المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413424
يتصفح الموقع حاليا : 249

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء أن الإسلام يبيح الغدر والخيانة ويدعو إلى نقض العهود والمواثيق

                        ادعاء أن الإسلام يبيح الغدر والخيانة ويدعو إلى نقض العهود والمواثيق(*)

مضمون الشبهة:

زعم بعض المغالطين أن الإسلام يبيح الغدر والخيانة ويدعو إلى نقض العهود والمواثيق؛ إذ يجيز نبذ الدولة المسلمة العهود ونصرة المسلمين المستضعفين، إذا اعتدى الكفار المعاهدون لهذه الدولة المسلمة على هؤلاء المستضعفين.

وجها إبطال الشبهة:

1) حرص الإسلام حرصا شديدا على إلزام أتباعه بالوفاء بالعهود والمواثيق، ما وفي بها الأخرون والتزموا، فإن نقضوا أو هموا بالنقض نبذنا إليهم عهدهم.

2) المسلمون أمة عقيدة، وهم أمة واحدة كالجسد الواحد، وإيذاء عضو منه إيذاء لجميعه،والإسلام يوجب على المسلم نصرة المظلوم غير المسلم، أفلا يوجب عليه نصرة أخيه المسلم المظلوم؟!

التفصيل:

أولا. حرص الإسلام على الوفاء بالعهود والمواثيق:

أكدت تعاليم الإسلام على الوفاء بالعهود والمواثيق تأكيدا شديدا، وجعلت من ألزم صفات المؤمن الصادق أنه إذ وعد أوفى وإذا عاهد صدق، وبالمقابل نعتت المنافق بأنه إذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر.

في هذا المعنى يقول د. محمود محمد الطنطاوي: " لقد جعل الإسلام حفظ العهود وصيانتها شيئا مقدسا على المسلمين، والقرآن الكريم والسنة النبوية فيهما من الآيات والأحاديث ما يؤكد حفظ العهود والمواثيق التي تجعل منها عقدا محترما مقدسا، يقول الله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود( (المائدة:1)، ويقول: )وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون (91) ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون (92)( (النحل)، ويقول: )إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (4)( (التوبة)، ويقول: )وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق( (الأنفال:72).

فكل هذه الآيات تؤكد الوفاء بالعهود وتحث المسلمين على عدم نقضها، وتخرج من المشركين من عاهدهم المسلمون فلا يصح لهم أن يتعرضوا لهم بشيء من أنواع الإيذاء؛ لأن للعهد حرمته، وللغدر عقوبته ومعرته، والإسلام حريص على أن يكون المسلمون شرفاء في وعدهم، فالمؤمن عند وعده يفي به، ولا يكون من الغادرين.

والسنة النبوية الشريفة فيها كثير من الأحاديث التي تحث على الوفاء بالعهود والتزام الشروط، ولتقرأ قول محمد صلى الله عليه وسلم: «لكل غادر لواء يوم القيامة، يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة».([1]) وقوله:«من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما». ([2]) وقوله: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل»([3]).

وكل هذه الأحاديث تؤكد حفظ المسلمين العهود واحترامها، وتحرم الغدر والخيانة، ولا تبيح لهم أن يؤذوا المعاهدين إلا إذا خافوا الغدر منهم، فيجوز لهم أن ينبذوا إليهم عهدهم، لقوله عز وجل: )وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (58)( (الأنفال).

ولا بد من إعلام أعداء المسلمين بالنبذ، كما حدث في حجة أبي بكر رضي الله عنه: «عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر - رضي الله عنه - فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان». ([4]) ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر - رضي الله عنه - إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مشرك.

وفي مثل هذا يقول البلاذري: إن الروم صالحت معاوية على أن تؤدي إليه مالا، وارتهن معاوية منهم رهناء فوضعهم ببعلبك، ثم إن الروم غدرت، فلم يستحل معاوية والمسلمون قتل من في أيديهم من رهنهم وخلوا سبيلهم وقالوا: وفاء بغدر خير من غدر بغدر.

والمسلمون في العصر الحديث لم يغدروا، وإنما كان الغدر شيمة الأعداء، فرضت الهدنة وأوقف القتال بين المسلمين العرب وإسرائيل في فلسطين المحتلة، ولم يغدر المسلمون العرب أبدا بل كان الغدر دائما من جانب اليهود، وكذلك الحال في الجزائر المجاهدة الظافرة، عقد الجزائريون الهدنة وحافظوا عليها ولم يغدروا، وإنما كان الغدر من الفرنسيين، وإن كان مقنعا تحت اسم منظمة الجيش السري الفرنسي.

وبالمقابل، يعد الإسلام الغدر في العهد من علامات المنافقين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أربع خلال من كن فيه كان منافقا خالصا: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها»([5]).

فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية المذكورة وسير الصحابة تدل على أن الإسلام يحافظ على السلام وينادي به، ويكفل للمعاهدين الأمن والطمأنينة والسلام([6]).

لكن هل هذا الوفاء مطلق لا استثناء فيه، أم أنه يجوز في حالات معينة أن ننبذ للأعداء عهدهم؟ إليك الجواب:

ثانيا. المسلمون أمة واحدة كالجسد الواحد، يتداعى لبعضه بعضه الآخر: 

يصور الحديث النبوي المشهور الجماعة المسلمة، ومن ثم الأمة الإسلامية، بالجسد الواحد الحي، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وبناء عليه فإن أي شر أو عدوان يصيب جزءا من دار الإسلام أو جماعة من أمة الإسلام، من المتوقع أن يحرك البقية لدفع هذا العدوان عن جزئها المضار المعتدى عليه، حتى لو كان بين هذه البقية وبين العدو المعتدي عهد وميثاق، فإن تصديها له ودفاعها عن إخوانها لا يعد نقضا للعهود والمواثيق، إذ المسلمون - برابطة العقيدة بينهم - كالجسد الواحد إن أصيبت منه القدم تتألم له الرأس والعكس، فالخصم المعتدي في هذه الحالة - هو من نبذ العهد ونقض الميثاق باعتدائه على جماعة من المسلمين، ولا يحتج هنا بأن هذه جماعة وتلك جماعة أخرى غيرها، فالكل في الأصل جماعة واحدة، التناصر واجب فيما بينها.

وحول هذا الموضوع أدار الأستاذ النحاس نقاشا مطولا، جاء فيه: " ومن الشبهات المهمة... أنه إذا كان بين إحدى بلاد المسلمين وبين الكفار عهد وميثاق، ثم اعتدوا على بلد مسلم آخر، فلا يلزم الدولة التي بينها وبين الكفار عهد نصرتها، وذلك لقوله عز وجل: )وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق( (الأنفال: 72).

ثم يناقش الباحث هذه القضية، قائلا: " أوجه نقض الاستدلال بقوله عز وجل: )وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق( (الأنفال: 72) على ترك نصرة المؤمنين:

الوجه الأول: أن ترك نصرة المسلم على من كان بيننا وبينه ميثاق وعهد، إنما فقط في حق من كان في دار الحرب ولم يهاجر إلى المسلمين.

والدليل على ذلك: قوله عز وجل: )إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير (72)( (الأنفال).

والتأويل السابق من أوضح ما يكون في الآية، وهو أن الذين يستنصروننا على الكفار، هم الذين آمنوا ولم يهاجروا، وقد ذكر التأويل للآية جمع كبير من أهل التأويل، قال الطبري: يعني بقوله عز وجل: )والذين آمنوا( الذين صدقوا بالله ورسوله )ولم يهاجروا( قومهم الكفار، ولم يفارقوا دار الكفر إلى دار الإسلام، )ما لكم( أيها المؤمنون بالله ورسوله المهاجرون قومهم المشركين أرض الحرب )من ولايتهم( يعني: من نصرتهم وميراثهم من شيء حتى يهاجروا قومهم ودورهم من دار الحرب إلى دار الإسلام، )وإن استنصروكم في الدين( يقول: إن استنصركم هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا )في الدين( يعني: بأنهم من أهل دينكم على أعدائكم وأعدائهم من المشركين، )فعليكم( أيها المؤمنون من المهاجرين والأنصار )النصر(، إلا أن يستنصروكم )على قوم بينكم وبينهم ميثاق( يعني: عهد، وقد وثق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه.

ويرى القرطبي أن قوله عز وجل: )وإن استنصروكم في الدين( يريد: إن دعا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم. فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم، إلا أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق، فلا تنصروهم عليهم ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته.

ويذكر الرازي أن هؤلاء المؤمنين الذين لم يهاجروا لو استنصروكم فانصروهم ولا تخذلوهم قال عز وجل: )إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق(، والمعنى أنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم، إذ الميثاق مانع من ذلك.

ويوضح ابن كثير أن الصنف الثالث من المؤمنين، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا، بل أقاموا في بواديهم، فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب ولا في خمسها، إلا ما حضروا فيه القتال، وإن استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني على عدو لهم فانصروهم فإنه واجب عليكم نصرهم، لأنهم إخوانكم في الدين، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق، أي مهادنة إلى مدة، فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم.

يتبين مما سبق أن الآية قررت وجوب نصرة المسلمين لإخوانهم إذا اعتدى عليهم الكفار؛ لأنهم أولياء بعض، ولكن الآية قسمت المسلمين الذي يجب نصرعم إلى طائفتين:

الأولى: )الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله( (الأنفال:٧٢)، وهؤلاء يجب نصرهم في كل حال إذا اعتدى عليهم الكفار سواء كان بين المسلمين وهؤلاء الكفار عهد وميثاق، أو لم يكن.

الثانية: الذين آمنوا ولكنهم لم يهاجروا... وهؤلاء تجب على المسلمين نصرتهم إذا استنصروهم في الدين، وذلك مشروط بألا يكون الاستنصار على قوم بين المسلمين وبين عهد وميثاق.

الوجه الثاني: أن آية عدم النصرة منسوخة بقوله عز وجل: )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض( (التوبة: ٧١). كما أن عدم التوارث بالنسب لمن لم يهاجر منسوخ أيضا بقوله عز وجل: )وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض( (الأنفال: ٧٥).

قال الجصاص: "وقيل إنه أراد نفي إيجاب النصرة، فلم تكن حينئذ على المهاجر نصرة، من لم يهاجر إلا أن يستنصر فتكون عليه نصرته إلا على من كان بينه وبينه عهد فلا ينقص عهده، وليس يمتنع أن يكون نفي الولاية مقتضيا للأمرين جميعا من نفي التوارث والنصرة، ثم نسخ نفي الميراث بإيجاب التوارث بالأرحام مهاجرا كان أو غير مهاجر، وإسقاطه بالهجرة فحسب، ونسخ نفي إيجاب النصرة بقوله عز وجل: )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض(.

وقاله ابن العربي أيضا: "وأما قوله عز وجل: )والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا( (الأنفال: ٧٢)، فإن ذلك عام في النصرة والميراث، فإن من كان مقيما بمكة على إيمانه، لم يكن ذلك معتدا له به ولا مثابا عليه حتى يهاجر، ثم نسخ الله ذلك بفتح مكة، والميراث بالقرابة سواء كان الوارث في دار الحرب أو في دار السلام؛ لسقوط اعتبار الهجرة بالسنة".

وذكره ابن الجوزي: قال تعالى: )ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا( (الأنفال:٧٢) ذهب قوم إلى أن المراد بهذه الولاية موالاة النصر والمودة، قالوا: ونسخ هذا بقوله: )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض(.

فكيف يمكن الاستدلال بقوله عز وجل: )ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا( (الأنفال: ٧٢) على ترك نصرة المؤمنين في دار السلام؟

الوجه الثالث: أن ترك النصرة في جهاد الطلب للكفار فقط، أما جهاد الدفع - عندما يعتدي الكفار على المسلمين - فإنه يجب نبذ العهد ونصرة المسلمين المستضعفين. قال السعدي: )والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا(، فإنهم قطعوا ولايتكم بانفصالهم عنكم في وقت شدة الحاجة إلى الرجال، فلما لم يهاجروا لم يكن لهم من ولاية المؤمنين شيء، لكنهم )وإن استنصروكم في الدين( أي لأجل قتال من قاتلهم (فعليكم النصر والقتال معهم)، وأما من قاتلوهم لغير ذلك من المقاصد، فليس عليكم نصرهم، وقوله عز وجل: )إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق( أي عهد بترك القتال فإنهم إذا أراد المؤمنون المتميزون الذين لم يهاجروا قتالهم فلا تعينوهم عليهم لأجل ما بينكم وبينهم من الميثاق.

وقال السيوطي: عن قتادة في قوله: )وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق( قال: نهي للمسلمين عن أهل ميثاقهم، فوالله لأخوك المسلم أعظم عليك حرمة وحقا يعني - والله أعلم - أنه إذا اعتدى أهل الميثاق على المسلمين، فإن حرمة المسلم أعظم وأشد من حرمة الميثاق الذي نقضوه باعتدائهم على المسلمين.

 والآية تتحدث عن المسلمين في دار الحرب ولم تذكر شيئا عن المسلمين في دار الإسلام؛ فإننا معشر المسلمين لا يجب علينا نصرة المسلمين المقيمين في دار الحرب، ولم يهاجروا إلى دار الإسلام على من بيننا وبينهم ميثاق وعهد، إذا بدأ المسلمون القتال. وذلك لأنه لا يجوز نصرة غيرنا من المسلمين في قتالهم للكفار - الذين بيننا وبينهم عهد - ابتداء، وهو جهاد الطلب، لقوله عز وجل: )إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (4)( (التوبة)، وقال عز وجل: )إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين (7)( (التوبة)، وقال عز وجل: )وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (58)( (الأنفال). فإنما أباح النبذ عند ظهور أمارات الخيانة لأن المحذور من جهتهم، وقال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2)( (الصف).

وأما إذا اعتدى الكفار المعاهدون على إخواننا المسلمين وانتهكوا حرماتهم وأعراضهم وقتلوا أطفالهم ونساءهم واغتصبوا أموالهم، فإن نبذ العهد ونصرة إخواننا المستضعفين - سواء كانوا في دار الإسلام أو في دار الحرب - واجبان عقلا وشرعا. والأدلة على ذلك كثيرة. يستعرضها الأستاذ النحاس الأدلة الشرعية على جواز نبذ العهد ونصرة إخواننا المستضعفين من القرآن والسنة إلى أن يصل إلى قصة فتح مكة، فيقول: هادن النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشا ودخلت خزاعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخلت بنو بكر مع قريش، فعدت بنوبكر على خزاعة، وأعانهم نفر من قريش، فكان ذلك نقض عهدهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فسار إليهم وفتح مكة.

وذكر ابن القيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هديه وسنته إذا صالح قوما وعاهدهم، فانضاف إليهم عدو له سواهم فدخلوا معه في عقده، صار حكم من حارب من دخل معه في عقده من الكفار حكم من حاربه.

يتبين مما سبق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتبر الاعتداء على كفار معاهدين للمسلمين نقضا للعهد مع المسلمين، فكيف إذا كان الاعتداء على المسلمين، مما يؤكد أن الاعتداء على إحدى الدول الإسلامية أو المظاهرة عليها هو نقض للعهد مع كل الدول الإسلامية.

ولقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضا عن خذلان المؤمن لأخيه، ولا خذلان أعظم من ترك نصرة المؤمنين، ورفض تقديم العون والمدد لهم إذا استباح الكافرون ديارهم وأرضهم وأعراضهم وأموالهم، ذلك لأن من واجبات الأخوة بين المؤمنين أن ينصر بعضهم بعضا. جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولصلى الله عليه وسلم: «كونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله».([7]) والخذلان: ترك الإعانة والنصر، ومعناه: إذا استعان به في دفع أي ضر أو جلب أي نفع أعانه.

ومن الأحاديث التي تؤكد حرمة المؤمن وحرمة خذلانه، وأن الجزاء من جنس العمل، فمن ينصر أخاه المؤمن ينصره الله - عز وجل - في الدنيا والآخرة، ومن يخذل أخاه المؤمن ويتهاون في نصرته ويتركه ذليلا بين أعدائه، كان حقا على الله - عز وجل - أن يخذله في الدنيا والآخرة، وأن يذله يوم العرض والحساب على رؤوس الأشهاد، نقول: من هذه الأحاديث ما جاء عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته»([8]).

هذه النصوص العامة تحث بقوة على تلاحم المسلمين وترابطهم وعلى تناصرهم وتعاونهم على عدوهم.

قال ابن حزم الظاهري: "إن نزل العدو بقوم من المسلمين ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثا لهم". وقال أيضا: "واتفقوا أن دفاع المشركين وأهل الكفر عن بيضة أهل الإسلام وقراهم وحصونهم وحريمهم إذا نزلوا على المسلمين - فرض على الأحرار البالغين المطيقين".

والعاقل يعلم أن أطماع أعداء الإسلام لا تنتهي، وكما أنهم يريدون السيطرة على تلك البلدة المسلمة التي يهاجمونها، فهم يريدون السيطرة على جميع بلاد المسلمين، ولكنهم فقط يتحاشون مواجهتها جميعا، ويعملون على مواجهة كل بلد بمفرده. فإذا لم ينبذ المسلمون العهد نصرة لإخوانهم من المسلمين المستضعفين، فإنهم سينبذون العهد ويهاجمونهم بلدا بلدا بعدما يفرعون من البلد الأول...

  ونحن نتساءل: هل مقتضى تفرق الدولة الإسلامية إلى دول متعددة تنفرد كل دولة بسلطة مستقلة، أن لا يكون بين هذه الدول عهد أبدي بمقتضى القرآن والسنة أن تلتزم بنصرة بعضها إذا وقع اعتداء؟ وهل مقتضى تفرق الدولة الإسلامية إلى دول متعددة تنفرد كل دولة بسلطة مستقلة، أن لا يشترط في أي عهد مع الكفار أن لا يعتدى على المسلمين في أي مكان، وأن هذا يوجب نقض العهد على الفور؟

وهل يقتضي تفرق الدولة الإسلامية إلى دول متعددة تنفرد كل دولة بسلطة مستقلة - أن ينظر كل بلد منهم إلى مصلحته الخاصة المظنونة، ويتجاهل المصلحة العامة للأمة الإسلامية؟ وهل من العقل أن تعقد كل دولة إسلامية معاهدة منفردة مع الدول الكافرة، فتنقض الدولة الكافرة عهدها بأي حجة من الحجج مع إحدى الدول الإسلامية وتغزوها، ثم تلتزم الدول الإسلامية الأخرى بالمعاهدة ولا تنقضها، ولا تنصر المسلمين المستضعفين في الدولة التي هاجمها، ثم يبدأ الكفار مع دولة ثانية وثالثة ورابعة وهكذا، ولا تنقض تلك المعاهدات ولا ينصر المسلمون إخوانهم في العقيدة والدين والمصير المشترك([9])؟!

الخلاصة:

  • أوصى الإسلام أتباعه بالحرص الشديد على الوفاء بالعهود والمواثيق، فهم أصحاب مبدأ ما وفي بها الآخرون والتزموا، فإن هم نقضوا أو هموا بالنقض نبذنا إليهم عهدهم غير آثمين ولا متحرجين؛ لأنه ليس من المعقول أن نقف مكتوفي الأيدي معرضين أنفسنا للخطر متفرجين على العدو وهو يؤذينا، ونحن لا نرفع في وجهه إصبعا، حرصا على الوفاء بعهد نبذه هو سلفا، ولم يرع حقه.
  • المسلمون في هذا الشأن أمة عقيدة، وهم أمة واحدة كالجسد الواحد، وإيذاء عضو منه إيذاء لجميعه، ومن ثم يوجب الإسلام على المسلم نصرة أخيه المسلم المظلوم المعتدى عليه ونبذ عهد المعتدى، لأن هذا المعتدى قد نبذ العهد سلفا بالاعتداء على أخيه المسلم. وإذا كان هذا الدين يحرض المسلم على نصرة المظلوم غير المسلم، أفلا يوجب عليه نصرة أخيه المسلم الذي تربطه به العقيدة الإسلامية، والتي هي أهم وأعز ما لدى المسلم، إذ بها تحصل الأخوة الإسلامية، وقد أوجب الإسلام على كل مسلم نصرة أخيه المسلم وعدم خذلانه، قال ابن حزم: " إن نزل العدو بقوم من المسلمين، ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثا لهم"؟!
  • يبلغ حرص الإسلام على الوفاء بالعهد أنه إذا هاجم جماعة من المسلمين غير مقيمين بدار الإسلام قوما غير مسلمين، بينهم وبين طرف ثالث مسلم عهد وميثاق، فإن على هذا الطرف الثالث المسلم البقاء على عهده مع غير المسلمين وعدم مهاجمتهم مع إخوانهم المسلمين. أما إذا تعرض هؤلاء المسلمون الأولون غير المقيمين بدار الإسلام، لهجوم غير المسلمين المعاهدين للطرف الثالث المسلم، فعلى هذا الطرف الثالث نبذ عهدهم إليهم وإعانة إخوانه عليهم. أي أن نصرتهم واجبة في جهاد الدفع لا في جهاد الطلب.
  • ترك نصرة المؤمنين الذين لم يهاجروا إلى دار الإسلام قد نسخ بقوله عز وجل: )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض( (التوبة: ٧١)، فكيف يمكن الاستدلال بقوله عز وجل: )وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق( (الأنفال: ٧٢). على ترك نصرة المؤمنين في دار السلام؟
  • العاقل يعلم أن العدو لا تنتهي أطماعه، ويريد السيطرة على جميع بلاد المسلمين، فإذا لم ينبذ المسلمون العهد نصرة لإخوانهم من المسلمين المستضعفين ضد هذا العدو المعتدي، فإن هذا العدو سينبذ العهد ويهاجمهم بلدا بلدا بعد ما يفرغ من البلد الأول، فهل يقف المسلمون متفرجين والعدو يعمل فيهم السيف ثم لا يتحركون؟

 

 

 

(*) التعاون والاشتراك في جيوش غير المسلمين، محمد السعيد النحاس، دار التقوى، القاهرة، 1427هـ/ 2006م.

[1]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر (4636).

[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب الجزية والموادعة، باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم (2995)، وفي موضع آخر.

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب الجزية والموادعة، باب إثم من عاهد ثم غدر (308)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي فيها بالبركة (3394)، دون لفظ: ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم.

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب الصلاة في الثياب، باب ما يستر العورة (362) وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (3353).

[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب الجزية والموادعة، باب إثم من عاهد ثم غدر (3007)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق (219).

[6]. السلام والحرب في الشريعة الإسلامية: دراسة مقارنة، محمود محمد طنطاوي، مصر، د. ن، د. م، ط1، 1416هـ/ 1996م، ص152: 154.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإكراه، باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه (6551) بنحوه، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله (6706) واللفظ له، وفي موضع آخر بنحوه.

[8]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المدنيين وحديث أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم (16415)، وأبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب من رد عن مسلم غيبة (4886)، وحسنه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (10627).

[9]. التعاون والاشتراك في جيوش غير المسلمين، محمد السعيد النحاس، دار التقوى، القاهرة، 1427هـ/ 2006م، ص229: 254 بتصرف.

 

  • الاحد AM 03:01
    2020-11-22
  • 1173
Powered by: GateGold