المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409161
يتصفح الموقع حاليا : 362

البحث

البحث

عرض المادة

دعوى غياب البرامج التفصيلية من المنظور الإسلامي

                                   دعوى غياب البرامج التفصيلية من المنظور الإسلامي(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغرضين أن المنادين بالحل الإسلامي إنما يعوزهم وجود برنامج تفصيلي لما يدعون إليه، وهو ما يعني أن توليتهم إدارة مجتمع أو دولة يوازيه دخول في مرحلة تجريب طويلة، يختبرون فيها ما بين أيديهم من تصورات منتقصة لم تعمل في الحياة الحديثة من قبل، وأن السماح بمثل هذا هو الذي دفع بالمجتمع كله إلى متاهة لا مخلص منها. والذي يراد من وراء هذا أن يبقى الإسلام بمعزل عن الحياة العامة.

وجوه إبطال الشبهة:

1)   طبيعة المرحلة الزمنية تقتضي أن يعرض دعاة الحل الإسلامي منهجا عاما لا تفصيل فيه.

2)   المنهج الإسلامي تراث واسع من الاجتهادات الفقهية يشكل كثيرا من نواحي الحياة.

3)   حاول بعض المعاصرين تقديم تصورات تفصيلية عن المنهج الإسلامي.

4)   كثيرا ما يخفي الاعتراض على الحل الإسلامي موقفا خاصا من الدين الإسلامي بجملته.

التفصيل:

أولا. طبيعة المرحلة الزمنية هي التي تفرض وجود منهج إجمالي ورؤى كلية:

إن الفكرة الإسلامية لم تزل بجملتها في طور الدعوة التي لا يعززها تمكين إداري أو سياسي، وهذا التمكين هو ضرورة للتصورات الفكرية العامة حتى تظهر طاقتها على مقابلة النوازل بتشريع يلائمها، وعلى تنمية نفسها بالإفادة من أوجه القصور في التطبيق. وأما معالجة الأوضاع القائمة قبل تمكين المنهج، فهو اقتراح يستند إلى خطأ في فهم ذلك المنهج وحقيقته.

ذلك أن التصور الفكري العام هو شيء آخر غير التعديلات الجزئية، أو الاستدراكات البسيطة على الأوضاع القائمة، إنه يبدأ بالفرد البشري - وهو صانع المجتمع ومحدد مشكلاته - فيعيد تشكيل تكوينه النفسي والفكري، ويعدل فكرته عن الرقابة عليه، وعمن يوكل إليه الجزاء والحساب، وعمن يقصد إليه بالعمل الصالح، والسعي في الأرض؛ ذلك كله موكول إلى الله وحده، وهذا كالنشأة الجديدة للإنسان التي من شأنها أن تسقط شيئا كثيرا من مشكلاتنا الاجتماعية، التي يسببها الفساد في العنصر البشري.

ولا يعني هذا أن الحل الإسلامي ينزع عن المجتمع الحالي إيمانه بهذه العقائد، أو يشكك في ذلك الإيمان، وإنما هو يرفعه ويؤكده، ولا يزال يلتمس إلى نشره السبل حتى يمسي في الناس ثقافة عامة تشاهد في حالهم قبل أن تسمع من أفواههم.

حتى إذا اتجه المنهج - من بعد - إلى إعمال ما عنده من مبادئ في الاقتصاد أو السياسة، فإنه لا يسوغ أن يتنبأ بالموقف الذي ستقفه المؤسسات الداخلية والخارجية، ولا بالعقبات التي يواجهها، ولا بالحلول التي سيتخذها من باب الأولى؛ لأن ذلك كله إنما يحدده التطبيق العملي والممارسة للسلطة واتخاذ القرار، وأما ما قبل ذلك فليس إلا احتمالات وظنونا وفروضا هي فاقدة القيمة منذ البدء؛ لأنها تعالج أمرا غير واقع.

فبدا - من بعد ذلك كله - أن المنهج الإسلامي في الإصلاح أقصاه في هذه المرحلة أن يعرض كلياته وهديه العام في جوانب الحياة المختلفة، ويترك أمر التفاصيل إلى حين ينفع تحديد التفاصيل ويجدي في الحياة.

ثانيا. سعة التراث التشريعي للمنهج الإسلامي:

إن القائلين بالحل الإسلامي يمتلكون في ميدان العمل العام، والتصدي للقضايا المجتمعية، واقتراح الحلول لها - تراثا هائلا سجل تحت بند المعاملات في المراجع والموسوعات الدينية، بالإضافة لبندي العقائد والعبادات، فالدين المعاملة[1]، وتحت هذا البند يندرج تراث العلماء المجتهدين في تاريخ الأمة على مر عصوره، والحلول التي اقترحوها بما عاصروه من قضايا ومشكلات، يبني اللاحق منهم على جهود السابق، ويضيف إليها حتى تراكم لدينا هذا التراث الاجتهادي الفقهي الضخم، القابل للزيادة والتضخم والاتساع على مر الزمان.

في هذا الإطار - ولمزيد من الضبط والإيضاح - نورد كلاما دقيقا للدكتور محمد بلتاجي حسن يقول فيه: "النصوص الدينية محدودة ومتناهية، ووقائع الحياة وأحداثها تأتي كل يوم بجديد، فليست إذن محدودة أو متناهية؛ فإن أحداث الحياة المتجددة تقدم لنا كل يوم مشكلات واقعية، تحتاج كل منها إلى تشريع، والنصوص الدينية لم تأت بتشريعات مفصلة لكل تلك المشكلات، ولما كنا نؤمن بأن الإسلام عقيدة ونظام للحياة، وأنه يجب علينا أن نتلمس في نصوصه وأصوله ومقاصده كل التشريعات التي تنظم حياتنا، فإن هذا سوف يقودنا بالضرورة إلى فكرة الجهد العقلي العظيم، الذي يواجه المستنيرين وقادة الفكر الإسلامي في كل جيل لاستنباط تشريعات تفصيلية مستوحاة من نصوص التشريع في القرآن والسنة، ومن روحه وأهدافه العامة.

على أن هؤلاء الدارسين والمجتهدين يواجهون أنواعا من المشكلات تنحصر في ثلاث مجموعات هي:

  1. مسائل لم ترد فيها نصوص خاصة من القرآن والسنة، وإن أحاطت بها نصوص عامة على نحو ما.
  2. مسائل حدثت نظائرها أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ظروف خاصة، واقتضت نظائرها تشريعات معينة وردت بها نصوص، ثم إن هذه الظروف الخاصة قد تغيرت بعد الرسول، ومن هنا وجب أن ينظر في تطبيق هذه النصوص نظرة نافذة تتحرى مقاصد التشريع ومصالح الناس معا. وهذا يحتاج إلى جهد عقلي يكون مجاله الملاءمة بين النصوص الدينية التي لا يستطيع أحد إلغاءها أونسخها، والظروف الجديدة التي لا يستطيع أحد تجاهلها، بحيث تؤدي إلى تحقيق مصالح الناس مع الحفاظ على مقاصد التشريع.
  3. مسائل وردت فيها نصوص متعددة متناقضة في ظاهرها، أو غامضة من حيث المراد منها، فتحتاج حينئذ إلى جهود متعددة في البحث عن درجة ثبوت بعض نصوصها، وتحديد المراد من بعضها الآخر، بما يدفع كل تناقض أو غموض.

ومن هنا نرى أن فكرة الجهد العقلي تقابلنا في كل ما يتصل بالتشريع، في المسائل التي لم ترد فيها نصوص خاصة مفصلة، أو التي وردت فيها نصوص تحتاج عند التطبيق إلى تحري روح التشريع ومصالح الناس في كل عصر، ثم في المسائل التي وردت فيها نصوص يحمل ظاهرها على التناقض أو الغموض في المعنى، أو التي تكون غير ثابتة بصورة قطعية، وليس التراث الإسلامي في مجال الفقه والتشريع على مر العصور إلا الجهود المتتالية في هذا السبيل.

ثم إننا إذا سلمنا بضرورة الجهود العقلية المتتابعة في مجال التشريع، فإن هذا يستلزم فكرة المنهج؛ لأن معنى المنهج هو الطريقة المتبعة، ولا نتصور جهودا عقلية دون طريقة متبعة في التفكير، وإلا كانت جهودا ضائعة مشتتة لا تؤدي إلى غايتها؛ لأن العقل الإنساني حين يفكر في شيء ما يتحرى أن يصل إلى هدفه عن طريق مقدمات تتبعها نتائج وأسباب تستتبع مسببات. لكن مجال النظر العقلي تكثر فيه الفروض والاعتبارات، ويختلف المفكرون فيما بينهم في أخذهم ببعضها ورفض بعضها الآخر، فما يقبله أحدهم من الفروض والاعتبارات يرفضه آخر، أو لا يخطر له على بال أصلا.

ومن هنا تختلف مناهج التفكير وتختلف النتائج تبعا لذلك، ولا يعنينا هنا أن نبحث أسباب اختلافها، وإنما يعنينا إثبات حقيقتين تتبع إحداهما الأخرى وهما:

  • حاجة التشريع الإسلامي عند التطبيق إلى جهود عقلية متتابعة.
  • ما تستلزمه هذه الحاجة بالضرورة من فكرة المنهج، أو طريقة التفكير وخطته؛ لأننا لانتصور جهودا عقلية بدون منهج في التفكير" [2].

ولعله من المناسب هنا إيراد شهادة مستشرق غربي كبير هو الأستاذ "سانتيلانا" الإيطالي (1845 - 1931م) بهذا الصدد، إذ يقول: "ومما لا مراء فيه أن الشريعة لم تتدخل في جميع التفاصيل، حسبها أن تتناول عددا معينا من القضايا ذات الطابع القانوني البارز فتبحثها وتشرحها، وقديما قال المشرعون الرومان: "إن قوة القانون هي في الأمر والنهي، والسماح والعقاب". على أن الشريعة الإسلامية - ذات الطابع الديني - لم تلبث أن أضافت مبدأين قانونيين إلى ما سبق ذكره، وهما: المقبولات والمستهجنات، فإذا أسقطنا القسم العقابي من الشق الأول (قانون الشريعة الرومانية) وأضفنا إليه المبدأين الجديدين، أصبح لدينا أوجه خمسة للقانون السائد بشكله التام.

إن هذه المبادئ القانونية على تعدد أشكالها، تئول إلى غاية واحدة هي المصلحة العامة؛ لذلك فليس لهذا القانون - الإلهي مصدرا - هدف إلا سعادة البشر، والعين النافذة لا يمكن أن تخطئ رؤية هذه الغاية، وإن شق عليها أن تتبينها لأول وهلة.

إن القانون السائد (الشريعة) - ومعناها بالعربية: "الطريق القويمة " - هو نظام لضروب أشكال النشاط البشري الذي يهدف إلى تيسير الحاجات الدنيوية. ولما كان الشرع الإصلاحي يستهدف منفعة المجموع، فهو بجوهره شريعة تطورية غير جامدة خلافا للشريعة الرومانية من بعض الوجوه"[3].

ثالثا. جهود معاصرة في تفصيل الحل الإسلامي:

لقد تحدث وكتب كثير من الإسلاميين عن طبيعة المشروع الحضاري الإسلامي، الذي يتبنونه ويروجون له. وعن خصائصه وكثير من تفاصيله، كتب د. حمدي شاهين تحت عنوان " نحو مشروع حضاري للنهضة رؤية إسلامية"، جاء فيه: "إن المشروع الحضاري لنهضة الأمة ينبغي - فيما نرى - أن يمتاز بخصائص أربع:

  1. أن يكون إسلاميا في منطلقاته وأهدافه ووسائله ومرجعيته، وهو بذلك يستدرك خطى المشروعات الكثيرة التي انطلقت بعيدا عن الإسلام، فهوت بعد ذلك في مكان سحيق، وجرت على أمتنا الويل والخبال، وهو بإسلاميته يتفق مع هوية الأمة ويتناغم معها، مما يؤهله لبعث طاقاتها، وتوظيف إمكاناتها، وتحقيق آمالها وطموحاتها، ويتلافى ما سببته تجارب سابقة لأمتنا - من تمزق وانقسام وضبابية واغتراب، حيث أرادت أن تسير بالأمة بعيدا عن دينها وفق مناهج مستوردة، نبتت في غير أرضها، وجاءت لتلبي حاجات غير حاجاتها.
  2. أن يكون مشروعا متكاملا تكامل الإسلام نفسه؛ يستهدف علاج أوجه الخلل والفساد الضارب في أعماق مجتمعاتنا وأفرادنا ومؤسساتنا، والذي استشرى على امتداد عقود متطاولة من الزمن، ويطمح إلى الانطلاق في شتى المجالات ليضع أمتنا على الطريق اللائق بها، لتتبوأ مكانتها التي أرادها الله عز وجل لها: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( (آل عمران: 110).
  3. أن يكون جماعيا، تآزرت جهود عديدة في تصوره وإنضاجه، ثم حمله وتبنيه والدعوة إليه، والسعي إلى وضعه موضع التنفيذ.

ولا يمكن تصور إمكانية نجاح مشروع للنهضة برؤى وتصورات وجهود فردية، في عالم بات لا يؤمن بغير جماعية العمل في شتى مناشطه ونواحي حياته جدها وهزلها، وإن ظل يغرينا بالنزعات الفردية التي تهيئ له دوام السيطرة على أمتنا، وتحول بيننا وبين حشد القوى وضم الجهود، إذ يرى أعداء الأمة أن كل تجمع واتحاد بيننا هو خصم من أسباب قوتهم وعامل من عوامل ضعفهم.

وليس أحد أولى من المسلمين بالعمل الجماعي والتحرك بروح الفريق، وهم أتباع دين يأمرنا بالتعاون على البر والتقوى، ويلزم أصحابه بالاعتصام بحبل الله جميعا، وينهى عن التفرق والتشرذم والتحزب.

  1. أن يؤثر منهج التغيير الاجتماعي المتدرج، فذلك هو الأقرب إلى روح الإسلام وتعاليمه، وخاصة أن حجم العطب الذي استفحل في مختلف نواحي حياتنا: السياسة، والاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية، والتعليمية والتربية على المستوى الفردي والجماعي والمؤسسي - تصعب مواجهته أو إصلاحه من خلال منهج التغيير الفوقي وحده، فإن لم تأت الرغبة في التغيير والقدرة عليه من داخل الشعوب نفسها؛ فإن نجاح ذلك التغيير يظل أمرا مشكوكا فيه، ويظل عمره - إن حدث - قصيرا، ويظل بناؤه مفتقدا إلى دعامات قوية تسانده، وتشد من أزره، ويأوي هو إليها ويستنصر بها"[4].

يضاف إلى هذا محاولات عديدة قدمها باحثون من دعاة المشروع الإسلامي حوت رؤية تفصيلية، ولنذكر - على سبيل المثال لا الحصرـ موسوعة من ثلاثة أجزاء للشيخ القرضاوي، عناوينها: " الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا"، "الحل الإسلامي فريضة وضرورة"، "بينات الحل الإسلامي".

وللأستاذ محمود المراكبي أيضا موسوعة أخرى من ثلاثة أجزاء، عنوان الأخير منها " الحلول الإسلامية بين الشعار والتطبيق"، قال في مقدمته: "ثم يأتي دور هذا الكتاب الذي يقدم الحلول الإسلامية بين الشعار والتطبيق، فقد لاحظت كمفكر مستقل، لا أنتمي إلى أي تيار أو جماعة أو مؤسسة فكرية، وإنما شاهدت كغيري شعار "الإسلام هو الحل"، ورأيت من يهاجمونه في حالة من الذعر المخيف، فهم يتساءلون: أي إسلام تقصدون؟ وأي حل تطرحون؟ ورأيت برامج هنا وهناك، ولاحظت أن الصورة غير واضحة المعالم.

ومن واقع إدراكي أن شعار الإسلام هو الحل لا تملكه مؤسسة أو جهة معينة، إنما هو جوهر حياة المسلم على الأرض مندرج تحت القرآن والسنة، فكان لزاما على أن أعرض تصوري عن الحلول الإسلامية التي أراها صالحة للتطبيق، وتقدم الوصفات العملية لأمراض الأمة، هذه الرؤية التي أقدمها من واقع إدراكي بأهمية اللحظة التاريخية التي تعيشها أمتنا، والتي نرغب بعدها أن تتوجه جميعا صوب صلاح الدنيا والآخرة ".

لكن أحدا من دعاة المشروع الإسلامي للنهضة لم يدع لمحاولته الكمال والعصمة وعدم الحاجة لنظر غيرهم وإضافاتهم، وها هو د. حمدي شاهين يصف محاولته - التي سبق ذكرها - بقوله: "وهي محاولة لا تزعم الاكتمال، ولا تدعي التمام، ولا تطمح إلى تقديم مشروع واف للإصلاح والنهوض، فذلك ما ينبغي أن تشارك فيه كل فعاليات الأمة وقواها الحية؛ وصولا إلى رؤية شاملة تستجمع أكبر نصيب من مؤهلات النجاح والتمكين، ويتحرر فيه منطلقها وغايتها ومرجعيتها؛ ليتوافق مع هوية الأمة، وما أراده الله تعالى لها من مكانة الريادة والخيرية والشهادة والنفع للعالمين: )فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض( (الرعد: 17)[5] [6].

رابعا. رفض هؤلاء المدعين لأصل التوجه الإسلامي:

إن حقيقة الأمر في خفايا نفوس كثير من المغرضين ليست قصة انعدام التفاصيل أو شحها في المشروع الإسلامي؛ إنما هي الكراهية البغيضة لهذا التوجه الإسلامي برمته من الأساس، مع التعلل في الظاهر - استحياء أحيانا - بهذا السبب أو ذاك من قبيل مسألة شح هذه التفاصيل، يقول محمد الغزالي - رحمه الله -: "ربما استطاعت أمم أخرى أن تعيش قصيرا أو طويلا وفق فلسفات مادية أو خلقية لا صلة لها بالسماء، لكن أمتنا تحول مزاجها وكيانها إلى جهاز فريد لا يدور فيه إلا مفتاح واحد هو الإسلام. وستذهب جميع المحاولات الأخرى سدى لا محالة.

ثم من من أهل الملل والنحل ترك دينه؟ لقد أقبل اليهود في موكب تظله صحائف التوراة والتلمود، ويتقدمه صخب من مزامير آل داود، ورأى الناس بين القطبين الشمالي والجنوبي هذا الولاء الديني العاصف فما أنكروا له صيحة، مع أنها صيحات جزارين، وديست مدننا وقرانا فما رق لنا أحد"[7].

وإنه لأمر واقع أن الكثرة المطلقة من النقد الموجه إلى المنهج الإسلامي وإلى دعاة إحيائه في مجالات الحياة العامة، إنما تأتي من قبل أناس لا يظهرون ولاء للتدين الإسلامي في الجملة، ولا يعرف عنهم التزام بالآداب الإسلامية في حياتهم الخاصة؛ فلذلك تظن فيهم وفي مقاصدهم ظنون كثيرة حين يعادون إعمال المنهج في الحياة العامة، بل منهم من ينتقد مسائل شرعية مقررة يعزوها إلى فكر المتطرفين والغلاة، ثم يستبيح التهجم عليها.

أو كما يقول الشيخ محمد الغزالي أيضا: "أعرف أناسا ما عرفوا طريقا إلى المسجد يوما، ولا غضوا أبصارهم عن الدنس لحظة، انتهزوا الفرصة العارضة وشرعوا يهاجمون الإسلام نفسه بدعوى مهاجمة التطرف، أي أن تحريم الخمر والخنا، وقطع دابر اللصوصية والفوضى - أمور هي من التطرف المعيب، وليست من أركان التقوى، ومعالم الوحي الحق!" [8].

لقد كان الجدل يوما حول الدين والدولة، فإذا هو - بعد دخول العلمانية العربية طور الغلو - جدل حول الدين والتربية، والدين والأخلاق، والدين والإبداع الأدبي، والدين والفن، فهي - إذن - علمانية شاملة لم تعد تستبقي للدين شيئا يؤديه في الحياة، ولا في الضمير، ولا في التشريع العام، ولا في التهذيب الفردي، وهو تطور يكشف عن مدى عمق مفكري الإسلام المحدثين والمعاصرين الذين تنبئوا من قبل بهذا المصير، وصدق الله العظيم إذ يقول: )يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون (8)( (الصف).

الخلاصة:

  • إن تفصيلات أي منهج إنما تعني معالجة جزئيات وفروع، وهذه من توابع تطبيقه في الحياة العامة، لا تسبقه، ولا يطالب بها المنهج وهو - بعد - بمعزل عن التأثير الإداري أو السياسي؛ فلذلك يعد الاشتغال بهذه التفصيلات في هذا الظرف الزمني جهدا ضائعا في أمر غير واقع.
  • إن المنهج الإسلامي قد أثبت جدارته في إدارة المجتمعات، ولقد سارت على هديه الخلقي والتشريعي حضارة ممدودة الأطراف لعدة قرون، وهذا التاريخ أورث دعاة الحل الإسلامي تراثا تشريعيا واجتهاديا واسعا، ييسر لهم أمر الدعوة الواثقة إلى إعمال هذا المنهج في الحياة الحديثة، ولا سيما أنه لم يقدر للحلول المستوردة من شرق أو غرب ألا تفلح في الشعوب المسلمة.
  • أقدم بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين على تحديد تصور يعنى ببيان جانب من تفاصيل المشروع الإسلامي للنهضة على وجه لا يقتحم التفريعات الدقيقة، التي ينبغي أن تظل معلقة على ما يلابس تمكين المنهج الإسلامي من مستجدات.
  • متابعة ما يقال عن قصور الحل الإسلامي جديرة بأن تكشف حقيقة أن هؤلاء المدعين يردون هدي الإسلام في كل مجالات الحياة، ومن ثم يصير مسلكا مفهوما أن يتهم هؤلاء في موقفهم من أصل التوجه الإسلامي عامة، وأن هذا هو مثار الجدل لا إعمال المنهج الإسلامي في هذا الجانب دون ذاك، وصدق الله العظيم إذ يقول: )يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون (8)( (الصف).

 

 

(*) الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي، محمد ياسين صديقي، ترجمة: سمير عبد الحميد إبراهيم، هجر للطباعة، القاهرة، ط1، 1988م.

[1]. جملة "الدين المعاملة" ليست حديثا، وإنما معناها صحيح، يشهد لها أحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حسن الخلق ومكانته في الإسلام في الإسلام، ويكفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الرجل ليبلغ بحسن الخلق درجة الصائم القائم ». صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (25057)، وأبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق (4800)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4798).

[2]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي ، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص36، 35.

[3]. الإسلام في عيون غربية: بين افتراء الجهلاء وإنصاف العلماء، د. محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص155: 157. سقوط العلمانية، أنور الجندي، دار الكتاب اللبناني ، بيروت، ط2، 1980م، ص195: 198.

[4]. نحو مشروع حضاري للنهضة، د. حمدي شاهين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، ط1، 2005م، ص6: 8.

[5]. الزبد: ما يعلو الماء أو اللبن ونحوهما من الرغوة. وذهب الزبد جفاء: أي باطلا مدفوعا مرميا به، قد دفعه الوادي إلى جنباته.

[6]. نحو مشروع حضاري للنهضة، د. حمدي شاهين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ط1، 2005م، ص8، 9.

[7]. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2004م، ص110.

[8]. الحق المر، محمد الغزالي، دار نهضة مصر، القاهرة، ط3، 2003م، ج1، ص35.

  • الاحد AM 02:42
    2020-11-22
  • 924
Powered by: GateGold