المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413683
يتصفح الموقع حاليا : 209

البحث

البحث

عرض المادة

دعوى أخذ الإسلام شرائعه من الديانات السابقة ومن الجاهلية

دعوى أخذ الإسلام شرائعه من الديانات السابقة ومن الجاهلية (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن تشريعات الإسلام مأخوذة من تشريعات الديانات السابقة عليه، وخاصة من اليهودية والمسيحية، وكذلك أخذها من التشريعات الجاهلية للعرب قبل الإسلام، ويستدلون على ذلك بوجود تشابه بين بعض تشريعات الإسلام وبين هذه الديانات، مثل: الصلاة ويوم الجمعة والصوم والحج وحرمة الأشهر الحرم.. وغيرها، فيزعمون أن كل هذه التشريعات غير إسلامية، وهدفهم من هذا الزعم إنكار الإسلام بصورة عامة.

وجوه إبطال الشبهة:

1) الإسلام نبع من نفس المشكاة التي نبعت منها الديانات السابقة وخاصة اليهودية والمسيحية، فالله - عزوجل - هو الذي أنزل الديانات كلها، ولكنه أوكل حفظ اليهودية والمسيحية إلى البشر، فحرف اليهود والنصارى دينهم، في حين أن الله - عزوجل - هو الذي تولى حفظ القرآن والإسلام فلم يتبدل منه حرف واحد.

2) تشابهت بعض التشريعات الإسلامية مع تشريعات الديانات الأخرى تشابها اسميا فقط، أما المضمون والتطبيق فمختلف تماما، وكان موقف الإسلام مما سبقه من الديانات التصديق لأصلها قبل التحريف والهيمنة عليها.

3) أبطل الإسلام كل المعتقدات الفاسدة التي كانت في الجاهلية وحاربها، وكان هذا سببا في الصراع الطويل الذي دار بينهما، فكيف نقول: إن الإسلام أخذ شرائعه من الجاهلية رغم الخلاف الشديد بينهما؟!

التفصيل:

أولا. أصل الديانات السماوية واحد:

إن الإسلام دين الله الحنيف الذي جاء به ليطهر النفوس والمجتمعات من كل ما علق بها من الشرور والآثام والمفاسد، وليصلح به ما أفسده أهل الديانات الأخرى ويظهر حقيقة ما حرفوه، فيستحيل على الإسلام أن يأخذ من الشرائع السابقة شيئا أو من الجاهلية بالطبع، إلا أن وحدة الأصل الذي نبعت منه تلك الرسالات الثلاثة - الإسلام والنصرانية واليهودية - يفرض بعض الشبه على بعض تشريعاتهم، وإن كان الشبه اسميا فقط لا يتعدى ذلك لا إلى الصورة ولا إلى المغزى منها.

لقد نبع الإسلام من نفس المشكاة التي نبعت منها الديانات السابقة؛ مما يحتم وجود بعض الشبه بينه وبينها، إلا أنهم حرفوا، أما هو فقد حفظه الله من التحريف، ويفصل لنا د. عمر سليمان عبد الله الأشقر هذه المسألة فيبين وحدة أصل الديانات قائلا: "الكتب السماوية مصدرها واحد: )الم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام (4)( (آل عمران)، والكتب السماوية كلها أنزلت لغاية واحدة وهدف واحد، أنزلت لتكون منهج حياة للبشر الذين يعيشون في هذه الأرض، تقودهم بما فيها من تعاليم وتوجيهات وهداية، أنزلت لتكون روحا ونورا تحيى نفوسهم وتنيرها، وتكشف ظلماتها وظلمات الحياة.

وقد بين القرآن الكريم في موضع واحد الهدف الذي أنزل الله من أجله التوراة والإنجيل والقرآن، وهي أعظم الكتب المنزلة من عند الله، قال عزوجل: )إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44) وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45) وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47) وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48) وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (49)( (المائدة).

يقول سيد قطب في تفسير هذه الآيات الكريمة: "لقد جاء كل دين من عند الله، ليكون منهج حياة واقعية، جاء الدين ليتولى قيادة الحياة البشرية، وتنظيمها، وتوجيهها، وصيانتها، ولم يجيء دين من عند الله ليكون مجرد عقيدة في الضمير، ولا ليكون مجرد شعائر تعبدية تؤدي في الهيكل والمحراب. فهذه وتلك - على ضرورتها للحياة البشرية وأهميتها في تربية الضمير البشري - لا يكفيان وحدهما لقيادة الحياة وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها، ما لم يقم على أساسها منهج ونظام وشريعة تطبق عمليا في حياة الناس، ويؤخذ بها بحكم القانون والسلطان، ويؤاخذ الناس على مخالفتها، ويؤخذون بالعقوبات.

والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد يملك السلطان على الضمائر والسرائر، كما يملك السلطان على الحركة والسلوك ويجزي الناس وفق شرائعه في الحياة الدنيا، كما يجزيهم وفق حسابه في الحياة الآخرة.

فأما حين تتوزع السلطة وتتعدد مصادر التلقي... حين تكون السلطة لله في الضمائر والشعائر بينما السلطات لغيره في الأنظمة والشرائع... وحين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا... حينئذ تتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين، وبين اتجاهين مختلفين... وحينئذ تفسد الحياة البشرية ذلك الفساد الذي تشير إليه آيات القرآن في مناسبات شتى: )لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا( (الأنبياء: 22)، )ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن( (المؤمنون: 71)، )ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18)( (الجاثية).

من أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة، وسواء جاء هذا الدين لقرية من القرى، أو لأمة من الأمم، أو للبشرية كافة في جميع أجيالها، فقد جاء معه شريعة معينة لحكم واقع الحياة، وإلى جانب العقيدة التي تنشئ التصور الصحيح للحياة، إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله... وكانت هذه الجوانب الثلاثة هي قوام دين الله، حيثما جاء دين من عند الله؛ لأن الحياة البشرية لا تصلح ولا تستقيم إلا حين يكون دين الله هو منهج الحياة.

وفي القرآن الكريم شواهد شتى على احتواء الديانات الأولى، التي ربما جاءت لقرية من القرى، أو لقبيلة من القبائل على هذا التكامل في الصورة المناسبة للمرحلة التي تمر بها القرية أو القبيلة... وهنا يعرض هذا التكامل في الديانات الثلاث الكبرى: اليهودية، والنصرانية، والإسلام.

يقول الله عزوجل: )إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور( (المائدة: 44)، فالتوراة - كما أنزلها الله - كتاب الله الذي جاء لهداية بني إسرائيل، وإنارة طريقهم إلى الله، وطريقهم في الحياة، وقد جاءت تحمل عقيدة التوحيد، وتحمل شعائر تعبدية شتى، وتحمل كذلك شريعة: )يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء( (المائدة: 44).

أنزل الله التوراة لا لتكون هدى ونورا للضمائر والقلوب بما فيها من عقيدة وعبادات فحسب، ولكن كذلك لتكون هدى ونورا بما فيها من شريعة تحكم الحياة الواقعية وفق منهج الله، وتحفظ هذه الحياة في إطار هذا المنهج، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا أنفسهم لله، فليس لهم في أنفسهم شيء، إنما هي كلها لله، وليست لهم مشيئة ولا سلطة ولا دعوى في خصيصة الألوهية - وهذا هو الإسلام في معناه الأصيل - يحكمون بها للذين هادوا؛ فهي شريعتهم الخاصة نزلت لهم في حدودهم هذه وبصفتهم هذه، كما يحكم بها لهم الربانيون والأحبار، وهم قضاتهم وعلماؤهم، وذلك بما أنهم قد كلفوا المحافظة على كتاب الله، وكلفوا أن يكونوا عليه شهداء، فيؤدوا له الشهادة في أنفسهم، بصياغة حياتهم الخاصة وفق توجيهاته، كما يؤدوا له الشهادة في قومهم بإقامة شريعته بينهم".

وبدون الرسالة السماوية سيبقى البشر مختلفين تائهين لا يتفقون على سبيل، )كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه( (البقرة: 213) [1].

وعلى الرغم من وحدة منبع الرسالات السماوية كلها - فهي من عند الله - إلا أنها تختلف فيما بينها من حيث العموم والخصوص، فكل الرسالات السابقة للإسلام جاءت خاصة بأقوام معينين في مكان معين ولظروف معينة وبتشريع خاص ليس له علاقة بغيره من الشرائع السابقة، أما الإسلام الذي نزل خاتما للرسالات على خاتم الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - فجاء عاما وشاملا لكل البشر في كل زمان ومكان، ويناسب كل الظروف، وشرائعه تشمل العالم كله منذ نزول القرآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ويضيف د. عمر سليمان الأشقر موضحا هذا المعنى؛ فيقول: الرسالات السماوية السابقة أنزلت لأقوام بأعيانهم، والرسالة الخاتمة التي أنزلت على خاتم الأنبياء والرسل رسالة عامة للبشرية كلها، بل عامة للإنس والجن، وهذا يقتضي أن تمتاز هذه الرسالة عن غيرها من الرسالات بما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان، وقد جعلها الله كذلك، وأنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - قبيل وفاته: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3).

وقد بين سيد قطب هذا المعنى وجلاه في تفسيره لهذه الآية، قال: "إن المؤمن يقف أمام إكمال هذا الدين، يستعرض موكب الإيمان، وموكب الرسالات، وموكب الرسل، منذ فجر البشرية، ومنذ أول رسول - آدم عليه السلام - إلى هذه الرسالة الأخيرة، رسالة النبي الأمي إلى البشر أجمعين.

فماذا يرى؟ يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل، موكب الهدى والنور، ويرى معالم الطريق على طول الطريق، ولكنه يجد كل رسول - قبل خاتم النبيين - إنما أرسل إلى قومه، ويرى كل رسالة - قبل الرسالة الأخيرة - إنما جاءت لمرحلة من الزمان... رسالة خاصة، لمجموعة خاصة، في بيئة خاصة، ومن ثم كانت تلك كل الرسالات محكومة بظروفها هذه، متكيفة بهذه الظروف، كلها تدعو إلى إله واحد - فهذا هو التوحيد، وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الإسلام، ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحال البيئة وحالة الزمان والظروف.

حتى إذا أراد الله أن يختم رسالته إلى البشر أرسل إلى الناس كافة رسولا - خاتم النبين - برسالة للإنسان، لا لمجموعة من الأناس في بيئة خاصة، في زمان خاص، في ظروف خاصة، رسالة تخاطب الإنسان من وراء الظروف والبيئات والأزمنة؛ لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل، ولا تتحور، ولا ينالها التغيير: )فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم( (الروم: 30)، وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة الإنسان من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها، وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتغير بتغير الزمان والمكان، وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتغير بتغير الزمان والمكان..، وكذلك كانت الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة الإنسان منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان، من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات، لكي تستمر وتنمو وتتطور وتتجدد حول هذا المحور وداخل هذا الإطار".

وهذا المعنى - وهو كمال الرسالة وشمولها - أشار إليه القرآن في غير موضع كقوله عزوجل: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء( (النحل: 89)، وقال الله عزوجل: )ما فرطنا في الكتاب من شيء( (الأنعام: 38).

لقد جمعت الشريعة الخاتمة محاسن الرسالات السابقة، وفاقتها كمالا وجلالا، يقول الحسن البصري رضي الله عنه: "أنزل الله مائة وأربعة كتب، أودع علومها أربعة: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان[2]، ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان"[3].

ولما كانت الرسالات السابقة مرهونة بوقت وزمان فإنها لا تخلد ولا تبقى، ولم يتكفل الله بحفظها، وقد وكل حفظها إلى علماء تلك الأمة التي أنزلت عليها، فالتوراة وكل حفظها إلى الربانيين والأحبار: )والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء( (المائدة: 44)، ولم يطق الربانيون والأحبار حفظ كتابهم، وخان بعضهم الأمانة فغيروا وبدلوا وحرفوا، وحسبك أن تطالع التوراة لترى ما حل فيها من تغيير وتبديل، لا في الفروع، بل في الأصول، فقد نسبوا إلى الله ما يقشعر الجلد لسماعه، ونسبوا إلى الرسل ما يترفع الرعاع عن نسبته إليهم.

أما هذه الرسالة الخاتمة فقد تكفل هو بحفظها، ولم يكل حفظها إلى البشر، قال عزوجل: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر). ولننظر اليوم في هذا العالم شرقه وغربه لنرى العدد الهائل الذي يحفظ القرآن عن ظهر قلب، بحيث لو شاء ملحد أو يهودي أو صليبي تغيير حرف منه فإن صبيا صغيرا، أو ربة بيت، أو عجوزا لا يبصر طريقه، يستطيعون الرد عليه وبيان خطئه وافترائه، ناهيك عن العلماء الذين حفظوه وفقهوا معانيه، وتشبعوا بعلومه.

وانظر إلى تاريخ هذا الكتاب وكم نال من عناية ورعاية في تدوينه وتفسيره وإعرابه وقصصه وأخباره وأحكامه، وما كان ذلك ليكون لولا ذلك الحفظ الإلهي الرباني، وسيبقى هذا الكتاب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ومما يؤكد وحدة منبع الرسالات السماوية كلها وجود مواضع اتفاق بين هذه الرسالات يبينها د. عمر سليمان الأشقر فيقول:

وأما إذا أردنا أن نعرف مواضع الاتفاق في الرسالات السماوية، فإن أهم هذه المواضع هي:

  1. الدين الواحد:

الرسالات التي جاء بها الأنبياء جميعا منزلة من عند الله العليم الحكيم الخبير، ولذلك فإنها تمثل صراطا واحدا يسلكه السابق واللاحق، ومن خلال استعراضنا لدعوة الرسل التي أشار إليها القرآن نجد أن الدين الذي دعت إليه الرسل جميعا واحد هو الإسلام: )إن الدين عند الله الإسلام( (آل عمران: 19)، والإسلام في لغة القرآن ليس اسما لدين خاص، وإنما هو اسم للدين المشترك الذي هتف به كل الأنبياء؛ فنوح - عليه السلام - يقول لقومه: )وأمرت أن أكون من المسلمين (72)( (يونس)، والإسلام هو الدين الذي أمر الله به أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام: )إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (131)( (البقرة)، ويوصي كل من إبراهيم ويعقوب - عليهما السلام - أبناءه قائلا: )فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132)( (البقرة)، وأبناء يعقوب يجيبون أباهم: )قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون (133)( (البقرة)، وموسى عليه السلام، يقول لقومه: )يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (84)( (يونس)، والحواريون يقولون لعيسى عليه السلام: )آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون (52)( (آل عمران)، وحين سمع فريق من أهل الكتاب القرآن: )قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين (53)( (القصص).

فالإسلام شعار عام كان يدور على ألسنة الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر النبوة المحمدية.

كيف يتحقق الإسلام؟

الإسلام هو الطاعة والانقياد والاستسلام لله تعالى بفعل ما يأمر به، وترك ما ينهى عنه، ولذلك فإن الإسلام في عهد نوح يكون باتباع ما جاء به نوح عليه السلام، والإسلام في عهد موسىـ عليه السلام - يكون باتباع شريعة موسى، والإسلام في عهد عيسى - عليه السلام - يكون باتباع الإنجيل، والإسلام في عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - يكون بالتزام ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

  1. لب دعوات الرسل:

ولب دعوات الرسل وجوهر الرسالات السماوية هو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونبذ ما يعبد من دونه، وقد عرض القرآن هذه القضية وأكدها في مواضع متعددة، مرة يذكر دعوة الرسل، فنوح - عليه السلام - يقول لقومه: )يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره( (الأعراف: 59)، وإبراهيم - عليه السلام - قال لقومه: )وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (16)( (العنكبوت)، وهود - عليه السلام - قال لقومه: )اعبدوا الله ما لكم من إله غيره( (الأعراف: 65)، وصالح - عليه السلام - قال لقومه: )اعبدوا الله ما لكم من إله غيره( (الأعراف: 73).

ومرة ينص على أنه أرسل الرسل جميعا بهذه المهمة الواحدة: )وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)( (الأنبياء)، ومرة يسرد سيرة الأنبياء وأتباعهم ينظمهم في سلك واحد، ويجعل منهم أمة واحدة لها إله واحد: )إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (92)( (الأنبياء)، ومرة يجعل الاستجابة لله وتحقيق العبودية له هي الدين والملة، ويجعل من رفضها يحكم على نفسه بالسفه والضلال: )ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه( (البقرة: 130)، وملة إبراهيم - عليه السلام - حددها بقوله: )إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79)( (الأنعام)، ومرة يبين أنها وصية الرسل والأنبياء لمن بعدهم: )أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا( (البقرة:133)، ومرة ينص على وحدة الدين الذي شرعه للرسل العظام: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه( (الشورى: 13).

  1. وحدة مسائل العقيدة:

تشكل مسائل العقيدة تصورا واحدا لدى الرسل جميعا من لدن نوح - عليه السلام - إلى آخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وتتمثل هذه المسائل في الإيمان بالله والملائكة والرسل والكتب السابقة والإيمان بالقدر واليوم الآخر والبعث، فنوح - عليه السلام - يذكر قومه بالبعث والنشور ويقول لهم )والله أنبتكم من الأرض نباتا (17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا (18)( (نوح)، وحدثهم عن الملائكة والجن وغيرها من الغيبيات، وكذلك فعل إبراهيم - عليه السلام - فقد دعا قومه إلى الإيمان باليوم الآخر فقال - عزوجل - على لسانه: )وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير( (البقرة: 126). وجاء في صحف إبراهيم وموسى - عليهما السلام - حديث عن الآخرة، فقال تعالى: )بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة خير وأبقى (17)( (الأعلى).

وغير هذا من الكثير في آيات القرآن الكريم على لسان جميع الرسل الذين أرسلوا لهداية الناس إلى طريق الله عزوجل، وكل الرسل أنذروا قومهم من فتنة المسيح الدجال، وذلك في الحديث الذي يرويه ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال - عندما ذكر الدجال عنده -: «إني أنذركموه، وما من نبي إلا قد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه، تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور»[4]. ولا نستطيع أن نحصي - في هذا الموضع - كل الأحاديث التي تؤكد على أن العقيدة واحدة عند كل الرسل.

  1. وحدة القواعد العامة:

تتفق الكتب السماوية كلها في وحدة القواعد العامة التي تحكم البشر، وتعمل على نشر العدل بين الناس، والبعد عن الظلم والجور دون وجه حق، وكل الرسالات تؤكد على وجود مبدأ الثواب والعقاب، فكل إنسان سيحاسب على عمله، فإن كان خيرا فلنفسه، وإن كان شرا فعليها، قال عزوجل: )أم لم ينبأ بما في صحف موسى (36) وإبراهيم الذي وفى (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40) ثم يجزاه الجزاء الأوفى (41)( (النجم)، ويحصل من هذا اليقين بوجود ثواب وعقاب تزكية للنفس وميلا لمنهج الله سبحانه وتعالى: )قد أفلح من تزكى (14) وذكر اسم ربه فصلى (15) بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة خير وأبقى (17) إن هذا لفي الصحف الأولى (18) صحف إبراهيم وموسى (19)( (الأعلى).

وجاء على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يؤكد على وحدة هذا المبدأ بين الرسل جميعا، قال صلى الله عليه وسلم: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة"؟! قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»[5].

والحديث يوضح لنا بشكل لا شك فيه أن جميع الرسل يدعون إلى مبادئ واحدة وإلى إله واحد لا شريك له، مما ينفي فكرة تناقض الأديان من حيث مصدرها والمبادئ التي تدعو إليها.

ويوضح لنا القرآن الكريم أن الرسل جميعا حملوا ميزان العدل بين الناس، فقال عزوجل: )لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط( (الحديد: 25)، وأمروا بأن يكسبوا رزقهم بالحلال: )يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا( (المؤمنون: 51)، والصوم مفروض من قبلنا كما هو مفروض علينا، قال عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183)( (البقرة).

ومما اتفقت عليه الرسالات أنها بينت المنكر والباطل ودعت إلى محاربته، سواء أكان عبادة أوثان أو استعلاء في الأرض أو انحرافا عن طريق الفطرة... إلخ[6].

وعليه فإنه لا يوجد أدنى شك في أن الشبه الذي يتراءى لنا بين الدين الإسلامي والأديان السماوية السابقة عليه إنما مرجعه إلى وحدة الأصل الذي نشأت عنه هذه الأديان جميعا، وليس منشؤه أخذ الإسلام من هذه ولا تلك.

ثانيا. تشابه بعض تشريعات الإسلام مع تشريعات الديانات الأخرى تشابه في الاسم فقط دون المضمون والتطبيق:

إن تشابه بعض تشريعات الإسلام مع تشريعات الديانات الأخرى تشابه في الاسم فقط دون المضمون أو التطبيق، ويؤكد على هذا قول د. عمر سليمان عبد الله الأشقر: "إذا كان الدين الذي جاءت به الرسل واحدا وهو الإسلام، فإن شرائع الأنبياء مختلفة، فشريعة عيسىـ عليه السلام - تخالف شريعة موسىـ عليه السلام - في بعض الأمور، وشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - تخالف شريعة موسى وعيسى - عليهما السلام - في أمور، قال عزوجل: )لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا( (المائدة: 48)، والشرعة هي الشريعة وهي السنة، والمنهاج: الطريق والسبيل.

وليس معنى ذلك أن الشرائع تختلف اختلافا كليا، فالناظر في الشرائع يجد أنها متفقة في المسائل الأساسية، وقد سبق ذكر النصوص التي تتحدث عن تشريع الله للأمم السابقة الصلاة والزكاة والحج، وأخذ الطعام من حله وغير ذلك، والاختلاف بينها إنما يكون في بعض التفاصيل، فأعداد الصلوات وشروطها وأركانها، ومقادير الزكاة، ومواضع النسك، ونحو ذلك قد تختلف من شريعة إلى شريعة، وقد يحل الله أمرا في شريعة لحكمة، ويحرمه في شريعة أخرى لحكمة.

ونضرب لهذا ثلاثة أمثلة:

  1. الصوم: فقد كان الصائم يفطر بغروب الشمس، ويباح له الطعام والشراب والنكاح إلى طلوع الفجر ما لم ينم، فإن نام قبل الفجر حرم عليه ذلك كله إلى غروب الشمس من اليوم الثاني، فخفف الله عن هذه الأمة وأحله من الغروب إلى الفجر سواء نام أم لم ينم، قال عزوجل: )أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر( (البقرة: 187).
  2. ستر العورة حال الاغتسال: لم يكن واجبا عند بني إسرائيل، ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى - عليه السلام - يغتسل وحده»[7].
  3. الأمور المحرمة: فمما أحله الله لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم الله هذا بعد ذلك، وكان التسري على الزوجة مباحا في شريعة إبراهيم عليه السلام، وقد فعله إبراهيم - عليه السلام - في هاجر لما تسرى بها على سارة، وقد حرم الله مثل هذا في التوراة على بني إسرائيل، وكذلك كان الجمع بين الأختين سائغا، وقد فعله يعقوب عليه السلام، ثم حرم عليهم في التوراة، وحرم يعقوب على نفسه لحوم الإبل وألبان الإبل.

ومما حرمه الله على اليهود ما جاء في قوله عزوجل: )وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (146)( (الأنعام)، فقد حرم عليهم كل ذي ظفر من البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والنعام والوز والبط، وحرم عليهم شحوم البقر والغنم إلا الشحم الذي على ظهور البقر والغنم، أو ما حملت الحوايا[8] وهي المباعر والمرابض، أو ما اختلط بعظم.

ثم جاء عيسى - عليه السلام - فأحل لبني إسرائيل بعض ما حرم عليهم: )ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم( (آل عمران: 50)، وجاءت الشريعة الخاتمة لتكون القاعدة إحلال الطيبات وتحريم الخبائث[9].

موقف الرسالة الخاتمة من الرسالات السابقة:

لقد بين الله - عزوجل - موقف الإسلام من الرسالات السابقة، فقال عزوجل: )وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه( (المائدة: 48)، وكون القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب تحقق من وجوه:

  1. أن الكتب السماوية المتقدمة تضمنت ذكر هذا القرآن ومدحه، والإخبار بأن الله سينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فكان نزوله على الصفة التي أخبرت بها الكتب السابقة تصديقا لتلك الكتب، مما زادها صدقا عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال عزوجل: )إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا (107) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108)( (الإسراء)، أي: إن كان ما وعدنا الله في كتبه المتقدمة وعلى ألسنة رسله من إنزال القرآن وبعثة محمد لمفعولا، أي: لكائنا لا محالة ولا بد".
  2. أن القرآن جاء بأمور صدق فيها الكتب السماوية السابقة بموافقته لها، قال عزوجل: )وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون( (المدثر: 31)، واستيقان الذين أوتوا الكتاب إنما يكون بسبب علمهم بهذا من كتبهم.
  3. أن القرآن أخبر بإنزال الكتب السماوية، وأنها من عند الله، وأمر بالإيمان بها.

والمهيمن يراد بها: القائم على الشيء، وهو اسم من أسماء الله - عزوجل - ذلك أن الله تعالى قائم على شئون خلقه؛ تصريفا وتدبيرا ورعاية، والقرآن قائم على الكتب السماوية التي أنزلت من قبل يأمر بالإيمان بها، ويبين ما فيها من حق، وينفي التحريف والتغيير الذي طرأ عليها، وهو حاكم على تلك الكتب؛ لأنه الرسالة الإلهية الأخيرة التي يجب الرجوع إليها، والتحاكم بها، وكل ما خالفها مما جاء في الرسالات السابقة فهو إما محرف مغير، وإما منسوخ.

يقول ابن كثير بعد أن ذكر أقوال السلف في معنى كلمة )ومهيمنا(: "وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله - عزوجل - هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها؛ حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها".

وهذا يقتضي أن يجعل هذا الكتاب هو المرجع الأول والأخير في التعرف على الدين الذي يريده الله عزوجل، ولا يجوز أن نحاكم القرآن إلى الكتب السماوية السابقة كما يفعل الضالون من اليهود والنصارى، قال عزوجل: )وإنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)( (فصلت).

والشريعة الإلهية الخاتمة لا تحتاج إلى شريعة سابقة عليها، ولا إلى شريعة لاحقة لها، بخلاف شريعة المسيح فقد أحال أتباعه في أكثر الشريعة على التوراة، وشريعة الإنجيل مكملة لشريعة التوراة، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى كتب النبوات المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور، وكان الأمم من قبلنا محتاجين إلى محدثين، بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله أغناهم به، فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا محدث. إن الإسلام لا يكف لحظة واحدة عن مد يده لمصافحة أتباع كل ملة ونحلة في سبيل التعاون على إقامة العدل، و نشر الأمن وصيانة الدماء أن تسفك، وحماية الحرمات أن تنتهك[10].

أما عن الشرائع التي ظن بعض المتوهمين أن الإسلام أخذها من الديانات السابقة، فهذا زعم باطل لا يقوم على دليل واضح، ويبين د. ناصر محمد السيد الشرائع المتشابهة بين الإسلام وغيره من الديانات على النحو الآتي:

  1. الصلاة[11]:

الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، فرضت في القرآن الكريم، ووضحت السنة المطهرة هيئتها وشكلها، فهي من أهم العبادات في الإسلام.

الصلاة في اليهودية:

لم تأخذ الصلاة في اليهودية شكلا واحدا، بل تدرجت حسب إسهامات رجال الدين اليهودي فيها على النحو التالي:

o   الصلاة في عصر الآباء: كانت عبارة عن الدعاء باسم الرب، وكانت تتميز بالتوجه مباشرة إلى الله عزوجل، وكانت ترتبط - في بعض الأحيان - بتقديم ذبيحة، فالصلاة بهذا الشكل عبارة عن أدعية وأذكار وليست شعيرة محددة بتوقيتات معينة.

o   الصلاة في مرحلة ما قبل السبي: تتميز بملامح خاصة منها: التوسل والابتهال من أجل الآخرين، والأسفار الخمسة - التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية - لم يرد فيها لفظ الصلاة، وهي الأسفار الخمسة التي بني عليها التشريع اليهودي، وهذا من عجائب اليهودية المحرفة. ويقول د. هلال فارحي - أحد علماء الشريعة اليهودية -: إن الصلاة في عهد ما قبل السبي لم تكن محدودة أو إجبارية، بل كانت تتلى ارتجاليا حسب الأحوال والاحتياجات الشخصية والعمومية.

o   الصلاة في فترة السبي وما بعدها: في هذه الفترة حدثت تطورات جديدة للصلاة اليهودية، كان من أهمها ظهور دور المجمع بعد أن تم تدمير الهيكل على يد البابلين، ولم يعد في الإمكان تقديم ذبائح في أرض بابل، وظهرت أهمية الصلاة في هذه الفترة، فبعد أن يقرأ اليهود جزءا من الكتاب المقدس يتم تفسيره، ثم الصلاة، ومن خلال ذلك نرى خضوع الصلاة اليهودية للأهواء البشرية، وهذا عكس الصلاة في الإسلام.

وإذا عدنا إلى عدد الصلوات في اليهودية نجدها ثلاثة في كل يوم:

  • صلاةالفجرويسمونهاالسحر.
  • صلاةنصفالنهارأوالقيلولة.
  • صلاةالمساءويسمونهاصلاةالغروب.

وكانت قبلة اليهود في الصلاة إلى بيت المقدس، وكان المسلمون يتوجهون إليه في أول الأمر حتى تحولت قبلتهم إلى الكعبة المشرفة، وكأنه إعلان إلهي بوارثة المسلمين لكل بقايا الحق في الديانات السابقة.

أما عن كيفية أداء الصلاة في اليهودية: فإننا نؤمن بأن الصلوات في صورتها التي أنزلها الله - عزوجل - على رسله، كانت تتضمن ركوعا وسجودا، فقد خاطب الله بني إسرائيل في القرآن فقال عزوجل: )واركعوا مع الراكعين (43)( (البقرة)، وقال عزوجل: )وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم( (البقرة: 58)، ولكن الصلاة تطورت بفعل التدخل البشري القاصر في دين الله وتغيرت حركات اليهود أثناء الصلاة عبر العصور، ففي الماضي كان اليهود يسجدون، ويركعون في صلواتهم، ولا يزال الأرثوذكس يفعلون في الأعياد، ولكن الغالبية العظمى تصلي الآن جلوسا على الكراسي، كما هو الحال في الكنائس المسيحية، ولا يخلع اليهود نعالهم أثناء الصلاة، وهذا دليل واضح على بشرية بل وثنية هذه الديانات في صورتها الحالية.

الصلاة في النصرانية:

الصلاة في المسيحية عبارة عن أدعية وأذكار في حالات ومناسبات خاصة أو عامة، ليس لها شكل محدد ولا هيئة محددة ولا وقت محدد. ومرت هذه الصلاة بعدة مراحل متدرجة، نتيجة ارتباطها بالآباء الذين يغيرون فيها حسب أهوائهم وميولهم الخاصة.

وعن الصلاة في المسيحية يفصل لنا د. أحمد شلبي فيقول: وليس للصلاة المسيحية ترتيبب خاص، وإنما هي أدعية تختلف من مكان إلى مكان، وإن كلمة الصلاة في المسيحية تختلف اختلافا كليا عنها في الإسلام، فهي عبارة عن أدعية وأذكار لا توقيت لها، وهي ليست واجبة، بل يرى الكثير من المسيحيين أن الانتظام في الصوم والصلاة توجيه اختياري لا إجباري. ويقول المستشار الطهطاوي: لا يوجد لدى المسيحيين نص عن عدد معين من الصلوات كل يوم أو مواقيت لها، إلا أنهم يقتبسون من اليهود العدد والوقت للصلاة، لذا قرورا لهم صلاتين واحدة في الصباح والأخرى في المساء.

ونحن كمسلمين لا ننعي استقاء النصرانية من اليهودية؛ لأننا نؤمن أن رسالة المسيح مكملة لرسالة موسى - عليهما السلام - ولكننا ننعي هذا الإقرار النصراني بأن ثمة خبرة وثنية وأممية تأثرت بها الصلاة المسيحية، فالصلاة المسيحية - بشهادة أهلها - توليفة من الصلاة اليهودية والوثنية والأممية.

فالصلاة المسيحية تطورت أيضا عبر العصور، وتأثرت بالأحداث كاليهودية أيضا، وهذا يدل على بشرية هذه العبادة وتحريفها حسب الأحداث والأهواء، ومن العجاب أن الصلاة في المسيحية لا تشترط لها طهارة، فهم يصلون بلا طهارة. ويرى يوسف بن إسماعيل النبهاني: أن صلاة النصارى لا بد لها من الاجتماع في الكنيسة مع اختلاط النساء بالرجال، وتلطخهم بالنجاسات في أثوابهم وأبدانهم وأمكنتهم أيضا، لابسين أحذيتهم مع تحقق النجاسات فيها، ومن يطلع على الفرق بينها وبين صلاة المسلمين يجد فروقا عظيمة، فمن أهم أحكام الصلاة عند المسلمين الطهارة من النجاسات وهذا شرط واجب لصحة الصلاة.

ونصت الشريعة اليهودية على الطهارة، ولكن اليهود غيروها كما غيروا الصلوات، ونقلوا التشريع من درجة التنزيه الإلهي إلى دركة التشويه البشري، والطهارة في الإسلام واحدة لكل الناس على اختلاف طبقاتهم وأقدارهم، ولكن الطهارة في اليهودية طبقات؛ فالأفراد العاديون لهم طهارة، والكهنة لهم طهارة أخرى، وهي لا شك مخالفة جوهرية، وعنصرية يهودية حتى في العبادات التي يفترض أن يقف فيها الجميع سواء أمام الخالق، فإن اليهود حرفوا دينهم وضيعوا من دينهم شعائر الطهارة فشاعت فيهم القذارة.

وجاء الإسلام فأحيا ما طمسوه من الطهارة التي نعتقد يقينا أن الله شرعها لسيدنا موسى عليه السلام، وعلى الرغم من هذا فإن كمال التشريع الإسلامي في الطهارة لا تداينه هذه الصورة العنصرية الساذجة للطهارة عند اليهود.

فماذا استقى الإسلام من هذه الصلاة اليهودية أو النصرانية إذن؟! اللهم لا شيء إلا في لفظ الصلاة، والتوجه بها إلى المعبود في الفرح والحزن، والفرج والشدة، والسراء والضراء، وما يكون قاسما مشتركا بين كل من يعرف له معبودا مهما كان هذا المعبود، فهو يطلبه لرغبة أو رهبة، سواء كان معبودا بحق أم بباطل، فكم ركع وسجد أشخاص وسالت دموعهم، وخشعت قلوبهم، وتعالت صيحاتهم أمام الشمس أو الكواكب أوالشجر أو البقر وغيرها من الأشياء التي عبدها بنو آدم.

إن البعد العقدي والأخلاقي والاجتماعي والصحي للصلاة في الإسلام، لا يمكن أن تطاله تلك الصلوات اليهودية والمسيحية التي شابتها عناصر وثنية انحرفت بها عن القدسية، وقطعتها عن مصدرها الإلهي.

إن دقة التشريع الإسلامي في الصلاة وشموله، وكماله في عددها وأركانها وسننها وهيئاتها، وفيما يتقدمها من نوافل، وما يتأخر عنها، في أوقاتها، وفيما يسبقها من طهارة وما يخلفها من أذكار وختام. كل هذا يدل على قدسية مصدرها، وعظمة المقصود بها، وطهارة من علمها للناس واقتداء الخلف بعد السلف في أدائها بالمعصوم صلى الله عليه وسلم، بحيث لو قام في الناس اليوم لم ينكر منها شيئا[12].

  1. يوم الجمعة:

إن الجمعة يوم من الأيام المعدودة منذ أن خلق الله السماوات والأرض، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى أنه: «خير يوم طلعت عليه الشمس؛ فيه خلق آدم...»[13]. وكما قال - صلى الله عليه وسلم - في فضل هذا اليوم العظيم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أن كل أمة أتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فغدا لليهود وبعد غد للنصارى»[14].

وقد اجتمع المسلمون لأداء شعائر الجمعة بعد هجرتهم إلى المدينة، وقد أمهم أسعد بن زرارة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة؛ فعن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: «كنت قائدا أبي حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان استغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة ودعا له... فخرجت به كما كنت أخرج به إلى الجمعة، فلما سمع الأذان استغفر كما كان يفعل، فقلت له: يا أبتاه، أرأيتك صلاتك على أسعد ابن زرارة كلما سمعت النداء بالجمعة لـم هو؟ قال: أي بني، كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة»[15]، ويرجح أن ذلك بإذن النبى صلى الله عليه وسلم، وقيل: باجتهاد منهم.

وما قيل من أن أول من جمع الناس هو كعب بن لؤى أحد أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان يخطبهم، فعلى فرض صحة هذا الخبر، فيحتمل أن يكون ذلك من الاهتداء الفطري الذي يهتدي إليه أولو الفطر السليمة ويوافق الحق وأشبه بتوارد الخواطر وما أكثر ما يحدث، ويحتمل أن يكون ذلك من بقايا شرائع سابقة تغلغلت إلى أعرافهم كغيرها من بقايا دين إبراهيم، كما قيل عن يوم الجمعة: "لم يزل أهل كل دين يعظمونه".

وإن كان العرب أو غيرهم يعظمون يوم الجمعة، وجاء الإسلام موافقا لهم في مجرد تعظيمهم له، إلا أن الإسلام تميز عن غيره بما خصه من إقامة الشعائر من: صلاة، وخطبة جامعة في بيت الله مسبوقة بالطهارة، وأخذ الزينة، مما لا نجده في عرف أو دين آخر.

  1. الصوم[16]:

الصوم هو الركن الرابع من أركان الإسلام، ويختلف في شكله ومضمونه عن الصوم في غيره من الشرائع سماوية وغير سماوية. ويفصل د. ناصر محمد السيد القول في هذا الجانب كما يأتي:

إذا سلمنا - جدلا - أن الإسلام أخذ الصيام من الديانات الأخرى، فهل إذا قارنا بين الصوم في الإسلام، وفي الديانات الأخرى سنجد تشابها؟ أم أن الإسلام ميز المسلمين بهذه العبادة ووضحها جلية للأعين المنصفة.

فنحن كمسلمين نؤمن بما أخبرنا به الله - عزوجل - أن الصيام فرض على الأمم السابقة علينا؛ لأن الإسلام يرث بقايا الحق من مواريث النبوات، فقال عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183)( (البقرة)، فهذه شهادة بأن الله - عزوجل - فرض الصيام على هذه الأمة، شأنها في ذلك شأن الأمم السابقة، فلم ينكر الإسلام هذه الشعيرة عند الأمم السابقة، بل أقرها وأثبتها وجعل فرضيتها في الإسلام محققا للتقوى في قلوب المسلمين.

وقد ذكر الإمام ابن كثير: أن الصيام كان أولا - على الأمم قبلنا - من كل شهر ثلاثة أيام، ولم يزل هذا مشروعا من زمن نوح - عليه السلام - إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان، وفي تعيين الله شهر رمضان دون ترك الأمر للإنسان ليختار شهرا معينا إشعار للمسلمين بالوحدة والنظام.

الفرق بين الصيام في الإسلام واليهودية والنصرانية:

  • الصيامفياليهودية:

الصيام في العقيدة اليهودية هو عبادة لدفع ضرر واقع أو متوقع، وليس بهدف تزكية النفس وتطهيرها، فهو رمز للحداد والحزن، وكان اليهود يصومون مؤقتا إذا اعتقدوا أن الله ساخط عليهم، أو إذا حلت بالبلاد نكبة عظيمة، أو وباء فاتك، أو جدب عام، وفي بعض الأحيان عندما يعزم الملوك على مشروع جديد، فهو - إذا ليس - تزكية للنفس، ولكنه دفع للشر وتعبير عن الذل والضعف، وهكذا كان الصوم عند المصريين القدماء، وعند السومريين وغيرهم، ولما لا نقول إن اليهود نقلوا هذه الشعيرة من الديانات القديمة السابقة عليهم؟

  • الصيامعندالنصارى:

من الراجح أن صيام رمضان كان واجبا على النصارى، فكان يأتي أحيانا في الحر الشديد، والبرد الشديد، وكان يشق ذلك عليهم في أسفارهم، ويضرهم في معايشهم، فاجتمع علماؤهم ورؤساؤهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف، فجعلوه في الربيع، وزادوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا، فصار أربعين يوما، ثم إن ملكا لهم اشتكى فمه، فجعل لله عليه إن هو برئ من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعا، فبريء، فزاد عليه أسبوعا، ثم مات ووليهم ملك آخر فقال: أتموه خمسين يوما، فأتموه.

ومن خلال هذه الأحداث يظهر التحريف البشري الذي أصاب هذه الشعيرة عند النصارى، وعلى الرغم من كل هذا فإن تقنين هذه الشعيرة وثباتها في الإسلام واستمدادها فقط من القرآن الكريم والسنة النبوية، وعدم خضوعها لعوامل التغيير والتبديل الذي حل عليها في الديانات السابقة وشمولها وكمالها وتمامها، كل ذلك من أدل الدلائل على تميز الصوم في الإسلام عنه في غيره من الديانات.

وعند إنعام النظر في الفرق بين شريعة الصوم في الإسلام والديانات الأخرى نجد فروقا جوهرية من حيث: طبيعة الصيام، وعدد الأيام، والحكمة من الصيام وتنظيم الشعيرة؛ حيث إن الصيام يؤدي إلى الصحة، وهذا ما أثبته الطب.

ومن خلال هذه القراءة للصيام في الديانات السابقة تظهر عظمة الإسلام في تشريع العبادات التي شرعها الله - عزوجل - لعباده، وفي عودة العبادة إلى مصدرها الأول الذي جاءت به الرسل جميعا دون تحريف أو تبديل، أو تدخل بشري؛ لأن الإسلام دين الفطرة الذي جاء للناس كافة[17].

  1. الحج[18]:

الحج شعيرة من الشعائر التي عرفت في معظم الديانات السابقة للإسلام، ولكن ما جاء عنها في الإسلام يخالف ما جاء في سائر هذه الديانات المحرفة، ولا يوجد أدنى تشابه بين شعائره في الإسلام وشعائره في الديانات الأخرى، ويبين لنا د. ناصر محمد السيد هذا الفرق الشاسع فيقول:

من الجدير بالذكر أن الحج ليس شعيرة خاصة باليهود والنصارى، بل إنه من ضمن الشعائر التي مارستها معظم الملل والنحل، فظهر في الديانات الهندية، والصينية، واليهودية، والمسيحية، وغيرها، فأصل الحج موجود في كل أمة على أشكال شتى، فالإسلام جاء بالحج على نهج الحنيفية السمحة التي جاء بها أبو الأنبياء إبراهيم - عليه السلام - امتثالا لأمر الله عزوجل: )وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27)( (الحج).

ولو نظرنا في شعيرة الحج في اليهودية والنصرانية، لتبين لنا بوضوح الفروق الجوهرية في هذه الشعيرة بين الرسالات الثلاث، بل لا نغالي إذا قلنا: إن الحج كشعيرة لا وجود له في اليهودية، والنصرانية المحرفتين.

فليس في اليهودية حج بالمعنى الذي يسبق إلى الذهن، وإنما هو مجرد أعياد مرتبطة بمواسم الحصاد في سفر التثنية: "ثلاث مرات في السنة يحضر جميع ذكورك أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره، في عيد الفطير، وعيد الأسابيع، وعيد المظال، ولا يحضروا أمام الرب فارغين، كل واحد حسبما تعطيه يده". (التثنية 16: 16، 17).

ما قيل في اليهودية يقال مثله في المسيحية، فليس في النصرانية الحالية شعيرة يمكن أن يطلق عليها اسم الحج كما هو الحال في شعيرة الحج في الإسلام؛ في كمالها وشمولها، ووضوح معالمها وأبعادها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وفوائدها الروحية والتربوية، فلم يرد أي نص بالحج في كتبها المقدسة، فما نراه من حج النصارى الكاثوليك إلى روما، حج المسيحيين إلى القدس، لم يرد في الديانة المسيحية وأسفارها المقدسة لدى المسيحيين، وإنما هو تقليد اتبع فيما بعد المسيح بقرون، والحج المسيحي إلى القدس ليس فريضة من فرائض المسيحية المنصوص عليها، وإنما نشأ بعد الإمبراطورة "هيلانة" أم الإمبراطور "قسطنطين"، وقد زارت القدس سنة 324م، وعرفت بعد ذلك بالقديسة، وليس الحج طقوسا أو مناسك، إنما هو عندهم عبارة عن سياحة دينية، وزيارة لبعض الأماكن التي يعتقدون أنها مقدسة، وقدسية هذه الأماكن لا يوجد عليها أدلة نصية من كتبهم، وإنما هي من وضع الرهبان ورجال الدين النصراني ولا علاقة لها بالمسيح عليه السلام.

هذه الشعائر بقايا بقيت من دين إبراهيم - عليه السلام - عند العرب، توارثوها عن أسلافهم وتواترت إليهم واختلطت بعاداتهم الجاهلية، كعبادة الأصنام، وطوافهم بالبيت عراة، وإدخالهم الشرك في التلبية قائلين: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك"، فجاء الإسلام ليعيد ملة إبراهيم - عليه السلام - إلى نقائها وصفائها فقال عزوجل: )وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم( (الحج: 78).

ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ناقلا شريعته عن غيره لمجرد التشابه بينها وبين نبوته؛ لكانت هذه نفسها حجة تنسحب على نبوة كل نبي، ولكانت سارية على عيسى عليه السلام؛ لأنه جاء ببعض ما جاء به موسى عليه السلام، ولكانت سارية على موسى - عليه السلام - كذلك؛ لأنه جاء بمثل ما جاء به من قبله أحيانا، ولما ثبتت - بناء على ذلك - نبوة نبي، ولكان هذا هو الخطأ بعينه فلا يتأتى في نبوة النبيين نقل.

والإسلام أعاد الأمور إلى نصابها الصحيح، وإلى مصدرها الأول من أول الأنبياء إلى خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - فشعيرة الحج لم تكن إلا إلى بيت الله الحرام من آدم - عليه السلام - إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وإلى أن تقوم الساعة، وأما ما ابتدعه اليهود والنصارى من مزارات وطقوس وعادات تقوم عندهم مقام الحج فلا أصل له حتى في أديانهم المحرفة[19].

  1. تحريم الأشهر الحرم:

تحدث القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة عن الأشهر الحرم حديثا واضحا يبين مدى قدسيتها عند الله - عزوجل - وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان مما جاء في القرآن الكريم قوله عزوجل: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم( (التوبة: 36)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»[20]، فقال - صلى الله عليه وسلم - عن رجب: مضر؛ لأن ربيعة كانوا يحرمون شهر رمضان، ويسمونه رجب، وكانت مضر تحرم رجب نفسه، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: رجب شهر مضر؛ تأكيدا وبيانا لصحة ما صارت عليه مضر.

كان العرب يعظمون هذه الأشهر الحرم، ويحجون إلى البيت الحرام فيها، فكانت تأتي في الشتاء مرة وفي الصيف مرة أخرى، فشق عليهم الأمر؛ لأنهم كانوا يأتون للتجارة أيضا فربما كان الوقت غير مناسب لحضورهم للتجارة؛ فلهذا السبب أقدموا على السنة الشمسية بدلا من القمرية، وعند ذلك ظل زمان الحج مختصا بوقت واحد معين موافق لمصلحتهم وتجاراتهم، وربما كان بسبب أن العرب كانوا لا يكفون عن الحروب، فلهذا السبب أيضا غيروا الأشهر الحرم عن مواقيتها وغيروا أسماءها لموافقة أهواءهم ومصالحهم، وهذا هو النسيء.

أما اليهود والنصارى فقد علموا العرب صفة السنة الشمسية الكبيسة؛ لذا أنزل الله هذه الآية: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم( (التوبة: 36)، وهذا يبين قضاء الله وقدره يوم أن خلق السماوات والأرض، وأنه - عزوجل - وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها ورتبها، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة؛ فلذلك ردها الإسلام إلى حكمها الذي وضعها الله عليه يوم أن خلق السماوات والأرض، ولم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين واليهود والنصارى ولا عن تغيير أسمائها، والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها، ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية واليهود والنصارى؛ لأجل مصالحهم الدنيوية.

الحكمة من تحريم الأشهر الحرم:

أن يأخذ الإنسان نفسه بقدر من الضبط، والتحكم في مشاعره نحو الاستقامة، والقصد والحفاظ على الحريات، بأن يكف عن القتل والقتال والحرب، فكان الإنسان يقابل قاتل أبيه فيعرض عنه احتراما لهذه الأشهر الحرم، وأعظم ما فعلوه مخالفة هو "النسيء"، بأن يحلوا شهرا منها إذا غلبتهم شهوة الحرب، ويحرموا مكانه آخر، يقول الله عزوجل: )إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين (37)( (التوبة).

حكمة دينية من هذه الآية: )ذلك الدين القيم( (التوبة: 36)، فتحريم الأشهر الحرم هو الدين المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وتبدو في ارتباط بعضها بعبادة الحج.

تتهيأ فيها الفرصة للقبائل الضعيفة التي لا تستطيع السفر، ولا تأمن الحركة أن تتحرك وتبحث عن مواطن الخصب، والماء، والمرعى، فتسير بلا خوف.

شهدت الأشهر الحرم من عهد إبراهيم - عليه السلام - بعض القيم التي لمعت في ظلام الجاهلية، ومن هذه القيم "حرب الفجار"، التي وجهتها العرب ضد كل من يبغي ويظلم وينتهك الحرمات، فقررت فيها حرمة البيت والأشهر الحرم فتنادت للصلح، ومنها "حلف الفضول"، الذي عقد لمساعدة المظلومين ونصرتهم.

من خلال ما سبق يتبين لنا كيف حرفت الأمم السابقة هذه الأشهر الحرم وفرغتها من مضمونها وعن أهدافها السامية، وأزالت عنها قدسيتها، وكيف أعادها الإسلام إلى ما كانت عليه منذ أن خلق الله السماوات والأرض، وأعاد إليها قدسيتها وأهدافها التي حرمت من أجلها والتي يجب الاقتداء بها والعمل بموجبها؛ لأن فيها تؤدي فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، وفيها تكثر الحسنات، فهي أيام ذكر ورحمة وهذا ما جاء الإسلام به للبشرية جمعاء.

وبعد هذا العرض للتشريعات في الإسلام وفي الشرائع الأخرى السابقة عليه نقرر الآتي:

تعاليم الإسلام وشعائره وعباداته مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، سواء اتفق مع غيره أم اختلف، وإن وافق بعض الشرائع وبعض الأعراف في بعض الأمور فهذا دليل على أنه الحق الذي جاء الإسلام به مكملا وموضحا وشاملا لكل الشرائع التي جاء بها الأنبياء جميعا، بعد أن تم تحريفها وتغييرها على أيدي أتباع هذه الملل، أليس ذلك يليق بهذا الدين الشامل الذي جاء به الإسلام بهوية جديدة لأتباعه، بها يتميزون عن سواهم في العقيدة الصادقة والعبادة الصحيحة والمعاملات والأخلاق؟ ومن ثم كان الاختصاص والتميز ضروريين للجماعة المسلمة في التصور والاعتقاد وفي القبلة.

وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها، فهي لا تؤدي بمجرد النية، ولا بمجرد التوجه الروحي، ولكن هذا التوجه يتخذ شكلا ظاهرا قياما، واتجاها إلى القبلة، وتكبيرا وقراءة، وركوعا وسجودا في الصلاة، وإحراما من مكان معين، ولباسا معينا، وحركة وسعيا، ودعاء وتلبية، ونحرا وحلقا في الحج، ونية وامتناعا عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم، وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة؛ ليؤلف بين ظاهر النفس وباطنها، فجاء الإسلام يلبي دواعي الفطرة بتلك الأشكال المعينة لشعائر العبادة، مع تجريد الذات الإلهية عن كل تصور حسي وكل تحيز لجهة، فيتوجه الفرد إلى قبلته حين يتوجه إلى الله بكليته؛ بقلبه وحواسه وجوارحه، فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد الذي جاء به الإسلام.

دأب المستشرقون على أن يردوا كل تعاليم الإسلام إلى أصول سابقة، ومن بين ذلك الأحكام التشريعية، فهم يردونها أحيانا إلى أعراف الجاهلية العربية، ويردونها أحيانا أخرى إلى اليهودية، وثالثة إلى القانون الرومإني، وهم بهذا الرد والتردد يكشفون عن طويتهم، في أنهم يحرصون كل الحرص على تجريد الإسلام من كل فضل ومن صفته الجوهرية، وهي أنه وحي منزل من عند الله، وسواء - بعد ثبوت تنزيله من عند الله - اتفق في بعض الأحكام مع بعض النظم السابقة، أم اختلف معها، فبعض التشابه في الأحكام وارد، لكن هذا التشابه الجزئي القليل لا يعني نسبة نظام متكامل متضافر محكم في ترتيبه وتنظيمه إلى هذا الأصل المشوه أو ذاك الهراء المضطرب المتناقض.

وليس في النظام القبلي العربي قبل الإسلام نظام يستحق الأخذ به، بل إن العرب قبل الإسلام لا يعرفون مثل هذا النظام المتقن في الأسرة والمواريث، اللذين عهدناهما في التشريع الإسلامي. كذلك نظام العقوبات الإسلامي تنزيل من حكيم حميد، وقد أحاط بتفاصيل دقيقة في الإثبات، والإشهاد، والتنفيذ لا نجد لها مثيلا في أعراف الجاهلية، وإقرار الإسلام لبعض الأمور الحميدة - كعقوبة الدية التي تحملها العاقلة كما كان في عرف العرب - لا يعني أخذ نظام العقوبات بأكمله من أعراف العرب، كما أن إقراره فكرة الدية على العاقلة لا يبرر أنها بكل تفاصيلها المدونة في كتب الفقه مأخوذة من عرب الجاهلية، ولا يعني أن عرب الجاهلية كانوا يعتقدون هذا النظام الدقيق، بل هو مستوحى من القرآن والسنة كغيره من التشريعات الإسلامية.

فلا يستطيع مدع - على ما سبق - أن ينكر وضوح الحجة في اختلاف تشريعات الإسلام عن تشريعات الأديان السابقة، مما لا يجعل مجالا للوهم أن منبع هذا الدين الحنيف هو رب الأرض والسماء وليس تشريعات محرفة أو أعراف جاهلية.

ثالثا. الإسلام الذي جاء حربا على الجاهلية، وعلى كل تقاليدها العمياء يستحيل عليه أن يقلد سلوكياتها أو أن يأخذ منها:

لو أخذ الإسلام من الجاهلية شيئا - كما يدعي المدعون - لما شنت الجاهلية حربها الشعواء على الإسلام حينما بزغ لأول مرة، بل إن الجاهلية حاولت أن تقايض نبي الإسلام على التنازل عن بعض ما فيه من تعاليم؛ ليقبل زعماؤها على الإسلام، فما كان من الإسلام - بعزته المستعلية - ليسمح للجاهلية أن تخترق منه ولو جزءا من تعاليمه، فقال - عزوجل - مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم: )فلا تطع المكذبين (8) ودوا لو تدهن فيدهنون (9)( (القلم)، أي: إنهم تمنوا لو تلين لهم يا محمد، وتترك بعض ما لا يرضون مصانعة لهم، فيلينوا لك ويفعلوا مثل ذلك.

وعليه فإن محاولة إلصاق بعض شرائع الإسلام ببعض مبادئ الجاهلية هي محاولة جد كاذبة، وافتراء شنيع على حقيقة الإسلام، لا يعتمد على دليل، بل على فكرة شوهاء وهي أن مجرد التشابه بين بعض ما كان عليه عرب الجاهلية وبين بعض ما قرره الإسلام قاض بأن الجاهلية هي مصدر الإسلام، ولم يسألوا أنفسهم لماذا كان هذا التشابه وما منبعه وكيف نكيفه أو نصوره؟

وللإجابة عن ذلك لا بد من الوقوف على مصادر سلوكيات العرب ومرجعياتهم على اختلاف قبائلهم وتعدد أماكنهم وتنوع مشاربهم.

الجذور التاريخية لعادات العرب وعباداتهم في الجاهلية:

  1. الحنيفية الموروثة عن إبراهيم عليه السلام: وهذه قد بقيت غير مشوبة لدى بعض أناس كزيد بن عمرو بن نفيل، الذي حافظ عليها بعد أن لم يقنع باليهودية ولا بالنصرانية ورفض عبادة الأصنام.

والحنيف عند عرب الجاهلية من كان يحج البيت ويغتسل من الجنابة ويختتن، فلما جاء الإسلام كان الحنيف هو المسلم، ولذلك فإن العرب لم يعترضوا أبدا على الوحدانية بإقرار القرآن، قال عزوجل: )ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون (61) الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم (62) ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون (63)( (العنكبوت)، وإنما كان اعتراضهم على المنهج الذي جاء يغاير منهجهم في الحياة، والتشريعات التي قاومت الكثير مما كانوا قد ألفوه؛ حيث حرم عليهم كثيرا مما كانوا يمارسونه في حياتهم، وأقر عليهم ما لم يألفوه.

  1. الفطرة السليمة: التي قادتهم إلى كثير من الأخلاق الحميدة الفطرية؛ كالكرم والشجاعة ونصرة المظلوم، ويشهد لهذا "حلف الفضول" الذي دعا إليه ابن جدعان.
  2. دخول بعضهم في ديانات إلهية: كورقة بن نوفل الذي اعتنق النصرانية.
  3. إقحاماتهم المنحرفة: كعبادة الأصنام التي أدخلها عمرو بن لحي وغيره.
  4. النعرة القبلية: التي ألجأتهم إلى عادات مستقبحة؛ كالقتل والثأر ووأد البنات وحرمان المرأة والذكر الصغير من الميراث.

هذه هي الأطر التي يمكن أن تكون مرجع سلوك العرب في الجاهلية سواء على مستوى العبادات أو العادات فماذا كان موقف الإسلام منها؟

أما بالنسبة للحنيفيةالإبراهمية، فالقرآن يقرر أنه قد جاء ليحافظ عليها؛ لأنها ربانية المصدر، قال عزوجل:

)يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66) ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (68)( (آل عمران)، وقال عز وجل: )قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (95)( (آل عمران)، وقال عزوجل: )ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125( (النساء)، وقال عز وجل: ) قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (161)( (الأنعام).

فالقرآن يقرر أن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو ما جاء به إبراهيم - عليه السلام - من قبل، وإذا كان العرب هم أبناء إسماعيل بن إبراهيم؛ فلا شك أنهم قد توارثوا عن آبائهم الكثير من هذه الآثار عادة وعبادة؛ ولهذا لم يحتج الكفار على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه قد جاء بما شرعوه هم لأنفسهم؛ لعلمهم بأن ما كانوا يقومون به هو من ميراث إبراهيم عليه السلام، الذي جاء الإسلام مجددا لدعوته، وخير مثال لذلك هو الحج، فقد كان الناس قبل الإسلام يحجون البيت على ميراث إبراهيم عليه السلام، لكن هذا الميراث قد دخله بعض التغيير والتعديل، كما أدخلت قريش فكرة الحمس[21]، وكما اختلقوا لأنفسهم تلبية خاصة، خالفهم فيها غيرهم، فجاء الإسلام بتلبيته المنزهة لرب العباد من الشرك، كما ألغى فكرة الحمس، ولا يمكن لأحد أن يقول: إن الحج هو من ميراث الجاهلية، وعلى هذا قس العديد من التشريعات التي أقرها الإسلام مما كان معروفا في الجاهلية.

وأما بالنسبة لما يرجع إلى الأخلاق الفطرية التي كانوا متخلقين بها، فهذا مما تتفق عليه كل الفطر السليمة، وقد قرر القرآن أن الدين الإلهي هو دين الفطرة، قال عزوجل: )فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30)( (الروم)، ومن ثم لا نقول: إن هذه الأخلاق ميراث الجاهلية؛ بل هي فطرة الله في جميع خلقه بدليل أننا نجد الكثير من الصفات يتفق فيها أصحاب المعتقدات المختلفة، فالكرم والشجاعة والحلم واحترام الآخرين قدر مشترك بين جميع من يتحلى بها؛ لأنها مكتسبات فطرية، وإنما دور الأديان والشرائع هو في تهذيبها وتنميتها فقط، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»[22] أي: هو لم يدع أنه أنشأ مكارم الأخلاق، بل هي موجودة بالفطرة السليمة، وكان دوره تنميتها فقط وتتميمها، ومن ثم أشار إلى "حلف الفضول" الذي دعا إليه في الجاهلية عبد الله بن جدعان، وقال: "لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت".

أما بالنسبة لموروثات الديانات السابقة، فلا غرابة أن نجد تشابها ما في تشريعات هذه الديانات، وبين بعض ما جاء به الإسلام، ولم لا والمصدر واحد؟! بل هذا التشابه هو أحد أدلة المصداقية، وبالطبع قد وقع هذا التشابه فيما هو إلهي المصدر، بعيدا عن تحريفات أتباع هذه الديانات.

نأتي بعد ذلك إلى مخترعات الجاهليين وانحرافاتهم عن حنيفية إبراهيم - عليه السلام - عقديا وتشريعيا، وكذا تصرفاتهم النكراء التي كانت تلجئهم إليها عصبيتهم وقبليتهم، وهذا هو القسم الذي جاء الإسلام بهدمه من الأساس، وهو القسم الأكبر؛ ولأجله كفر من كفر، بل حارب من أجل بقائه ونصرته من حارب بحجة أنه موروث آبائهم، ولقد بلغ من حرصهم على بقاء ميراث الآباء من تلك العبادات والعادات المنحرفة أن عرضوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - الملك والمال والجاه، فقال قولته المشهورة: «ما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا لي منها شعلة»؛ يعني الشمس [23].

وأول ما حاربه الإسلام هو أساس عقيدتهم - آلهتهم التي عبدوها من دون الله - فقد صعقوا حينما فاجأهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الدين الحق هو دين التوحيد، وأن هذا الكون ليس له إلا إله واحد هو الذي خلق ورزق وهو الجدير بالعبادة، قال عزوجل: )ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور (30) حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق (31)( (الحج)، نعم ترك عبادة الأصنام هي حنيفية إبراهيم - عليه السلام - التي دعا ربه وسأله المداومة عليها: )وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام (35) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم (36)( (إبراهيم).

وعاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه ووحيه - على قومه عبادة الأصنام: )قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار (16)( (الرعد).

ولم يجار الإسلام عرب الجاهلية في عبادتهم للأوثان، وجعلها آلهة مع الله تقربهم إليه زلفى، ناهيك عن كثير من التشريعات التي كانت حائط صد في وجه الكفار؛ حيث حرم عليهم القرآن - في الفترة المكية التي يصر بعض الناس على أنها كانت فترة مهادنة ومداهنة - وأد البنات، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والزنا، والظلم، وقطع الرحم، والكذب... وغير ذلك مما لا تقتضي الحكمة تأخيره؛ لأنه مما يتعلق بالكليات التي ضمن الدين حفظها، وهي: النفس والعرض والدين والمال والعقل.

ثم جاء العهد المدني بثرائه الوافر في الجانب التشريعي؛ إيجابا وتحريما وندبا وكراهة وإباحة، حتى صار من الضوابط القياسية لتحديد المدني من القرآن أن تكون الآية مشتملة على تشريع.

ونذكر موقف جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين عقد للنجاشي موازنة بين موقفهم في الجاهلية، وما دعاهم إليه الإسلام، فقال: «أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله - سبحانه وتعالى - لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - وعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عزوجل، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث»[24].

 وعندما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من بين ما سأله عنه أن قال: «ماذا يأمركم؟ فقال أبو سفيان: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة...» ولم يكن أبو سفيان قد أسلم بعد حين قال ذلك[25].

فهذا كله - وغيره - ناطق بأن ثورة الكفار على الإسلام سببها هو أنه قد جاءهم بخلاف ما يعرفون، وبنقض ما يعتقدون ويسلكون، ولا ينافي ذلك التوافق فيما هو فطري - ككريم الأخلاق - أو ما هو من ميراث الحنيفية، أو الديانات الربانية التي تشارك الإسلام في وحدانية المصدر.

وبهذا يتضح جليا بطلان زعم أن الإسلام أخذ بعض شرائعه من الجاهلية.

الخلاصة:

  • الإسلامينبعمننفسالأصلالذينبعتمنهاليهوديةوالنصرانية،فهودينسماويكماأنهماديانتانسماويتان،وهذايعلللناوجودتشريعاتمتشابهةبينهذهالدياناتالثلاثة،إلاأنالإسلامحفظهالله - عزوجل - لنامنالتحريف، أما اليهودية والنصرانية فقد حرفها أهلها أشد التحريف، وزاغوا بها عن الصراط المستقيم.
  • إذاوجدتشابهفيتشريعاتالرسالةالإسلاميةمعالتشريعاتالموجودةفيالدياناتالأخرى - وخاصةاليهوديةوالنصرانية - فإنماينحصرفيالتشابهالأسمىفقط،ولايتجاوز ذلك إلى صورة التشريع؛ فلا الصلاة ولا الصوم ولا الحج ولا تحريم الأشهر الحرم ولا أية تشريعات أخرى في الإسلام تماثل - ولا حتى تشابه - تشريعات الأديان الأخرى من حيث المضمون والتطبيق.
  • الإسلامحاربالجاهليةبكلمفاسدها،ورفضأنيداهنأهلها،ورفضأنيسمحلأي تشريع من تشريعاتها الباطلة أن يفسد التشريع الإسلامي، وعليه فلا يمكن، بل يستحيل أن يأخذ من الجاهلية أي شيء ويضعه ضمن تشريعاته، وما كانت حرب الجاهلية للإسلام إلا لأن الإسلام خالفها، ونقض عراها، وأبطل تشريعاتها الفاسدة، وحول الحاكمية فيها من البشر إلى رب البشر، في حين أن الإسلام أقر بعض التشريعات الصحيحة - كحلف الفضول - ودعا إلى اتباعها، ولكن بعد تغيير الفهم القبلي لمثل هذه المعتقدات والتشريعات، لكي يتلاءم مع طبيعة الإسلام العالمية.

 

 

 

(*) واقع العالم الإسلامي، سعيد زيد، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1417هـ/ 1996م.

[1]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج2، ص895، 896. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، 1426 هـ/ 2005م، ص231: 235.

[2]. الفرقان: القرآن.

[3]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، 1426 هـ/ 2005م، ص236: 238. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص482. مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، طـ5، 1426هـ/ 2005م، ص10: 21 بتصرف.

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كيف يعرض الإسلام على الصبر (2892)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن الصياد (7540).

[5]. أخرج البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم (3342)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين (6101).

[6]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، 1426 هـ/ 2005م، ص241: 248 بتصرف.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الغسل، باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة ومن تستر فالتستر أفضل (274)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب جواز الاغتسال عريانا في الخلوة (796)، واللفظ للبخاري.

[8]. الحوايا: جمع حاوية، وهي ما جمع الطعام والشراب في البطن.

[9]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، 1426 هـ/ 2005م، ص3248: 251 بتصرف. مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1426هـ/ 2005م، ص10: 17 بتصرف.

[10]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، 1426 هـ/ 2005م، ص253: 255. التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، محمد الغزالي، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2005م، ص65: 80 بتصرف.

[11]. الصلاة: أقوال وأفعال مخصوصة مبتدئة بالتكبير منتهية بالتسليم.

[12]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر محمد السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص110: 130 بتصرف.

[13]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فضل يوم الجمعة (2103)، وفي مواضع أخرى.

[14]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ( (الكهف: ٩) (3298)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (2015).

[15]. حسن: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب في فرض الجمعة (1082)، وأبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب الجمعة في القرى (1071) بنحوه، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (944).

[16]. الصوم: الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة منذ طلوع الفجر إلى غروب الشمس، أو الإمساك عن شهوتي الفم والفرج.

[17]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر محمد السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص281: 296 بتصرف.

[18]. الحج: قصد بيت الله الحرام لأداء النسك.

[19]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر محمد السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص380: 412 بتصرف.

[20]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة براءة (4385)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (4477).

[21]. الحمس عند قريش: قال ابن إسحاق: وقد كانت قريش ـ لا أدري أقبل الفيل أم بعده ـ ابتدعت رأي الحمس رأيا رأوه وأداروه، فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقطان مكة وساكنوها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون أنها من مشاعر الحج ودين إبراهيم عليه السلام ، ويرون لسائر العرب أن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس، والحمس أهل الحرم، ثم جعلوا لـمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم.

[22]. صحيح: أخرجه البيهقي في سننه الكبرى، كتاب الشهادات، باب بيان مكارم الأخلاق ومعاليها (21301)، وفي موضع آخر، والحاكم في مستدركه، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، ومن كتاب آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي دلائل النبوة (4221)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).

[23]. حسن: أخرجه البزار في مسنده، مسند عقيل بن أبي طالب (4/ 2170)، والطبراني في المعجم الكبير، باب العين، عقيل بن أبي طالب (511)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (92).

[24]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند أهل البيت، حديث جعفر بن أبي طالب (1740)، وصححه الألباني في فقه السيرة (1/ 115).

[25]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7).

  • الاثنين AM 04:50
    2020-11-16
  • 1139
Powered by: GateGold