المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412470
يتصفح الموقع حاليا : 389

البحث

البحث

عرض المادة

دعوى تعارض الجهاد مع الأوضاع الدولية الحديثة وظروف العصر

                        دعوى تعارض الجهاد مع الأوضاع الدولية الحديثة وظروف العصر (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغرضين أن الجهاد الإسلامي لا يتمشى مع الاتفاقيات الدولية الحديثة؛ لارتباط المسلمين بالمنظمات الدولية، ويرون أن تشريعه لا يناسب ظروف العصر الحديث؛ لتغير الزمان الذي شرع فيه، ولأن أوضاع الحرية ورقي العقول لا تقبل فكرة تفرض بالقوة؛ لذا تخلى عنه المسلمون في العصر الحاضر.

وجوه إبطال الشبهة:

1) الجهاد فريضة ماضية إلى قيام الساعة، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، ولأن الحرب بين الحق والباطل لا تنتهي، وقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان جارية في الفروع - أو المتغيرات - لا في الأصول -، والجهاد من الأصول في شريعة الإسلام، أو ما يقال عنه إنه مجمع عليه ومعلوم من الدين بالضرورة.

2) نظام الجهاد في الإسلام لا يتعارض مع الأوضاع الدولية الحديثة، وخاصة ميثاق الأمم المتحدة في إقرار الأمن والسلم الدوليين، بل إن مبادئ الإسلام تتميز بأنها تشريع إلهي يسعى إلى إقامة العدل والمساواة، على حين أن ميثاق الأمم المتحدة من وضع البشر، قاصر عن إدراك كمال التشريع الإلهي.

3) أسباب الجهاد ودواعيه قائمة في هذا الزمان وفي كل زمان، ولم يتركه المسلمون ولم يتخلوا عنه، وهو طبيعة هذا الدين وأخص خصائص الأمة الإسلامية.

4) الجهاد في الإسلام ليس معناه فرض مبادئ وآراء وأفكار بالقوة؛ لأن ميادين الجهاد كثيرة، والجهاد القتالي - وهو واحد من هذه الميادين - إنما شرع للدفاع عن الدعوة الإسلامية، وأما الدعوة إلى الإسلام فإنما شرعت بالحكمة والموعظة الحسنة وليس بالقتال.

التفصيل:

أولا. الجهاد فريضة ماضية إلى قيام الساعة لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل:

الجهاد فريضة مكتوبة على الأمة كلها، وقد أجمع العلماء على أن جهاد الدعوة والتربية فرض كفاية تقوم به جماعة من الأمة، فإذا تعرضت بلاد المسلمين للعدوان كان الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة، ولن تجد نظاما عني بالجهاد والجندية وحشد الأمة كلها للدفاع بكل قواها عن الحق كما صنع الإسلام، ورغم أنه دين السلام يجنح دائما للسلم ويؤثره على الحرب، فإنه لا يرضى لأتباعه المذلة والهوان، ويمقت العدوان والظلم، ومن ثم فرض عليهم إعداد أسباب القوة والعزة: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (60)( (الأنفال).

وقد رفع الإسلام ذكر الجهاد في سبيل الله وأعلى من شأنه، متى تحققت أسبابه وبواعثه، فجعل درجته أرفع الدرجات، ومنزلته أسمى المنازل بعد الإيمان.

 «قيل لرسول الله: ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: لا تستطيعونه" ثم قال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله»([1]).

وبعد أن فرض القرآن القتال على الأمة ورغب فيه، حذر من التخلف عنه أو إهماله، وتوعد الذين يؤثرون الحياة الدنيا وزينتها عليه، )إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير (39)( (التوبة). وعقد الله - عز وجل - بيعة كاملة بينه وبين المؤمنين، لا يتم إيمان إلا بالوفاء بها: )إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم (111)( (التوبة).

وما لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى حتى سلم الراية لأصحابه وحمل الأمة كلها أمانة الدعوة والجهاد في سبيل الله: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة»([2]) ([3]).

الجهاد وظروف العصر:

يعتمد هذا الاتجاه الذي يقول بعدم ملاءمة الجهاد للعصر الحديث على إضفاء طابع العصرية على موضوع الجهاد، وذلك انطلاقا من الواقع المعيش الذي يرى التسليم بالأفكار العصرية والحديثة والقبول بها، حتى لو كانت خاطئة أو على حساب أفكار قديمة أكثر منها صحة، وذلك ناتج من دراسة نفسية المسلمين وخصوصا الشباب منهم الذين جرفهم تيار الفكر الغربي وجذبهم بإضفاء طابع العصرية على كل الأفكار التي يلقي بها في نفوسهم.

إن أول ما يراه هؤلاء الواهمون هو أن الجهاد اليوم ليس بفرض بناء على القاعدة التي تقول: " تتغير الأحكام بتغير الأزمان"، وهذا التعليل غير صحيح؛ لأن قاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان ليست - كما ذهب الأصوليون - عامة في كل الأحكام، وإنما تدور غالبا فيما يتعارف عليه الناس من معاملاتهم اليوم دون أن يتعارض ذلك مع نص صريح أو مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة، أما قضية الجهاد فليست من قبيل الأحكام التي تخضع للعرف أو لظروف العصر، إنه ماض إلى يوم القيامة، فقد شرع في بادئ الأمر لرد الظلم الواقع على الجماعة البشرية المؤمنة من جماعة بشرية أخرى كافرة: )أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39)( (الحج).

ثم بين الله للمسلمين أنه لا يحل لهم أن يقاتلوا أحدا إلا من بدأ بمقاتلتهم والاعتداء عليهم: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة)، ثم أبيح للمسلمين أن يقاتلوا من أجل نصرة المظلومين والدفاع عن المضطهدين حتى لاتكون هناك فتنة تهدد الفرد في حريته: )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله( (البقرة:193)، ثم كانت الفتوحات الإسلامية - الذي كان فرض الجهاد أساسها الأول - تبليغا للدعوة الإلهية الخاتمة للشعوب، وتكسيرا للجدار الحاجز بين هذه الدعوة والشعوب، وحماية لحرية الفرد الدينية التي حرم منها تحت حكم القياصرة والأكاسرة وسيطرة المذاهب الفاسدة الأخرى([4]).

هذا هو فرض الجهاد في المنظور الإسلامي فهل في ذلك ما يخل بروح العصر كما يدعي هؤلاء المشككون، ألم تدع المدنيات والدساتير الحديثة أنها تقدس وتصون حرية الفرد وتضمن له جميع حقوقه، فما بال الإنسان يضطهد في بقاع كثيرة من العالم، في فلسطين ولبنان والفلبين وأمريكا وجنوب أفريقيا، أين تلك المواثيق والعهود والإعلانات التي توقع كل يوم في أروقة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الأخرى الدولية وغير الدولية، أهي عاجزة عن حماية هذا الإنسان الذي يضطهد كل يوم، أم أن تلك المواثيق إنما جعلت لمجرد الدعاية والتضليل وذر الرماد في العيون فقط.

ثانيا. نظام الجهاد في الإسلام لا يتعارض مع الأوضاع العالمية الحديثة:

إن أي مجتمع من المجتمعات لا يستغني عن تنظيم علاقاته بالآخرين، ولا تستغني دولة من الدول - مهما بلغت قوتها - عن الاتصال بالدنيا، وتنظيم ما ينشأ وتفرضه الظروف من علاقات وتعاملات وحروب أيضا، فمهما اجتهد الناس أو اجتهدت الدول، سيبقى الصراع آفة بشرية تجر الأفراد والمجتمعات إلى اشتباكات ضيقة أو واسعة، محدودة أو شاملة، ولا شك أن هذه الاشتباكات لا بد لها من نظام محدد يضبط علاقات البشر بعضهم بعضا أثناء وقوعها.

وليس أدل على عالمية الإسلام وقدرته على الامتداد في الزمان والمكان - بغير حد - من أنه توصل من نيف وأربعة عشر قرنا إلى نظام صالح لأن تقوم عليه العلاقات الدولية في عصرنا هذا، فلقد سبق الإسلام هذه التنظيمات الدولية الحديثة، أو ما يسمى بالقانون الدولي في وضع الأنظمة التي تحدد علاقة البشر بعضهم ببعض، سواء في حالة السلم أم في حالة الحرب.

والناظر في قانون الجهاد في الإسلام وضرورته وأحوال مشروعيته، يجد أنه لا يوجد تعارض بين المبادئ الإسلامية في الجهاد، وما توصل إليه أخيرا ميثاق الأمم المتحدة في إقرار الأمن والسلم، بل إن مبادئ الإسلام تتميز بأنها تشريع إلهي، بينما ميثاق الأمم المتحدة وضعته عقول البشر القاصرة، وشتان بين تشريع الخالق والمخلوق، فالخالق يشرع وهو خبير بأحوال المخلوقين عالم بخبايا نفوسهم، أما المخلوق فإنه يشرع وفي نفسه تأثيرات متعددة تجعل خروج التشريع بدرجة الكمال أمرا مستحيلا.

الدليل على عدم التعارض بين الجهاد في الإسلام والأوضاع الدولية الحديثة:

إن ميثاق الأمم المتحدة في إقرار السلم وتجريم الحرب، جاء رد فعل للحروب الواقعة في تلك الحقبة، وقد حاولت الدول وضع الأسس لإقرار السلام الدولي لإطفاء نار الحرب، والناظر إلى موقف الإسلام من الحروب يتبين له سبقه في تحريم الحرب التي تقوم على العدوان والظلم وسلب خيرات الشعوب، وهو أيضا يحرم الحرب التي تقوم على اختلاف سياسي أو مذهبي أو عرقي، ويقر فقط الحرب من أجل رد الاعتداء، وإقرار الحرية والمساواة، وضمان كرامة الشعوب، إذن لم يأت القانون الدولي الحديث بجديد في تجريم الحروب العدوانية، إلا ما سبقه الإسلام إليه منذ أربعة عشر قرنا([5]).

لقد أقر القانون الدولي الحديث حق دفع العدوان؛ لأن ذلك حق من الحقوق الطبيعية للدول، والمتعارف عليها في القانون الدولي المعاصر، وهي حق البقاء، وحق الدفاع الشرعي، وحق المساواة، وحق الحرية، وحق الاحترام المتبادل.

ليس الجهاد في الإسلام إلا حالة من حالات الدفاع المشروع، وهي:

  1. حالة الاعتداء على دعاة الإسلام، انطلاقا من مبدأ الحرية الدينية المعترف بها دوليا في ميثاق الأمم المتحدة، وهو المصرح به في قوله عز وجل: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة:256).
  2. الحرب لمناصرة المظلومين أو المستضعفين، وليس هذا تدخلا في شئون الغير؛ لأن التدخل اعتداء، ولكن هذا التدخل مشروع في حال الدفاع عن الإنسانية، أو بسبب الاعتداء على رعايا الدولة، أو الشعب المقهور (مثل فلسطين في الوقت الحالي).
  3. الدفاع عن النفس والوطن، أو لصد عدوان أجنبي غاشم مروع، أو احتلال بعض أراضي الدولة، أو محاولة طرد السكان الأصليين من ديارهم وممتلكاتهم، وهذا ما يشتمل عليه قوله عز وجل: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة:256) ([6]).

فلا تعارض إذن بين ما توصلت إليه القوانين العالمية الحديثة ومشروعية الجهاد الإسلامي.

لقد ورد في القانون الدولي الإشارة إلى أن الجميع يجب أن يعملوا على إقرار مبدأ السلام، والتعايش السلمي بين الشعوب، وهذا المبدأ سبق إليه الإسلام في تقريره والعمل به، يقول عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة( (البقرة:208)، ويقول: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله( (الأنفال:61)، )فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90)( (النساء).

وهكذا فإنه لا يوجد تعارض بين أحكام الإسلام في الحرب وميثاق الأمم المتحدة، وإنما توجد أسبقية الإسلام في تقرير ذلك، والأسبقية تقتضي التفضيل قطعا، في حين أن المبادئ الإسلامية لها قداستها واحترامها على حين أن المبادئ البشرية لا تلقى الاحترام إلا بمقدار ما يعود على الناس من إلزامهم بها من فوائد ومنافع، ولهذا تنتهك هذه القوانين كل يوم حتى من قبل واضعيها أنفسهم([7]).

وبناء على ما تقدم، فإن الجهاد في الإسلام لا يتعارض مع أحكام النظرية الجديدة في العلاقات الدولية الحديثة، وإنما يتعارض مع الثغرات التي وجدت في الميثاق الدولي الحديث، والتي كانت سببا في إهانة الإنسان وسلبه حقوقه وحريته، وكانت سببا في تقسيم العالم إلى دول كبرى ودول صغرى.

فكل ذلك لا يقره الإسلام ولا يقيم له وزنا؛ لأنه دين المساواة والعدل، ولهذا فرض الجهاد، وجعله مشروعا إلى يوم الدين، لرفع الظلم عن المستضعفين في الأرض، وإقامة السلام العادل بين الناس جميعا.

ثالثا. أسباب الجهاد ودواعيه قائمة في هذا الزمان وفي كل زمان:

لم يترك المسلمون الجهاد ولم يتخلوا عنه؛ لأنه طبيعة هذا الدين، وأخص خصائص الأمة الإسلامية، ولهذا لم يفرط فيه المسلمون في أي عصر من عصورهم، ولن يتخلوا عنه، فإن لم يكن بالسنان كان بالحجة والبرهان، أي جهاد بالكلمة والقلم.

إن الإسلام لايعرف التضليل والمخادعة، وحين فرض الجهاد ربطه بأسباب ودواع يمكن أن تحدث في كل زمان ومكان، وها هي الأسباب التي شرع الجهاد من أجلها تتحقق اليوم في كثير من بقاع العالم، تتوفر في فلسطين حيث حرم هذا الشعب من العيش فوق أرضه، وطرد من بلاده ودياره، وسلبت خيراته، وتتحقق في الفلبين حيث الاضطهاد الصليبي الذي يسلب من الفلبيني حرية المعتقد، فالمسلمون يموتون هناك بالآلاف نتيجة الإبادة الجماعية التي تقوم بها حكومة ماركوس، وتتحقق في الولايات المتحدة حيث يحرم الإنسان من كل مقومات العيش ويطارد من مكان إلى آخر لا لشيء إلا لأنه هندي أحمر صاحب الأرض الأصلي، ويحرم الزنجي أيضا من كثير من الامتيازات والحقوق لا لشيء إلا أنه أسود، ومثل ذلك الحال في جنوب أفريقيا حيث يضطهد الأفريقيون أصحاب الأرض الأصليون، وتسلب خيراتهم من قبل شر ذمة من البيض ليس لها حق في تملك الأرض أو التمتع بها.

ها هي شروط الجهاد تتحقق في كثير من الأماكن، وها هو الظلم قد أحاط بالإنسان من كل جانب، والإسلام ينادي برفع الظلم ورد الاعتداء، فهل ذلك لا يتفق مع روح العصر؟ وها هي الحرية قد انتزعت، والكرامة قد انتهكت، والإسلام يدعو لحرية الفرد وكرامته، ويوجب الجهاد من أجلها، فهل في ذلك ما يناقض روح العصر؟ وها هي المساواة قد انعدمت بين الأفراد، واستحل التمييز العنصري والمذهبي والطائفي، والإسلام يدعو إلى المساواة بين جميع الأجناس والطوائف والألوان، ويوجب القتال من أجل فرض هذا المبدأ، فهل في ذلك ما يخل بروح العصر؟ كلا إن دواء الإنسانية اليوم هو الجهاد، ووسيلة الأفراد لنيل حقوقهم هو الجهاد، ذلك أنه أمر شرعه الباري - عز وجل - وهو خالق البشر، وهو الخبير بأمراضهم وعلاجها.

إن محاولة هؤلاء المشككين إضفاء طابع العصرية على مفهوم الجهاد، واتخاذ ذلك وسيلة لإلغاء فرضيته بحجة أنه لا يوجد ما يدعو إليه أو يسوغه، محاولة فاشلة، المراد منها تزييف الحق ونصرة الباطل، وإذا نظرنا إلى ظروف العصر سنرى أن الجهاد أمر لا مفر منه؛ إبراء للبشرية من سقامها، وإثباتا لحق الفرد في الحياة الحرة الكريمة: )ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)( (الإسراء) ([8]).

رابعا. الجهاد في الإسلام ليس معناه فرض مبادئ وآراء وأفكار بالقوة:

 إن ميادين الجهاد أكبر وأوسع من ذلك الجهاد القتالي، فما هو إلا واحد من هذه الميادين، وإنما شرع الجهاد القتالي للدفاع عن الدعوة وحمايتها - وقد قررنا ذلك في مواضع كثيرة - لا من أجل فرض العقيدة والآراء بالقوة.

فليس من مهمة المسلمين إكراه الناس على اعتناق الإسلام، ولو أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لما كانت هناك حاجة لأن يبرم عهودا ومواثيق مع اليهود في المدينة، وماذا يمنعه من أن يكره اليهود على اعتناق الإسلام أو أن يبيدهم عن آخرهم، إنه رجل الدولة الأول - إن صح التعبير - والمسلمون هم القوة الأولى في الجزيرة العربية، لا شيء يمنعه من فعل ذلك إلا الأمر الإلهي: )لا إكراه في الدين( (البقرة: ٢٥٦)، لقد جاء في عهده لليهود حين قدم المدينة: "وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ - أي يهلك - إلا نفسه وأهل بيته([9]).

تلك هي حرية العقيدة في الإسلام التي تتجلى في مواقف كثيرة للرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، ولعل من بينها أيضا ذلك العهد الذي أعطاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنصارى نجران في اليمن حين اعتبرهم وحاشيتهم في جوار الله وذمة رسوله، وأمنهم على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم، لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ومن سأل حقا منهم بينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين([10]).

وقد سار الصحابة على نفس النهج الذي رسمه لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتجنبون إكراه الناس على تغيير معتقداتهم، جاء عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق، قالت: أنا عجوز كبيرة، والموت إلي قريب، فقال عمر: اللهم اشهد وتلا: )لا إكراه في الدين( ([11]).

هل بعد هذا يمكن لأحد أن يقول إن المسلمين أجبروا الناس على اعتناق الإسلام، وإن الانتشار الواسع والنجاح الباهر الذي حققه الإسلام لم يكن ليحصل لولا القوة والإكراه، إن هذا ما تبطله الوقائع التاريخية الكثيرة التي حفلت بها كتب التاريخ والتي سجلت للمسلمين تاريخا ناصعا اكتسحوا فيه الأمم والشعوب من أجل أن يدافعوا عن حرية العقيدة.

ولقد أحسن الأستاذ أنور الجندي حين قال: "إذا جاز لنا أن نستعمل كلمة فتح فإنما يتم ذلك بمفهوم واحد، وهو إزالة القوة التي تقف أمام أمانة عموم الرسالة التي حملها المسلمون عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت في تقديرهم مهمة حياتهم يهبون لها أرواحهم ويستشهدون من أجلها، فالفتح هو كسر الحواجز المادية التي يحاول أن يقيمها الحكام والأباطرة والأمراء أصحاب السلطة في الأقطار التي ينفذ إليها الاسلام رغبة في تحقيق اللقاء بين الإسلام وبين هذه الشعوب المغلوبة على أمرها"([12]).

وهنا يجدر بنا أن نذكر أنواع الجهاد ومراتبه - إذ إن الجهاد في الإسلام لا يقتصر على الجهاد القتالي فحسب - وهي فيما ما يأتي:

  1. جهاد النفس:
  • جهادها على تعلم الهدى والدين الحق، من كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنه.
  • جهادها على العمل الصالح والالتزام بما تعلمت من الخير والبر.
  • جهادها على الدعوة إلى ما تعلمت من الحق والهدى.
  • جهادها على الصبر على مشاق الدعوة.
  1. جهاد الشيطان:
  • جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك والظنون في الدين الحق.
  • جهاده على دفع ما يلقي في النفس من الشهوات والإرادات الفاسدة.

قال الله عز وجل: )إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (201)( (الأعراف)، )إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير (6)( (فاطر).

  1. جهاد الكفار والمنافقين:
  • جهادهم بالدعوة إلى الدين الحق بالحكمة والموعظة الحسنة.
  • جهادهم بالمال والنفس دفاعا عن الدين والأرض والعرض. قال الله عز وجل: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (125)( (النحل)، )فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا (52)( (الفرقان)، )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة)، )يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير (9)( (التحريم).
  1. جهاد أصحاب المنكر والفسوق والعصيان:

باليد واللسان والقلب على حسب الأحوال، وهو ما يعرف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله عز وجل: )ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104)( (آل عمران).

وفي السنة النبوية ما جاء عن طارق بن شهاب وهذا حديث أبي بكر قال: «أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه؛ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»([13]).

وعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»([14]).

وبهذا وضح أن الجهاد بمفهومه الشامل فيما سلف - القوة الدافعة للدعوة الإلهية لاستمرارها وعموم نفعها، وهو قيمة عليا من القيم التي يتعامل بها المجتمع المسلم ويتحلى بها، ومن ثم استحق أن يكون ذروة سنام الإسلام.

قال ابن تيمية: الجهاد، إما أن يكون بالقلب كالعزم عليه، أو بالدعوة إلى الإسلام وشرائعه، أو بإقامة الحجة على المبطل، أو ببيان الحق وإزالة الشبهة، أو بالرأي والتدبير فيما فيه نفع للمسلمين، أو بالقتال نفسه.

الخلاصة:

  • إن فريضة الجهاد ماضية إلى قيام الساعة، وما دام هناك صراع بين الحق والباطل، فإن أصحاب الحق لا يزالون حاملي الرايات ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم.
  • إن الناظر في نظام الجهاد في الإسلام وضرورة مشروعيته لا يجد أي تعارض بينه و بين ما وصلت إليه المنظمات الدولية الحديثة، فقد سبق الإسلام هذه المنظمات في إقرار السلام ونبذ الحرب التي تقوم على التعدي و الظلم، وكذلك أقر حق الدفاع المشروع عن الدين و النفس و الوطن و المستضعفين في الأرض، وإقرار مبدأ السلم والأمن الدوليين.
  • رفع الإسلام ذكر الجهاد في سبيل الله - عز وجل - وأعلى شأنه متى تحققت أسبابه وبواعثه، فجعل درجته أرفع الدرجات، ومنزلته أسمى المنازل بعد الإيمان.
  • الجهاد قائم ما دامت أسبابه ودواعيه قائمة، وهي كذلك في هذا الزمان، وفي كل زمان أسبابه قائمة، نعني بذلك جهاد الدعوة والتذكير لأفراد الأمة أنفسهم، فضلا على أن تدعو إليه الحاجة كردع عدوان، أو تهديد لبلاد الإسلام، فإنه يتحتم هنا الجهاد القتالي بالسنان حماية للدين، ودفعا لظلم الظالمين.
  • إن قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان ليست عامة في كل الأحكام حتى تطبق على فريضة الجهاد ويستند إليها للقول بعدم فرضيته في زماننا هذا؛ وإنما هذه القاعدة تدور غالبا فيما يتعارف عليه الناس من معاملاتهم اليوم، دون أن يتعارض ذلك مع نص صريح، أو مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
  • لم يترك المسلمون الجهاد، ولم يتخلوا عنه في أي زمن من الأزمان، وما ينبغي لهم ذلك؛ لأنه من طبيعة هذا الدين، وهو من أخص خصائص الأمة الإسلامية.
  • الجهاد في الإسلام ليس معناه فرض مبادئ وآراء وأفكار واعتقادات بالقوة؛ وذلك لأن الجهاد له ميادين كثيرة غير الجهاد القتالي - وهو واحد من هذه الميادين - الذي شرع فقط لحماية الدعوة وأهلها، وليس لفرض الدين والآراء والمعتقدات، فالدعوة إلى الإسلام وإلى مبادئه إنما شرعت بالحكمة والموعظة الحسنة وليس بالقتال.

 

 

 

(*) الاستشراق والجهاد الإسلامي، د. السيد عبد الحليم محمد حسين، دار الطباعة والنشر الإسلامية، القاهرة، ط1، 2004م.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله (2635)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى (4977)، واللفظ له.

[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب قوله: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق (5063)، وفي موضع آخر بنحوه.

[3]. الجهاد في الإسلام، محمد شديد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، ص154، 155.

[4]. الاستشراق والجهاد الإسلامي، د. السيد عبد الحليم محمد حسين، دار الطباعة والنشر الإسلامية، القاهرة، ط1، 2004م، ص278،277.

[5]. الاستشراق والجهاد الإسلامي، د. السيد عبد الحليم محمد حسين، دار الطباعة والنشر الإسلامية، القاهرة، ط1، 2004م، ص283،282 بتصرف.

[6]. قضايا الفقه والفكر المعاصر، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق،ط1، 1427هـ/ 2006م، ص716.

[7]. الاستشراق والجهاد الإسلامي، د. السيد عبد الحليم محمد حسين، دار الطباعة والنشر الإسلامية، القاهرة، ط1، 2004م، ص284،283.

[8]. الاستشراق والجهاد الإسلامي، د. السيد عبد الحليم محمد حسين، دار الطباعة والنشر الإسلامية، القاهرة، ط1، 2004م، ص280،279.

[9]. السيرة النبوية، ابن هشام، تحقيق: محمد بيومي، دار الإيمان، المنصورة، ط1، 1416هـ/ 1995م، ج2، ص98.

[10]. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، جماع أبواب غزوة تبوك، باب وفد نجران وشهادة الأساقفة لنبينا صلى الله عليه وسلم (2126).

[11]. الدر المنثور، جلال الدين السيوطي، دار الفكر، بيروت، 1993م، ج2، ص22. الاستشراق والجهاد الإسلامي، د. السيد عبد الحليم محمد حسين، دار الطباعة والنشر الإسلامية، القاهرة، ط1، 2004م، ص201:199.

[12]. الاستشراق والجهاد الإسلامي، د. السيد عبد الحليم محمد حسين، دار الطباعة والنشر الإسلامية، القاهرة، ط1، 2004م، ص201.

[13]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (186).

[14]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (188).

 

  • الاحد AM 02:29
    2020-11-22
  • 939
Powered by: GateGold