المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409000
يتصفح الموقع حاليا : 407

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء أن الإسلام أقر نظام الرق

                                                    ادعاء أن الإسلام أقر نظام الرق(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن الإسلام قد أيد نظام الرق والاسترقاق، ولم يتعرض له بأكثر مما تعرضت له المسيحية، بل يدعون أن الإسلام لم يحظر الرق والاسترقاق، فأباح أن يتخذ المسلمون الإماء والجواري والعبيد، وعليه فإن الإسلام في زعمهم قد أجازه وعمل على نشره، فالرق معضلة إسلامية.

وجوه إبطال الشبهة:

1) ألغى الإسلام - دين الرحمة والعدل والمساواة - المفهوم السوداوي للرق، وارتقى به من الوضع المأساوي غير الإنساني إلى الوضع الإنساني، من ملكية البدن والفكر واستعبادهما، إلى الولاية والمسئولية والحقوق والواجبات المتبادلة بين السادة ومواليهم، وضيق مصادر الاسترقاق، وسد منابعه، ووسع مخارجه ومصارفه، وأعطى للرقيق حقوقا تضمن لهم الحياة الآمنة الكريمة.

2)  أتى الإسلام بمفهوم جديد للرق، وأمر بحسن معاملة الرقيق، وجاء بحلول عملية للقضاء على الرق تماما.

3)  عدم نص القرآن صراحة على تحريم الرق إنما هو لحكمة جهل حقيقتها كثير من هؤلاء المتقولين.

4) بسبب غياب تعاليم الإسلام عن الواقع، عاد الرق في صور أبشع مما كان قبل الإسلام، على الرغم من كل المؤتمرات الدولية التي تنادي بتحريم الرق وحقوق الإنسان، إلا أنها لا تعدو أن تكون حبرا على ورق وشعارات زائفة ولا فتات براقة، وماذا تجدي هذه العناوين البراقة إذا كان ما وراءها من حقائق من أخبث ما عرفته البشرية من أنواع الرق والاسترقاق؟!

التفصيل:

أولا. التاريخ والقوانين والتشريعات في مختلف الحضارات والديانات والواقع العملي، كلها يشهد بأنه لا وجه للمقارنة بين نظرة الإسلام للرق، وبين نظرة غيره من الديانات:

إننا إذا اطلعنا على معاملة الإسلام للرق والرقيق سنعرف أن الإسلام بتشريعاته ومبادئه قد كفل " زوال أثر الرق عمليا، وذلك بمحو الفوارق والتوصية بالأرقاء. وأبرز ألوان المعاملة التي أتاحها الإسلام للأرقاء هي أن الرق يتصل بالعمل الجسماني، ولا يتصل بالعقل والفكر، فالرقيق يعمل لسيده ويطيعه في حدود هذا العمل، ولكنه حر في تفكيره يعتنق الدين الذي يرضيه، فلا يجوز منه أن يرتكب إثما أو يقتل نفسا بغير حق، وقد عد العرب في مطلع الإسلام هذا التفكير الذي يقضي بتحرير عقل الأرقاء ثورة عارمة، وقتلوا عبيدهم وعذبوهم حينما صاح هؤلاء العبيد في وجوه سادتهم قائلين: لقد أعتقنا الإسلام وليس لكم سلطان على عقولنا، سلطانكم محدود بالأعمال الجسمانية التي لا تنافي الدين أو الخلق. وفي ذلك يقول ابن القيم: والسيد لا حق له في ذمة العبد، ولا في إنسانيته، وإنما حقه في بدنه"[1].

 النظام البشع والمعاملة الوحشية للرقيق عند غير المسلمين:

ويتضح ذلك إذا تتبعنا تاريخ الرق والاسترقاق في مختلف بقاع العالم:

في مصر: بنيت المعابد على أكتاف الرقيق ونحتت المسلات بسواعدهم.

 في الصين: كان الرقيق منتشرا، وسببه الفقر؛ فقد كان الإنسان يبيع نفسه وأولاده تخلصا من الفقر.

 في الهند: ساد نظام الطبقات، وكان العبيد يمثلون الغالبية العظمى من الشعب الهندي، وكان لا يحق لهم امتلاك شيء.

 في فارس: دم الآلهة يجري في عروق الحكام، فهم طبقة فوق البشر، وإن كان سواهم عبيد لهم.

 في اليونان: كان استعباد البشر للبشر مطلقا وبكثرة، وكان قراصنتهم يتخطفون أبناء الأمم الأخرى في مختلف السواحل، ويبيعونهم في أسواق أثينا وغيرها، وكانت تقام للعبيد أسواق النخاسة؛ فامتلأت بيوت الإغريق بالإماء والعبيد.

وقد قسم الفلاسفة اليونان الجنس البشري قسمين:

حر بالطبع، ورقيق بالطبع، وقالوا: إن الثاني ما خلق إلا لخدمة الأول، وإن عليه أن يقوم بالأعمال الجسمانية، ويقوم الجنس اليوناني - وهو الحر بالطبع - بالأعمال الفكرية والإدارية والمناصب المهمة.

ويرى أفلاطون في الجمهورية الفاضلة حرمان العبيد من حق المواطنة، وإجبارهم على الطاعة، والخضوع للأحرار من سادتهم. ويوافقه تلميذه أرسطو على ذلك، فهو يجعل كلمة "المواطن" مرادفة لكلمة "حر"ويرى أن وظيفة العبيد - تحصيل الثروة الضرورية للأسرة والقيام على خدمتها.

عند الرومان: ومراجعة بسيطة للحالة التي كان يعيش عليها الأرقاء في الإمبراطورية الرومانية - كفيلة بأن ترينا النقلة الهائلة التي نقلها الإسلام للرقيق، حتى لو لم يكن قد عمل على تحريره - وهذا غير صحيح -، فقد كان الرقيق في عرف الرومان شيئا - لا بشرا - لا حقوق له ألبتة، ولكن كان عليه كل ثقيل من الواجبات.

ولنعلم أولا من أين كان يأتي الرقيق؟ لقد كان يأتي من طريق الغزو، ولم يكن هذا الغزو لفكر أو لمبدأ؛ وإنما كان سببه الوحيد شهوة إذلال واستغلال الآخرين واستغلالهم وتسخيرهم لمصلحة الرومان.

فلكي يعيش الروماني عيشة البذخ والترف، ويستمتع بالحمامات الباردة والساخنة والثياب الفاخرة وأطايب الطعام من كل لون، ويغرق في المتاع الفاخر من: خمر ونساء ورقص وحفلات ومهرجانات، كان لا بد من استعباد الشعوب الأخرى وامتصاص دمائها.

ومصر مثل لذلك حين كانت في قبضة الرومان، قبل أن يخلصها الإسلام من ذل العبودية، إذ كانت سلة قمح للإمبراطورية وموردا للأموال، في سبيل هذه الشهوة الفاجرة كان الاستعمار الروماني، وكان الرق الذي نشأ عن الاستعمار.

أما الرقيق فقد كانوا - كما ذكرنا - أشياء ليس لها كيان البشر ولا حقوق البشر، كانوا يعملون في الحقول وهم مصفدون في الأغلال الثقيلة التي تكفي لمنعهم من الفرار, ولم يكونوا يطعمون إلا إبقاء على وجودهم من أجل العمل فقط، وكانوا في أثناء العمل يساقون بالسوط.

ولكن الشناعة الكبرى كانت أفظع من ذلك، وفيها الدليل الحاسم على تلك الطبيعة الوحشية التي انطوت عليها نفسية ووجدان ذلك الروماني القديم، والتي ورثها عنه الأوربي الحديث في وسائل الاستعمار والاستغلال.

تلك كانت حلقات المبارزة بالسيف والرمح، وكانت أحب المهرجانات إليهم، فيجتمع إليها السادة وعلى رأسهم الإمبراطورـ أحيانا - ليشاهدوا الرقيق يتبارزون مبارزة حقيقية، توجه طعنات السيوف والرماح إلى أي مكان في الجسم بلا تحرز ولا احتياط من القتل، بل كان المرح يصل إلى أقصاه، وترتفع الحناجر بالهتاف، والأكف بالتصفيق، وتنطلق الضحكات السعيدة العميقة الخالصة حين يقضي أحد المتبارزين على زميله قضاء كاملا، فيلقيه طريحا على الأرض فاقد الحياة.

والأفظع من ذلك أن السادة كانوا حينما يريدون الترفيه عن أنفسهم يأتون بالعبيد، ويدخلون الواحد تلو الآخر في قفص حديدي به أسد جائع، وكانت دعابتهم في ذلك الترويح أنهم يتلذذون بمنظر العبد وهو يحاول مقاومة الأسد الذي يفترسه دون جدوى، ويشتد المرح، وتعظم الفكاهة بهم عندما يقاوم العبد أطول مدة ممكنة. هذه هي الحضارة الرومانية البشعة، يتلذذ فيها السادة بتعذيب إنسان أعزل يلتهمه الأسد، وينهش لحمه، ويهشم عظامه.

وفي روما كانت للرقيق سوق تعرض فيها هذه البضائع للمزاد العلني، ويكون الرقيق عريانا من كل ما يستره: ذكرا كان أم أنثى، كبيرا كان أم صغيرا، ولمن شاء من الناس أن يدنو من هذا اللحم الحي المعروض للبيع فيجسه بيده ويقلبه كيف يشاء، ولو لم يشتره في النهاية.

هكذا كان الرقيق في العالم الروماني. ولا نحتاج أن نقول شيئا عن الوضع القانوني للرقيق عندئذ، وعن حقوق السيد المطلق في قتله وتعذيبه واستغلاله دون أن يكون له حق الشكوى، ودون أن تكون هناك جهة تنظر في هذه الشكوى أو تعترف بها، فذلك لغو بعد كل الذي سردناه.

عند اليهود: أباحت التوراة الاسترقاق بطريق الشراء أو السبي في الحرب، وجعلت للعبري أن يستعبد العبري إذا افتقر فيبيع الفقير نفسه للغني، أو يقدم المدين نفسه للدائن، حتى يوفي له الثمن، ومن ذلك: "إذا اشتريت عبدا عبرانيا، فست سنين يخدم، وفي السابعة يخرج حرا مجانا". (سفر الخروج 11: 2)، وأباحت التوراة أن يبيع بنته فتكون أمة للعبري الذي يشتريها.

أما في الحروب فهو طريق أيسر؛ فقد ورد فيها: " حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك، بل عملت معك حربا، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما". (سفر التثنية 20: 10 - 16).

وأقسى من هذا الجزاء جزاء المدن التي ينجم فيها ناجم بالدعوة إلى غير إله إسرائيل، فإنه يقع بها أقسى أنواع العذاب: "إن سمعت عن إحدى مدنك التي يعطيك الرب إلهك لتسكن فيها قولا، قد خرج أناس بنو لئيم من وسطك وطوحوا سكان مدينتهم قائلين: نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفوها. وفحصت وفتشت وسألت جيدا وإذا الأمر صحيح وأكيد، قد عمل ذلك الرجس في وسطك، فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف. تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها، وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك، فتكون تلا إلى الأبد لا تبنى بعد". (التثنية 13: 12 - 16).

عند المسيحية: نقل د. جورج برست أحد رجال الجامعة الأمريكية في بيروت: أن المسيحية لم تعترض على العبودية لا من وجهها السياسي ولا من وجهها الاقتصادي، ولم تحرض المؤمنين على منابذة جيلهم في آدابهم جهة العبودية، حتى ولا على المباحثة فيها، ولا حركت العبيد إلى طلب الاستقلال، ولا بحثت عن مضار العبودية ولا عن قساوتها، ولم تأمر بإطلاق العبيد أصلا.

وأمر بولس الرسول العبيد بإطاعة سادتهم كما يطيعون السيد المسيح، فقال في رسالته إلى أهل أفسس: "أيها العبيد، أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة، في بساطة قلوبكم كما للمسيح، لا بخدمة العين كمن يرضي الناس، بل كعبيد المسيح، عاملين مشيئة الله من القلب، خادمين بنية صالحة كما للرب، ليس للناس. عالمين أن مهما عمل كل واحد من الخير فذلك يناله من الرب، عبدا كان أم حرا". (رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس 6: 5 - 8).

وأوصى الرسول بطرس بمثل هذه الوصية، وأوجبها آباء الكنيسة؛ لأن الرق كفارة عن ذنوب البشر، يؤديها العبيد لما استحقوه من غضب السيد الأعظم، وأضاف القديس الفيلسوف توما الإكويني رأي الفلسفة إلى رأي الرؤساء الدينيين، فلم يعترض على الرق بل زكاه؛ لأنه على رأي أستاذه أرسطو - حالة من الحالات التي خلق عليها بعض الناس بالفطرة الطبيعية، وليس مما يناقض الإيمان أن يقنع الناس من الدنيا بأهون نصيب.

وفي المعجم الكبير للقرن التاسع عشر " لاروس ": " لا يعجب الإنسان من بقاء الرق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم؛ فإن نواب الدين الرسميين يقرون صحته ويسلمون بمشروعيته... وجاء فيه... الخلاصة: أن الدين المسيحي ارتضى الاسترقاق تماما إلى يومنا هذا، ويتعذر على الإنسان أن يثبت أنه سعى في إبطاله.

الرق عند العرب: انتشر الرق عند العرب قبل الإسلام انتشارا كبيرا،وكانت وسيلته الحروب التي لا تنقطع في الجزيرة العربية، وكان الغالب يأسر من المغلوبين ما يستطيع ليصبحوا عبيدا له، حتى استرقت قبائل قبائل أخرى، وكان من وسائل الرق عند العرب: اختطاف الشخص أو الجماعة التي لا حماية لها في طريقها.

وعلى هذه الحالة كان العالم كله يوم مبعث الدعوة الإسلامية، ليس فيه من يستغرب هذه الحالة، أو من يشعر بحاجة إلى تعديل فيها إذ يكثر الأرقاء أو يقلون، ففي البلاد التي كثر فيها عدد الأرقاء كانت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية مرتبطة بأعمال الرقيق في البيوت والمرافق العامة، فلم يكن تغيير هذه الأوضاع مما يخطر على البال، ولم يكن تغييرها مستطاعا بين يوم وليلة، وفي البلاد التي قل فيها عدد الأرقاء لم تكن المسألة تستدعي من ذي الشأن اهتماما أو تعديلا.

وفي كل ما سبق، كان الرق يشمل "الجسم والفكر"؛ أي على الرقيق أن يتبع سيده في دينه وتفكيره، ولا حق للرقيق أن يفكر أو أن يتبع تفكيرا آخر غير تفكير سيده، وللسيد أن ينزل برقيقه من العقاب ما يشاء؛ لأنه يملكه ملكا كاملا"[2].

ثانيا. أتى الإسلام بمفهوم جديد للرق، وجاء بحلول عملية للقضاء عليه تماما، وأمر بحسن معاملة الرقيق:

"حث الإسلام على حسن معاملة الرقيق فقد خفض الإسلام للرقيق جناح الرحمة، وشمله بعطفه؛ فأوجب على الموالي حسن معاملة عبيدهم وإمائهم، وأوصى أن ينزلوهم منزلة أفراد أسرتهم. وقد وردت هذه الأحكام والوصايا في كثير من آي الذكر الحكيم وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك قوله عز وجل: )واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36)( (النساء(، فقد قرن الله - عز وجل - في هذه الآية وجوب الإحسان إلى ملك اليمين - وهو الرقيق - بوجوب عبادته وعدم الشرك به وجعلهما في منزلة واحدة.

ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»[3].

 فوضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - العبيد ومواليهم في مرتبة واحدة، وجعل أولئك إخوانا لهؤلاء؛ ورتب على ذلك أنه لا ينبغي أن يحرم العبيد شيئا مما ينعم به مواليهم في المأكل والمشرب والملبس... وما إلى ذلك. وأشار إلى أنه ليس ثمة ملكية بالمعنى المعروف، وإنما هي مجرد ولاية قد منحها الله - عز وجل - الموالي على عبيدهم كما منحهم الولاية على أولادهم، فهي وظيفة اجتماعية يجب عليهم حسن أدائها، ويحاسبهم الله - عز وجل - على أي تقصير فيها"[4].

وبالإضافة لما بيناه قبل ذلك - من تكفل تشريعات الإسلام بمحو الفوارق والتوصية بالأرقاء وأن ليس للسيد على عبده إلا العمل الجسماني لا العقل والفكر - ثمة خطوة أخرى خطاها الإسلام في معاملة الرقيق وهي مساواته بالأحرار في أكثر الشئون، ونمثل على ذلك بنماذج من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام.

سبق أن بينا أن الإسلام بتشريعاته قد تكفل بزوال أثر الرق عمليا، وذلك بمحو الفوارق والتوصية بالأرقاء. وأبرز ألوان المعاملة التي أتاحها الإسلام للأرقاء هي أن الرق يتصل بالعمل الجسماني ولا يتصل بالعقل والفكر، فالرقيق يعمل لسيده ويطيعه في حدود هذا العمل، ولكنه حر في تفكيره يعتنق الدين الذي يرضيه.

وخطوة أخرى خطاها الإسلام في معاملة الرقيق، هي مساواته بالأحرار في أكثر الشئون، ونأخذ مثالين:

جاء عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال: «رأيت على أبي ذر بردا وعلى غلامه بردا، فقلت: لو أخذت هذا فلبسته كان حلة وأعطيته ثوبا آخر، فقال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها، فذكرني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: "أساببت فلانا"؟ قلت: نعم، قال: "أفنلت من أمه"؟ قلت: نعم، قال: "إنك امرؤ فيك جاهلية"، قلت: على حين ساعتي هذه من كبر السن، قال: "نعم، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه»[5].

ويروي التاريخ لنا أجمل صور المساواة، وذلك عندما قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى القدس ومعه أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة له، فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: «يا أمير المؤمنين، أنت تفعل هذا، تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك، فقال عمر: أوه، لم يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالا لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله»[6].

وقد أعتق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمة عندما ضربها سيدها؛ تطبيقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه»[7].

 ورفع عبد لزيد العابدين شاة وقد كسر رجلها، فسأله سيده: لماذا فعلت هكذا؟ فقال: لأثير غضبك، فرد عليه: وأنا سأغضب من علمك وهو إبليس، اذهب فأنت حر لوجه الله.

 ودخل رجل على سلمان الفارسي فوجده يعجن فقال له: يا أبا عبد الله ما هذا؟ قال: بعثنا الخادم في شغل، فكرهنا أن نجمع عليه عملين.

وأخيرا.. قال يحيى بن سعيد: "بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فجمعتها ثم طلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد فقيرا، ولم نجد من يأخذها منا؛ فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها عبيدا فأعتقتهم".

" هذه المعالجة العملية التي مرت بنا، وهذه المعاملة الرائعة التي استعرضنا بعض حوادثها كانت حلا دوليا ناجعا للمسألة سبق إليه الإسلام، فالإسلام أبقى على الرقيق مدة من الوقت حتى يتهيأ له عقد ميثاق دولي عام"[8].

أين هذا من معاملة الرقيق المستبدة الظالمة في الأمم الأخرى قبل الإسلام وبعده، والتي كانت تعتبر الرقيق جنسا غير جنس الأشراف والسادة، بل كانت النظرة إليه أنه خلق من أجل أن يسخر ويستعبد، ويستذل للشريف أو للسيد الغني!! ومن هنا لم تكن ضمائرهم تتألم أبدا من قتله أوتعذيبه أوكيه بالنار أو تسخيره في أشق الأعمال وأقذرها.

المراحل التي اتخذها الإسلام لتحرير الأرقاء:

جاء الإسلام ليحرر الإنسان المستعبد في الأرض، ويرد إليه كرامته مهما تكن وظيفته في المجتمع، وينص على المساواة بين الجنس البشري عامة، ويلغي النظريات الفلسفية الهدامة التي تقول بأن الناس مخلوقون على طبقتين: طبقة الجنس المتميز، - وهم السادة بالفطرة - وطبقة الجنس الحقير، وهم العبيد بالفطرة. واتخذ الإسلام في ذلك مرحلتين:

  1. مرحلة التحرير الروحي:

جاء الإسلام ليرد لهؤلاء البشر إنسانيتهم، جاء ليقول للسادة عن الرقيق: )بعضكم من بعض( (النساء:25).

جاء ليقرر وحدة الأصل والمنشأ والمصير: «الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من تراب».[9] وأنه لا فضل لسيد على عبد لمجرد أن هذا سيد وهذا عبد، وإنما الفضل للتقوى: «ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى» [10].

جاء ليأمر السادة أمرا أن يحسنوا معاملتهم للرقيق؛ قال الله: )وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36)( (النساء). وليقرر أن العلاقة بين السادة والرقيق ليست علاقة الاستعلاء والاستعباد، أو التسخير أو التحقير، وإنما هي علاقة القربى والأخوة، فالسادة يستأذنون أهل الجارية في زواجها: )ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف( (النساء:25).

وهم أخوة للسادة: «إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم» [11].

وزيادة في رعاية مشاعر الرقيق: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم: هذا عبدي، وهذه أمتي، وليقل فتاي، وفتاتي». [12]ويستند على ذلك أبو هريرة فيقول لرجل ركب وخلفه عبده يجري: "احمله خلفك، فإنه أخوك، وروحه مثل روحك ".

ولم يكن ذلك كل شيء، ولكن ينبغي قبل أن ننتقل إلى الخطوة التالية أن نسجل القفزة الهائلة التي قفزها الإسلام بالرقيق في هذه المرحلة؛ فلم يعد الرقيق "شيئا "... وإنما صار بشرا له روح كروح السادة. ومن هنا رفعه الإسلام إلى مستوى الأخوة الكريمة لا في عالم المثل والأحلام، بل في عالم الواقع.

ويشهد التاريخ - الذي لم ينكره حتى المتعصبون من كتاب أوربا - بأن معاملة الرقيق في صدر الإسلام بلغت حدا من الإنسانية الرفيعة لم تبلغه في أي مكان آخر، حتى جعل الرقيق المحررين يأبون مغادرة سادتهم السابقين؛ لأنهم يعتبرونهم أهلا لهم، يربطهم بهم ما يشبه روابط الدم. وأصبح الرقيق كائنا إنسانا له كرامة يحميها القانون، ولا يجوز الاعتداء عليها بالقول ولا بالفعل.

فأما القول: فقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - السادة عن تذكير أرقائهم بأنهم أرقاء، وأمرهم أن يخاطبوهم بما يشعرهم بمودة الأهل وينفي عنهم صفة العبودية، وقال لهم في معرض هذا التوجيه:«هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم».[13] فهي مجرد ملابسات عارضة جعلت هؤلاء رقيقا، وكان من الممكن أن يكونوا سادة لمن هم - اليوم - سادتهم، وبذلك يغض من كبرياء هؤلاء، ويردهم إلى الآصرة البشرية التي تربطهم جميعا، والمودة التي ينبغي أن تسود علائقهم ببعض.

وأما الاعتداء الجسدي فعقوبته الصريحة هي المعاملة بالمثل "ومن قتل عبده قتلناه" وهو مبدأ صريح الدلالة على المساواة الإنسانية بين الرقيق والسادة، وبيان الضمانات التي تحاط بها حياة هذه الطائفة من البشر، وهي ضمانات كاملة وافية، تبلغ حدا عجيبا لم يصل إليه تشريع آخر من تشريعات الرقيق في التاريخ كله.

  1. مرحلة التحرير الواقعي:

لقد كانت الخطوة السابقة في الواقع تحريرا روحيا للرقيق، برده إلى الإنسانية ومعاملته على أنه بشر كريم لا يفترق عن السادة من حيث الأصل، وإنما هي ظروف عارضة؛ حدت من الحرية الخارجية للرقيق في التعامل المباشر مع المجتمع، وفيما عدا هذه النقطة كانت للرقيق كل حقوق الآدميين.

ولكن الإسلام لم يكتف بهذا؛ لأن قاعدته الأساسية العظمى المساواة الكاملة بين البشر والتحرير الكامل لكل البشر؛ ولذلك عمل فعلا على تحرير الأرقاء.

فما الأسلوب الذي اتخذه الإسلام لذلك؟

لا يمكن لأي نظام أوعقيدة أو ملة أن تحظر مبدأ الرق والاسترقاق مرة واحدة، أو بمجرد قانون مسنون؛ وذلك لشدة التمازج بين الأحرار والعبيد من جهة، ولعظم كثرة العبيد في المجتمعات السالفة؛ حتى قيل: إن العبيد في المجتمع الروماني كانوا ثلاثة أضعاف الأحرار، فضلا عن الترويض النفسي الذي درج عليه العبيد؛ فبات مركوزا راسخا في طبائعهم، فما يحتملون التحرر والانعتاق فجأة.

وعلى هذا فأيما تحرير مفاجئ للرقيق سوف يؤدي بالمجتمع كله إلى التدمير والانهيار، وذلك من النواحي النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وذلك مالا يطاق[14].

وكان الإسلام ذا منهج فريد ومتميز في معالجة هذه الظاهرة المتفشية المستعصية وأسلوبه في ذلك يتجلى في خطوتين:

الخطوة الأولى: تبديد الروافد؛ أي إزالة الأسباب التي كانت تفضي إلى الاسترقاق واتخاذ العبيد، وهي أسباب متعددة ومختلفة، ومؤثرة في استمرار هذا النظام وازدياد مداه واتساعه، وهي أسباب في ذاتها مبنية على التعسف والجور، ومن أجل ذلك بددها الإسلام، وحرمها تحريما، ومن جملة ذلك نذكر:

  • الدين:

فقد كان المدين في العصور المادية ملزما بأداء دينه في الوقت المعين دون تأخير أو إبطاء؛ فإن عجز عن أداء دينه في حينه تحول إلى العبودية؛ ليصير مملوكا لدى الدائن. لا جرم أن ذلك حيف وباطل واعتساف. وهو ما نهى عنه الإسلام، إذ أمر الدائن بالإمهال والانتظار إلى يسر المدين ليستطيع أداء دينه. وفي ذلك يقول عز وجل: )وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة( (البقرة:280).

  • الاستعباد القسري:

وهو أخذ الأحرار قهرا ليباعوا عبيدا. وهذا في الإسلام باطل. فإنه لا سبيل بحال أن يحول الأحرار عبيدا على سبيل القسر واستلاب الحرية استلابا، وفي ذلك ذكر أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث القدسي: «قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطي بي ثم غدر. ورجل باع حرا فأكل ثمنه. ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجرا»[15].

  • بيع الأولاد:

وذلك كأن يبيع الأب أولاده أو بعضهم للآخرين هربا من القيام بنفقتهم، وطمعا في تحصيل المال، لا جرم أن مثل هذا الأسلوب مستهجن مقبوح، مثير للسخرية والاشمئزاز، وهو في شريعة الإسلام باطل محذور.

  • استرقاق المجرمين أو الجناة:

وذلك بما فعلوه من محظورات وجنايات كالقتل والسرقة والزنا ونحو ذلك من المنكرات، وذلك غير مقبول ولا مستساغ. وهو في شريعة الإسلام باطل.

ذلك أن الشريعة جعلت لكل جريمة عقابا زاجرا، سواء كان ذلك على سبيل القصاص أو الحدود أو التعازير، فالقاتل عمدا يقتل، والزاني يجلد أو يرجم، والسارق تقطع يده، والشارب أو السكران يجلد، إلى غير ذلك من وجوه الجنايات وما يقابلها من روادع وعقوبات. أما أن يستعبد المجرم جزاء إجرامه فذلك غير جائز ولا مستساغ.

الخطوة الثانية: التحرير الفعلي؛ وذلك سبيل عظيم وبالغ التأثير في إعتاق الرقيق؛ لينقلبوا أحرارا طلقاء. على أن التحرير يأتي في الشريعة على أربعة وجوه:

  1. التحرير على سبيل الوجوب:

  وذلك في تكفير الخطايا والآثام التي يتلبس بها المسلم في حياته، ومثال ذلك: وجوب العتق بسبب:

  • القتل الخطأ: فإذا قتل المسلم غيره خطأ لزمه التكفير بإعتاق رقبة، لتحظى بالتحرير من إسار الرق. وفي ذلك يقول عز وجل: )ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا( (النساء:92). أما لو قتله عمدا ففيه قصاص إلا أن يعفو أولياء القتيل.

وفي إعتاق الرقبة عقب القتل العمد خلاف. على أن أكثر العلماء قالوا بوجوب الكفارة في القتل العمد أيضا، وهو مذهب المالكية ورواية عن أحمد. ووجه هذا القول أنه إذا وجبت الكفارة في الخطأ فهي في العمد أولى.

  • الحنث في اليمين: فإذا أقسم الحالف أن يفعل شيئا ولم يأته، فإنه تلزمه كفارة. وهي خصال ثلاث يخير الحالف في فعل واحدة منها، وهي: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة. وفي ذلك يقول عز وجل: )لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة( (المائدة:89).
  • الظهار: وذلك ضرب من ضروب التعسف الكلامي، إلا أن الأزواج في الجاهلية كانوا يفعلونه على سبيل الإغاظة لزوجاتهم، وهو أن يقول الزوج لزوجته مغايظا لها: أنت علي كظهر أمي، فإن قال ذلك باتت الزوجة معلقة فلا هي زوجة ولا هي مطلقة، ولا شك أن ذلك حيف وتعسف كانا يحيقان بالمرأة قبل الإسلام، حتى إذا جاء الإسلام نهى عن مثل هذا الكلام الظالم، بل أوجب على المتعثر لسانه بهذه المقولة عقابا، وفي ذلك قوله عز وجل: )والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير (3) فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم (4)( (المجادلة). وكما هو واضح فأول كفارة للظهار تحرير رقبة. وها هنا ملمح جليل، وهو أن القرآن هو أول من بشر بتحرير العبيد وانتهاء الرق؛ إذ سيأتي على الناس زمان لا يجدون فيه رقبة يعتقونها كفارة.
  • الإفطار في رمضان عمدا: فإذا أفطر المرء في رمضان عمدا وجبت في حقه الكفارة, ذلك أن رجلا واقع أهله في شهر رمضان، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - مستفسرا ماذا يفعل؟ فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكفر بإعتاق رقبة. وهو قوله: «هل تجد ما تعتق رقبة»[16]؟
  • ضرب الحر للعبد: فإن هذه خطيئة يقع فيها الحر لا يمحوها إلا الكفارة وهي عتقه. وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه»[17].
  1. التحرير على سبيل الندب والاستحباب:

  وهذا سبب عظيم يساعد على إعتاق العبيد، ذلك أن الإسلام يحرض على التحرير؛ ليبادر المسلمون في همة عالية ورغبة جموح بإعتاق العبيد؛ ابتغاء مرضاة الله - عز وجل - وطلبا للأجر والمثوبة، والقرآن الكريم يهتف بالمسلمين للمبادرة بالإعتاق ناشطين كرماء، فقال - عز وجل - منبها محرضا على اقتحام العقبة التي تكون بين الإنسان وربه، وأن ذلك يكون بعمل الخير الذي منه تحرير العبيد: )فلا اقتحم العقبة (11) وما أدراك ما العقبة (12)( (البلد).

أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فيستثير همم المسلمين في ترغيب شديد وتحريض بالغ على إعتاق العبيد، وأن لهم في ذلك خير الجزاء، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار».[18] وعنه صلى الله عليه وسلم: «خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريضا، وشهد جنازة، وصام يوما، وراح إلى الجمعة، وأعتق رقبة»[19].

إلى غير ذلك من النصوص التي تحرض المسلمين على تحرير العبيد؛ لكي يتحروا من إسار الرق،لا جرم أن هذا التحريض كان ذا تأثير بالغ في نفوس المسلمين فبادروا بالإعتاق في نشاط وحماسة طالبين رضوان الله.

لقد بادر المسلمون بإعتاق الرقيق وفي طليعتهم الصحابة الأبرار؛ إذ كانوا يشترون العبيد ليعتقوهم، وذلكم أبو بكر - رضي الله عنه - اشترى بلال بن رباح الحبشي من معذبه أمية بن خلف ثم أعتقه؛ ليصبح حرا أبيا ومن أعلام المسلمين، وهو الذي صعد إلى ظهر الكعبة عقب الفتح، وهتف مناديا بالأذان " الله أكبر. الله أكبر".

  1. المكاتبة:

ومن بين الأمور التي حث عليها الإسلام - تشجيعا على تحرير العبيد - المكاتبة، وهي عقد بين العبد وسيده؛ فيلزم السيد بموجبه أن يعتق عبده بعد أن يؤدي إليه مبلغا من المال يتفقان عليه، فإذا أدى العبد ما عليه، لزم السيد إعتاقه على الفور، وفي ذلك يقول عز وجل: )والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم( (النور:33). وفي الزكاة المفروضة نصيب أوجبه الله - عز وجل - للأرقاء المكاتبين لكي يستطيعوا به أداء ما عليهم من مال للسادة المكاتبين فينقلبوا أحرارا؛ فيقول عز وجل: )إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل( (التوبة:60). والمراد هنا قوله "وفي الرقاب" وهم المكاتبون من الرقيق.

  1. ولادة الأمة:

إذا أصاب السيد أمته فحملت منه ووضعت، حرم بيعها وهبتها وعتقت بموته، وكان ولده منها حرا، وهذا بخلاف النظام الذي كان متبعا عند العرب قبل الإسلام، والذي كان يقضي بأن تظل أمة وإن ولدت لسيدها، وأن يكون ابنها عبدا [20].

 ثالثا. الحكمة من عدم نص القرآن صراحة على تحريم الرق:

ربما كانت هذه الشبهة أخبث ما يلعب به الشيوعيون لزلزلة عقائد الشباب، فيقولون: لو كان الإسلام صالحا لكل عصر - كما يقول دعاته - لماذا أباح الرق، وإن إباحته للرق دليل قاطع على أن الإسلام قد جاء لمدة محدودة، وأنه أدى مهمته وأصبح في ذمة التاريخ.

إن الشباب المؤمن ذاته لتساوره بعض الشكوك، كيف أباح الإسلام الرق؟! هذا الدين الذي لا شك في نزوله من عند الله، ولا شك في صدقه، وفي أنه جاء لخير البشرية كلها في جميع أجيالها.. كيف أباح الرق؟! الدين الذي قام على المساواة الكاملة، الذي رد الناس جميعا إلى أصل واحد، وعاملهم على أساس هذه المساواة في الأصل المشترك! كيف جعل الرق جزءا من نظامه وشرع له؟ هل يريد الله للناس أن ينقسموا أبدا إلى سادة وعبيد؟ أو تلك مشيئته في الأرض؟ وهل يرضى الله للمخلوق الذي كرمه! إذ قال: )ولقد كرمنا بني آدم( (الإسراء:70)، أن تصير طائفة منهم تباع، وتشترى كما كان الحال مع الرقيق.

وإذا كان الله لا يرضى بذلك، فلماذا لم ينص في كتابه الكريم صراحة على إلغاء الرق كما نص على تحريم الخمر والميسر والربا وغيرها مما كرهه الإسلام؟وإن الشباب المؤمن ليعلم أن الإسلام دين الحق، ولكنه كإبراهيم: )وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي( (البقرة:260). أما الشباب الذي أفسد الاستعمار عقله وعقائده، فإنه لا يلبث حتى يتبين حقيقة الأمر، وإنما يميل به الهوى؛ فيقرر - دون مناقشة - أن الإسلام نظام عتيق قد استنفد أغراضه! وأما الشيوعيون فهم أصحاب دعاوى علمية مزيفة، يتلقونها من سادتهم، ويحسبون أنهم وقعوا على الحقيقة الأبدية الخالدة التي لا مراء فيها ولا جدال، وهي المادية الجدلية التي تقسم الحياة البشرية إلى مراحل اقتصادية معينة لا محيص عنها، وهي الشيوعية الأولى والرق والإقطاع والرأسمالية، والشيوعية الثانية وهي نهاية العالم، وأن كل ما عرفته البشرية من عقائد ونظم وأفكار إنما كان انعكاسا للحالة الاقتصادية.

ونريد هنا أن نضع المسألة في حقيقتها التاريخية والاجتماعية والنفسية بعيدا عن الغبار الذي يثيره هؤلاء وأولئك، فإذا حصلنا على حقيقة موضوعية فلا علينا حينئذ من دعاوى المنحرفين مما لا مجال فيه للريب، وهي أن القرآن قد سلك طريق التدرج في إصلاح المجتمع الإنساني، مراعيا في ذلك ضعف الإنسان.

إلا أننا لا نجد فيه مثالا واحدا على أنه ترك إصلاحه التدريجي في قضية من القضايا بدون أن يكتمل، ولم يأمر بالإصلاح النهائي فيه قبل انقطاع الوحي.

والأمثلة على ذلك صريحة وواضحة في تحريم الخمر والربا؛ فقد سلك الشرع فيهما طريق التدرج، حتى نص صراحة على تحريمها. فأي أمر من الأمور كان له أن يمنعه - عز وجل - من تحريم كل صورة من صور الرق بصفة نهائية قاطعة؟

وللإجابة عن ذلك نقول: جاء الإسلام، وللرق وسائل أو مداخل كثيرة - سبق أن ذكرناها - ومنها البيع والمقامرة والنهب والسطو ووفاء الدين والحروب، والقرصنة والطبقية، وكانت أبرز وسائل الرق صورتين:

  • القبض على الأحرار في بعض البلاد ثم بيعهم وشرائهم عبيدا وإماء.
  • استعباد الأسرى في الحروب.

أما الأولى من هاتين الصورتين؛ فقد حرمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - تحريما باتا، حيث قال: «قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره»[21].

وأما قانون الإسلام في الصورة الثانية: أن يخلي سبيل أسرى الحرب منا عليهم أو بأخذ الفدية، أو بتبادلهم بمن عند العدو من الأسارى المسلمين، ولكن إذا كان تسريحهم بالمن عليهم متنافيا مع المصالح الحربية، ولم يكن أخذ الفدية، ولم يرض العدو بمبادلة أسرى الحرب، فمن حق المسلمين أن يسترقوهم.

ومن هنا فقد ألغى الإسلام جميع المداخل التي تؤدي إلى الرق، ولم يبق منها إلا مدخلا واحدا، وقد ضيقه حتى لم يعد ينفذ منه إلى الرق إلا القليل النادر أشد الندرة، وذلك المدخل هو الجهاد في سبيل الله لرد اعتداء يقوم به غير المسلمين؛ فلا استرقاق إلا في حرب شرعية.

ومن الأدلة الواضحة على أن الإسلام يضيق مدخل الرق - أنه وضع تنظيما لأسرى الحرب لم يكن معروفا قبل الإسلام، فقد اشترط الإسلام على الأسرى ليعتبروا أرقاء أن يضرب الإمام عليهم الرق، أما قبل أن يضرب الإمام الرق على الأسرى، فيمكن أن تتم نحوهم التصرفات الآتي ذكرها:

  1. تبادل الأسرى بين المسلمين والأعداء؛ كما حدث مثلا بين المسلمين والروم على ضفتي نهر "اللامس"، فكان التبادل يتم حتى إذا بقيت لأحد الجانبين بقية من الأسرى افتدت بالمال.
  2. المن على الأسرى من غير مقابل تنفيذا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني»[22].

لكن ماذا على المسلمين أن يصنعوا إذا كان تسريح أسرى العدو منافيا مع مصلحتهم، أو لم يرض العدو بدفع الفدية؟ كان لا بد من ضرب الرق عليهم، ولو لم يبح الرق في هذه الحالة؛ لكان قانونا بالغ الإضرار بالمسلمين؛ لأن معنى هذا أن يكون من واجب المسلمين أن يسرحوا أسرى الكفار، حتى ولو لم يدفعوا الفدية، ولم يرضوا بتبادل أسرى الحرب في حال من الأحوال.

إذا كان الإسلام قد أباح الرق في هذه الحالة الضيقة، فإنه أوصى المسلمين بأن يعاملوا هؤلاء الرقيق بخلق حسن، وبالرفق والعطف، كما أمروا بأن يقوموا بتعليمهم وتربيتهم وجعلهم أفرادا صالحين للمجتمع، واستحثوا بوسائل الترغيب وأحكام الدين على أن يمنوا عليهم بالعتق، ابتغاء نجاتهم الأخروية، أو تكفيرا لذنوبهم حسب الأحكام الدينية، أو في مقابل قدر من المال يأخذونه منهم.

ومما يجب لمعرفة هدي الإسلام، وقانونه الصحيح في هذا الباب أن نراجع فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقوله، وفعل أصحابه رضي الله عنهم:

ففي غزوة حنين أسر ستة آلاف من الأولاد والنساء، ثم جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد هوازن بالجعرانة، وقد أسلموا، فسألوه أن يرد إليهم نساءهم وأبناءهم فقال لهم: «أحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين؛ إما السبي، وإما المال، وقد كنت استأنيت بهم، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبين لهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: فإنا نختار سبينا، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد؛ فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل"، فقال الناس: قد طيبنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفعوا إلينا عرفاؤكم أمركم"، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا»[23].

نحن نلخص ما صنعه الإسلام في هذه المسألة - قبل أربعة عشر قرنا في بضع كلمات - أن الإسلام حرم الرق جميعا ولم يبح منه إلا ما هو مباح إلى يومنا هذا، وفحوى ذلك أنه قد صنع خير ما يطلب منه أن يصنع، وأن الأمم الإنسانية لم تأت بجديد في هذه المسألة بعد الذي تقدم به الإسلام قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام.

فعلى الرغم من أن الإسلام لم يلغ الرق بطريق مباشر، إلا أنه ألغاه بخطى ثابتة مدروسة وعملية، أما لماذا لم يلغ الإسلام الرق بطريق مباشرة؟ فالأسباب نوجزها فيما يأتي:

  • التكافؤ في المعاملة أو المعاملة بالمثل: فقد كانت هناك حروب بين المسلمين وغير المسلمين، وكان غير المسلمين يستحلون استرقاق المسلمين، فكان لا بد أن يعاملهم المسلمون بالمثل، ولنسأل أدعياء التحرير في العصور الحديثة: ماذا يحدث في هذا العصر لو لم يصبح تبادل الأسرى معاملة متفقا عليها بين المتقاتلين؟!
  • للإسلام فلسفة في معالجة الشئون التي ليست أساسا من أسسه؛ ففي معالجة هذه الشئون تقتضي فلسفة الإسلام أن تعالج برفق وأناة؛ حتى يصل الإسلام إلى هدفه دون أن يحدث اضطرابا بين معتنقيه، فشرب الخمر والرق وتعدد الزوجات للإسلام تجاهها هدف، ولكنه يصل إلى هدفه بيسر وعلى خطوات - أحيانا - أما الأمور الرئيسة في الإسلام، كتوحيد الله وترك عبادة الأصنام، فإنه يواجهها مواجهة صريحة مباشرة؛ ليقطع دابرها من أول شوط.

لكن.. ما النظام الذي وضعه الإسلام ليلغي الرق بطريق غير مباشرة؟

"وضح الإسلام مبدأين مهمين وهما: تضييق المدخل، وتوسيع المخرج، أو ضيق موارده، وأفسح مصارفه، ويمكن القول إنه: سد منابع الرق، ووسع مصارف العتق"[24].

رابعا. الرق والاسترقاق في أبشع صورة عرفتها البشرية عبر تاريخها الطويل هو ما تفعله كثير من المجتمعات الغربية الآن:

 صحيح أن الثورة الفرنسية ألغت الرق في أوربا، وصحيح أن "لنكولن" ألغى الرق في أمريكا، ثم اتفق العالم بعد هذا وذاك على إبطال الرق، صحيح أنه حصل كل هذا، ولكن علينا ألا ننخدع بالأسماء، وأن لا نغتر بالشعارات، وإلا فأين هو الرق الذي ألغي؟!

وماذا يمكن أن نسمي ما يحدث اليوم في كل أنحاء العالم؟! وما اسم الذي كانت تصنعه فرنسا في المغرب العربي الإسلامي؟ وما اسم الذي صنعته أمريكا في الزنوج والهنود الحمر، وإنجلترا في السود في جنوب إفريقيا، وروسيا في البلاد الإسلامية التي تحت سلطتها؟!

أليس الرق في حقيقته - كما يقول الأستاذ محمد قطب - هو تبعة قوم لقوم آخرين، وحرمان طائفة من البشر من الحقوق المباحة لآخرين؟ أم هو شيء غير ذلك؟

وماذا تجدي العناوين البراقة إذا كانت الحقائق التي وراءها من أخبث ما عرفته البشرية من الحقائق في تاريخها الطويل؟!

لقد كان الإسلام صريحا مع نفسه ومع الناس فقال: هذا رق، وسببه الوحيد هو كذا، والطريق إلى التحرر منه مفتوح، والطريق إلى إنهائه إذا اقتضى الأمر موجود. أما الحضارة الزائفة التي نعيش اليوم في أحضانها لا تجد في نفسها هذه الصراحة، فهي تصرف براعتها في تزييف الحقائق وطلاء اللافتات البراقة!!

فقتل مئات الألوف في تونس والجزائر ومراكش لا لشيء سوى مطالبتهم بالحرية والكرامة والاستقلال، وقتل مئات الألوف في أفريقيا للغرض نفسه، وقتل مئات الألوف من المسلمين في الاتحاد السوفيتي لكونهم لا يقبلون عقيدة روسيا الإلحادية ونظامها الشيوعي. أليس كل هذا أبشع وضعا وأشنع صورة من الرق؟!

وحين يضع الأمريكان على فنادقهم ونواديهم لافتات تقول "للبيض فقط" أو تقول: "ممنوع دخول السود والكلاب "، وحين يفتك جماعة من البيض برجل من السود يضربونه بأحذيتهم حتى يسلم الروح، ورجل البوليس واقف لا يتحرك ولا يتدخل في كل ذلك لأنه أسود، ماذا نسمي هذا وماذا نعده؟!

لقد أبادت الصين الشيوعية وروسيا ستة عشر مليونا بمعدل مليون في السنة من المسلمين، هذه ألوان من الرق الصريحة الصارخة التي تتم في العالم باسم المدنية وباسم التقدمية وباسم المبادئ الثورية، هذه الألوان من الرق التي حرمت الشعوب من المطالبة بحقوقها، وهي التي أكرهتها على أن تكون تبعا لغيرها،وهي التي دفعتها بقوة الحديد والنار على أن تكون مستجيبة لهذا الاسترقاق الجديد وخاضعة لنفوذه وسلطانه!!

هذا ما يسمونه في العصر الحاضر حضارة ومدنية، تحت شعارات زائفة: الحرية والمساواة، ونحن نسميه عبودية وظلما، واسترقاقا من نوع جديد، فعلينا ألا ننخدع بالأسماء والشعارات، فالرق في العالم الغربي والشرقي لم يلغ بعد، وإنما أخذ لونا جديدا وطريقة مبتكرة وأساليب مستحدثة.

أما المعاملة المثالية الكريمة التي كان يمنحها الإسلام للرقيق قبل أكثر من أربعة عشر قرنا تطوعا منه وإكراما للجنس البشري في جميع حالاته، فهذا اسمه - في نظر الحاقدين - تأخر وانحطاط وهمجية، فهل رأيتم أغرب وأعجب من ذلك؟!

وملخص القول: أن الإسلام جاء فرأى وضعا راهنا للرق والرقيق، وضع خطة لإلغائه، إذ لم يجعل له مصدرا إلا الحرب المشروعة. وما لبث أن حدد الشرع الدائم لمصير الأسرى بأحد أمرين اثنين: "المن أو الفداء". فنبه بذلك على أن الاسترقاق في وضعه الضيق الآنف، لم يكن إلا تشريعا عمليا مؤقتا لا عموم له. جاء في ظروف خاصة، لغرض خاص، إذ كان الاسترقاق أمرا عالميا دوليا، يجري به التعامل والعرف الحربي. فمن أبلغ الفساد وأبين الضرر ومجافاة الحكمة والرحمة جميعا - أن يطلق المسلمون الأسرى من عدوهم في الوقت الذي يسترق فيه عدوهم الأسرى منهم.

إن صنيع الإسلام الذي أوجبه قبل أربعة عشر قرنا - غاية ما تستطيعه دول الحضارة اليوم في إنصاف أسراها وأسرى أعدائها، أما أن يكون لها صنيع أكرم منه فلا ندري كيف يكون، ولا كيف يتأتى لنظام من النظم الدولية أن يستقر عليه[25]؟!!

في أقل من خمسين سنة نقل النخاسون الغربيون جموعا من العبيد السود يبلغ عدد الباقين من ذريتهم - بعد القتل والاضطهاد - نحو خمسة عشر مليونا في الأمريكتين، وهذا عدد يضارع خمسة أضعاف ضحايا النخاسة في القارات الثلاث منذ أكثر من ألف سنة، وهو فارق جسيم بحساب الأرقاء، يكفي للإبانة عن الهاوية السحيقة في التجربة العملية بين النخاستين.

ولكنه فارق هين إلى جانب الفارق في حظوظ أولئك الضحايا بين العالم القديم والعالم الجديد، فإن في الأمريكتين إلى اليوم أمة من السود معزولة بأنسابها وحظوظها وحقوقها العملية، وليس في بلد من بلاد الشرق أمة من هذا القبيل؛ لأن الأسود الذي ينتقل إليها يحسب من أهلها بعد جيل واحد، له ما لهم وعليه ما عليهم، بغير حاجة إلى حماية من التشريع، أو نصوص الدساتير.

ولم يخل التاريخ من أوربي منصف متحرر جريء، إذ يصف "فان دنبرغ" معاملة الإسلام للرقيق فيقول: "لقد وضعت للرقيق في الإسلام قواعد كثيرة تدل على ما كان ينطوي عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه نحوهم من الشعور الإنساني النبيل، ففيها نجد من محامد الإسلام ما يناقض كل المناقضة الأساليب التي كانت تتخذها إلى عهد قريب شعوب تدعي أنها تسير في طليعة الحضارة".

"إن مسألة الرق تصلح للدعاية الواسعة بين الناشئة الإسلامية والأمم الأفريقية التي تتحرر من قيودها وتلتمس سبيلها إلى عقيدة مثلى وحضارة تصلح لها، وتخاطبها بما يقنعها، ولكنها دعاية للإسلام وليست بالدعاية التي يحارب بها الإسلام.. فإذا انعكست الآية، وذهب بها سماسرة المادية والتبشير مذهب الحملة الشعواء على الإسلام، بمسمع ومشهد المسلمين، فمن ذا يلام على ذلك غير أولئك المسلمين".

"لقد ظل صوت الإسلام ينادي حتى استجاب له العالم بعد عدة قرون من تشريعه الحكيم، وإن زوال الرق هو أحد الهدايا التي قدمها الإسلام للإنسانية "[26].

الخلاصة:

  • إن نظام الرق في الإسلام صفحة مشرقة في تاريخ البشرية، ومفخرة عظيمة في سجل الإنسانية، فلقد سعى الإسلام إلى تحرير الرقيق بشتى الوسائل الإيجابية والمبادئ التشريعية، وجفف منابع الرق القديمة كلها؛ لكي لا تتجدد، ولم يبق منها إلا على منبع واحد هو منبع استرقاق الحرب إذا كانت حربا شرعية، وهذا المنبع لم يجففه لضرورة حربية، قد لا يجد بدا من اللجوء إليها ولمصلحة اجتماعية قد يرى الخير في تحقيقها لكونه يتعلق بدول وأقوام لا سلطان للإسلام عليهم، ويتعلق بمصلحة أمة يجلب الخير والنفع لرجالها ونسائها على السواء.
  • من عظمة التشريع الإسلامي في نظام الرق أنه خول إمام المسلمين صلاحية واسعة في أن يختار واحدا من ثلاثة أمور في معاملة أسرى الحرب؛ إما المن أو الفداء أو القتل، وبناء على هذا يمكن أن يصطلح الإمام مع دول العالم على منع استرقاق الأسرى في الحروب كلها، كما اصطلح محمد الفاتح مع دول عصره في إنهاء الرقيق.
  • من مبادئ الإسلام الكبرى التي قررها بصراحة كاملة: الحرية للجميع، والمساواة للجميع، وحقوق الكرامة الإنسانية مكفولة للجميع!
  • سبق الإسلام إلى تحرير الرقيق بمبادئه النظرية و تطبيقه العملي الإلزامي، قبل أن تنجح الثورة الفرنسية في تحرير الرق في أوربا، وقبل أن يتشدق "إبراهام لنكولن" بتحرير الرق في أمريكا، وقبل أن تعلن "هيئة الأمم" مبادئ حقوق الإنسان في العالم.
  • لقد وصل الإسلام في حسن المعاملة ورد الاعتبار الإنساني للرقيق إلى درجة عجيبة، دلت عليها آيات القرآن وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء ذلك جليا في التطبيق الواقعي في الدولة الإسلامية، والتاريخ خير شاهد.
  • لقد كان من فضائل الإسلام الكبرى في مسألة الرقيق - أنه حرص على التحرير الحقيقي له من الداخل والخارج، فلم يكتف بالنية الطيبة كما فعل "لنكولن" بإصدار تشريع لا رصيد له في داخل النفوس، مما يثبت عمق إدراك الإسلام للطبيعة البشرية، وفطنته إلى خير الوسائل لمعالجتها.
  • أين تطابق فعل المسيحية التي أقرت الرق ولم تعترض على وجود العبودية لا من وجهها السياسي أو الاقتصادي، وبين الإسلام الذي شجع الناس على طلب الحرية وهيأ الوسائل لهم حتى ينالوها؟!

 

(*) الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر، دمشق، ط6، 1425هـ/ 2004م. افتراءات على الإسلام والمسلمين، د. أمير عبد العزيز، دار السلام، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2002م.

[1]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر، دمشق، ط6، 1425هـ/ 2004م، ص193.

[2]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر، دمشق، ط6، 1425هـ/ 2004م، ص186:180 بتصرف. وانظر أيضا: شبهات حول الإسلام، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط23، 1422هـ/ 2001م، ص39: 43.

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك (30)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (4405).

[4]. سماحة الإسلام، د. عمر بن عبد العزيز قريشي، مكتبة الأديب، السعودية، المكتبة الذهبية للنشر والترجمة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص333،332.

[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن (5703).

[6]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب الإيمان (207)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (51).

[7]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب صحبة المماليك وكفاءة من لطم عبده (4388).

[8]. سماحة الإسلام، د. عمر بن عبد العزيز قريشي، مكتبة الأديب، السعودية، المكتبة الذهبية للنشر والترجمة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص197،196.

[9]. حسن: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب في فضل الشام واليمن (3955)، والبزار في مسنده، مسند حزيمة بن اليمان (2938)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (3955).

[10]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (23536)، والطبراني في الأوسط، باب العين، من اسمه عبد الرحمن (4749)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2700).

[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكبها إلا بالشرك (30)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (4405).

[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله: عبدي وأمتي (2414)، ومسلم في صحيحه، كتاب الألفاظ من الأدب، باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد (6011).

[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك (30)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يقلبه (4405).

[14]. شبهات حول الإسلام، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط23، 1422هـ/ 2001م، ص41: 44.

[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب إثم من باع حرا (2114)، وفي موضع آخر.

[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب كفارات الإيمان، باب يعطى في الكفارة عشرة مساكين قريبا كان أو بعيدا (6333)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم ووجوب الكفارة (2651).

[17]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب صحبة المماليك وكفاءة من لطم عبده (4388).

[18]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث عقبة بن عماد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم (17364)، والنسائي في سننه الكبرى، كتاب ما قذفه البحر، باب ذكر الاختلاف على سليم بن عامر فيه (4886)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2611).

[19]. صحيح: أخرجه أبو يعلى في مسنده، من مسند أبي سعيد الخدري (1044)، وابن حبان في صحيحه، كتاب الصلاة، باب صلاة الجمعة (2771)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1023).

[20]. افتراءات على الإسلام والمسلمين، د. أمير عبد العزيز، دار السلام، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2002م، ص41: 45.

[21]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب إثم من باع حرا (2114).

[22]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المرضى، باب وجوب عيادة المريض (5325)، وفي موضع آخر.

[23]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوكالة، باب إذا وهب شيئا لوكيل أو شفيع قوم جاز (2184)، وفي مواضع أخرى.

[24]. شبهات حول الإسلام، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط23، 1422هـ/ 2001م، ص47: 50. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر، دمشق، ط6، 1425هـ/ 2004م، ص187،186.

[25]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص222.

[26]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر، دمشق، ط6، 1425هـ/ 2004م، ص199:197.

  • الاحد AM 03:07
    2020-11-22
  • 1026
Powered by: GateGold