية في الأندلس أيضا.

 

وأخبار هذا الأطروشي قليلة؛ لأن مؤرخينا يشغلون في العادة بأخبار نزاع الترك والمغاربة والأشروسية على الخلافة، وهو نزاع مرير وفارغ وبلا معنى، ولكن الأطروشي تنبه إلى أن بني العباس أهملوا نشر الإسلام في نواحي طبرستان والبلاد الواسعة الواقعة بين نهر جيحون وبحر قزوين، هناك بلاد واسعة دون إسلام مع أنها في صميم بلد الإسلام، فذهب في سنة 301هـ/913م إلى بلاد الديلم والجبل، وهي التي نسميها اليوم ببلاد خوارزم، وهي بلاد واسعة وخصبة وغنية يسكنها ملايين الناس، فرأى أن ينشر الإسلام فيها؛ لأنهم كانوا أهل جاهلية، بل كان فيهم مجوس يعبدون النار. فاجتهد في نشر الإسلام في هذه النواحي، وأنشأ دولة كبيرة تعتبر من أعاظم دول الإسلام، ولا تقارن إلا بالدولة الإدريسية، وأخبار هذه الدولة قليلة؛ لأنها قامت في بلاد واسعة، ولكن ليس فيها شعب قائم بنفسه يؤرخ لبلاده" [4].

ويسترسل في تفاصيل هذا الخبر إلى أن يقول: "ويكفي هذا القدر من ذلك الخبر المهم؛ لأنه طويل، وهو مثال مهم من أخبار مهمة ورئيسة، ونحن لا نعرف عنها شيئا؛ لأن الحقيقة أننا لا نعرف الكثير من حقائق تاريخ الإسلام، فهذا تاريخ دولة إسلامية كبرى أدخلت في الإسلام ملايين البشر، ومساحة ضخمة من هذه الأرض، وقد أنشأها وقام عليها رجل واحد من الطالبيين، وهو الأطروشي هذا، وقد لقب بالأطروشي؛ لأنه كان قليل السمع، أي أنه كان يعاني من ضعف سمعه، ولكنه مع هذا استطاع أن يكمل مساحة الإسلام من هذه الناحية التي يقع فيها اليوم جزء كبير من بلاد ما وراء النهر وروسيا الإسلامية، وهي بلاد خوارزم وطبرستان.

بهذه المناسبة أحب أن أنبه إلى أن الإسلام باق في تلك البلاد إلى يومنا هذا؛ لأن الإسلام إذا دخل بلدا لم يخرج منه أبدا. الإسبان والكاثوليك لكي يتخلصوا من المسلمين أبادوهم بصورة بشعة، وهذه فضيحة من فضائح التاريخ، وما زال البشر يذكرونها إلى اليوم للإسبان أو قل للكنيسة الكاثوليكية؛ لأن تلك الكنيسة هي - دون شك - ألد أعداء الإسلام، وما زالت؛ لأنها زائفة والإسلام حقيقة، ولكن زيفها مرتب منظم، أما نحن فعلى الرغم من أننا على الحق إلا أننا في فوضى دائما، وفي اليوم الذي نتخلص فيه من الفوضى سنسود الدنيا؛ أقصد أن الإسلام دين الله، ولا بد أن يعم الدنيا مهما كانت العقبات في طريقه"[5].

وتأكيدا لتحكم منطق الانتقائية والغائية في التعامل مع أحداث ورموز تاريخ المسلمين - في أحيان كثيرة - يقول الشيخ محمد الغزالي: "والحكم في الإسلام عبادة رفيعة الثواب، والحكام العدول أول ظافر بالرضوان الأعلى، وأول مستظل بعرش الرحمن يوم الزحام.

لكن هذا النوع في تاريخنا قليل؛ لأن الرياسة شهوة عند كثيرين يسعون لتحقيقها بالعرق والدم، فإذا ظفروا بمجدهم الشخصي حافظوا عليه بالنفس والنفيس، وأظن هؤلاء هم الذين عنتهم الآية: )تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين (83)( (القصص). والقلة الصالحة من الحكام هي التي أجدت على الإسلام، ووسعت رقعته في العالمين، وطليعة أولئك الساسة الكبار الخلفاء الراشدون الأربعة، وهناك ملوك ورؤساء على امتداد تاريخنا كله ابتذلوا أنفسهم لله وللأمة، وذهبوا إلى الله راضين مرضيين.

وحماة الإسلام الكبار لم يلقوا الترجمة الصحيحة لأعمالهم، بل تناثرت هنا وهناك دون ضابط، وأحيانا أرمق ما كتب عن دولة الخلافة، فأجد إبرازا للسلبيات وإخفاء للمحامد والأمجاد، وكأنما كان التأريخ للفتن وحدها، الذي أجل ما كان حقه أن يوضع في الهامش، كتب بالثلث وجعل عنوانا ومنح الصدارة، أما الخير الكثير لسلفنا الأول فكأنما وضعت فوقه حجب.

عندما كنت أقرأ أنباء المسلمين في آذربيجان - والكلام للغزالي - وهم يقاومون الضغط الروسي، ويحاولون النجاة بدينهم، ذكرت أن هذه البقاع تم فتحها أيام الخليفة الثالث هي وأقطار أخرى، تكون منها جنوب الاتحاد السوفيتي.

إن تلامذتنا لا يعرفون هذا، ولا رسمت لهم خريطة تجلو أمامهم هذه الأعمال، وإنما الذي درس لهم بعض الأكاذيب المفتراة على عثمانـ رضي الله عنه - ومحاباته لنفر من عشيرته، وكان المفروض في تدريس رسالة ضخمة كهذه، أن نذكر المبادئ والتطبيقات التي نهض بها جيل الصحابة الأوائل، وغير بها وجه الأرض، وخرج بها العرب من أكوام الجاهلية الأولى يحملون كتابا أشرقت به الظلمات، ونشأت عنه حضارة ازدانت بها الأرض أكثر من ألف سنة.

لقد كان ذلك عمل الخلفاء الأربعة الكبار، وإن معرفة هذا العمل بتفصيل أجدى - في ميدان السياسة والتربية - من حديث الجمل وصفين، وبقية السلبيات التي رسبت في الأذهان، واختفى غيرها مما كان يجب أن يشرح ويخلد!. لا أريد إنكار أخطائنا، وإنما أريد ألا تعدو وضعها الثانوي بعد بيان ما أدينا للدين والدنيا، إذ لحساب من يتم هذا الغمط؟"[6].

كل ما سبق يوجزه د. القرضاوي فيقول: "فيجب أن نكون عدولا في نظرنا إلى هذا التاريخ، فلا يجوز أن نضخم ناحية من النواحي السلبية على حساب النواحي الإيجابية، فإذا أخذت كتابا كالأغاني وأردت أن تأخذ منه صورة المجتمع في العصر العباسي، فلقد ظلمت هذا العصر؛ فكتاب الأغاني يمثل شريحة من المجتمع ليست هي المجتمع الحقيقي ولا أغلبه، كذلك ينبغي أن نكون عدولا عند تقييم الأشخاص، فإذا أردنا أن نقيم شخصية كشخصية هارون الرشيد فعلينا أن نتذكر أمرين:

  1. أن نميز بين الصحيح وغير الصحيح من الروايات التي تتحدث عن الرشيد، وما أكثر التزييف في هذه الأشياء وخاصة من الذين يهوون المبالغات.
  2. أن نقيم الشخص بمجموع أعماله ومواقفه وآثاره، فرجل كالرشيد كان يغزو عاما ويحج عاما، وكان يستنصح الوعاظ ويبكي عند الموعظة، ويقوم الليل ويكرم العلماء، فمثل هذا لا يتصور أن يكون بالصورة التي يأخذها كثير من الناس من "ألف ليلة وليلة"، ويسمون ذلك تاريخا!

ويجب أيضا عند كتابة تاريخنا الإسلامي ألا نخضعه للأهواء والتيارات الأيديولوجية المختلفة، فالليبرالي يريد أن ينظر إلى تاريخنا من وجهة نظر ليبرالية[7] أو رأسمالية، والاشتراكي أو الماركسي يريد أن يكتب التاريخ الإسلامي ويفسره في ضوء التفسير المادي، كما أن المتطرفين من القوميين يريدون أن يكتبوا تاريخنا الإسلامي من وجهة نظر قومية بحتة، ينصرون فيها العروبة على الإسلام، ويقيمون بينهما حربا لا مسوغ لها، مع أن الإسلام هو صانع أمجاد العروبة ومخلد ذكرها، وباعث أمتها وصاحب رسالتها، والعروبة هي وعاء الإسلام، ولغتها هي لسانه، وأرضها هي حرمه، ولكن قوما يريدون أن يحذفوا الإسلام ويبقوا العروبة وحدها.

وينبغي أن نراعي عند إعادة كتابة تاريخنا الإسلامي أن التاريخ ليس هو التاريخ السياسي فقط، أعني أن التاريخ ليس هو تاريخ الملوك والحكام وحدهم، وإنما يجب أن يكون تاريخ الشعوب والمجتمعات أيضا.

وكذلك فإن تضخيم الجانب العسكري في تاريخنا - ابتداء من السيرة النبوية وما بعدها - أعطى انطباعا لدى الناشئة وغيرهم بأن الإسلام دين سيف وحرب، وأنه معركة مستعرة الأوار مستمرة اللهيب، فالسيرة النبوية غزوات، وعهد أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فتوح، وعصر عثمان وعلي - رضي الله عنهما - حرب أهلية، وعصر الأمويين عصبيات وحروب، مغفلين جانب الرسالة وجانب الدعوة وجانب الحضارة في هذا التاريخ.

وهذا كله يجب أن يصحح وأن ينظر إلى التاريخ نظرة شاملة متكاملة، وكذلك يجب أن ننبه إلى أن كثيرا ممن يكتبون في تاريخنا الإسلامي يقعون - من حيث يشعرون أو لا يشعرون - أسرى لما كتبه المستشرقون في هذا الجانب، ولا ننكر أن للمستشرقين جهودا في كتابة تاريخنا وغيره من نواحي تراثنا الرحب، منهم منصفون إلى حد كبير، ولكن قلما تخلو كتاباتهم من ثغرات وآفات بعضها يرجع إلى طبيعة تكوينهم الفكري والعقائدي، فهم ينظرون إلى العالم كله وإلى التاريخ كله من زاوية الغرب الذي يرى أن أوربا هي أم الدنيا، وأن الحضارة منها بدأت وإليها انتهت. كما أن نظرتهم للإسلام تحكمها عقد موروثة منذ الحرب الصليبية، قد تكمن ولكنها لا تزول، وتختفي ولكنها لا تموت، وقد اعترف كثير منهم بهذه العقدة حين كتبوا عن الإسلام والمسلمين.

ومن هنا ينبغي ألا تؤخذ النتائج التي وصلوا إليها قضايا مسلمة، وإنما ينبغي أن تناقش في ضوء منهج النقد والتمحيص للروايات.

ويستنكر د. يوسف القرضاوي وصف بعضهم لتاريخنا الإسلامي بأنه ظلمات بعضها فوق بعض، وبأن الغالبية العظمى من حكامنا المسلمين بعد الراشدين، كانوا حكام ظلم، فيقول: "إن في ذلك ظلما أي ظلم، وتحاملا أي تحامل على تاريخنا"[8].

ثالثا. أسباب غياب الدور الحضاري القوي والفاعل للأمة الإسلامية في بعض فترات التاريخ:

وفي جانب آخر يلفت الشيخ الغزالي - رحمه الله - النظر إلى عامل مهم من عوامل انحلال قوة هذه الأمة، والتأثير في دورها التاريخي وإصابته بالعقم - في كثير من عصوره وأحداثه - والضبابية، فشحبت صورته، وقل بهاؤه وغاض رونقه واستيأس كثيرون من جدواه؛ مما سمح للمغالطين بالزعم أن هذا الدين قد انسحب من التاريخ ومن الحياة. هذا العامل الذي التفت إليه الشيخ هو العداء التاريخي المستحكم من قبل الآخرين تجاه المسلمين، يقول: "أوربا وأمريكا تكرهان الإسلام، ما قصرت إحداهما في هضم قضاياه وتجاوز حقوقه! وفي سباق الأحقاد التي يواجهها ديننا الصامد نرى فرنسا تمتاز بتبشير واسع الحيلة، واستشراق خبيث القصد، وسياسة شديدة الفتك.

في الحرب العالمية الأولى سلخ لواء الإسكندرونة من سوريا، ومنحتها تركيا الحديثة مكافأة على علمانيتها، وسلخت محافظتان أخريان من الجنوب منحهما جبل لبنان الصغير؛ ليتكون لبنان كبير تحت سلطة اختيرت بعناية كي تمحو العروبة والإسلام، وتجعل الكثرة الإسلامية تافهة ضائعة، وقد استقلت الجزائر المسلمة بعد حرب زهقت فيها أرواح مليون ونصف من البشر، وقناطير من الأموال التي ضاعت في قتال قذر، ومع ذلك فإن ناسا كثيرين في فرنسا يريدون استئناف المعارك واستبقاء الإجرام، ويمهدون لذلك نفسيا واجتماعيا.

وقد انفجر الغضب على الإسلام وأتباعه يوم ارتدت ثلاث فتيات زيا إسلاميا محتشما، وقال كثير من المسئولين: هذا تحد للحضارة الفرنسية، وكان غليان الرأي العام مثيرا للعجب، يصفه رجاء جارودي قائلا: إن ما حدث هو - في رأيي - لحظة جنون جماعي! لو رآها أحد سكان المريخ لشعر بالدهشة! بل إن فيليب جونزاليس رئيس وزراء إسبانيا صرح في التلفاز بأنه مندهش لما يجري في فرنسا حول مشكلة ارتداء الحجاب الإسلامي؛ إذ كيف تستطيع ثلاث فتيات يرتدين هذا الحجاب أن يعرضن الهوية الثقافية الفرنسية للخطر، والحقيقة - والكلام لجارودي فيما نظن - أن الهوية الثقافية لفرنسا تتعرض للخطر من الأفلام الهابطة التي تستورد من الولايات المتحدة.

أنا شخصيا - الغزالي - أتساءل: إن الشبه قريب جدا بين الحجاب الإسلامي وملابس الراهبات المسيحيات، فما الذي أثار الذعر والتوجس؛ لأن تلميذات آثرن الاحتشام والتقوى، وارتدين ما يرد عنهن الأعين الجريئة والخائنة.لا ريب أن هناك حساسية بالغة ضد كل ما يقترب من الإسلام أو يقرب من معالمه وشعائره، ولفرنسا عدة إذاعات تشتغل بالتبشير، وتغزو أجواء المغرب الكبير، وتبذل جهود الجبابرة لضرب الإسلام في مقاتله، والغزو الثقافي الجديد يقوم على شعبتين: إحياء النزعة البربرية؛ كي تقاوم الإسلام وتمنع صحوته، وكذلك إنشاء نزعة جديدة عنوانها: ثقافة البحر المتوسط؛ كي تقتطع الشعوب المطلة على هذا البحر من عالمها الإسلامي الرحب إلى عالم آخر تهي روابطه بالإسلام تاريخيا واجتماعيا، لعله في نهاية المطاف يرتد على عقبيه، وينسى رسالته وحضارته.

ذلك ما يقع في غرب البحر المتوسط، أما في شرقه فثم أمر آخر هو قاصمة الظهر، وكارثة الدهر، هو الاستعداد الحار الجارف لإقامة إسرائيل الكبرى، وإسرائيل الكبرى غاية دينية مقررة لدى اليهود والنصارى على سواء. اليهود ينتظرون مسيحهم ليحكم بهم العالم، ويقيم دولة الشعب المختار، والنصارى ينتظرون نزول عيسى ابن مريم بعد تجميع اليهود في فلسطين؛ ليدين المسكونة كلها، وينصر اليهود طوعا أو كرها، ويحكم العالم وهو جالس على يمين الرب، ومعنى إقامة إسرائيل الكبرى ضياع ست دول تقع في المجال الحيوي لإسرائيل بين الفرات والنيل هي: مصر، والعراق، والسعودية، والأردن، وسوريا، ولبنان، بعد التهام فلسطين كلها بداهة.

والأصوليون المسيحيون يعتنقون هذه العقيدة وبينهم ريجان، وكارتر، وبوش الذي أعلن سعادته ببدء الخروج الكبير، خروج اليهود الروس، وتوطينهم هناك في فلسطين، إن هذا المسلك - عندهم بالطبع - دلالة تقوى وإيمان واستجابة لأمر الله. ومنذ زحف اليهود إلى أرض الميعاد والإسلاميون يلاحظون أن إسرائيل تحاربنا بجنود من الدول الشيوعية، وأسلحة من الدول الرأسمالية، ولا يزال الوضع كما كان، مستودعات الرجال تفتح من روسيا وأوربا الشرقية، وخزائن للسلاح والمال تتدفق من الغرب الصليبي.

إن الكل اصطلح علينا؛ كي يقيم ملكه على أنقاضنا، لم ينس موشي ديان التاريخ الذي مضى عندما قال عشية انتصاره على عبد الناصر سنة 1967م: لقد ثأرنا ليهود المدينة وخيبر، ولم ينس مارشال اللنبي التاريخ الذي مضى عندما دخل القدس سنة 1918م فقال: الآن انتهت الحروب الصليبية، وقد لخص وليم جيفور بلجراف الهدف من هذه الحروب كلها عندما قال: عندما يختفي القرآن وتختفي مكة من بلاد العرب - يعني الكعبة - عندئذ يستطيع العربي أن يتدرج في طريق الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه.

أي حضارة يريد؟! حضارة الإيدز والشذوذ والضغائن؟! إنني لا أخاف هؤلاء جميعا، إنني أخاف أن يذكر الآخرون باطلهم، وننسى نحن حقنا وتاريخنا ورسالتنا، ونشتغل برفع مستوى المعيشة على حين يشتغل غيرنا بتغليب كنهه وإعلاء ملته"[9].

رابعا. يظل الإسلام - مع كل ما يثار ضده من الكيد والحقد - نافذة الأمل الوحيدة للإنسانية، وسبيلها الفرد إلى مستقبل سوي مشرق:

الآن، بعد أن وضح أن الدين ما يزال قائما في النفوس والقلوب، وأن آثاره ما تزال تعمل عملها - بشكل أو بآخر - في مضمار الحياة، وأنه ليس صحيحا أن الإسلام لم يعد له وجود على ظهر البسيطة، ربما جاز أن نتساءل: هل لهذا الدين مستقبل؟ وهل له دور يمكن أن يؤديه في عالم الغد؟.

تحت عنوان " المسلمون - على علاتهم - موئل الإنسانية وأمة المستقبل" يجيب الشيخ أبو الحسن الندوي عن هذا التساؤل قائلا: "ولكن على الرغم من كل ما أصيب به المسلمون من علة وضعف، فإنهم هم الأمة الوحيدة على وجه الأرض التي تعد خصيم الأمم الغربية، وغريمتها ومنافستها في قيادة الأمم، ومزاحمتها في وضع العالم، والتي يعزم عليها دينها أن تراقب سير العالم وتحاسب الأمم على أخلاقها وأعمالها ونزعاتها، وأن تقودها إلى الفضيلة والترقي، وإلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، وتحول بينها وبين جهنم بما استطاعت من القوة، والتي يحرم عليها دينها ويأبى وضعها وفطرتها أن تتحول أمة جاهلية، هذه الأمة التي يمكن أن تعود في حين من الأحيان خطرا على النظام الجاهلي الذي بسطته أوربا في الشرق والغرب، وأن تحبط مساعيها.

وقد وصف هذا الخطر شاعر الإسلام الحكيم محمد إقبال في قصيدته البديعة: "برلمان إبليس" على لسان إبليس، ذكر فيها أن الشياطين وزملاء إبليس وأعوانه اجتمعوا في مجلس شورى، وتباحثوا في سير العالم، وأخطار الغد وفتنه، وما يتوجسون منه خيفة على نظامهم الإبليسي ومهمتهم الشيطانية، فتذاكروا في فتن وأخطار قد أحدقت بهم وهددت نظامهم، وجللوا خطبها وتناذروا شرها، فذكر أحدهم الجمهورية - أي النظام الجمهوري - وحسب لها حسابا كبيرا، فقال الثاني: لا يهولنك أمرها؛ فإنها ليست إلا غطاء للملوكية، ونحن الذين كسونا الملوكية اللباس الجمهوري، إذ رأينا الإنسان بدأ يتنبه ويفيق ويشعر بكرامته، وخفنا من ثورة على نظامنا قد لا تحمد عاقبتها، فألهيناه بلعبة الجمهورية، وليس الشأن في الأمير والملك، إن الملوكية لا تنحصر في وجود شخص ترتكز فيه الملوكية، وفرد يستبد بالسلطان، إنما الملوكية أن يعيش الإنسان عيالا على غيره، مستشرفا إلى متاع غيره، سواء في ذلك الشعب والفرد، أما رأيت نظام الغرب الجمهوري وجهه مشرق وضاح، وباطنه أظلم من باطن جنكيز خان؟

فقال الآخر: لا بأس إذا بقيت روح الملوكية، ولكن ماذا يقول النائب المحترم في هذه الفتنة الدهماء التي أثارها هذا اليهودي الذي يدعى كارل ماركس، ذلك الذي ليس نبيا ولكنه يحمل عند أتباعه كتابا مقدسا، هل عندك نبأ أنه أقام العالم وأقعده، وأثار العبيد على السادة حتى تزعزعت مباني الإمارة والسيادة.

فقال آخر مخاطبا رئيس المجلس: يا صاحب الفخامة، إن سحرة أوربا، وإن كانوا مريديك المخلصين، ولكني لم أعد أثق بفراستهم، ها هو السامري اليهودي، الذي هو نسخة من مزدك (الزعيم الفارسي الاشتراكي) قد كاد يأتي على العالم بقواعده فاستنسر البغاث، وأصبح الصعاليك يزاحمون الملوك بالمناكب ويدفعونهم بالراح، (أعلام أرض جعلت بطائح). إنا استهنا بخطب هذه الحركة الاشتراكية، وها هي قد استفحلت، وتفاقم شرها، وها هي الأرض ترجف بهول فتنة الغد.

يا سيدي، إن العالم الذي تحكمه سينقض عليك، إذ ينقلب نظام العالم ظهرا لبطن. فتكلم رئيس المجلس إبليس وقال: إني أملك زمام العالم وأتصرف به كيف أشاء، وسيرى العالم عجبا إذا حرشت بين الأمم الأوربية، وافترس بعضها بعضا، فعل الذئاب، وإذا همست في آذان القادة السياسيين وأساقف الكنائس الروحانيين، فقدوا رشدهم وجن جنونهم.

أما ما ذكرتم عن الاشتراكية، فكونوا على ثقة أن الخرق الذي أحدثته الفطرة بين الإنسان والإنسان لا يرفؤه المنطق المزدكي (الفلسفة الاشتراكية)، لا يخوفني هؤلاء الاشتراكيون والصعاليك السفهاء. إن كنت خائفا فإني أخاف أمة لا تزال شرارة الحياة والطموح كامنة في رمادها، ولا يزال فيها رجال تتجافى جنوبهم عن المضاجع، وتسيل دموعهم على خدودهم سحرا، لا يخفى على الخبير المتفرس أن الإسلام هو فتنة الغد، وداهية المستقبل ليست الاشتراكية، أنا لا أجهل أن هذه الأمة قد اتخذت القرآن مهجورا، وأنها فتنت بالمال وشغفت بجمعه وادخاره كغيرها من الأمم.

أنا خبير أن ليل الشرق داج مكفهر، وأن علماء الإسلام وشيوخه ليست عندهم تلك اليد البيضاء التي تشرق لها الظلمات ويضيء لها العالم.ولكني أخاف أن قوارع هذا العصر وهزته ستقض مضجعها، وتوقظ هذه الأمة وتوجهها إلى شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - إني أحذركم وأنذركم من دين محمد - صلى الله عليه وسلم - حامي الذمار، حارس الذمم والأعراض، دين الكرامة والشرف، دين الأمانة والعفاف، دين المروءة والبطولة، دين الكفاح والجهاد، يلغي كل نوع من أنواع الرق، ويمحو كل أثر من آثار استعباد الإنسان، لا يفرق بين مالك ومملوك، ولا يؤثر سلطانا على صعلوك، يزكي المال من كل دنس ورجس، ويجعله نقيا صافيا، ويجعل أصحاب الثروة والملاك مستخلفين في أموالهم، أمناء لله، وكلاء على المال، وأي ثروة أعظم وأي انقلاب أشد خطرا مما أحدثه هذا الدين في عالم الفكر والعمل، يوم صرخ أن الأرض لله، لا للملوك والسلاطين.

فابذلوا جهدكم أن يظل هذا الدين متواريا عن أعين الناس، وليهنكم أن المسلم بنفسه هو ضعيف الثقة بربه قليل الإيمان بدينه، فخير لنا أن يبقى مشتغلا بمسائل علم الكلام، والإلهيات وتأويل كتاب الله والآيات، اضربوا على آذان المسلم فإنه يستطيع أن يكسر طلاسم العالم ويبطل سحرنا بأذانه وتكبيره، واجتهدوا أن يطول ليله ويبطؤ سحره، اشغلوه يا إخواني عن الجد والعمل، حتى يخسر الرهان في العالم، خير لنا أن يبقى المسلم عبدا لغيره، ويهجر هذا العالم ويعتزله ويتنازل عنه لغيره زهدا فيه، واستخفافا لخطره، ياويلتنا ويا شقوتنا لو انتبهت هذه الأمة التي يعزم عليها دينها أن تراقب العالم وتعسه"[10] [11].

إذن ما يزال الأمل باقيا في هذه الأمة أن ترفع شأن دينها، وشأنها به في قابل الأيام، ولكن تحقق هذا الأمل منوط بشروط، يقول الشيخ محمد الغزالي: "حال المسلمين يقبض الصدر، وقد يبعث على التشاؤم، ولكني واثق من أن هذه المحنة ستنجلي كما انجلت محن أخرى في أيام مضت، على أن انجلاء المحن لا يشبه انقشاع السحب، نرقبه ونحن مكتوفو الأيدي، كلا، لا بد من عمل جاد وسعي لاغب، أو كما قلت في موضع آخر: لا بد أن يعتنق المسلمون الإسلام يقينا وخلقا ونشاطا وفكرا. أما مع النقائص الموجودة فيستحيل أن يكسب المسلمون خيرا"[12].

ومادام " أمل يلوح في الأفق " تحت هذا العنوان، ودحضا لهذه الشبهة القائلة بزوال كل أثر للإسلام من على ظهر الأرض - باستقراء الواقع وتوقع مجريات الأمور في المستقبل - كتب الأستاذ محمود المراكبي يقول: " لقد علمتنا دراسة تاريخ الحضارات أنها تمر بموجات تبدأ وليدة، ثم يشتد عودها وتزداد قوتها وأثرها رويدا رويدا، حتى ترتقي تلك الحضارة قمة الرقي، وتظل فوقها سنوات، أو قرون على قدر استقرارها وقوتها، ثم تفارق القمة وتهبط إلى القاع، فهل تعاود الحضارات الصعود مرة أخرى، أو تستقر في قاع التاريخ؟

والجواب: إن معظم الحضارات التي هبطت بعد الصعود غالبا ما ذهبت ريحها، ولم تقم لها قائمة، فحضارة الفراعنة بلغت أوجا وتربعت على القمة قرونا، وحين استشرى فيها الظلم والجبروت هوت وامتطت سلم الانهيار، وتلك السنة مستمرة وتكررت مع الفرس والرومان، كما هوت الإمبراطوريات الإسبانية والبرتغالية والإنجليزية والفرنسية، وها هي الولايات المتحدة تتربع على قمة العالم. ولقد تنبأ العديد من المفكرين بانهيار الحضارة الأمريكية، لدرجة أن رجل حلف الناتو الأول د. مراد هوفمان ألف كتابا أسماه: " الإسلام في الألفية الثالثة - ديانة في صعود": تأمل فيه ما تخبئه الأيام للحضارة الأمريكية، وتوصل إلى أن الإسلام سيعود إلى مكانه الطبعي ليقود الإنسانية، وذلك في الألفية الثالثة، بمشيئة الله تعالى.

ونحن نرى رؤية البصر والبصيرة المدعومة بالقرائن والنصوص القرآنية والهدي النبوي - أنه على الرغم من أن الأمة تمر بأصعب أيام حياتها منذ بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمتنا اليوم تتحرك بأقدام متثاقلة، وبخطى مكبلة، وترد في ظلام دامس، وأعداؤنا يتربصون بنا من كل صوب وحدب، ولهم طابور خامس يحيا بيننا، ويتكلم بلساننا، يرتدون ثياب العلمانية تارة وعباءة الثقافة تارة أخرى، ورغم كل ذلك فإنني أؤكد على حقيقة لا مراء فيها، وهي أن أمتنا لم تمت، وما أظنها تموت وفيها من يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

والحقيقة التي لا مرية فيها أن كثرة الخبث يعادلها ثقل الإيمان في قلوب أعداد يسيرة، وكما قلت أعدادهم تضاعف نور الإيمان في أعينهم وبصائرهم، وأزيد على ذلك زاعما أن الأمة بدأت في رحلة الصعود بعد أن وصلنا إلى قاع الانحدار، وبراهيني على ذلك متعددة أسوقها في نسق واحد، من مثل: أن الشعوب الإسلامية قد ضاقت بمناهج الإصلاح البشرية شرقية كانت أم غربية.

وأن هذه الشعوب قد تيقنت من حقيقة عدوها اللدود الحقود، وأن رد الفعل المقابل يتمثل في صحوة إسلامية حقيقية وليست وهمية، صارت أقوى من محاولات تحطيمها، وقد تجلى ذلك في مظاهر عديدة منها:

  1. بزوغ فجر الاقتصاد الإسلامي:

ظهرت خلال العقود السابقة ظاهرة البنوك الإسلامية، ونزلت تمارس مهامها على أرض الواقع، وقامت بتأصيل العديد من الدراسات عن المقابل الإسلامي للتعاملات الاقتصادية، وبدأت حصتها في التعامل تزداد، وتطبيقاتها تتكاثر، ورغم أن بعض الأنظمة العربية حاربت ظاهرة المشاركة وما يعرف بشركات الأموال الإسلامية، فانقضت عليها مضيعة على المسلمين ملايين الجنيهات، إلا أنها كانت تجربة مفيدة، وكادت تبني صناعات إسلامية لولا ضربات الإجهاض، وأعتقد أنها ستعود مرة أخرى إذا تغير المناخ العام.

  1. بزوغ فجر الإعلام الإسلامي:

تنبه المسلمون إلى أهمية الإعلام الإسلامي ومازالت مبادرات فردية، منها ما يقصد به الربح، ولا حرج عليهم في استثمارهم أموالهم فيما ينفع العباد ويصلح البلاد، ومنهم من يعتبرها رسالة لا دخل لمال فيها. والسبب الحقيقي الذي دفعنا إلى الدعوة إلى الإعلام الإسلامي هو طغيان الإعلام الغربي وأدواته التي يستخدمها، فهل آن للناس أن تلغي عشرات القنوات التي تبث طوال ساعات النهار وأغلب ساعات الليل، ونركز على القنوات الإعلامية الإسلامية التي ينبغي أن تتاح لها ميزانيات كبرى للتصدى لمحاولات تشويه ديننا هنا أو هناك"[13]؟

كل هذه الشواهد تدل على أن هذه العقبة ما تزال - إلى حد كبير - حية في النفوس وعلى أرض الواقع، رغم أماني الشانئين القائلين بأن هذا الدين صار أثرا بعد عين.

الخلاصة:

  • انسجم التطبيق البشري للإسلام على وجه الأرض مع تعاليم السماء منذ زمن النبوة والخلفاء الراشدين، فقدم المسلمون أنموذجا حضاريا مثاليا لتأثير رسالة سماوية توحيدية صحيحة في حياة معتنقيها أفرادا أو جماعات. ثم تباعدت النخبة السياسية الحاكمة في عصور لاحقة عن الالتزام بتعاليم دينها، خصوصا في مجال الشورى والعدل، وهذا أثر سلبيا في صورة تاريخ الأمة في الأذهان. لكن الأمة التزمت شرع دينها، بشكل أو بآخر، ولم ترتد عنه كلية.
  • عرض تاريخ الأمة الإسلامية يشوبه عدم التوازن في أحيان كثيرة؛ إذ تغفل كثير من المحامد والإيجابيات لحساب المفاسد والسلبيات. ونحن في حاجة إلى قراءة شاملة مستوعبة لتاريخ أمتنا الإسلامية يبرز محاسنها ومآثرها التي دفنتها يد الإهمال والتشويه.
  • العداء التاريخي المستحكم من قبل الآخرين تجاه المسلمين - الذي تمثل في الصراع العسكري والسياسي وحتى الثقافي عبر التاريخ - أثر في مسيرة تاريخ المسلمين ودورهم، واستنفد كثيرا من طاقاتهم. وقد كان المسلمون أهل تسامح وعفو مع أعداء لم يعرفوا قط للتسامح والعفو معنى، ولهذا ظلم المسلمون كثيرا، وحجبوا عن أداء رسالتهم العالمية.
  • الإسلام على طول مسيرته قد أنجز كثيرا من الإنجازات في مختلف الميادين، نظرية وعملية، وعلى المستويين الإنساني والحضاري، بما لا يدانيه قط الديانتان السماويتان السابقتان عليه. ورغم كل المثبطات، فإن تأثير هذا الدين ما يزال فاعلا في النفوس والسلوك، والشواهد والإرهاصات منبئة بأن المستقبل له.

 

 

 

(*) شبهات حول الإسلام، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط23، 1422هـ/ 2001م.

[1]. دستور أمة الإسلام، د. حسين مؤنس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998م، ص25: 27 بتصرف.

[2]. دستور أمة الإسلام، د. حسين مؤنس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998م، ص33، 34 بتصرف.

[3]. مائة سؤال عن الإسلام، الشيخ محمد الغزالي، دار نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2004م، ص459: 464 بتصرف.

[4]. تنقية أصول التاريخ الإسلامي، د. حسين مؤنس، دار الرشاد، القاهرة، ط1، 1997م، ص238: 240 بتصرف.

[5]. تنقية أصول التاريخ الإسلامي، د. حسين مؤنس، دار الرشاد، القاهرة، ط1، 1997م، ص242، 243 بتصرف يسير.

[6]. تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل، محمد الغزالي، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1992م، ص114، 115.

[7]. الليبرالية: مذهب يقوم على الاعتقاد في أهمية حرية الفرد ورفاهيته وإمكانية التقدم الاجتماعي من خلال تغيير التنظيم الاجتماعي وتجديده.

[8]. حول الإسلام وقضايا العصر، د يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1992م، ص60: 63 بتصرف.

[9]. تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل، محمد الغزالي، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1992م، ص118: 121.

[10]. عس يعس عسسا وعسا:أي طاف بالليل يحرس الناس ويكشف أهل الريبة.

[11]. ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1418هـ/ 1997م، ص197: 199.

[12]. مائة سؤال عن الإسلام، الشيخ محمد الغزالي، دار نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2004م، ص465.

[13]. الحلول الإسلامية بين الشعار والتطبيق، محمود المراكبي ، طبعة خاصة، ص17 وما بعدها.

  • الاحد AM 03:36
    2020-11-22
  • 1154
Powered by: GateGold