المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409120
يتصفح الموقع حاليا : 215

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء أن المسلمين لا يحترمون الحضارات القديمة، ولذلك أحرقوا مكتبة الإسكندرية

ادعاء أن المسلمين لا يحترمون الحضارات القديمة، ولذلك أحرقوا مكتبة الإسكندرية(*)

مضمون الشبهة:

يزعم أعداء الإسلام أن المسلمين شعوب لا تحترم الحضارات القديمة، وقد امتلأت قلوبهم بالحقد والكراهية على أصحاب هذه الحضارات، حتى وصل بهم هذا الحقد إلى أن أحرقوا مكتبة الإسكندرية؛ لأنها من تراث اليونان القديم الذي يرفضه المسلمون. ويرمون من وراء ذلك إلى اتهام المسلمين بالهمجية، وبأنهم أعداء للعلم والحضارة.

وجها إبطال الشبهة:

1) كان المسلمون أهل حضارة، وما كان لهم أن يقدموا على إحراق تراث علمي للسابقين، بل أفاد المسلمون من كتب السابقين كما أفاد منهم غيرهم.

2) إحراق المسلمين لمكتبة الإسكندرية فرية لا أساس لها من الصحة، ولا وجود لها في كتب التاريخ الصحيحة المعتمدة. كما أن الروايات التي ذكرت ذلك فيها من الاضطرابات والأوهام ما يكفي لإثبات اختلاقها وبهتانها.

التفصيل:

أولا. كان المسلمون أهل حضارة وفكر، وما كان لهم أن يقدموا على إحراق تراث علمي للسابقين، بل لقد أفاد المسلمون من كتب السابقين، كما أفاد منهم اللاحقون:

ليس لدى المسلمين ما يمنعهم من اقتباس ما يفيدهم من الآخرين؛ فالحكمة ضالة المؤمن، وهم مأمورون بذلك، ومدركون أن تاريخ البشرية سلسلة من حلقات التأثير والتأثر بين الحضارات المختلفة، ومكانة الترجمة من تراث الأمم السابقة ومنزلتها - والاهتمام بها - أمر معروف مشهور في تاريخ الحضارة الإسلامية.

قال " درابر" المدرس بجامعة نيويورك في كتابه " المنازعة بين العلم والدين": " لقد كان تفوق العرب في العلوم ناشئا من الأسلوب الذي توخوه في بحوثهم، وهو أسلوب اقتبسوه من فلاسفة اليونان الأوربيين، فإنهم تحققوا أن الأسلوب العقلي لا يؤدي إلى التقدم، وأن الأمل في الوقوف على الحقيقة يجب أن يكون معقودا بمشاهدة الحوادث ذاتها، ومن هنا كان شعارهم في بحوثهم - الأسلوب التجريبي والدستور العملي..."، إلى أن قال: " وهذا الأسلوب هو الذي حقق لهم التقدم الباهر في الهندسة وحساب المثلثات، وهو أيضا الذي مكنهم من وضع قواعد علم الجبر ودعاهم لاستعمال الأرقام الهندية.... إلخ. ولقد دأبوا على جمع الكتب بصفة منظمة وتكوين المكتبات، وقد قيل: إن المأمون نقل إلى بغداد مائة حمل بعير من الكتب.

وقد كان أحد شروط الصلح بينه وبين ميشيل الثالث - أن يعطيه إحدى مكتبات القسطنطينية التي كان فيها من الذخائر الثمينة الأخرى كتاب بطليموس على الرياضيات السماوية، فأمر المأمون بترجمته إلى العربية وأسماه "المجسطي".

ثم قال عن همة المسلمين الأولين في ترجمة الكتب العلمية: " لقد كان في كل مكتبة كبيرة مكان خاص للنسخ والترجمة، وقد كان لبعض الخاصة مثل ذلك، فإن هونيان الطبيب النسطوري كان له مكان من هذا القبيل ببغداد سنة (805م)، ترجم فيه كتبا لأرسطو، وأفلاطون، وأبوقراط، وجالينوس.... إلخ".

وقال: "وكانت قيادة المدارس تسند إلى ذوي المدارك الواسعة، فكانت إما بيد النسطوريين أو اليهود؛ لأن المسلمين لم يكونوا يتحرون عن جنس العالم وديانته، وما كانوا يرون قدره إلا بأعماله".

وقال: " وإننا لندهش حينما نرى في مؤلفاتهم من الآراء العلمية ما كنا نظنه من ثمرات العلم في هذا العصر" ([1]).

ونستعرض مع "جارودي" هذه الحقائق التي أشار إليها "درابر"، إذ يعلق على هذه الحقائق التاريخية فيقول: "إن المسلمين أسسوا نهضة بالمعنى الكامل، شملت الصناعات، والبحث العلمي والعلاقات الاجتماعية والثقافة، وهم أول من طبق سياسة الانفتاح على العالم، فأخذوا من القديم والحديث، ومن الشرق والغرب، وتفاعلوا مع الحضارات والثقافات التي كانت قائمة في تلك العصور، وكان أهمها حضارة اليونان القديمة وحضارة الهند والصين المعاصرتين. هذا في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة تحكم بالإعدام على العلماء الذين قالوا: إن الأرض كروية، وإنها تدور حول نفسها، وكانت محاكم التفتيش في أسبانيا تحكم بالحرق على المسلمين وعلى الكتب في القرن السادس عشر بعد طردهم المسلمين منها".

ثم يذكر جارودي أسماء جحافل من علماء العرب الذين أسسوا العلوم وأبدعوا في الطب والرياضيات والكيمياء والجغرافيا.

ويشير جارودي إلى الظلم الذي يلحق بالإسلام حين يقال: إنه السبب في تخلف الدول الإسلامية في مجالات البحث العلمي في العصر الحديث، ويذكر أن الجامع الذي كان يعلم الدين كان جامعة للعلوم الطبيعية، مثل جامعة القرويين في فاس، وجامعة الزيتونة في تونس، والأزهر في مصر، وجامعة سمرقند، وجامعة قرطبة، فقد كانت مراكز للعلوم وللتعليم الديني في نفس الوقت، ويذكر جارودي لقرائه في الغرب أن أول مرصد فلكي في العالم أنشأه الخليفة الأموي عبد الملك في دمشق عام 717م، وهو أيضا أول من أنشأ المستشفيات وجعلها كليات الطب، في حين أنشئت كليات للطب في أوربا بعد ذلك نقلا عن العالم الإسلامي، وكانت تدرس المناهج والعلوم التي تدرسها الكليات الإسلامية. وكان منها كلية (ساليرن) في إيطاليا، وكلية (مونبلييه) في فرنسا. وحتى أعرق الجامعات الأوربية أنشئت على النموذج الإسلامي بعد ثلاثة قرون من نشأة الجامعات الإسلامية، وهذا ينطبق على جامعة باريس وجامعة أكسفورد، وهما أقدم الجامعات الأوربية.

ويذكر جارودي كيف تعلم الغرب من علم العلماء المسلمين؛ فقد كان الخوارزمي مؤسس علم الرياضيات الذي نقله الغرب، و مؤسس علم حساب التكامل، وأول من ربط الهندسة بالجبر.

وكان علماء العرب: الطوسي، والبيروني، والبوزجاني أسبق من كوبرنيكوس في الغرب بعدة قرون. وكان مرصد بغداد سباقا في دراسة الكواكب واكتشافها ورصد حركتها بصورة منهجية، وتعددت المراصد في جند يسابور وبجوار دمشق. وكان من دوافع التقدم العلمي حرص المسلمين على التدقيق في معرفة الاتجاه إلى مكة لتحديد القبلة للصلاة، وتحديد مواقيت الصلاة بدقة، كما كان الحرص على أداء فريضة الصيام يوجب ملاحظة دقيقة للشمس ومعرفة ساعة شروقها وغروبها، وكان تحديد بداية شهر رمضان ونهايته دافعا للتعمق في دراسة علوم الفلك وإنشاء المراصد العلمية. وبنفس الروح تفوق البيروني في علم الجغرافيا، وما زال كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) شاهدا على ما بلغه علماء المسلمين من تقدم في مناهج البحث العلمي.

لقد كان الملاحون المسلمون يجوبون المحيط الهندي منذ القرن التاسع الميلادي، وفي القرن العاشر قدم التاجر العربي سليمان أول وصف للصين قبل ماركوبولو (1254ـ 1324م) بثلاثة قرون. وكان ابن بطوطة (1304ـ 1356م) الرحالة العظيم أول من دل العلماء على وصف جميع البلدان العربية حتى أفغانستان والهند وسيلان والصين. وكان الجغرافي المسلم العظيم الإدريسي أول من قام بتأليف كتب مزودة بخرائط للعالم في القرون الوسطى، وقدم مساهمة رئيسة في الطرق الملاحية، واستندت خرائطه على تحديد دقيق لخطوط الطول والعرض، ورسم الشواطئ ومجاري الأنهار، والإنسانية مدينة للعالم المسلم ابن ماجد، الذي ولد عام 1430م، صاحب أهم كتاب في الملاحة (الفوائد في أصول علم البحر)، وكان بحارا عظيما أطلق عليه اسم (أسد العواصف)، ويحاول الباحثون الغربيون أن يغفلوا أنه هو الذي قاد أسطول فاسكو دي جاما البرتغالي من الشاطئ الإفريقي إلى كالكوتا في الهند عام 1498م، وكان فاسكو دي جاما يعتبره(كنزا عظيما).

ويستمر جارودي في ذكر فضل الإسلام والمسلمين على الحضارة الغربية إلى أن يصل إلى أن المسلمين هم أول من أنشأ الحدائق الجميلة كما في أصفهان وشيراز وقصر الحمراء وجنة العريف في غرناطة.

وفي علم الجيولوجيا كان علماء المسلمين أسبق من علماء أوربا بقرون، ودرسوا الجبال والسهول، والمحيطات والأنهار، والمياه الجوفية، وقد تعلم المهندس الإيطالي (جيرا نيللو توريانو) من المسلمين أصول الهيدروليكا في طليطلة، كما درس كيفية صنع المهندسين المسلمين للنافورات ونضاخات الماء المستخدمة للري وطواحين الهواء والآلات الموسيقية، وكانت اكتشافات واختراعات المسلمين الأساس الذي بدأ منه (توريشلي) في إيطاليا في القرن الرابع عشر اختراع مقياس الضغط الجوي (البارومتر)، كما كان لعلوم المسلمين الفضل في نشأة علوم الميكانيكا في أوربا.

ويتوقف جارودي بإعجاب شديد عند ابن خلدون (1332ـ 1406م)، ويرى أنه رجل يندر أن يكون له مثيل، فهو ذو فكر شامل، فنان، ورجل دولة، وفقيه، ورجل قانون، وفيلسوف.. كل ذلك في رجل واحد، وسيظل مذكورا في التاريخ بمؤلفه العظيم " العبر" الذي وضعه في القرن الرابع عشر الميلادي والمقدمة التي أودعها أسس علم التاريخ وعلم الاجتماع، وكان أول من وضع نظرية علمية لارتقاء الحضارات وانهيارها، ونظرية في أصول الحكم، ووضع المنهج العلمي للبحث التاريخي الذي يقوم على التفسير والتعليل ولا يكتفي بسرد الأحداث، وكان ابن خلدون على وعي بأنه يؤسس علما جديدا ولذلك كتب في المقدمة الشهيرة:

"أبدأ بذكر الأسباب العامة في دراسة الأحداث الخاصة.. وسأتناول التاريخ بالتفسير والتعليل مرجعا الأحداث إلى أسبابها وأصولها.. وطريقتنا في معالجة هذا الموضوع تشكل علما جديدا قائما بذاته".

وهو - أيضا - أول من ربط بين الملاحظة الشخصية والتفكير النظري، وأول من لفت الأنظار إلى أثر المناخ والجغرافيا والاقتصاد على حياة الشعوب، وأول من درس بنية المجتمعات وتقسيم العمل، وأول من قال بأن (ما نلاحظه من اختلافات في عادات الشعوب وأفكارها مرده إلى الطريقة التي تتدبر بها قوتها)، وربط بذلك بين الاقتصاد والظواهر والعلاقات الاجتماعية، وهو أول من وجه النقد إلى المؤرخين الذين اكتفوا بتسجيل وقائع التاريخ دون بحث عن الأسباب الظاهرة أو الخفية وراء الأحداث التاريخية.

ويطالب جارودي علماء الغرب بالاعتراف بأن علماء الطب المسلمين هم أول من اكتشف العلاقة بين الحالة النفسية والحالة الجسمية التي اكتشفت حديثا باسم (السيكوسوماتيك). ويقول: إن الكنيسة وقفت في وجه نمو الطب وتطوره، وفي عام 1215م أصدر البابا أنوسنت الثالث القرار التالي: (يحظر - تحت طائلة الحرمان - على كل طبيب العناية بمريض إذا لم يعترف ويقر بذنوبه؛ لأن المرض ينجم عن الخطيئة).

ويعلق جارودي على ذلك بأنه نتيجة لهذا التفكير فإن كلية الطب في باريس لم تكن تملك - منذ 600 عام - سوى مجلد واحد في كل العلوم الطبية في العالم، وكان هذا المجلد للرازي العالم المسلم، الذي ما زال تمثاله قائما في هذه الكلية إلى جانب تمثال ابن سينا حتى اليوم. وموسوعة الرازي الطبية هي المؤلف العلمي الوحيد الذي استمر تأثيره يشع في الغرب عشرة قرون. وقد طبع بحث الرازي أكثر من أربعين طبعة، وقد كتبه في مطلع القرن العاشر الميلادي، وظل من المراجع الطبية الأساسية في أوربا نحو ألف عام.

أما ابن سينا فكان تأثيره في الغرب يفوق التصور، فقد ظل كتابه (القانون) الذي ترجمه إلى اللاتينية (جيرارد دي كريمون) هو موسوعة الطب التي تدرس في أوربا حتى عصر النهضة وتميز بوضوح تصنيف الأمراض، والدراسة المنهجية لأعراض كل منها، وطريقة تشخيص الأمراض وبخاصة أمراض الكلى والرئة وخراج الكبد، وغيرها من الحالات الدقيقة. وكان ابن سينا - مثل الرازي - عبقرية شاملة.. كان طبيبا، وعالما في الفيزياء، وفيلسوفا، وعالما دينيا، وشاعرا.

وكذلك كان الحسن بن الهيثم المولود في البصرة عام 965م والمتوفى في القاهرة عام 1039م عالما عظيما في الرياضيات والفلك والهندسة وعلم البصريات، ونقل روجر بيكون مؤسس المنهج العلمي الحديث كتاب ابن الهيثم عن تشريح العين وكيفية الإبصار، وكتب روجر بيكون: (إن الفلسفة مستخلصة من العربية)، كما كان ابن الهيثم أول من قدم وصفا تشريحيا للعين. وكان أبو القاسم الموصلي أول من يعالج العتامة في عدسة العين بإجراء جراحة دقيقة بواسطة الامتصاص بإبرة مجوفة، وذلك في عام 1000م، ولم ينجح الغرب في إجراء مثل هذه العملية إلا في عام 1846م أي بعد ثمانية قرون!

وكان العالم المسلم ابن النفيس المتوفى عام 1288م أول من اكتشف الدورة الدموية الصغرى قبل هارفي بأربعمائة سنة، وقبل ميشيل سيرفيت بثلاثمائة سنة. ووصف أحد تلاميذ ابن الهيثم الأوعية الشعرية في العين التي لم يتعرف إليها أول عالم غربي (مالبيجي) إلا عام 1660م بالميكرسكوب بعد ثلاثمائة سنة.

وقد استخدم المسلمون المصل الواقي من الجدري قبل اكتشاف أول عالم غربي لهذا المصل (جيينر) بألف سنة.

ودرس العالم الجراح الأندلسي أبو القاسم المتوفى عام1013م مرض السل الذي يصيب الفقرات قبل أول عالم غربي (بيرسيفال بوت 1713ـ 1788م) بسبعمائة وخمسين سنة، واخترع طريقة لربط الشرايين بعد بتر الأعضاء قبل أول عالم غربي(امبرواز باريه 1517ـ 1590م) بتسعمائة سنة، وكان له الفضل في اختراع أدوات جراحية لم تكن معروفة، وبعضها ما زال يستخدم إلى اليوم بعد تطويرها بالتكنولوجيا الحديثة([2]).

ولا ريب أن العقل حاكم بعد استقراء تاريخ هؤلاء العظماء، الذين طالما نبغوا في العلم وتفوقوا في كثير من المجالات، سابقين بذلك بلاد الغرب وغيرها - لا شك أن العقل حاكم بأنه لا يمكن في حق هؤلاء أن يقعوا على تراث تجمع في مكتبة جامعة ثم لا يكون موقفهم من هذا التراث إلا حرقه! وكيف يستقيم هذا مع بحثهم عن تراث غيرهم وترجمته والاستفادة منه؟!

ثانيا. قصة إحراق المسلمين لمكتبة الإسكندرية فرية لا أساس لها من الصحة ولا وجود لها في كتب التاريخ الصحيحة المعتمدة:

أما نسبة حرق مكتبة الإسكندرية إلى المسلمين فقد أثبت كثير من المحققين أنه ما نسب إلى المسلمين إلا زورا وبهتانا، وأثبت المنصفون من المستشرقين أنها أحرقت قبل الفتح الإسلامي لمصر بحوالي قرنين من الزمان.

ويشير د. عبد الرحيم محمد عبد الحميد إلى أننا: "لم نعثر على نص أو إشارة إلى أن عمرو بن العاص حرق مكتبة الإسكندرية، وجل ما في الأمر أن هناك نصا لابن القفطي (ت 646هـ/ 1227م) ينقله ابن العبري (ت 685هـ/ 1286م) مفاده أن عمرا أرسل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يستشيره في أمر المكتبة، فورد كتاب عمر يقول: أما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنها غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليها، فتقدم بإعدامها.

فشرع عمرو بن العاص في توزيعها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقد، وذكر لي عدة الحمامات يومئذ وأنسيتها، فذكروا أنها استنفدت في ستة أشهر، فاسمع ما جرى واعجب. إلا أن قصة الحرق هذه وردت قبل ابن القفطي وقبل ابن العبري، فهذا عبد اللطيف البغدادي (ت 649هـ/1231م) قال: "... وعمود السواري عليه قبة هو حاملها، وأرى أنه الرواق الذي كان يدرس فيه أرسطوطاليس وشيعته من بعده، وأنه دار العلم التي بناها الإسكندر حيث بنى مدينته، وفيها كانت خزانة الكتب التي أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه".

وعند دراسة هذه الروايات نرى أنه لا بد من إبداء الملاحظات الآتية:

  1. لا يوجد أي إسناد يرجع إليه في هذه الروايات، وإنما هي افتراضات افترضها أصحابها.
  2. أنها وجدت في فترة بعيدة عن زمن فتح عمرو بن العاص لمصر، ويمكن القول: إن هذه القصة مختلقة اختلاقا واضحا، ويمكن الطعن فيها من النواحي الآتية:
  • لم يذكر قصة حرق مكتبة الإسكندرية من أرخ لتاريخ مصر وفتحها، ممن عاش قبل من ذكروا هذه القصة بعدة قرون.
  • لم تذكر هذه القصة عند الواقدي ولا الطبري، ولم يتفق عليها ابن الأثير ولا ذكرها ابن خلدون، فضلا عن ابن عبد الحكم، ولم يشر إليها ياقوت الحموي عند وصف الإسكندرية.
  • يمكن إرجاع هذه القصة إلى فترة الحروب الصليبية، من جهة البغدادي، وربما وضعها تحت ضغط معين، أو ربما انتحلت عليه فيما بعد.
  • إذا وجدت هذه المكتبة المزعومة، فيمكن القول: إن الروم الذين غادروا الإسكندرية كان بإمكانهم إخراجها معهم، أو ربما فعلوا ذلك.
  • لقد كان بإمكان عمرو إلقاؤها في البحر في فترة قصيرة بدلا من حرقها الذي استغرق ستة أشهر، مما يدل على القصد في تزييف هذه القصة وتأليفها، ويمكن القول بلا وجل: إن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص - رضي الله عنهما - بريئان مما نسب إليهما في هذه القصة المصطنعة التي كانت من تخيلات أناس أحبوا التهويل، فتخيلوا وجود ما لم يكن موجودا([3]).

كما أن رواية ابن العبري " أشبه بالخرافة؛ فقد ذكر فيها ابن العبري أن كتب المكتبة كفت أربعة آلاف حمام - وهي عدد حمامات الإسكندرية كما ذكرها ابن العبري - لمدة ستة أشهر، وهذا غير معقول؛ لأن المخطوطات التي ادعى أنها أحرقت 700 ألف مخطوط، أحرقت في 4000 حمام عام، فيكون نصيب كل حمام 175 مخطوطا، وهذا يكفي لعدة أيام لا لستة أشهر كما تدعي رواية ابن العبري. علما بأن تلك المخطوطات كتبت على ورق البردي والرق، وهاتان المادتان تعطيان حرارة منخفضة جدا لا تكفي لتسخين الماء ولا لأيام، فضلا عن ستة أشهر.

ثم إن عمرو بن العاص لو قصد تدمير المكتبة لأحرقها في الحال ولم يتركها تحت تأثير أصحاب الحمامات، وإلا لتمكن يوحنا النحوي الذي بنى ابن العبري روايته عليه من أخذ ما يلزم من هذه الكتب بثمن بخس، ولتسرب قسم كبير من الكتب ليظهر فيما بعد، وهذا ما لم يحدث.

كما أن ثمة أمرا جديرا بالذكر هنا، وقد ذكره " بتلر " حين ذكر أن يوحنا هذا مات قبل الفتح الإسلامي لمصر بثلاثين أو أربعين سنة.

ولو فرضنا أن هذه المكتبة بقيت إلى الفتح الإسلامي، فلم يكن هناك ما يمنع من نقلها إلى القسطنطينية على أيدي الروم في أثناء الهدنة التي عقدت مع المسلمين، وقد أجاز لهم عمرو في عهد الصلح أن يحملوا كل ما يقدرون عليه، وكان لديهم من الوقت ما يمكنهم من نقل مكتبات لا مكتبة واحدة.

كما أن هذا مخالف للتعاليم الإسلامية التي تحترم الحضارات والكتب الدينية - اليهودية والمسيحيةـ وكذا غيرها؛ لأنه يجوز أن ينتفع المسلمون بها. كما أن سماحة المسلمين التي عرفوا بها وعهودهم ومواثيقهم مع الآخرين تنفي أن يحرقوا شيئا خاصا بهم فضلا عن أن يكون هذا الشيء تراثا تنتفع به البشرية فضلا عن انتفاع المسلمين أنفسهم به.

إن إسناد حرق مكتبة الإسكندرية إلى المسلمين لهو محض افتراء وخرافة بينة، وقد جزم د. غوستاف لوبون بخرافة القصة في كتابه "حضارة العرب"؛ إذ يقول: وأما إحراق مكتبة الإسكندرية المزعوم فمن الأعمال الهمجية التي تأباها عادات العرب المسلمين؛ ولا شيء أسهل من أن نثبت بما لدينا من الأدلة الواضحة أن النصارى هم الذين أحرقوا كتب المشركين في الإسكندرية قبل الفتح العربي الإسلامي". وكذلك اعتبر جاك. س. ريسلر أن حريق الإسكندرية أسطورة([4]).

الخلاصة:

  • إن العطاء الإسلامي في نواحي العلم المختلفة جدير بأن يثبت وحده حقيقة موقف المسلمين من الثقافات الأخرى؛ فمنذ عهد بني أمية ابتدأ المسلمون حركة الترجمة لعلوم الأوائل، ثم لم تزل تتسع حتى بلغت أوجها أيام المأمون الذي لم يجد بأسا في تعريب التراث الفلسفي اليوناني إلى جوار قسم من تراث الفرس والهنود، ثم لم يلبث المسلمون أن استوعبوا ذلك كله وشرعوا يقدمون للفكر والعلم من إبداعهم ما اعترف بفضله كثير من المنصفين الغربيين.
  • رواية إحراق عمرو بن العاص لمكتبة الإسكندرية أثبت كثير من المحققين كذبها وزورها على المسلمين؛ فلقد فرغ الباحثون من مسلمين ومستشرقين من إثبات اختلاقها، وأنها لم تكن معروفة عند أحد من المؤرخين قبل القرن السابع الهجري حتى ظهرت عند مثل ابن القفطي (ت 646هـ) وعبد اللطيف البغدادي (ت649هـ)، وابن العبري(ت 685هـ). وقد صار أمرا مقررا اليوم أن مكتبة الإسكندرية لم يكن لها ذكر قبل الفتح الإسلامي بنحو قرنين من الزمان.
  • جزم د. غوستاف لوبون بخرافة حرق المسلمين مكتبة الإسكندرية، واعتبر جاك. س. ريسلر حريق المسلمين للإسكندرية أسطورة. كما أن العقول حاكمة باستحالة صدور مثل هذا الفعل من المسلمين الذين يحترمون الحضارات ويقدرون العلم. كما أن عهودهم ومواثيقهم ومعاملتهم مع الآخر تنفي أن يحرقوا تراثهم، أو تراث غيرهم.

 

 

 

(*) القرآن والرسول ومقولات ظالمة، د. عبد الصبور مرزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 2002م. الإسلام بين الحقيقة والادعاء، مجموعة علماء، الشركة المتحدة للطباعة والنشر، القاهرة، 1996م.

[1]. الإسلام دين الفطرة والحرية، د. عبد العزيز جاويش، دار الهلال، د. ت، ص62، 63 بتصرف.

[2]. المنصفون للإسلام في الغرب، رجب البنا، دار المعارف، القاهرة، ص227: 230.

[3]. فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، د. علي الصلابي ، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص686، 687. موسوعة التاريخ الإسلامي، د. أحمد شلبي ، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط6، 1982م، ج5، ص42 وما بعدها. الخلافة العباسية والمشرق الإسلامي، د. محمد عبد الحميد الرفاعي ، مكتبة النصر، القاهرة، 1999م، ص17 وما بعدها.

[4]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر، دمشق، ط6، 1425هـ/ 2004م، ص221: 216 بتصرف.

  • الاحد AM 02:38
    2020-11-22
  • 843
Powered by: GateGold