المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413681
يتصفح الموقع حاليا : 214

البحث

البحث

عرض المادة

دعوى جفاف العبادات الإسلامية وافتقارها للروحانية واهتمامها بالمظهر لا بالجوهر

دعوى جفاف العبادات الإسلامية وافتقارها للروحانية واهتمامها بالمظهر لا بالجوهر(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن العبادات في الإسلام شعائر جافة؛ فهي لا تهتم في نظرهم إلا بالنواحي الشكلية فقط، ولا علاقة لها بالنواحي الروحية للدين، كما أن الأعمال الجماعية - كالحج والصلاة ونحوها - ليست إلا أعمالا فردية يؤديها المؤمنون في وقت واحد دون أن تتخذ طابع الاحتفالات الموجهة المنظمة وفق تنسيق خاص، ويقولون: إن العبادات تربي الناس على الخضوع والخوف، ولا مجال فيها للحب، ويرمون من وراء ذلك إلى التشكيك في جدوى العبادات في الإسلام.

وجها إبطال الشبهة:

1) الإسلام لم يهتم في تشريعاته وآدابه بجانب المادة على حساب الروح كما يدعي هؤلاء، وإنما اهتم بجانبي الروح والجسد معا، والشريعة الإسلامية أكثر وضوحا في هذا الأمر من الشرائع الأخرى.

2) الجانبالإنسانيفيالشريعةالإسلاميةهولبلبابتشريعاتهوآدابه.

التفصيل:

أولا. جمع الإسلام في تعاليمه بين مطالب الجسد ومطالب الروح ([1]):

في هذا السياق يذكر الشيخ محمد الغزالي أن أساس النزاع الأبدي بين الناس في هذه الحياة أن تكون الهيمنة للحيوان الرابض في دم الإنسان يتحرك بنزعات القسوة والأثرة وحدها، أم تكون الهيمنة للقلب الإنساني المتطلع إلى الكمال والسلام، والحب والإيثار؟ ذاك ما يجب أن يعرف بجلاء، وأن ترتفع حناجر المصلحين به.

وقد حملنا - نحن المسلمين - حضارة أعلت قدر الإنسان، ولفتت نظره إلى أن ملكوت السماوات والأرض ممهد له: )ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (20)( (لقمان).

إن هذا التسخير لآفاق السماء وفجاج الأرض وجعلها في خدمة الإنسان يتضمن إشارة بينة إلى أن الإنسان خلق ليكون سيدا لا ليكون مهانا.

وإن سجود الملأ الأعلى له في السماوات معناه أن يحيا على ظهر هذه الأرض سيدا موفور الحرمة مدعوم المكانة؛ إذ وظيفته أن يخلف الله في أرضه.

ولكن لا يجوز عند انشغال الإنسان بأعباء العيش الأرضية أن ينسى حقوق ربه الذي أسندها إليه، والذي قواه عليها. قال عز وجل: )أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (115) فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم (116)( (المؤمنون).

وقد وفق الإسلام في تعاليمه بين مطالب الجسد ومطالب الروح، وبين واجبات الدنيا وواجبات الآخرة؛ فكأن الإنسان - بعد هذا الصلح الذي عقده الإسلام - كيان واحد يستقبل به عالما ليست فيه فواصل بين الموت والحياة.

وتوضيحا لهذا المنهج الوسط قيل لكل إنسان: )وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين (77)( (القصص).

ليس في الإسلام إذن انفصال بين العمل للدنيا والعمل للأخرى، فإن العمل للدنيا بطبيعته يتحول إلى عبادة ما دام مقرونا بشرف القصد وسمو الغاية.

وليس في الإسلام تغليب للجسد على الروح، ولا للروح على الجسد، إنما فيه تنظيم دقيق يجعل معنويات الإنسان هي التي تتولى قياده وتمسك بزمامه، فلا هو براهب يقتل نداء الطبيعة، ويميت هواتف الفطرة، ولا هو مادي يتجاهل سناء الروح وأشواقها إلى الرفعة والخلود.

إن الإسلام يلح على كل إنسان فوق ظهر الأرض ألا ينسى نسبه السماوي، وألا يتجاهل أصله المنبثق من روح الله.

وللجسد حقوق مقدرة، وقد قال الله في وصف أنبيائه: )وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين (8)( (الأنبياء).

وقد أمر الإسلام بتطهير البدن وتزكية الروح، فقال: )إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222)( (البقرة)، وطهارة الروح أساسها حسن الصلة بالله.

وطهارة البدن بإزالة القذي الذي لا يليق بمكانة إنسان كريم على الله، له رسالة سماوية مجيدة.

إن عبادة الجسد، وعبادة المادة، والتمرد على الأساس الإلهي في الحياة الإنسانية عوج لا يتمخض إلا عن الشر والبلاء.

وآفة الحضارة المادية أنها سخرت العقول للشهوات، وأخرست نداء الروح وأطلقت نداء الطين، وجحدت كون الإنسان نفخة من روح الله، ورأت أنه - كلا وجزءا - نشأ من الأرض فلا يجوز أن يرفع رأسه إلى أعلى يذكر الله ولي نعمته، وسر عظمته.

ونحن نؤكد أن شرف الإنسانية - أولا وآخرا - في صلتها بالله، واستمدادها منه، وتقيدها بشرائعه ووصاياه، والحرية الحقيقية ليست في حق الإنسان أن يتدنس إن شاء، بل الحرية أن يخضع لقيود الكمال وأن يتصرف داخل نطاقها وحده، )وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (36)( (الأحزاب).

وقال صلى الله عليه وسلم:«من رغب عن سنتي فليس مني» ([2]).

ولكن ما الحرية التي هفت إليها الشعوب، وتنادى بها كبار القلوب؟

إنها حق البشر في تأمين الوسائل التي يحيون بها حياة زكية نقية، وليست حق امرئ ما في أن ينسلخ من طبيعته، أو يتمرد على نظرته.

إن الحرية ليست حق الإنسان أن يتحول حيوانا إذا شاء، أو يجحد نسبه الروحي إلى رب العالمين، أو يقترف من الأعمال ما يوهي صلته بالسماء ويقوي صلته بالتراب، فإن الحرية بهذا المعنى لا تعدو قلب الحقائق، وإبعاد الأمور عن مجراها العتيد، بل الواقع أنك لن تجد أعبد ولا أخضع من رجل يدعي أنه حر، فإذا فتشت في نفسه وجدته ذليلا لشهواته كلها، ربما كان عبد بطنه أو فرجه، وربما كان عبدا لمظاهر يرائي بها الناس، أو لمراسم يظنها مناط وجاهة، فإذا فقد بعض هذه الرغائب رأيته أتفه شيء ولو كان يلي أكبر المناصب، بل لو كان ملكا تدين له الرقاب.

الحرية المطلقة لا تنبع إلا من العبودية الصحيحة لله وحده؛ فإن القلب المرتبط بالله يعلو بصاحبه على كل شيء، فما تذله رهبة ولا تدينه رغبة، وهو بمعالم الشريعة التي يلتزمها مصون من الدنايا، محصن من المزالق؛ ولذلك فنحن نكذب كل دعوة للحرية تزين للناس الاعتداء على حدود الله أو تعطيل أحكامه أو تهوين فرائضه، أو الهبوط بالإنسان عن المكانة السماوية التي رشح لها بأصل الخلقة. كم يكون الإنسان نازل المرتبة تافه القيمة إذا كانت وظيفته في الحياة لا تتجاوز بضع عشرات من السنين يقضيها على ظهر الأرض ثم...

ثم يقضي دون عودة، وينتهي بذلك أمره كما تنتهي آجال الذئاب في الغاب أو الشياه في الحقول، أو الخيول في "الإصطبل".

ألهذا خلق الإنسان؟! أو لهذا استخلفه الله في العالم؟!

قد رشحوك لأمر، لو فطنت له

فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

إن الله الذي امتن على الإنسان بهذه المرتبة الرفيعة لم يدعه في هذه الحياة وشأنه، قال عز وجل: )أيحسب الإنسان أن يترك سدى (36)( (القيامة)؟! كلا، إن الله كما شرفه بالكثير من النعم كلفه بالخطير من الحقوق، وهي حقوق تدور في جملتها على رعاية مصالحه، وضمان الخير له في عاجل أمره وآجله، والإسلام كلمة الله الأخيرة في هذا المجال، وهو دين يحترم طبائع الأشياء؛ لأنه دين الفطرة، ولذلك يستحيل أن يتضمن حكما علميا أو اجتماعيا يناقض الحقوق المقررة، قال عز وجل: )وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا (105)( (الإسراء).

وكذلك يستحيل أن يلحقه تعديل أو تبديل؛ ولذلك قال عز وجل: )وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم (115)( (الأنعام)، وخير الناس في أن يستبينوا رشدهم في صفحات الكتاب الذي استوعب أصول هذا الدين القيم، واستوعب إلى جانب ذلك كل ما يضمن للعالم الخير والازدهار.

إنه الأثر السماوي الحق، الذي بقي مستعليا على التحريف والتغيير، يصل الإنسان بنسبه السماوي العريق، ويرتفع به عن مستوى التراب، وآمال التراب!

لقد تألقت مواهب الإنسان العقلية في عصور مضت، وازداد وهجها ازديادا عظيما في هذا العصر، وخيل للإنسان أن مكاسبه من وراء هذا الارتقاء الفكري البحت لا تقدر، بل خيل إليه أنه أصبح - بهذا الجانب العقلي المبتور - سيد الوجود حقا.

ولو أننا تأملنا في حصاد هذا الطور التقدمي من حياة الإنسان لراعنا منه أن كفة الخسائر طافحة، وأن الإنسان قد خسر نفسه، وبذل أنفس ما فيه؛ كي يحصل على الحطام الفاني، ولم يرجع من وراء هذا الكفاح الحثيث إلا بالتضحيات والبلايا: )ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم (55)( (الحج).

إن الإنسان يكون وفيا لنسبه السماوي يوم يكرس قلبه ولبه لله.

ثانيا. الجانب الإنساني في رسالة الإسلام ([3]):

إن كل دارس للإسلام في كتابه وسنة رسوله يتبين له بجلاء: أنه وجه عناية بالغة إلى الجانب الإنساني وأعطاه مساحة رحبة من رقعة تعاليمه وتوجيهاته، وتشريعاته.

وإذا نظرت في الفقه الإسلامي وجدت العبادات لا تأخذ إلا نحو الربع أو الثلث من مجموعه، والباقي يتعلق بأحوال الإنسان من أحوال شخصية ومعاملات وجنايات وعقوبات وغيرها.

على أنك إذا تأملت العبادات الكبرى نفسها، وجدت إحداها إنسانية في جوهرها، وهي عبادة الزكاة، فهي تؤخذ من الإنسان الغني لترد على الإنسان الفقير. هي للأول تزكية وتطهير، وللثاني إغناء وتحرير.

والعبادات الأخرى لا تخلو من جانب إنساني تلمحه في ثناياها.

فالصلاة عون للإنسان في معركة الحياة: )واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين (45)( (البقرة).

والصوم تربية لإرادة الإنسان على الصبر في مواجهة المصاعب، وتربية لمشاعره على الإحساس بالآم غيره، فيسعى إلى مواساته؛ ولهذا سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - شهر رمضان: "شهر الصبر"و "شهر المواساة".

والحج مؤتمر رباني إنساني، دعا الله فيه عباده المؤمنين: )ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير (28)( (الحج)، فشهود المنافع هنا يمثل الجانب الإنساني في أهداف الحج.

وفوق ذلك نجد النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع إلى درجة العبادة كل عمل يؤديه المسلم، يترتب عليه نفع مادي أو سرور لأي إنسان.

ولا يكاد مسلم يجهل الأحاديث النبوية التي تقرر أن: إماطة الأذي عن الطريق صدقة، وأن أمرك بمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وحملك الرجل الضعيف على دابته صدقة، وإصلاحك بين اثنين صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، والكلمة الطيبة صدقة.. إلى آخر ما جاء به الحديث من ألوان البر الإنساني، والخدمة الاجتماعية.

بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليرتفع بهذا اللون من البر والخدمة الإنسانية اليومية، إلى منزلة الواجب الذي يؤاخذ تاركه عمدا وهو قادر عليه.

روى الشيخان عن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «على كل مسلم صدقة، فقال أصحابه: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يتصدق به، وقالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟! أي أنهم حسبوا الصدقة محصورة في إعطاء شيء من المال للمحتاج، فبين لهم سعة مفهوم الصدقة التي يأمر بها كل مسلم، حتى من لم يجد ما لا يتصدق به، فقال: "يعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدق"، قالوا: فإن لم يجد؟! قال: "يعين ذا الحاجة الملهوف"، قالوا: فإن لم يستطع؟ قال: "يأمر بالمعروف"، قالوا: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر؛ فإنها له صدقة» ([4]).

وأكثر من ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجعل هذه الفريضة الإنسانية الاجتماعية اليومية على كل جزء من أجزاء الإنسان، فقال صلى الله عليه وسلم: «كل سلامى([5]) من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الاثنين صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذي عن الطريق صدقة» ([6]).

وفي بعض الأحيان تجد الأحاديث النبوية تعطي قيمة لبعض الأعمال الإنسانية. ترفع بها درجتها على الاشتغال بالقربات الدينية. وذلك في الأعمال التي تتسع دائرة النفع بها للخلق، أو يدرأ بسببها شر كثير عن الناس، مثل إصلاح ذات البين، وعدل الوالي في ولايته... ونحو ذلك. نقرأ في الحديث الشريف: «ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات الدين هي الحالقة»([7]). يعني: حالقة الدين لا حالقة الشعر، كما جاء في إحدى الرويات.

ونقرأ كذلك هذا الحديث العجيب: «أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم: تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد - يعني مسجد المدينة - شهرا، ومن كظم غيظه - ولو شاء أن يمضيه أمضاه - ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يقضيها له ثبت الله قدميه يوم تزل الأقدام» ([8]).

إنسانية الإنسان:

ولقد عرف العالم - فيما عرف من مذاهب وفلسفات وأفكار، يضرب بعضها بعضا - اتجاهين فكريين يناقض أحدهما الآخر:

اتجاه يؤله الإنسان: يجعله إله نفسه، لا رب خلقه، ولا إله يدبر أمره، ولا حساب ينتظره، ولا آخرة يصير إليها، فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

واتجاه آخر، ينظر إلى الإنسان على أنه مجرد حيوان: حيوان متطور، أو حيوان منتج، أو حيوان اجتماعي.

شمول العبادة في الإسلام:

وتتمثل ظاهرة الشمول الإسلامي في عبادته كما تمثلت في عقيدته.

فالعبادة في الإسلام - كما بينا في مقومات الإسلام - تستوعب الكيان البشري كله، فالمسلم لا يعبد الله بلسانه فحسب، أو ببدنه فقط، أو بقلبه لا غير، أو بعقله مجردا، أو بحواسه وحدها. بل يعبد الله بهذه الحواس كلها: بلسانه ذاكرا داعيا تاليا، وببدنه مصليا صائما مجاهدا، وبقلبه خائفا راجيا محبا متوكلا، وبعقله متفكرا متأملا، وبحواسه كلها مستعملا لها في طاعته سبحانه، ومعنى آخر للشمول في العبادة؛ وهي أنها تتسع للحياة كلها، فلا تقتصرعلى الشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج، بل تشمل كل حركة وكل عمل ترتقي به الحياة، ويسعد به الناس. فالجهاد في سبيل الله دفاعا عن الحق، وذودا عن الحرمات، ومنعا للفتنة، وإعلاء لكلمة الله.. عبادة لا تعدلها عبادة.

وكل عمل نافع يقوم به المسلم لخدمة المجتمع، أو مساعدة أفراده عبادة لا تعدلها عبادة أيضا.

مكة وطن روحي لجميع المسلمين:

ثم إن الزعم أن الفروض الجماعية في الإسلام - كالصلاة والحج، ونحوهما، ما هي إلا أعمال فردية - قلب للحقيقة ومجافاة للواقع الذي عليه طبيعة مثل هذه الفرائض. فعن الجانب الروحي والطبيعة التنظيمية الجماعية في الحج مثلا يحدثنا د. دراز قائلا: أيها الحجاج الأبرار، هذا حرم الله تفتح لكم سماؤه تكريما لوفودكم، وتتطامن لكم أرضه ترحيبا بقدومكم، وهذه ملائكة الرحمن تستقبلكم وتحييكم وتقود خطاكم وتهديكم.

أيها الضيف المكرمون، حنان([9])، ما أتى بكم اليوم هاهنا في هذا القيظ الملتهب هواؤه، المحترقة رمضاؤه، أعلن حين يتهيب الناس في بيوتهم أن يخرجوا من الكن إلى الضح، وأن يتعرضوا للفح الريح. في الوقت الذي يخرج فيه القادرون على السفر إلى مرابع الظل الظليل، ومساقط النسيم العليل في مناطق الشمال، وعلى شواطئ البحار تقلبون أنتم ضاحين في العراء ضاربين في أحشاء الصحراء، تكابدون عناء الحل والترحال، وتخوضون بحارا من العرق والغبار، في بلد غير ذي زرع ولا قطر. هلا أجلتم هذه الرحلة القاسية عدة أخرى من السنين حتى يدور الزمان دورته، فيجئ موسم الحج في الشتاء أو في الربيع؟

هكذا يخوف الشيطان أولياءه، ويخذل الضعفاء من أعدائه، وهكذا يفكر أولو النعمة، والمترفون في كل أمة.

أما أنتم فقد سخرتم من كل هذه المعوقات والمثبطات، إن حرارة الطبيعة قد انمحت وانهزمت أمام حرارة إيمانكم، وإن وعورة السفر قد ذللتها صلابة عزائمكم. وهكذا برهنتم على أن الإنسان ليس هو هذا الهيكل الحسي الذي تدركه الأبصار، وأن قيادته وتصريف زمامه ليسا - كما يزعم الجاهلون - بيد تلك القوي الطبيعية كلها بدنية كانت أم كونية، برهنتم على أن في الإنسان جوهرة أخرى أعظم من أن ينالها الحس، السلطان في الحقيقة سلطانها، والأمر النافذ على الجوارح هو أمرها. تلك هي المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب.

لقد شعرتم إذن بنداء الواجب يتردد صداه بين جوانحكم، فلم يسعكم إلا أن أجبتموه سراعا: لبيك لبيك، لا نعرض محجمين ولا نقعد متثاقلين. وكذلك يفعل أولو الحزم والعزم، هم أبدا سباقون إلى الخير، مسارعون إلى البر، لا يحتمل نداء الواجب عندهم تسويفا ولا تأجيلا، ولا يبالون في سبيله ما يبذلون من جهد وتضحية، ذلك بأنهم لا يصيبهم فيه ظمأ ولا نصب ولا مخمصة، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولاكبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم، ووفوا عليه جزاءهم. ألا فليكن في سبيل الله ما كابدتم وتكابدون، وفي صحيفة الحسنات ما بذلتم وتبذلون. وليكن جزاؤكم عند الله موفورا، وسعيكم لديه مشكورا.

أيها الضيف المكرمون، لا تحسبوا حين أدعوكم باسم الضيف المكرمين إني أعدكم ضيفا هاهنا على أحد من البشر. فإنما أنتم وفد الله وضيف الرحمن. إنكم هاهنا لستم بدار غربة، ولكنكم في أرضكم ودياركم. لئن كنتم قد فارقتم أوطانكم الخاصة المتفرقة - لقد حللتم هنا في وطنكم المشترك الجامع. هذا هو البلد الحرام الذي جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد. فالمسلمون فيه سواسية: المقيمون فيه، والقادمون إليه - لهم جميعا حق مشاع في مناسكه ومشاعره، وآثاره ومعالمه، لا ينازع فيه أحد أو تستأثر به أمة دون أمة.

أيها الحجيج البررة، كم تشاهدون هاهنا من آيات بينات! وكم تسعيدون هاهنا من ذكريات محببات إلى القلوب! هاهنا هبط الوحي من السماء، هاهنا استوطن الأنبياء، هاهنا بزغ نور الإسلام، هاهنا مشى محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه، هاهنا انتصر الحق وحزبه، هاهنا طاف الأنبياء والصالحون، هاهنا سعوا وهرولوا، هاهنا صعدوا وانحدروا، هاهنا ذبحوا ونحروا، هاهنا دعوا وابتهلوا، هاهنا تصدقوا وبذلوا، فإن كنتم تريدون أن تسجلوا أسماءكم في الكتاب الذهبي الذي أعده الله لهم فسيروا على مواضع أقدامهم، واقتفوا سنتهم وآثارهم، في نصها وروحها ومظهرها ومخبرها.

ثم هذه الكعبة التي كنتم تحجون إليها بقلوبكم في الصلوات، وترنون إليها بأبصاركم من وراء الآفاق، كل يوم عشرات المرات ها هي ذي منكم الآن رأي الأعين، فاغتنموا وتزودوا. إنها البقعة المطهرة المطهرة: مطهرة؛ أمر الله أن تنزه عن كل رجس، وعن كل إثم. وعن كل ظلم. حتى من الرفث والخصومة والجدال. الصغيرة فيها كبيرة، والحيف اليسير فيها ظلم عظيم: )ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم (25)( (الحج).

ومطهرة؛ جعلها الله مغتسلا للذنوب التي ترتكب في كل مكان، وفي كل شأن إلا ظلم الإنسان للإنسان، فإنه لا تكفره صلاة، ولا صوم ولا حج، ولا قربان. وإنما تمحوه رد التبعات إلى أهلها أو استعفاؤهم منها.

أيها الحجاج المبرورون، لقد حدثتكم الآن عن أهداف هذه الرحلة المقدسة، حديثا يعرفه كل امرئ منكم في نفسه، وأود أن أحدثكم عنها حديثا آخر ربما لا يعرفه منكم إلا القليل: فعامة المؤمنين يفهمون من شعائر الحج أنها مأدبة روحية أعدها الله لعباده عند أول بيت وضعه للناس؛ ليتزودوا فيها من أنواع القربات، ويتعرضوا فيها لفيض الرحمات، فكل واحد منهم حين يؤديها إنما يعنيه شأن نفسه وتزكيتها وشأن واجباته وتأديتها.

غير أن الإسلام أوسع أفقا، وأبعد نظرا من أن تحده هذه الأهداف الفردية الضيقة. وإلا فلماذا لم يترك لنا الخيرة في أن نؤدي هذه الشعائر فرادى أو مجتمعين، في أي وقت من العام يشاؤه الواحد منا؟ ولماذا أمرنا لزاما أن نؤديها مجتمعين في صعيد واحد، في وقت واحد، وفي زي واحد؟ لا بد أن هنالك سرا أو أسرارا يهدف إليها التشريع الإسلامي من وراء هذا التجمع والتكتل. ولست محدثكم عن هذه الأسرار جملة وتفصيلا، ولكني بواحد منها.

أتدرون ما الأواصر التي ربط الله بها هذه الأمة الإسلامية؛ لتكون كالجسد الواحد؟ كلنا نعرف منها آصرتين اثنتين: وحدة العقيدة، ووحدة الشريعة، إله واحد، وكتاب واحد، آصرتان عقليتان معنوتيان، ولكن الله أراد أن يضم إليهما آصره ثالثة حسية ملموسة، فبعث مناديا في الناس أن يجتمع هاهنا وفود المسلمين من أقطار الأرض كل عام ليعبدوا هذا الإله الواحد بتلك الشريعة الواحدة علي أرض واحدة، هي أرض الوطن الروحي؛ وهكذا تجسدت وحدة العقيدة ووحدة الشريعة في وحدة الوطن الأعلى؛ ذلك ليذكر المسلمون أنهم - وإن تفرقت أقطارهم واختلفت أنسابهم وألوانهم - تجمعهم جامعة الدين والله والوطن. وأنه إذا جد الجد وجب أن يضحي كل فريق منهم بمصالحه الخاصة في سبيل هذه المصلحة المشتركة العليا.

إن نظرة إلى خريطة العالم الإسلامي ترينا كيف أنه يمتد في قلب العالم كتلة واحدة متصلة، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وأنه كله يدور على محور واحد؛ هو مكة المكرمة التي هي قلب الوطن الإسلامي وقطب رحاه. إن هذا الوضع الجغرافي المتماسك القوي قد اختص به الإسلام بين سائر الأديان. ومع ذلك فمن أعجب العجب أن الذي ينظر إلى الماضي القريب للأمة الإسلامية، لا يجدها في المكانة التي يؤهلها لها هذا الموقع الفريد؛ ذلك أن تفتتها الإقليمي وانطواء كل شعب منها على نفسه أنساها هذه الرابطة العظمى. ولقد كان المسلمون الأولون لا يعرفون هذه الحواجز الحديدية. فكان التجار والرحالون ينتقلون من قطر إلى قطر وليس بيدهم جواز سفر إلا كلمة الإسلام.

فهل يعود الإخوة المؤمنون إلى هذا التقارب، والترابط؛ لتعود للوطن الإسلامي مناعته وحصانته، فلا يبقى فيه بعدئذ عيش لتلك الطفيليات التي تمتص دماء أبنائه وتحني أعناقهم؟ وهل يكون لنا من موسم الحج هذه العبرة؟

" إنها ذكرى، وإن الذكرى تنفع المؤمنين" ([10]).

الخلاصة:

لقد صالح الإسلام في تعاليمه بين مطالب الجسد ومطالب الروح، وقد حملنا نحن المسلمين حضارة أعلت قدر الإنسان، ولفتت نظره إلى أن ملكوت السماوات والأرض ممهد له: )ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (20)( (لقمان)، وليس في الإسلام انفصال بين العمل للدنيا والعمل للأخرى فإن العمل للدنيا بطبيعته يتحول إلى عبادة ما دام مقرونا بشرف القصد وسمو الغاية، وليس في الإسلام تغليب للجسد على الروح، ولا للروح على الجسد، إنما فيه تنظيم دقيق يجعل معنويات الإنسان هي التي تتولى قياده وتمسك بزمامه، فلا هو براهب يقتل نداء الطبيعة، ويميت هواتف الفطره، ولا هو مادي يتجاهل سناء الروح وأشواقها إلى الرفعة والخلود.

إن كل دارس للإسلام في كتابه وسنة رسوله يتبين له بجلاء: أنه وجه عناية بالغة إلى " الجانب الإنساني" وأعطاه مساحة رحبة من رفعة تعاليمه، وتوجيهاته، وتشريعاته.

ثم إن العبادة في الإسلام تستوعب الكيان البشري كله؛ فالمسلم لا يعبد الله بلسانه فحسب، أو ببدنه فقط، أو بقلبه لا غير، أو بعقله مجردا، أو بحواسه وحدها. بل يعبد الله بهذا كله: بلسانه ذاكرا داعيا تاليا، وببدنه مصليا صائما مجاهدا، وبقلبه خائفا راجيا محبا متوكلا، وبعقله متفكرا متأملا، وبحواسه كلها مستعملا لها في طاعته عز وجل، كما أن هذه العبادة تتسع للحياة كلها، فلا تقتصر على الشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج، بل تشمل كل حركة وكل عمل ترتقي به الحياة ويسعد به الناس.

 

 

 

(*) في التشريع الإسلامي، د. محمد نبيل غنايم، دار الهداية، مصر، 1410هـ/ 1989م.

[1]. الجانب العاطفي في الإسلام: بحث في الخلق والسلوك والتصوف، محمد الغزالي، دار الدعوة، القاهرة، ط5، 1412هـ/ 2001م، ص86 وما بعدها.

[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (4776)، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه (3469).

[3]. الخصائص العامة للإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط6، 1422 هـ/ 2003م، ص63 وما بعدها.

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب كل معروف صدقة (5676)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2380).

[5]. السلامى: عظام المفاصل في اليد والأرجل.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح، باب فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم (2560)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2382).

[7]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند القبائل، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه (27548)، والترمذي في سننه، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2509)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2595).

[8]. حسن: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/ 453)، باب العين عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (13646)، وفي الأوسط (6/ 139) برقم (6026)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (176).

[9]. الحنان بالتخفيف: الرحمة، وفي التعبير حذف، والتقدير: أمركم حنان؛ أي: رحمة لكم وعطف.

[10]. زاد المسلم للدين والحياة، د. محمد عبد الله دراز، دار القلم، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2004م، ص247: 250.

 

  • السبت AM 12:46
    2020-11-21
  • 915
Powered by: GateGold